تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ

____________________________________

فإنهم كانوا يقولون : هلّا أخبرتنا لنعد عدتنا للحرب ، وهم يعلمون أنك لا تأمرهم إلّا بأمر الله سبحانه كما قال سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

(كَأَنَّما) هؤلاء المجادلين (يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) فيظنون أن سوقهم إلى الحرب موجب لهلاكهم حيث لم يعدوا لها العدة (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي ينظرون إلى الموت عيانا ويرونه بأبصارهم ، فكيف يكون حال مثل هذا الإنسان ، كذلك حال هؤلاء المجادلين.

[٨] (وَ) اذكروا أيها المسلمون (إِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) على لسان رسوله (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) إما طائفة العير فتغنمونها ، وإما قريش فتقتلونهم وتتخلصون من بعض أعدائكم (وَتَوَدُّونَ) أي تحبون وترغبون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) فإنهم كانوا يحبون أن يغنموا العير لئلّا يلاقوا مشقة الحرب ، والحال أن الحرب كانت لهم أكثر شوكة إذ تركز في العدو خوفهم وشوكتهم ، وكأن الشوكة مأخوذة من الشوك لأن في الحرب شوكا وليس الأمر سهلا ، فيكون تشبيها ، أو المراد بالشوكة : السلاح.

(وَيُرِيدُ اللهُ) حيث أمركم بالحرب (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي

__________________

(١) النجم : ٤ و ٥.

٣٠١

وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)

____________________________________

يظهر الحق ، بما بيّنه وأوجبه عليكم من المقاتلة (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي يستأصلهم ، فإن «الدابر» هو الأصل ، أي يجذ الكفر من أصوله ، فإن وقعة بدر كانت أقوى الأسباب لنصرة المسلمين إلى الأبد وهزيمة الكافرين إلى الأبد.

[٩] وإنما أراد الله ذلك (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي يظهر حقيقة الإسلام ، وفي التكرار تركيز وتوطئة لقوله : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي يظهر بطلانه بإهلاك الكفار (وَلَوْ كَرِهَ) ذلك (الْمُجْرِمُونَ) الذين أجرموا بالكفر والعصيان.

[١٠] ولما بلغ أصحاب رسول الله كثرة قريش وما معها من السلاح والعتاد فزعوا واستغاثوا بالله وتضرعوا. «و» اذكروا أيها المسلمون (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) أي تطلبون الغوث والنصرة من (رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ) دعاءكم وتضرعكم (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أي مرسل إليكم مددا (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي بعضهم خلف بعض ، فهم مترادفون متتابعون في النزول إليكم.

فإن قيل : كيف يمكن الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (بِثَلاثَةِ آلافٍ) (١) (بِخَمْسَةِ آلافٍ) (٢)؟

__________________

(١) آل عمران : ١٢٥.

(٢) آل عمران : ١٢٦.

٣٠٢

وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)

____________________________________

فالجواب : إن الألف كانوا مقاتلين ، والبقية للبشارة وتقوية القلوب ، كما يقال : إن العاملين في المدينة عشرة ، فإذا قيل : إنهم أكثر؟ أجيب بأن المائة مثلا إنما هي من حيث العدد والحركة والعمل للعشرة. وفي الحديث : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» (١). فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبه ، فأنزل الله الملائكة ، وقد قاتلت الملائكة وأسرت بعض المشركين.

[١١] ثم يذكر سبحانه أن إنزال الملائكة إنما كان لأجل تقوية قلوب المسلمين ، وإلّا فنصر الله سبحانه لا يحتاج إلى مدد ملك أو غيره (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي ما جعل الله الإمداد بالملائكة (إِلَّا بُشْرى) أي بشارة لكم بالنصر ، فإن الإنسان يستبشر بكثرة الأعوان وإن كان علم أنهم للسواد والكثرة فقط (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ) أي بالإمداد (قُلُوبُكُمْ) فيزول الخوف والوسوسة عنها (وَ) إلّا في الحقيقة والواقع (مَا النَّصْرُ) أي ليس النصر (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ولا تأثير للإمداد والإعداد وإنما هي روابط ووسائط إلّا من عند الله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب بسلطانه (حَكِيمٌ) فيما يفعل ، وهذا لا يدل على عدم تهيئة الأسباب ، بل يدل على لزوم تهيئتها ، فإن الملائكة وقوى ما وراء الطبيعة بشائر ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٣ ص ٢٥٩.

