تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)

____________________________________

[٤٨] (وَلا تَكُونُوا) أيها المؤمنون (كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) من أهل مكة (بَطَراً) «البطر» الخروج من موجب النعمة بالكفر ، من «بطر» يعني «شق» ، ومنه «البيطار» لأنه يشق اللحم بالمبضع ، فقد خرج الكفار من مكة بالمعازف والطبول (وَرِئاءَ النَّاسِ) فإنهم لما خرجوا ملئوا خوفا ورعبا من المسلمين ، ولكن خرجوا ليظهروا أنهم لا يبالون بالمسلمين ويظهروا شوكتهم (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هذا مقابل قولهم أنهم أولى بالبيت من المسلمين. والمراد ب «الصد» المنع عنه ، حيث كانوا يقفون دون تبليغ الأحكام (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) إحاطة علم وقدرة فيجازيهم بما عملوا.

قال ابن عباس : أنه لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره ، أرسل إلى قريش أن ارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا ـ وكان بدر موسم من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام ـ فنقيم بها ثلاثا ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا (١).

وإلى هذا أشارت الآية الكريمة ، فإن المسلمين يجب أن يكونوا مؤدبين بآداب الله سبحانه حتى في حالة الحرب.

[٤٩] في موقعة بدر جاء إبليس إلى كفار مكة في صورة سراقة بن مالك فقال لهم : إني جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم. فدفعوها إليه وجاء

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٣٦.

٣٤١

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ

____________________________________

بشياطينه يهول بهم على أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لأصحابه : غضوا أبصاركم وعضوا على النواجذ ولا تسلّوا سيفا حتى آذن لكم. ثم رفع يده إلى السماء فقال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وإن شئت لا تعبد ، لا تعبد» (١) ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلت العرق عن وجهه وهو يقول : هذا جبرائيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين. فنظروا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لامع قد وقع على عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقائل يقول : أقدم حيزوم ، أقدم حيزوم. وسمعوا قعقعة السلاح من الجو ونظر إبليس إلى جبرائيل فتراجع ورمى باللواء فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ثم قال : ويلك يا سراقة تفت في أعضد الناس ، فركله إبليس ركلة في صدره وقال : إني بريء منكم.

(وَ) قد كان ذلك (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي في وقت حسّن الشيطان أعمال المشركين في نظرهم بأن شجّعهم على قتال المسلمين ، ويحتمل أن يكون «إذ» معمولا لفعل مقدّر هو «اذكر» (وَقالَ) الشيطان للكفار : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي لا يغلبكم أحد من الناس لكثرتكم وقوتكم فانهضوا لقتال المسلمين ـ في بدر ـ (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) من الإجارة ، ناصر لكم على عدوّكم (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي التقت ، فرقتا المسلمين والكافرين

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٥٥.

٣٤٢

نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ

____________________________________

(نَكَصَ) الشيطان أي رجع (عَلى عَقِبَيْهِ) أي متقهقرا منهزما ، فإن الإنسان إذا أراد أن يتقهقر اعتمد على عقب رجليه ، وهذا تشبيه لإفادة الفرار مع الجبن ، فإن الجبان لا يدبر خوفا من أن يلحقه الطلب.

(وَقالَ) الشيطان للكفار : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) فلا صلة بيننا ، ولا أفي بما ضمنت لكم من الإجارة والنصر (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) فقد رأى الشيطان الملائكة وكان يعرفهم ، وعلم أنه لا طاقة له بهم ، كما أن الملائكة كانت تعرف الشيطان (إِنِّي أَخافُ اللهَ) بأن يعذبني على أيدي الملائكة (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يطاق عذابه.

وفي بعض التفاسير : وإنما قام الشيطان بهذا العمل ـ أي تشجيع الكفار ـ لأن الله سبحانه شاء أن يخرجهم إلى حرب المسلمين ، فتنكسر شوكتهم وتذهب ريحهم ويتحطم كبرياؤهم.

