تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ

____________________________________

الذي كان هناك (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) حال التجلّي (فَسَوْفَ تَرانِي) وقد كان هذا من باب التعليق بالمحال ، فإن استقرار الجبل مكانه مع إرادة الله عدم الاستقرار له كان مستحيلا. فيكون التعليق على ذلك مثل قوله : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (١) ، وقوله : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٢) ، (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٣) ، مما جرى العرف بالتعليق على شيء لا يكون ، في بيان أن الشيء الفلاني لا يكون (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) أي رب موسى عليه‌السلام (لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) أي مستويا مع الأرض ، والمراد بالتجلي : خلق نور يشع على الجبل ، أو إظهار قدرة وعظمة له (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي وقع مغشيا عليه من الرعب والخوف (فَلَمَّا أَفاقَ) من غشيته ورجعت قواه إليه (قالَ) موسى عليه‌السلام : (سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها عما لا يليق بك من رؤية وغيرها من النواقص (تُبْتُ إِلَيْكَ) أي رجعت إليك في أموري ، ولم يكن ذلك توبة عن ذنب بل إنه على وجه الانقطاع والتخضّع ، فإن الإنسان إذا رأى الأمور الجليلة يذكر الله بالتسبيح والتقديس والاستغفار ، والسر أن هذه الألفاظ صارت إعلاما للخضوع والخشوع ، لكثرة ما استعملت فيهما. ومنه الحديث : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر الله من غير ذنب» (٤) وإن شئت قلت : إنه إنشاء مفهوم التوبة

__________________

(١) الأعراف : ٤١.

(٢) الزخرف : ٨٢.

(٣) الأنبياء : ٢٣.

(٤) راجع وسائل الشيعة : ج ٧ ص ١٨٠.

٢٤١

وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ

____________________________________

بداعي التعظيم ، كما أن أدوات الاستفهام في كلامه سبحانه هي لإنشاء مفهوم الاستفهام بداعي آخر ، كالمفاضلة في قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١) ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بك وبما يليق بك من الصفات.

[١٤٥] (قالَ) الله سبحانه : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) أي اخترتك (عَلَى النَّاسِ) وفضّلتك عليهم (بِرِسالاتِي) حيث ألقيت إليك أنواع الرسالة في الأصول والفروع (وَبِكَلامِي) حيث كلّمتك دون سائر خلقي. والعطف إما للبيان ، أو المراد من الرسالة غير ما كلّم فيه ، بل كانت بالإلهام ، ومن الكلام غير ما أرسل به ، بل كان لسائر الأمور (فَخُذْ) يا موسى (ما آتَيْتُكَ) أي أعطيتك من التوراة وتمسك به (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمتي ، والشكر إما بالجنان بأن يعرف الإنسان قدر المنعم وفضله ، وإما باللسان بأن يعترف بجميله ، وإما بالأركان بأن يأتي الإنسان بما يستحق المنعم من التعظيم والإجلال والخضوع ، قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (٢).

[١٤٦] (وَكَتَبْنا لَهُ) أي لموسى عليه‌السلام (فِي الْأَلْواحِ) جمع «لوح» ، وهي القطعة من الخشب أو نحوها ، وقد نزلت على موسى عليه‌السلام ألواح

__________________

(١) الزمر : ١٠.

(٢) سبأ : ١٤.

٢٤٢

مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ

____________________________________

مكتوب فيها التوراة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم ودنياهم (مَوْعِظَةً) هذا تفسير لقوله «كل شيء» ، وهي عبارة عن التحذير عن القبيح ، والتبصير بمواقع الخوف (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا وتوضيحا لكل أمر كانوا محتاجين إليه. ومن المعلوم أن المراد بيان الخطوط العامة للحياة الدينية ، لا كل جزئي جزئي ، وهذا هو المراد من قوله : (لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١) ، لو أريد بالكتاب القرآن ، وهو المراد من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من شيء يقربكم إلى الجنة ، إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يباعدكم عن النار إلّا وقد نهيتكم عنه» (٢) ، (فَخُذْها) أي الألواح (بِقُوَّةٍ) أي بجدّ واجتهاد ، والمراد بأخذها : العمل بما فيها ، كما قال سبحانه : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) (٣) ، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ) أي بني إسرائيل (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) وهذا تحريض بالأخذ بالفضائل ، فإن الشريعة لها عرض كبير للأمور يبتدئ من الواجبات وينتهي إلى أكمل الفضائل وهذا من باب شدة الجذب بقصد الاعتدال ، كما يشد الحمل من جانب كثيرا ليعتدل (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي جهنم ، فاحذروا أن تخالفوا وتفسقوا حتى تكونوا منهم.