٣٠٣

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ

____________________________________

وإلّا فالنصر من الله بأسبابه الظاهرية التي قررها هو سبحانه ، كما قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (١).

[١٢] ولما أمسى القوم المساء قبل الواقعة أخذ أصحاب الرسول النوم ، من كثرة التعب وقد كان إلقاء الله النوم عليهم ليذهب خوفهم ، ويتقووا على القتال غدا ، فإن من استراح ونام لم يقلق كما يقلق الساهر ، كما أن أعصابه تهدأ ، وقواه تكثر فيتمكن مما لا يتمكن عليه الساهر ، واحتلم كثير من المسلمين تلك الليلة ، وكان موضع نزولهم كثير الرمل ، مما سبب صعوبة الحركة ، فوسوس إليهم الشيطان قائلا : كيف أنتم على حق ، وقد أصابتكم الجنابة ، ومحلّكم غير صالح ، ولا ماء عندكم ، بينما المشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ، حتى لبد الأرض ، واغتسلوا ، وارتووا. فاذكروا أيها المسلمون (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) أي يستولي عليكم (النُّعاسَ) أي النوم (أَمَنَةً) أي أمانا (مِنْهُ) سبحانه ، فإنه لم يفعل ذلك إلّا لأجل أمنكم وراحتكم وإزالة الخوف عنكم ، و «الأمنة» الدعة التي تنافي المخافة (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من حدث الجنابة (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسوسته فإنه كان يوسوس في قلوبهم : كيف يكونون على حق ، وهم نجسون ، ومحلهم رمل ، وهم ظماء (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي ليشد

__________________

(١) الأنفال : ٦١.

٣٠٤

وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

____________________________________

قلوبكم ويقويها ، فإن النوم ونزول المطر قوّيا قلوبهم حيث أزالا المخاوف والوساوس والأتعاب (وَيُثَبِّتَ بِهِ) أي بالمطر (الْأَقْدامَ) أي أقدامكم في الحرب بتلبد الرمل ، أو المراد تقوية القلب فإنه يكنى بذلك عنه ، أو المراد ذهاب الحالات الخمسة بالأمرين ؛ فالنوم للدعة ، والمطر لتطهير البدن عن نجاسة المني ، والاغتسال لذهاب رجس الشيطان ، وتقوية القلب عن وسوسته ، وتثبيت الأقدام بتلبد الرمل.

[١٣] واذكروا أيها المسلمون (إِذْ يُوحِي) وهم وإن لم يروا ذلك ولم يسمعوه بآذانهم إلّا أنهم علموه (رَبُّكَ) يا رسول الله (إِلَى الْمَلائِكَةِ) المنزلين في وقعة بدر (أَنِّي مَعَكُمْ) وهذا لتقوية قلوب المسلمين ، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة لا تفعل شيئا إلّا بأمر الله سبحانه (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) بتقوية قلوبهم ودحر الشياطين عنهم ، فإن في القلب لمّتان : لمّة من الملائكة ولمة من الشيطان ، فالنوايا الحسنة وما أشبه من الملائكة ، والنوايا السيئة وما أشبه من الشياطين.

(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي الخوف من المؤمنين ، وقد كان ذلك ، فقد سلّط الله على الكفار رعبا عظيما ، حتى أن أبا لهب قال لأبي سفيان ـ بعد الواقعة ـ : كيف كان أمر الناس؟ قال : لا شيء والله إلّا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسرونا كيف شاءوا ، وأيم الله مع ذلك مالت الناس ، رأينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء

٣٠٥

فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)

____________________________________

(فَاضْرِبُوا) أيها الملائكة (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أي الرؤوس أو المذابح ، فإنهما فوق الأعناق ، أو هو كناية عن ضرب القفا للإذلال والإهانة (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ) أي من الكفار (كُلَّ بَنانٍ) أي أصابع اليد والرجل ، أو المعنى : جزّوا أعناقهم واقطعوا أطرافهم.