ومن الانهزامية المادية أن نأوّل هذه الآية كسائر الآيات المبينة لما وراء المادة ، بتأويلات لا تنافي الأمور المادية ، فإن التأويل إنما يصح إذا دل عقل أو نقل قطعي على خلاف الظاهر ، أما إذا لم يدل دليل ولم تكن هناك قرينة ، فأي مبرّر لأن نترك الظاهر بمجرد أنه يلائم الأمور المادية ، ولو فتح هذا الباب للزم أن نقول بذلك حتى في القرآن الحكيم نفسه ، إذ هو أيضا أمر خارج عن طوق المادة.

[٥٠] كان تزيين الشيطان للمشركين قتالهم مع المسلمين (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ)

٣٤٣

وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ

____________________________________

أي في حال صدور هذه المقالة عن المنافقين ، والمراد بهم إما الكفار ، فإن الكافر باعتبار أنه يعلم الواقع ويظهر خلافه يسمى منافقا ، وإما المسلمون المنافقون (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إما عطف بيان ، أو يراد أحد اللفظين المسلمون المنافقون ، وبالتالي الكفار ، والمراد بالمرض مرض الانحراف عن المنهج المستقيم ، فإن البدن كما يصاب بالأمراض الجسمية ، كذلك الروح تصاب بالأمراض الخلقية ، فالبخل والحسد والجبن وما أشبه أمراض (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي غرّ المسلمين دينهم حتى خرجوا مع قلّتهم وصمّموا على قتال الكفار الأقوياء عددا وعدّة (وَ) ليس الأمر كذلك فإنه (مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فيسلم أمره إليه ويثق به (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغلب ، وكذلك لا يغلب المتوكلون عليه (حَكِيمٌ) فيما يفعل ، يضع الأمور مواضعها ، فلا يترك المسلمين ولا يخذلهم ، بل ينصرهم على الكافرين ، فإنه له القوة يمنحها المتوكلين عليه ، وله الحكمة يدبّر بها الأمور.

[٥١] إن الكافرين كان مبدأ أمرهم ـ في مقابلة المسلمين ـ الانهزام ، فلننظر إلى مصيرهم (وَلَوْ تَرى) يا رسول الله ، أو المراد كل من تتأتى منه الرؤية (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) أي تقبض الملائكة أرواح الكفار عند موتهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ)

٣٤٤

وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)

____________________________________

أي يضربونهم من الأمام ومن الخلف ، كما يضرب المجرم الكثير الاجرام (وَ) يقال لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي العذاب الذي يحرق.

وقد روي أن الملائكة كانت تضرب قتلى المشركين في بدر بالمقامع فتلهب جراحاتهم بالنار وتزهق أرواحهم (١). والإتيان بصيغة الأمر في «ذوقوا» لتصوير المشهد كأنه مجسّم أمام المخاطب ، وهو من باب الإلفات ، كما ذكر في علم البلاغة.

[٥٢] (ذلِكَ) العقاب لكم أيها الكفار (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بما قدّمتم وفعلتم من الكفر والمعاصي ، وإنما نسب إلى اليد ، للتغليب ، فإن كثيرا من الأعمال تأتي بواسطة اليد (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) «ظلّام» صيغة للنسبة ، لا مبالغة ، كتمّار بمعنى المنسوب إلى التمر. قال ابن مالك :

ومع فاعل ، وفعّال ، فعل

في نسب أغنى عن اليا فقبل

ومن المحتمل أن تكون مبالغة ، وذلك لإفادة أنه سبحانه لو كان ظالما لكان كثير الظلم لأن كل صفة تصحّ فيه تعالى لا بد وأن تبلغ شأنا كثيرا ، فنفي المبالغة نفي للأصل ، والمعنى : إن العقاب ليس إلا بسبب جناية العبد ، لا أنه اعتباطي منه سبحانه.

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٤ ص ٤٨٠.

٣٤٥

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ

____________________________________

[٥٣] (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الدأب : العادة ، والكافر للتشبيه ، أي أن عادة هؤلاء المشركين في الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كعادة آل فرعون وهم قومه وأتباعه (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من أقوام الأنبياء ، في الكفر بالرسل وتكذيبهم ، فليس تكذيب هؤلاء جديدا ، فإن السابقين عليهم أيضا (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) وما أنزل على الأنبياء (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) بأن عاقبهم وأنزل عليهم أنواع العذاب (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) لا يقدر أحد على التمرد عليه ، فإذا أراد أخذ أحد أخذه أخذ عزيز مقتدر (شَدِيدُ الْعِقابِ) وليس عقابه يسيرا هيّنا حتى لا يخشى منه.