[١٤٧] (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) أي أصرفهم عن الإيمان بها ، أو أصرفهم عن

__________________

(١) الأنعام : ٦٠.

(٢) راجع مستدرك وسائل الشيعة : ج ١٣ ص ٣٠.

(٣) مريم : ١٣.

٢٤٣

الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ

____________________________________

النيل منها (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فعلى المعنى الأول : أن ذلك لكونهم تكبروا ، فلم يلطف بهم الله سبحانه لطفه الخفي بل صرفهم عن الإيمان وخلّى بينهم وبين إضلال الشيطان ، كما يصرف الإنسان ولده العاصي عن لطفه فلا يعتني بشأنه. وعلى المعنى الثاني : يكون المعنى حفظ الآيات عن الزيادة والنقصان كما قال سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) ، والأول أقرب ، وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) ليس قيدا احترازيا ، بل لبيان أن التكبر لا يكون إلا بغير الحق ، نحو : (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (٢).

ثم وصف سبحانه أولئك بقوله : (وَإِنْ يَرَوْا) أي يرى المتكبرين (كُلَّ آيَةٍ) ومعجزة دالة على صدق الأنبياء وسائر الأمور الحقة (لا يُؤْمِنُوا بِها) حيث قد لجّوا في الفساد واستحوذ عليهم الشيطان (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) أي طريق الهدى والحق ، الموجب للرشد والنمو العقلي والمادي ، فإن الرشد بمعنى النمو (لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) فلا يسلكوه (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ) أي طريق الغواية والضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) لأنفسهم فيسلكوه (ذلِكَ) أي سبب صرفهم عن الآيات ـ على المعنى الأول ـ أو سبب اجتنابهم طريق الرشد واتخاذهم طريق الغي

__________________

(١) الحجر : ١٠.

(٢) البقرة : ٦٢.

٢٤٤

بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً

____________________________________

(بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بحججنا ومعجزات رسلنا (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها ، والمراد تشبيههم بالغافل الذي يغفل عن صلاحه فلا يعمل بمقتضاه.

[١٤٨] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي المعجزات والحجج (وَ) كذبوا ب (لِقاءِ الْآخِرَةِ) بأن أنكروا القيامة والبعث والنشور (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي عملوها ، فإن كل إنسان يعمل بعض الأعمال الخيرة ، فإذا كان مؤمنا يثاب عليها ، وإن كان كافرا لم يثب عليها ، وهذا لا ينافي خفة العذاب ، كما ورد في حاتم وأنو شروان وغيرهما (هَلْ يُجْزَوْنَ) أي لا يجزى هؤلاء المتكبرون ، فإن الاستفهام للإنكار (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فليس حبط أعمالهم ظلما لهم.

[١٤٩] ثم يبيّن سبحانه طرفا آخر من قصة بني إسرائيل ، وهي قصة عبادتهم للعجل حين كان موسى عليه‌السلام في الطور (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد خروج موسى عليه‌السلام إلى ميقات ربه (مِنْ حُلِيِّهِمْ) الذهبية التي كانت لهم ، من سوار وخلخال وقلادة وغيرها (عِجْلاً) أي صبّوا الحلي في صورة العجل وهو ولد البقر (جَسَداً) أي لا روح فيه ، فكان تمثال العجل وصورته ، لا واقعه وحقيقته ، ولعل هذا القيد لئلّا يتوهّم أن القوم ألبسوا الحلي عجلا حقيقيا ، فإن موسى عليه‌السلام لما أبطأ

٢٤٥

لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً

____________________________________

أشاع رجل من بني إسرائيل واسمه «السامري» أن موسى قد مات ثم جمع حلي القوم وصاغها عجلا ، وقال لبني إسرائيل : إن هذا إلهكم ، وقد كان العجل من آلهة مصر ، وكانوا يألفون عبادته ، ولذا قبلوه ، وقد طلبوا سابقا من موسى عليه‌السلام أن يجعل لهم إلها.