[١٤] (ذلِكَ) التعذيب والضرب فوق الأعناق والبنان بسبب أنهم (شَاقُّوا اللهَ) أي خالفوا الله (وَرَسُولَهُ) فكأنهم في شق والله والرسول في شق آخر (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ومن المعلوم أنه يكتفي بذكر الله وحده أو الرسول وحده ، ولكن ذلك لتعظيم الرسول حين يقرن باسم الله سبحانه ، وأنه الشخص المقابل لهم في المشاقة (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في الدنيا بعقوبة الكافرين على أيدي المسلمين ، وفي الآخرة بإخلادهم في النار.

[١٥] (ذلِكُمْ) «ذلك» إشارة إلى العذاب في الدنيا بالأسر والقتل ، و «كم» خطاب للكفار (فَذُوقُوهُ) أي ذوقوا هذا العذاب. و «الفاء» دخلت لإفادة الترتب على الكفر (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) علاوة على هذا العقاب العاجل (عَذابَ النَّارِ) في الآخرة. ولا يخفى أن «الذوق» يستعمل كثيرا في غير الذوق باللسان ، باعتبار إدراك الإنسان له كما يدرك باللسان المذوقات ، وهو يستعمل بالنسبة إلى الألم الروحي ، كما

٣٠٦

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ

____________________________________

يقال : «ذق الذل» ، وبالنسبة إلى الألم الجسمي ، كما يقال : «ذق السوط» ، قال سبحانه : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) (١) ، وقال : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٢).

[١٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب عام لكل مؤمن ، وإن كان نزول الآية بمناسبة قصة بدر (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من اللقاء في الحرب (زَحْفاً) «حال» أي حال كونهم وإياكم زاحفين متدانين للقتال ، فإن الزحف بمعنى الدنو (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي لا تنهزموا بأن تجعلوا ظهوركم إليهم ، فإن الإنسان لا يجعل ظهره إلى ساحة القتال إلّا إذا أراد الفرار.

[١٧] (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أي من يجعل ظهره إليهم يوم القتال ، وإنما قال «يومئذ» لأنه فهم من قوله : (إِذا لَقِيتُمُ إِلَّا) إذا كان (مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي تاركا موقفه إلى موقف آخر أصلح للقتال من موقفه الأول ، و «التحرّف» الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف بمعنى الطرف ، واللفظ ، حال ، أي : في حال كونه قاصدا الطرف حتى يكون أمكن في الحرب (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) طلب حيزا غير حيزه السابق ، أي مكان جديد ، يقال : «فلان متحيز إلى فلان» أي

__________________

(١) النحل : ١١٣.

(٢) الدخان : ٥٠.

٣٠٧

فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى

____________________________________

منحاز نحوه ، منضم إليه. فالمعنى : أنه ولّى دبره لينضم إلى جماعة يستعين بهم في القتال ، فإن الإنسان وحده يجترئ عليه العدو أكثر مما إذا كان مع جماعة (فَقَدْ باءَ) خبر «ومن يولهم» أي أن المولي دبره يرجع (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) فكأنه كان ذاهبا إلى الحرب برضى الله ، والآن بفراره رجع يحمل الغضب (وَمَأْواهُ) أي مصيره (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وبهذا يستدل على أن الفرار من الزحف كبيرة موبقة.

[١٨] ثم ذكر سبحانه أن السبب الحقيقي في انهزام الكفار إنما كان هو الله سبحانه (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي لم تقتلوا الكفار أنتم أيها المسلمون. و «النفي عنهم» باعتبار كونهم السبب الأضعف ، فلو لا تشجيع الله سبحانه بإنزال الملائكة وإنزال المطر وتقوية قلوبهم ومساعدة الملائكة لهم في القتل والأسر لم يتمكنوا من الغلبة عليهم ، ومن المتعارف أن ينسب الفعل إلى أقوى السببين (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بتهيئة الأسباب وإلقاء الرعب في قلوب الكفار حيث انهارت أعصابهم (وَما رَمَيْتَ) يا رسول الله ، أو أيها المسلم (إِذْ رَمَيْتَ) والمراد بالأول : الرمي المصيب ، فإن الفعل ينفى عمن لم تكن نتيجة الفعل بقدرته ، كما يقال لمن ألقى حجرا بدون معرفة فاصطاد طائرا : «فما صدت أنت وإنما صادته الصدفة». ولعل المراد ب «الرمي» ، رمي القوم بالهلاك ، كما يقال : «رماه الله بهلاك ونكال». (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فإنه كان السبب الأقوى في هلاكهم ونكالهم.