[٥٤] (ذلِكَ) العقاب الذي حلّ بأولئك وهؤلاء ، ليس اعتباطا وابتلاء من الله سبحانه بلا استحقاق بل بسبب عملهم ، لأن (اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما) أي الحالة الصحيحة التي كانت (بِأَنْفُسِهِمْ) إن الصحة والرخاء والأمن والغنى أحوال لاصقة بأنفس الناس ، منحها الله إياهم ، وطلب أن يعملوا برضاه فيها ، فإذا غيّروا ما طلب منهم بالنسبة إليها ، بأن صرفوا تلك النعم إلى المعاصي ، غيّر الله تلك النعم فأبدل الصحة مرضا ، والرخاء ضنكا ، والأمن اضطرابا ، والغنى فقرا. وهذا بالإضافة إلى كونه مرتبطا بما وراء المادة ، مرتبط بالمادة أيضا ، فإن الصحة تنحرف باستعمال

٣٤٦

وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ

____________________________________

المحرمات الضارة ، والرخاء ينحرف بعدم التعاون والعداء مما يسبب تفكك المجتمع فلا يزرع بمقدار ما كان التعاون يسببه ، وهكذا ، والأمن ينحرف إذا نوى كل إنسان الشر بأخيه ، والغنى ينحرف إذا كسل الناس عن العمل أو عملوا أعمالا غير مثمرة لا تفيد مالا.

ومن المعلوم أنه لا يلزم أن يكون الناس مؤمنين ثم يكفرون ، بل هنالك مناهج بشرية عامة قرّرها سبحانه إذا سادت المجتمع كانوا في أمن ورفاه ، فإذا غيّروها تغيرت النعمة ، مثلا الظلم والقتل قبيحان ، والتعاون والإحسان حسنان ، أما بالنسبة إلى من بدّل الإيمان كفرا ومناهج الشريعة أهواء ، فذلك أوضح (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع أقوال الناس (عَلِيمٌ) بضمائرهم ، فإذا رأى تغييرا في النيات ، وانحرافا في الكلمات غيّر ما أعطاهم من نعمة وما تفضّل عليهم من أمن وراحة.

[٥٥] (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي أن عادة هؤلاء الكفار كعادة آل فرعون (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من سائر الأمم. وإنما كرّر لتأكيد أن الحالة هي الحالة ، فإن كثيرا من الناس لا يصدقون أن ما جرى في الأمم السابقة تجري في هذه الأمة ، ولذا يحتاج الأمر إلى تركيز وتقرير ، وذلك لا يكون إلا بالتكرار والتذكير مرة فمرة (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) دلائله وحججه (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) فلم يموتوا ميتة طبيعية ، وإنما أخذوا بالعذاب (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) مع فرعون نفسه ، فإنه قد يطلق «الآل» على الأعم من الشخص

٣٤٧

وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦)

____________________________________

للتغليب ، كما تقدم في قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ) (١) ، (وَكُلٌ) من تلك الأمم التي أهلكناهم (كانُوا ظالِمِينَ) وتخصيص الكلام بآل فرعون ، لأن كفرهم وعقوبتهم كانت ظاهرة واضحة لدى السامعين.

[٥٦] (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) الدابة : كل ما يدبّ على وجه الأرض ، لكن المنصرف منها الحيوان ، وشرّ الجميع (عِنْدَ اللهِ) في حكمه (الَّذِينَ كَفَرُوا) واستمروا على كفرهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «الفاء» لعطف جملة على جملة. ولا يقال : إن الدواب لا شر فيها ، فكيف يجعل الكافر شرا منها ، لأنه يجاب عنه : بأن من الدواب ما فيها شر كالسامة والمؤذيات. والتي ليس فيها شر ، يعدّ شرا باعتبار أنها لا تهتدي طريقا ، وليس المراد بالشر هذا المعنى فقط.