وفي بعض التفاسير : إن القوم الذين رآهم بنو إسرائيل على البحر كانوا يعبدون العجل ، حين قالوا لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (١) ، وكان العجل الذي صنعه السامري (لَهُ خُوارٌ) أي صوت كصوت العجل. وقد اختلف في ذلك ، ففي بعض التفاسير أن السامري صنعه بحيث إذا هبّت عليه الريح دخلت في جوفه فأحدثت صوتا. وفي تفسير آخر : إن «السامري» رأى جبريل عليه‌السلام راكبا فرسا حين عبروا البحر ، فأخذ من تحت حافر فرسه التراب ، فأدخله جوف العجل ، وكان منه الخوار ، أو أن الخوار كان منه سبحانه حيث خلقه فيه للابتلاء.

ولا يستشكل : أنه كيف يخلق ذلك ، وهو موجب لافتتان الناس؟

فإن الجواب واضح : إذ المحل لم يكن محل اشتباه فقد علموا جميعا أن الله سبحانه لا يرى وليس بجسم ، فكان ضلالهم بسوء اختيارهم.

(أَلَمْ يَرَوْا) أولئك الذين عبدوا العجل (أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) فمن هو عاجز عن أقل شيء وهو الكلام كيف يكون إلها؟ (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) أي لا يرشدهم إلى خير ليأتوه ولا إلى شر ليجتنبوه

__________________

(١) الأعراف : ١٣٩.

٢٤٦

اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً

____________________________________

(اتَّخَذُوهُ) أي اتخذوا العجل إلها ، فإن كثيرا منهم أطاعوا السامري في عبادة العجل ، ولم يطيعوا هارون فيما وعظهم وأنذرهم (وَكانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم بهذه العبادة حيث حرموها من خير الدنيا وسعادة الآخرة.

[١٥٠] (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي سقط البلاء في يدهم ، وهذا من باب التمثيل والتشبيه ، فإن الإنسان إذا عمل عملا فندم ، يقال : «سقط في يده» كأن الشيء الذي اكتسبه لم يرج ، ولم يذهب كما هو عادة المتاع الجيد ، بل سقط في يده وبقي عنده ، وكأن الأصل فيه أن المتاع يسقط من محله إلى مستقره ، وهو الذي يصرفه لأجل حوائجه ، فإذا بقي عند الواسطة ـ وهو التاجر ـ كان ساقطا في يده ، دون يد المستهلك (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) فإنهم بعد ما عبدوا العجل ندموا فيما أفرطوا ، كما هو شأن غالب الحركات الاعتباطية فإن الناس يأتون بها من فورهم ثم يندمون حينما يتفكرون (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) بقبول توبتنا (وَيَغْفِرْ لَنا) ما فعلناه من عبادة العجل (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم باستحقاق العقاب ، وفوت الثواب.