٣٠٨

وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً

____________________________________

وذكر جمع من المفسرين : أن المراد بذلك ، رمي الكفار بالتراب ، فإن جبرئيل عليه‌السلام قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر : خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما التقى الجمعان لعلي عليه‌السلام : أعطني قبضة من حصى الوادي. فناوله كفا من حصى عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلّا دخل في عينه وفمه ومنخريه منه شيء وتبعهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم ، ولما أن اصطف القوم برز عتبة وشيبة والوليد للقتال وطلبوا المبارز فخرج إليهم بعض المسلمين فلم يرضوا بهم لما جرت العادة من عدم احتشام القرن إلّا بقرنه حتى برز إليهم عليّ عليه‌السلام وحمزة وعبيدة ، ودارت المعركة بنصرة هؤلاء ، وقتل أولئك ، وهنا حمي الوطيس واستعرت الحرب ولم تنكشف إلّا بهزيمة الكفار وقتل جماعة كبيرة منهم ، وأخذ المسلمون يأسرونهم والملائكة تعينهم في الأسر كما أعانتهم في القتل. فكان المسلم يشير بسيفه أو رمحه ولما يصل إلى الكافر فإذا به يخر قتيلا تقتله الملائكة ، وكذلك الأسر. حتى أن العباس أسره أبو اليسر وكان العباس جسيما وأبو اليسر نحيفا ، فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أسرت العباس يا أبا اليسر؟ فقال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده. فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد أعانك عليه ملك كريم (١). وكل هذه كانت للبشرى وإنما النصر كان من عند الله.

(وَ) قد فعل الله سبحانه ما فعل (لِيُبْلِيَ) أي لينعم على (الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ) أي من عنده سبحانه (بَلاءً حَسَناً) أي نعمة جسيمة ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٢٧.

٣٠٩

إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨) إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ

____________________________________

فـ «الواو» على هذا استئنافية متعلقة بفعل مقدّر ، كما قدّرناه ، أو المراد : ليمتحن المؤمنين امتحانا حسنا ، فإن البلاء يأتي بمعنى النعمة كما يأتي بمعنى الاختبار ، وإنما يقال للنعمة : بلاء ، لأن أصل البلاء ما يظهر به الأمر من الشكر والصبر ، فالنعمة بلاء لأنها تظهر الشكر ، والمصيبة بلاء لأنها تظهر الصبر (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بضمائركم ونياتكم. وفي الحرب تظهر أقوال ، وتجول في الصدر نيات ، فمن الأحرى أن يحفظ الإنسان قلبه ولسانه لئلّا ينحرفان عن نهج الصواب بمحضر من يسمع ويعلم كل شيء.

[١٩] الأمر (ذلِكُمْ) أي أن الأمر كما ذكرنا من القصة ، وهذا كما أن من يذكر قصة يقول بعدها : «هكذا» وهذا شبه تأكيد للكلام السابق ، ف «ذلك» إشارة و «كم» للخطاب ، أي : أخاطبكم أيها المؤمنون أن الأمر كذلك (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) هذا عطف على «ذلكم» أي أن الغرض كان بلاء المؤمنين ووهن كيد الكافرين. هذا بناء على رجوع «ذلكم» إلى البلاء المستفاد من قوله : «ليبلي المؤمنين» ، وإلّا كان «وأن الله» استئنافية.

[٢٠] وحيث بيّن سبحانه أن الله يوهن كيد الكافرين خاطب الكفار بقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أيها الكفار (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) وهذا تهكّم ، فإن أبا سفيان دعا قبل الواقعة بقوله : «اللهم أهلك أضل الفريقين وأقطعهما للرحم» ، فقد استجاب الله دعاءه وأهلك أضل الفريقين وأقطعهما للرحم. والمراد ب «الاستفتاح» طلب الفتح ، كأن

٣١٠

وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ

____________________________________

الذي يقع في مشكلة قد انسدت عليه الأبواب فيطلب فتحها ليتخلص من المشكلة.