[٥٧] ثم بيّن سبحانه المصداق الظاهر لذلك بقوله : الكفار (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) عهد حسن الجوار بأن تكون في أمن منهم ، وهم في أمن منك (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أي كلّما عاهدوا نقضوا العهد ولم يفوا به (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) الله ولا يخافون عقابه ، أو لا يتقون نقض العهد. والظاهر من الآية أن ذلك كان دأب بعض الكفار.

وفي «المجمع» : عن مجاهد أنه أراد به يهود بني قريظة فإنهم قد

__________________

(١) آل عمران : ٣٤.

٣٤٨

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ

____________________________________

عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا يضرّوا به ولا يمالئوا عليه عدوا ، ثم مالئوا عليه الأحزاب يوم الخندق وأعانوهم عليه بالسلاح ، وعاهدوا مرة بعد أخرى فنقضوا (١).

[٥٨] وما هو جزاء هذه الفئة التي هي شرّ من الدواب ولا تلتزم حتى بالعهود؟! (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) «إن» الشرطية و «ما» زائدة ، و «ثقف» بمعنى : ظفر ، أي إن ظفرت بهم يا رسول الله (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) «التشريد» هو التفريق ، أي نكّل بهؤلاء تنكيلا وفرّقهم تفريقا حتى يتعثّر بهم من هم ورائهم من الذين عاهدوا معك ، حتى يخافوا فلا ينقضوا العهد. فتكون الآية دالّة على أمرين : الأول : تأديب هؤلاء الناقضين للعهد. الثاني : إلقاء الرعب في قلوب الآخرين لئلّا ينقضوا عهدهم (لَعَلَّهُمْ) أي لعلّ من خلفهم (يَذَّكَّرُونَ) أي يتذكرون أن نقض العهد يوجب مثل هذا التأديب فلا يقدموا على مثله ، فإن نقض العهد من أسوأ الأعمال ، إذ يدل ذلك على أن المعاهدة كانت للضعف ، فكلّما وجد أحد المعاهدين سبيلا إلى نقضه نقضه ، وهذا يوجب سقوط قيمة المعاهدات ، وأن لا يكون المتعاهدون بعضهم في أمن من بعض. أما الخدعة في الحرب فليست قبيحة إذ تلك بعد تأهّب كل فريق.

[٥٩] (وَإِمَّا تَخافَنَ) «إمّا» مركّبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة ، تأتي

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٤٨٣.

٣٤٩

مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨)

____________________________________

للتوسع في معنى الشرط ، يعني : ولو كان الاحتمال ضعيفا ، إن لم تدخل نون التأكيد ، وإلّا أفادت التأكيد في الشرط ، بأن يكون الاحتمال قويا (مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) أي إن خفت يا رسول الله من قوم من هؤلاء المعاهدين خيانة ، بأن يخونوا عهدك ويحاربوك فجأة بعد إبرام الميثاق (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي ألق المعاهدة بينك وبينهم ، إلقاء منتهيا إليهم ، بمعنى أعلمهم عن إلقاءك للعهد ، حتى يكون كلا الطرفين على سواء في الأمر ، لا أن يكونوا هم بصدد المباغتة وأنتم في أمن ودعة منهم ، فإن الإنسان إذا علم أن خصمه في عهد يأمن ، أما إذا علم أنه في حرب يستعد ، أما أن يبقى متزلزلا يخاف خيانته ، فإنه في اضطراب وارتباك ، والعهد في نظر العرف ليس مما إذا أبرم دام ، بل معلق بنقضه من الطرفين مع الاعلام (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي فلا تخنهم يا رسول الله بالقتال فجأة بدون إعلام ، بل أعلمهم النقض ثم إذا أردت قتالهم ، فقاتلهم بعد الاعلام.

وعن بعض المفسرين : إن الآية نزلت في بني قينقاع من اليهود ، فإنه كان بين النبي وبين أولئك معاهدة ، وحيث أن اليهود كان من طبعهم الخيانة خاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ، ولذا حلّ العهد الذي بينهم ، لئلّا يباغتوه وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمن منهم. ثم صارت بينهم المحاربة (١).

[٦٠] إن الكفار بنقضهم العهد دون الاعلام ، وخيانتهم وغدرهم ـ كما صدر

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٤٨٥ ، عن الواقدي.