[١٥١] (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى) من الميقات (إِلى قَوْمِهِ) وعرف الأمر صار (غَضْبانَ أَسِفاً) أي حزينا على ما صدر منهم من عبادة العجل ، أو المراد رجع غضبان آسفا ، لما أعلمه الله سبحانه من عبادتهم العجل

٢٤٧

قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠)

____________________________________

(قالَ) لهم : (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي) أي عملتم خلفي (مِنْ بَعْدِي) أي بعد ذهابي إلى الميقات ، فإن عملكم بعدي كان عملا سيئا (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أي استعجلتم قضاء الله وعقابه ، فكأن العاصي لا بد وأن يلاقي العقاب ، فإذا فعل فعلا شنيعا استعجل العقاب (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) المكتوب فيها التوراة من يده تضجرا من عملهم (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) هارون (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) إما لينحّيه ناحية فيناجيه في أمر القوم ، وإما إظهارا للغضب ، ولم يكن ذلك إلا استنكارا عمليا لعمل القوم ، كما يصيح الوالد على ولده البريء ، فيما إذا عمل بعض أهل البيت عملا مخالفا ، يريد بذلك إظهار غضبه على عملهم.

(قالَ) هارون : يا (ابْنَ أُمَ) هذه الكلمة للاستعطاف لأن ذكر الأم يشع في النفس حنانا ولينا ، وقد قصد هارون بهذا التعبير التسكين من غضب موسى عليه‌السلام (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) أي اتخذوني ضعيفا ، فلم يعملوا بكلامي (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي همّوا بقتلي حين شددت عليهم في استنكاري عليهم عبادة العجل (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) فإن فعلك هذا يوهم أنك غاضب عليّ فيفرح الأعداء حيث يظنون أنهم ألقوا الخلاف بين الأخوين وجعلوني مغضوبا عليه في نظرك. ومعنى الشماتة : إظهار الفرح بوقوع عدوهم في المحذور (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

٢٤٨

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

____________________________________

الذين عبدوا العجل ، فلا تشملني معهم في الغضب علينا جميعا ، فإن ذلك من عملهم.

إن هذا النحو من إظهار الغضب على الحبيب البريء ، لتنبيه العدو الآثم ، من أساليب البلاغة العملية حيث أن الحبيب لا يحمل موجدة على حبيبه بسبب هذا العمل ، بخلاف ما لو عمل بالآثم فإنه يجعله أبعد من الصواب ، إذ يسبب مثل ذلك في نفسه بغضا وعداوة زائدة ، ومثل خطاب البريء ، ما يفعله الإنسان بنفسه عند إرادة إظهار الغضب من ضرب نفسه ، أو نتف شعره ، أو شق جيبه ، أو ما أشبه ذلك.

[١٥٢] (قالَ) موسى عليه‌السلام بعد ذلك : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) قال على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه ، لا لأنه صدر منهما عصيان أو ذنب ، وقد تقدم أن هذه الكلمة تقال عند إظهار الخضوع والخشوع ، وإن كان الأصل فيها طلب غفران الذنب (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) أي لطفك أو جنتك (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فإن رحمتك أكبر من رحمة كل راحم ، وهذا يذكر في آخر الدعاء استعطافا ، كما يقال : «أنت أجود الأجودين» لاستدعاء الجود ، لأنه اعتراف بالأفضلية.

[١٥٣] ثم قال موسى عليه‌السلام ، أو استئناف من الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلها معبودا (سَيَنالُهُمْ) أي يلحقهم (غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) في الآخرة ، وهو موجب للنار (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإنهم

٢٤٩

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)

____________________________________

يصبحون أذلاء ، يكثر فيهم القتل والطرد ، ويذكرون بسوء أبدا. وقد مر تفسير قوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) (١) ، (وَ) كما جازينا اليهود بهذا الصنيع (كَذلِكَ نَجْزِي) سائر (الْمُفْتَرِينَ) الذين يفترون على الله سبحانه باتخاذ الأصنام شريكا له ، فإنه افتراء على الحقيقة والواقع.

[١٥٤] (وَ) لكن المعصية لا تسبب يأس صاحبها ، فإن من تاب ، تاب الله عليه ف (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) أي الشرك والمعاصي (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) أي بعد السيئات (وَآمَنُوا) إيمانا صادقا (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (مِنْ بَعْدِها) أي بعد السيئات ، أو بعد التوبة ، ولعل التكرار لإفادة عدم قبول التوبة مع الإصرار على المعصية ، كما أنه لا توبة مع الإصرار (لَغَفُورٌ) يغفر الذنب (رَحِيمٌ) يرحم التائب بفضله ولطفه.