ثم يرغّبهم سبحانه في الانتهاء عن كفرهم (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الكفر ومعاداة المسلمين (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في دنياكم وآخرتكم (وَإِنْ) لم تنتهوا و (تَعُودُوا) إلى كفركم ومشاقتكم لله والرسول (نَعُدْ) إلى ما رأيتم من إهلاككم وإذلالكم ، وبأسنا لا يقف أمامه تجمع وكثرة (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) أي لا تفيد بكم جماعتكم شيئا (وَلَوْ كَثُرَتْ) فإن النجاح ليس بالكثرة وإنما بالقوة التي هي متوفرة لدى المؤمنين (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ومن المعلوم انطباق هذه الآيات في كل زمان ومكان بشرط أن يعمل المسلمون على شرائط الإيمان.

[٢١] ثم خاطب سبحانه المؤمنين أن يلتزموا بما هو سبب نجاحهم بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) واختصاص الخطاب بالمؤمنين ، مع أن الإطاعة واجبة على الجميع ، لأنهم هم المصغون المنتفعون بالخطاب دون غيرهم (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي لا تعرضوا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَ) الحال (أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) دعاءه لكم وأمره ونهيه إياكم ، فإن المعرض بعد العلم أشد عقوبة عن المعرض بلا علم.

[٢٢] (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) وهم اليهود والمنافقون (وَهُمْ

٣١١

لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ

____________________________________

لا يَسْمَعُونَ) حقيقة ، إذ لو سمعوا ووعوا لعلموا ، فعدم علمهم دليل على عدم سماعهم سماع متعظ واع ، فإنه يقال للعالم التارك لعلمه : «إنه غير عالم» ، كما يقال لمن سمع قول الرشد ، فسلك سبيل الغي : «أنه لم يسمع».

[٢٣] وإذ أمر الله سبحانه المؤمنين بالسماع النافع المقترن بالعمل حذّرهم أن يكونوا كالدابة التي لا تسمع إلّا نداء من غير أن تعقل وتعمل حسب ما سمعت ، ولا تنطق بالخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) الكفار ، إنهم أشر من الدابة ، حيث إن الدابة لا تعقل ، وهؤلاء يعقلون ثم يعرضون (الصُّمُّ الْبُكْمُ) «صمّ» جمع «أصم» : وهو الذي لا يسمع ، و «بكم» جمع «أبكم» : وهو الذي لا يتكلم (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) عقلا مثمرا ، وإلا فهم عقلاء ، فإن هؤلاء شر ما دبّ على وجه الأرض من الحيوان حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من الحق ، ولم يتكلموا به.

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنها نزلت في بني عبد الدار ، لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له : سويبط» (١).

[٢٤] (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) قبولا للحق وإذعانا به وإنصافا في الأمر (لَأَسْمَعَهُمْ) إسماعا نافعا ، ولكنه علم أن ليس فيهم خير ، ولا رجاء

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٩٦.

٣١٢

وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)

____________________________________

بهم ، فلذا تركهم مغلقي القلوب ، وهذا كما تقول : «لو علمت في هذه الأرض قابلية للزرع لحرثتها» ، حيث إنها لا تصبح قابلة للزراعة حتى بالحرث. وهكذا قلب الإنسان القابل وقلب الإنسان غير القابل ، فإن أغشية الكفر قد شملتهما ، لكن الله سبحانه يزيل الغشاء عن قلب القابل حيث يعرف فيه الخير ، ولا يزيله عن قلب غير القابل حيث يعرف فيه عدم الخير.

وبهذا تحقق أنه لا مجال للإشكال بأنه إن أريد من «الإسماع» المعنى الظاهري ، فقد أسمع الله سبحانه كل برّ وفاجر ؛ فلا يناسبه التعليق على «لو» الامتناعية ، وإن أريد منه تطهير القلوب تكوينا فإن الله لو فعل ذلك لكان فيه من الخير ؛ فلا يناسبه ما يفهم من الآية من عدم إمكان الخير.