٣٥٠

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ

____________________________________

من بني قريظة ـ يظنون أنهم قد سبقوا ، وأدركوا فرصة ذهبية سببت عجز المسلمين ، لكنه ليس كذلك (وَلا يَحْسَبَنَ) يا رسول الله (الَّذِينَ كَفَرُوا) بنقضهم العهد وغدرهم (سَبَقُوا) واستفادوا من فرصة المباغتة والسبق (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي أن هؤلاء الكفار لا يعجزون المسلمين ، بمعنى أنهم بغدرهم لا يسببون عجز المسلمين ، بل الله سبحانه ناصرهم ، فإن الله سبحانه في عون الوفيّ لا الغادر ، ولذا ذهب بنو قريظة أدراج خيانتهم ، بينما غلبهم المسلمون.

[٦١] (وَأَعِدُّوا) أيها المسلمون ، والإعداد هو التهيئة قبل وقوع الأمر (لَهُمْ) أي للكفار (مَا اسْتَطَعْتُمْ) ما قدرتم عليه (مِنْ قُوَّةٍ) دفاعية وهجومية ، بتهيئة وسائل الحرب ، حتى تكونوا دائمي الاستعداد ، سواء هاجمتم أو هوجمتم. ولعل إطلاق القوة يشمل جميع أنحاء القوى المادية والمعنوية وغيرها (وَ) ما استطعتم (مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي ربط الخيل واقتناءها للجهاد والحرب (تُرْهِبُونَ بِهِ) أي تخوّفون بسبب إعداد ما استطعتم (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) فإن الكافر عدو الله لمخالفته له ، وعدو المسلمين كما هو واضح. ولعل المراد بهم : أهل مكة ، فإنهم كانوا ظاهري العداوة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي ترهبون به كفارا آخرين دون أولئك في العداوة ، أي أن عداوتهم أضعف ، أو دون أولئك في المحل كبني قريظة الذين كانوا قريبين من المدينة (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي لا تعلمون أيها المسلمون أنهم أعداء لكم

٣٥١

اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ

____________________________________

(اللهُ يَعْلَمُهُمْ) حيث يعلم ما بطن من الأمور.

وهذا درس للمسلمين بأن يستعدوا لأي عدو لئلّا يباغتوا (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) فإن الحرب تحتاج إلى الإنفاق ، ولذا يقرن غالبا الجهاد بالإنفاق في الآيات الكريمة (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يرجع إليكم في الدنيا بالغنيمة وشبهها ، وفي الآخرة بالثواب الجزيل (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) لا يظلمكم الله تعالى بأن يعطيكم أقل مما أخذ منكم.

[٦٢] (وَإِنْ جَنَحُوا) الجنوح : الميل ، ومنه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد طرفيه ، أي إن مال الكفار (لِلسَّلْمِ) وعدم الحرب (فَاجْنَحْ لَها) أي مل إليها واقبلها منهم ، و «السلم» مؤنث سماعي ، ولذا جيء بالضمير مؤنثا (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوّض أمرك إليه ، فلا تخف أن تفوتك الفرصة ، فإن السلم أحرى أن تلين القلوب فيه ويكفي مؤونة أتعاب الحرب (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال الطرفين (الْعَلِيمُ) بنياتهم ، فلا يفوته غدر غادر وسلم مسالم. ومن المعلوم أن الجنوح للسلم إذا كان من مصلحة المسلمين فلا ينسخ قوله : (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١) ، هذه الآية ، بل كلّ في مقام المصلحة.

[٦٣] (وَإِنْ يُرِيدُوا) أولئك الذين يجنحون للسلم (أَنْ يَخْدَعُوكَ) بأن

__________________

(١) التوبة : ٣٦.

٣٥٢

فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)

____________________________________

يجدوا فرصة لتهيئة العدّة للغدر بك وقتالك (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) هو يكفيك شرهم ، ويتولى أمورك ، فإنه كما كفاك سابقا يكفيك الآن (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ) أي قوّاك (بِنَصْرِهِ) أي النصرة التي أنزلها عليك (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي أيدك بالمؤمنين الذين التفوا حولك ، فتمكنت أن تبارز بهم الأعداء.