وحاصل الجواب : أن هناك ثلاث مراتب : الإسماع الظاهري ، وإزالة الأغشية ، وطهارة القلوب ذاتا. فإزالة الأغشية خاصة بالمؤمن ، بينما الإسماع عام لكل واحد ، فالمعنى : لو علم الله الطهارة الذاتية في قلوبهم لأزال الأغشية المظلمة عنها ، علاوة على الإسماع ، ولكن علم أن ذلك لا ينجح ، فإن قلوبهم كالأرض السبخة التي لا ينفع معها الحرث ، فلذا تركهم وشأنهم.

(وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) بهذا النحو من الإسماع بإزالة الأغشية (لَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا ، لأن قلوبهم سبخة لا ينفعها حتى إزالة الأغشية (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الحق.

وربما أورد بأنه : كيف يمكن ذلك ، والحال أن لازم هذا النحو

٣١٣

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ

____________________________________

من القياس المنطقي ـ بحذف الأوسط ـ «لو علم الله فيهم خيرا لتولوا» ، مع وضوح أنه لو علم الله فيهم خيرا لم يتولوا؟

والجواب : إن الكلام جار مجرى العرف ، فليس هذا قياسا واحدا بل قياس وزيادة تقديره «لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ، لكنه علم فيهم عدم الخير فلم يسمعهم» ، «ولو أسمعهم مع علمه عدم الخير فيهم لتولوا» وهذا كما تقول عن ولد لك غير قابل للكسب : «لو علمت أنه غير كاسب لزودته برأس مال» ، «ولو زودته لأتلف» تريد : لو زودته والحال أني أعلم عدم قابليته.

[٢٥] وبعد ما ذكر سبحانه وجوب إطاعة الله والرسول ، ألمع إلى أن في الاستجابة كل الخير كما أراهم ذلك فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا) أي أجيبوا. ولعل السر في الإتيان بباب «الاستفعال» المفيد للطلب ، إفادة أن اللازم كون الجواب عن القلب والضمير ، لا بمجرد اللفظ والظاهر ، فإن طلب الإنسان لأن يجيب إنما بنبع من قلبه وباطنه (لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) وقد تقدم أن ذكر الرسول تعظيما له ، ولأنه الداعي الذي يراه الإنسان ويقابله (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) فإن الحياة الكاملة إنما هي بالإيمان ، إذ الحياة بمعنى الحس والحركة مرتبة ضعيفة من الحياة ، والمرتبة الأعلى بمعنى السعادة الملازمة للعلم والفضيلة والرفاه والأمن والصحة ، هذا بالنسبة إلى الدنيا وكذلك بالنسبة إلى الآخرة ، فإن حياة الجنة هي الحياة الكاملة التي تستحق أن تسمى حياة ، أما حياة النار فإنها لا تستحق اسم الحياة ، ولذا قال سبحانه : (لا

٣١٤

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)

____________________________________

يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (١).

و «إذا» ليست شرطا له مفهوم ، بل المراد إفادة أن دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما تكون لما فيه حياة الناس. وتوحيد الفعل مع أن الله والرسول اثنان ، باعتبار أن دعوتهما واحدة ، أو كان باعتبار كل واحد منهما ، كما قال : (طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) (٢).

إنه سبحانه يريد أن تستجيبوا عن إرادة وطواعية وإن كان يقدر على كل شيء (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) فمن هذه قدرته ، أليس يقدر على جبركم أن تؤمنوا؟ ومعنى «الحيلولة بين المرء وقلبه» أن لا تطيع الأعضاء القلب فيما يأمر وينهى ، بأن يريد قلبه شيئا فلا تطيعه الأعضاء بمنع الله سبحانه عن الإطاعة ، وكذا العكس بأن تنقل الأعضاء ـ كالعين والأذن والذوق والأنف واللامسة ـ إلى القلب معلومات فلا يفهمها ، فإن القلب كالسلطان يعطي ويأخذ ، والله قادر على أن يفصل بينه وبين رعيته وجيوشه (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واعلموا أنكم تجمعون إليه للجزاء والحساب. ومعنى «إليه» أي إلى الموضع المقرر للجزاء ، كما يقال : «ذهب إلى الله» لمن يذهب إلى الحج ، فيراد المكان المقرر لإتيان الأعمال. إن قلوبكم بين يديه وحشركم إليه ، فأذعنوا له حتى تحيون حياة طيبة.