[٦٤] (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) المتنافرة حتى يكونوا قوة واحدة في وجه الأعداء ، فإن وحدة الكلمة من أهم أسباب النصر ، وقد كانوا قبل الإسلام في أشد حالة من العداوة والبغضاء حتى أنه كان بين الأوس والخزرج عداوة وقتال دام أكثر من مائة سنة (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) فإن المال يزيد العداوة ، فإنه يكون وقودا لها ، وإنما أزال الله سبحانه الضغائن بتصفية القلوب وتطهير أدران النفوس (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بهدايتهم للإسلام المطهّر للعداوة عن الأفئدة (إِنَّهُ) سبحانه (عَزِيزٌ) غالب على أمره ، فإذا أراد شيئا أوجده (حَكِيمٌ) بحكمته وتدبيره يدبّر الأمور ويديرها.

[٦٥] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) أي يكفيك في مقابلة الأعداء (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنهم كافون بالنسبة إلى القوى الظاهرة ، وهذا تشجيع

٣٥٣

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥)

____________________________________

للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئلّا ينظر إلى كثرة الأعداء ، كما جرت العادة في الحروب العادية.

قال بعض المفسرين : نزلت في البيداء قبل الشروع في القتال في وقعة بدر (١).

[٦٦] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ) أي رغّب (الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) بذكر فوائده وآثاره وأنهم يسودون بسببه ويحوزون الأجر والثواب في الآخرة لأجله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) أيها المؤمنون (عِشْرُونَ صابِرُونَ) على القتال (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) من الكفار فكل واحد من المؤمنين في قبال عشرة من الكافرين (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وذلك لأن الإيمان والتضحية طاقتان عظيمتان تبدّلان الإنسان العادي إلى شخص شجاع مقدام ، وذلك الضعف في الكفار بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون ، فمن يحارب عن معرفة وإيمان يزوّد بما لا يزوّد به الإنسان الخليّ من العقيدة والدين ، وإن من عرف أنه إن قتل دخل الجنة وإن قتل دخل الجنة ، كان قوي القلب في مقابل من لا يفقه ذلك.

[٦٧] إن الفئة إذا كانت قليلة كانت الطاقة الإيمانية فيها قوية جدا ، وذلك لأنها تتقوّى حتى تتمكن من مقابلة القوي ، وهذا أمر بيّن في علم

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٤٩٠ ، عن الكلبي.

٣٥٤

الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)

____________________________________

النفس ، فالنفس القوية تأتي بما تحير العقول فيه ، إما إذا كثرت الفئة فإن روح الاتكالية تقوى فيهم ، وبمقدار ارتفاع نسبة الاتكالية ، تنخفض القوة والطاقة ، ولذا نرى الأمم أول تكوّنها أنشط منها في أواسط حياتها ، فكيف بأواخرها ، وهذا هو السبب في أن خفّف الله الحكم عن المؤمنين بعد أن كثروا ، (الْآنَ) وبعد أن كثرتم أيها المؤمنون (خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) في لزوم مقابلة الواحد منكم لعشرة من الكفار (وَعَلِمَ) الله (أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) عطف على «الآن» لا على «خفف» والمراد بالضعف : ضعف الطاقة ، لا ضعف الجسد (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) أيها المسلمون (مِائَةٌ صابِرَةٌ) تصبر على المكاره (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) من الكفار (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ) صابرين (يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) من الكفار (بِإِذْنِ اللهِ) وإرادته حيث أراد لكم أن تكونوا أقوى من عدوكم بما وهب لكم من الإيمان ، فإن الرجل منكم يعادل رجلين من العدو ، فإنه وإن كان أضعف من الحكم السابق ولكنه أيضا بإذنه سبحانه (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ينصرهم ويعينهم.

ولعل الحكمين تابعان لحالة نفوس المسلمين في كل دور ، فمتى رأوا قوة من أنفسهم كان العشرة منهم بمائة ، ومتى رأوا الضعف من أنفسهم كان العشرة منهم بعشرين ، فلا نسخ في البين ، والله العالم.

[٦٨] أسر المسلمون يوم بدر سبعين أسيرا فقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ثلاثة ، وخاف

٣٥٥

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)

____________________________________

المسلمون أن يقتلهم جميعا فتقدموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخذ الفداء منهم رغبة في المال ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أن قتل بعضهم أصلح ، كما كان كذلك شأن الأنبياء قبله ، وذلك لأن رؤوس المؤامرات إذا أطلقوا عاثوا في الأرض فسادا وعادوا إلى المجتمع بأكثر قتلا وفتكا ، لكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل طلب هؤلاء لأمر أصلح وهو أن لا يختلف أصحابه بما يعود بأكثر ضررا ، فنزلت هذه الآية توبيخا للمسلمين :

(ما كانَ لِنَبِيٍ) أي ليس له ، ولم يكن في عهد الله إليه (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) بأن يأخذ الأسير ثم يطلقه منّا ، أو في مقابل الفدية (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) الإثخان : التغليظ ، أي يحمل الأرض ثقلا بالقتلى ، أو المعنى : حتى يغلب في الأرض ليخاف الكفار سطوته ، فإنهم إن علموا أنهم إن وقعوا أسرى فدّوا وتحرروا ، جرّأهم ذلك على الاستمرار في المؤامرة والمكايدة ، لكنهم إن عرفوا أن وراءهم القتل ، قلت جرأتهم ، وسلمت الدولة من شرهم.

فهل (تُرِيدُونَ) أيها المسلمون (عَرَضَ الدُّنْيا) أي المصالح الدنيوية ، وسمي عرضا لأنه لا يبقى ، والمراد به هنا : المال المأخوذ فدية (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فإنكم إن صرفتم النظر عن المال لأجل ثواب الله سبحانه ، كان خيرا لكم (وَاللهُ عَزِيزٌ) ذو قوة ومنعة ، فاعملوا بأوامره حتى يقويكم (حَكِيمٌ) يدبر الأمور بحكمته البالغة ، فما يأمر به هو المصلحة دون ما تظنون.

٣٥٦

لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)

____________________________________

[٦٩] (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي لو لا أن الله سبحانه كتب سابقا أن لا يعذب الناس حتى يبيّن لهم ، كما قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ، (لَمَسَّكُمْ) أيها المسلمون (فِيما أَخَذْتُمْ) من الفدية (عَذابٌ عَظِيمٌ). إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عليه غضاضة لأنه لاحظ الأصلح من توحيد كلمة أصحابه حيث قبل أخذ الفدية مكرها ، أما المسلمون فقد استحقوا العقوبة حيث رجّحوا المال على ما فيه خيرهم ورغبة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ورد في الحديث : أن الفدية كانت أربعين أوقية من الفضة ، كل أوقية أربعين مثقالا ، إلّا العباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أخذ منه مائة أوقية (٢).

[٧٠] أما إذا انتهى الأمر وأخذتم الفدية فلا بأس في أكلكم لها (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) من الكفار (حَلالاً طَيِّباً) والطيب إذا قورن بالحلال أفاد معنى عدم نفرة الطبع منه في مقابل الحلال الذي ينفر منه الطبع (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوا أوامره (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) قد غفر ذنبكم في أخذكم الفدية (رَحِيمٌ) يرحمكم فيما بعد بلطفه ، مقابل بعض الكبار الذين إذا غفر ذنب المذنب ، ينتهي الأمر عند ذلك ، فلا يرحمه بعد ذلك.

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

(٢) عوالي اللآلي : ج ٢ ص ١٠١.

٣٥٧

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ

____________________________________

[٧١] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ) أي تحت استيلائكم ، وذكر «اليد» لأنها تكون الآخذة للأشياء غالبا (مِنَ الْأَسْرى) جمع أسير ، والمراد بهم أسرى بدر الذين أسرهم المسلمون (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) بأن لم تكن قلوبكم محشوة بالحقد والعداوة بل طاهرة نظيفة (يُؤْتِكُمْ) أي يعطيكم (خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء ، وإنما يعطيكم ذلك لطفا ورحمة لا استحقاقا وعوضا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم. ومن المعلوم أن ذلك مشروط بالإيمان (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقد كان العباس بن عبد المطلب يقول : نزلت هذه الآية فيّ وفي أصحابي ، كان معي عشرون أوقية ذهبا فأخذت مني فأعطاني الله مكانها عشرين عبدا كل منهم يضرب بمال كثير وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية.