__________________

(١) طه : ٧٥.

(٢) البقرة : ٢٦٠.

٣١٥

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ

____________________________________

[٢٦] (وَاتَّقُوا) أي خافوا ، إن لم تستجيبوا (فِتْنَةً) وبلاء عامّا (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) فإن أفراد الأمة إذا سكتوا على المنكر عمّهم الله بالعقاب ، أولئك بالعصيان وهؤلاء بالسكوت ، كمن لا يأخذ بيدي من يريد ثقب السفينة فإنه يقرن مع الثاقب. كما مثل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن قرأ : «لتصيبن» أدخل الساكت في جملة الظالمين ، لأنه ظالم بسكوته. ويكون المعنى على هذا : إن الفتنة تصيبكم أيها الظلمة فقط ، فلا تقولوا : كيف تصيبنا الفتنة فقط ونحن في جملة غير الظالمين؟ تريدون بذلك عدم إصابتكم بالفتنة لأنكم بين أظهر غير الظالمين ، فإن الله سبحانه قادر على إصابتكم فقط ، كما أصابت الفتنة أصحاب السبت دون الذين نهوهم ووعظوهم.

هذا ، ولكنا حيث نرجح عدم الزيادة والنقيصة في القرآن الحكيم ، وأن ما بين دفتيه هو القرآن المنزل حتى أن النظم أيضا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نوجّه الروايات الواردة «الخاصة بالقراءات» بأنها تأويل واجتهاد لا نزول ووحي.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فإذا أخذتم يكون أخذه أليما شديدا ، فاستجيبوا لله والرسول ، فإن فيه حياتكم ، وفي غيره النكال والعقاب.

[٢٧] وقد رأيتم كيف تفضّل الله عليكم حين استجبتم له وللرسول (وَاذْكُرُوا) أيها المؤمنون (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) في العدد

٣١٦

مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ

____________________________________

(مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) يطلب الأعداء ضعفكم فينزلون بكم أنواع الإهانة والأذى (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أي يأخذونكم فجأة ، و «الاختطاف» إما لأجل السجن أو لأجل القتل أو لأجل الأذية ، والمراد ب «الناس» الكفار (فَآواكُمْ) أي جعل الله سبحانه لكم مأوى تأوون إليه ، وهي المدينة (وَأَيَّدَكُمْ) قوّاكم (بِنَصْرِهِ) لكم على أعدائكم حتى صرتم أقوياء بفضله سبحانه (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) فإنهم في مكة كانوا فقراء لا يجدون طعاما ولا شرابا ، حتى إذا صاروا في المدينة زرعوا واتجروا فرزقوا من الطيبات (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا فضله سبحانه ، ونعمته وإحسانه عليكم.

[٢٨] ولما ذكر سبحانه وجوب استجابة المؤمن لله ورسوله ، نهى عن الخيانة له وللرسول بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ) بترك أوامره (وَالرَّسُولَ) بترك شريعته. وقد نزلت هذه الآية في أبي لبابة ، وإن كانت هي عامة لكل من يريد الخيانة.

فقد ورد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاصر يهود بني قريضة إحدى وعشرين ليلة ـ لما خانوا عهده ـ فسألوه الصلح على ما صالح عليه بنوا النظير بأن يصيروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله وولده كانوا عندهم ، فبعثه رسول الله فقالوا : ما ترى يا أبا

٣١٧

وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

____________________________________

لبابة أننزل على حكم سعد؟ فأشار بيده إلى حلقه «إنه الذبح» فلا تفعلوا ، فأتى جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك ، قال أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله. فلم يرجع إلى الرسول بل جاء إلى المسجد وشد نفسه بسارية من سواري المسجد وقال : لا والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي.

فمكث أياما لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خرّ مغشيّا عليه ثم تاب الله عليه ، ونزلت : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، فقيل له : يا أبا لبابة قد تاب الله عليك. قال : لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده ثم قال أبو لبابة : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن انخلع من مالي. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يجزيك الثلث أن تصدّق به (٢).

(وَ) لا (تَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي أمانة بعضكم عند بعض من مال ، أو عرض ، أو ما أشبه (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن الخيانة محرّمة موجبة للعقاب والعذاب. ومن الممكن أن تكون جملة «وتخونوا» استفهامية إنكارية ، أي : «كيف تخونوا أماناتكم في حال العلم» ، وسميت خيانة الله والرسول خيانة الأمانة لنفس الإنسان.

[٢٩] (وَاعْلَمُوا) أي تيقنوا (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) امتحان وابتلاء

__________________

(١) التوبة : ١٠٢.

(٢) راجع تفسير القمي : ج ١ ص ٣٠٣.

٣١٨

وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

ليختبر الله سبحانه من يرجّح أمر الله على ماله وولده ، ومن يرجّحهما على أمره سبحانه ، فإن أبا لبابة حمله على ما فعل أن أمواله وأولاده كانت عند اليهود فخاف إن نصح لله والرسول أن تذهب أمواله وأولاده. (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فمن رجّح أمره سبحانه على ماله وولده أوجر بأعظم أجر.

[٣٠] إن الأمانة حمل ثقيل لا يقوم بها إلّا من اتقى الله ، ولذا يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فإن من اتقى الله سبحانه صار ميزان الخير والشر ملكة له ، فيفرق بين الحق والباطل بتلك الملكة الحاصلة بالتقوى ، فإن عرفان الإنسان أن عليه مراقبا يحدّد موقفه من الأعمال والأقوال. (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) التي عملتموها. ومعنى «تكفير السيئات» سترها ، فإن التكفير بمعنى الستر والتغطية (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم بإزالتها ، فإن الستر غير الإزالة ، وهما نعمتان وفضلان (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فإنه يتفضل عليكم بالتكفير والمغفرة وجعل الفرقان.

[٣١] وإذ تقدم الكلام حول نصرة المؤمنين في بدر بعد أن كانوا قليلا مستضعفين في مكة ، بيّن سبحانه حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الهجرة (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يدبرون مؤامرة

٣١٩

لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)

____________________________________

(لِيُثْبِتُوكَ) أي يقيّدوك ويسبحونك فتثبت في مكة لا تقدر على الإرشاد والتبليغ (أَوْ يَقْتُلُوكَ) ويستأصلوا شأفتك (أَوْ يُخْرِجُوكَ) ويبعدوك ، بإرسالك إلى بعض المحالّ النائية ، حتى لا تتصل بأصحابك وبالناس (وَيَمْكُرُونَ) تأكيد ، تهيئة لقوله : (وَيَمْكُرُ اللهُ) أي يدبر الله سبحانه الأمر خفية ، فإن التدبير لا يكون إلّا خفية (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) فإنه أعرف بطرق العلاج. والفرق بين مكر الله سبحانه ومكر الناس أن الأول لا يكون إلّا بحق ، والثاني لا يستعمل ـ غالبا ـ إلّا إذا كان بباطل.

إن هذه الآية الكريمة نزلت في قصة هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك أن قريشا اجتمعت فخرج من كل بطن أناس إلى دار الندوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا شيخ قائم بالباب وإذ ذهبوا إليه ليخرجوه قال : أنا شيخ من مصر «أو نجد» أدخلوني معكم. قالوا : ومن أنت يا شيخ؟ فقال : أنا شيخ من مصر «أو نجد» ولي رأي أشير به عليكم.

فدخلوا وجلسوا فتشاوروا وهو جالس وأجمعوا أمرهم على أن يوثقوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال الشيخ : هذا ليس بالرأي ، فإن فعلتم هذا ذهب أصحابه وفكّوا وثاقه ، ومحمد رجل حلو اللسان فإنه يفسد عليكم أبناءكم وخدمكم وما ينفع أحدكم بهم بعد أن أفسدهم محمد. ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه من بلادهم ، فقال الشيخ : هذا ليس بالرأي ؛ إنه إن خرج أحاط به الناس الأعراب لحلو منطقه وأفسد عليكم من الخارج. فاستصوبوا رأيه ثم سألوه الرأي قال :

٣٢٠