[٧٢] ثم سلّى الله سبحانه نبيّه حول إطلاق الأسرى بالفداء نزولا عند رغبة أصحابه ، بأنه لا يهمّه ما لعل الطلقاء يقومون به من مؤامرة جديدة ضده (وَإِنْ يُرِيدُوا) أي يريد الطلقاء (خِيانَتَكَ) بأن يكون في نيّتهم تجديد المؤامرة (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) في قصة خروجهم إلى بدر (فَأَمْكَنَ) الله المسلمين (مِنْهُمْ) فقتلوهم وأسروهم ، والله قادر على أن يمكّن المسلمين منهم ثانية إن خافوا منهم. وسمى خروجهم إلى

٣٥٨

وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا

____________________________________

بدر خيانة باعتبار وجوب شكر المنعم ، لا باعتبار سبق معاهدة ، فإنك إذا أنعمت وتفضلت على أحد ، ثم قام ضدك يقال : أنه خانك (وَاللهُ عَلِيمٌ) بإرادتهم الخيانة وعدمها (حَكِيمٌ) يدير الأمور حسب الحكمة ، فهم في قبضة علمه وإرادته لا يتمكنون من الإضرار بك.

[٧٣] وبمناسبة ذكر الحرب وعلاقة المسلمين بالمشركين ، يأتي ذكر علاقة المسلمين بعضهم ببعض ، وأنها علاقة الإيمان والعقيدة والهجرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (وَجاهَدُوا) أي حاربوا الكفار (بِأَمْوالِهِمْ) بأن بذلوها في سبيل الجهاد (وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ويأتي ذكر «سبيل الله» في كل مناسبة للتنبيه على أن حركة المسلمين ليست إلا لإعلاء كلمة الله (وَالَّذِينَ آوَوْا) أي الأنصار من أهل المدينة الذين جعلوا للرسول والمهاجرين مأوى بأن أسكنوهم في منازلهم ، فإن المهاجرين لم يكن لهم مسكنا حين وردوا المدينة فأسكنهم الأنصار معهم في بيوتهم (وَنَصَرُوا) أي نصروا الرسول والمهاجرين على أعدائهم (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وليست هنالك ولاية بين المسلم وقريبه الكافر ، والولاية كلمة عامة تشمل أقسام الولاية والنصرة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) إلى المدينة ، بل بقوا في مكة

٣٥٩

ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ

____________________________________

اختيارا (ما لَكُمْ) أي ليس لكم أيها المسلمون (مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لأنهم خالفوا أمر الرسول وأضعفوا ـ ببقائهم في مكة ـ كيان المسلمين (حَتَّى يُهاجِرُوا) كما هاجرتم (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي طلب المؤمنون غير المهاجرين منكم أيها المهاجرون أن تنصروهم على أعدائهم الكفار ، في الأمور الدينية (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) ومن المعلوم أن النصرة غير الولاية المطلقة ، لأن المسلمين في المدينة كان ينصر بعضهم بعضا ، ويسكن أحدهم الآخر في داره ، ويجتمعون في السلم والحرب ، وأخذ الغنائم ، ويتفقد أحدهم الآخر ، كأهل بيت واحد ، بخلاف النصر المجرّد على الكافر الذي قرّره سبحانه للمسلمين في مكة.

(إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ) أيها المسلمون المهاجرون (وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فإذا استنصركم المسلمون في مكة على كفار معاهدين معكم ، فلا تخرقوا المعاهدة ، ولا تنصروا المسلمين ، لأن المسلم لا يغدر بعهده ، ولا ينقض ميثاقه وإن كان مع الكافر (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا تتركوا موالاة المهاجرين ، ولا تتولوا غير المهاجرين.

[٧٤] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ليسوا لكم بأولياء وإن كانوا أقرباؤكم بالنسب أو باللغة أو بالوطن بل (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ينصر بعضهم بعضا

٣٦٠