[١٥٥] (وَلَمَّا سَكَتَ) أي : سكن ، وفيه من البلاغة ما لا يخفى (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) بأن زالت فورته ، فإن فورة الغضب تكون أول ملاقاة المكروه (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي كان عليه‌السلام رماها إظهارا لضجره ، مما فيها التوراة (وَفِي نُسْخَتِها) أي ما نسخ ورقم فيها (هُدىً) يهدي إلى الحق (وَرَحْمَةٌ) موجب ترحّم وتنعّم (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي

__________________

(١) البقرة : ٦٢.

٢٥٠

وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا

____________________________________

يخشونه ولا يعصونه.

[١٥٦] ثم بيّن سبحانه قصة سبق الإشارة إليها ، وهي قصة طلب القوم أن يروا الله جهرة وقد كررت أولا لأجل ذكرها في قصة موسى ، وثانيا لأجل بيان أنها كانت من قومه ، وقيل : إنها قصة ثانية ، ذهبوا معه عليه‌السلام للاعتذار من عبادة العجل ، فإنهم طلبوا من موسى أن يصحبهم ليسمعوا كلام الله سبحانه (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي من قومه (سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) ليسمعوا كلام الله سبحانه بأسماعهم ، فيزدادون إيمانا ، ولما سمعوا كلام الله سبحانه ، لم يقنعوا وطلبوا من موسى عليه‌السلام أن يروا الله جهرة ، رؤية الأبصار ، لا رؤية العلم بالقلب (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الصاعقة التي رجفت بسببها أبدانهم وقلوبهم وهلكوا جميعا لسؤالهم الشنيع وعنادهم في الأمر بعد ما نصحهم موسى عليه‌السلام ، إن ذلك غير ممكن كما تقدمت الإشارة إليه. وهنا خاف موسى عليه‌السلام أن يتهمه بنو إسرائيل أنه هو الذي قتلهم ، لمّا لم يتمكن من إسماعهم كلام الله سبحانه ، فيرتدوا عن الدين ، ولذا (قالَ) موسى عليه‌السلام لله : يا (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) هذا الموقف حين كانوا في بلادهم ، لكن الآن ماذا أقول لبني إسرائيل إذا قالوا إنك قتلتهم؟ (وَإِيَّايَ) وهذا للتخضّع والاستكانة ، وتسليم الأمر إليه سبحانه ، فإنه تعالى لو شاء أهلك الجميع وأماتهم ، فكلنا تحت إرادتك وفي قبضتك.

(أَتُهْلِكُنا) يا رب (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) وقد جاء الرجاء بصيغة

٢٥١

إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)

____________________________________

الاستفهام ، كما أنك إذا رجوت الأمير في سماع كلامك تقول : «هل يسمع الأمير كلامي» ، أي أن الإهلاك بسبب ما طلبه السفهاء من الرؤية ، خلاف رجائنا فيك ، وإن كان بالاستحقاق ، حيث أن مثل هذا الطلب من السفهاء وسكوت العقلاء عنهم ـ بعدم إنكار المنكر ـ موجب لاستحقاق العقوبة ، وإضافة الهلاك إلى ضمير المتكلم مع الغير «نا» باعتبار كون موسى عليه‌السلام ومن معه كتلة واحدة ، فهلاك بعضهم هلاك للجميع ـ مجازا ـ.

ثم بيّن عليه‌السلام أن ذلك الهلاك لم يكن اعتباطا ، حتى لا يظن الظان أن موسى عليه‌السلام في مقام الاعتراض (إِنْ هِيَ) ما هذه الرجفة التي أصابتهم (إِلَّا فِتْنَتُكَ) واختبارك ، إنك يا رب صنعت ذلك لأجل الامتحان ، والإهلاك امتحان للناس ليعتبروا ، ولنفس الهالكين بعد حياتهم (تُضِلُّ بِها) أي بالفتنة (مَنْ تَشاءُ) ممن لم تنفعه الهداية ، حيث تتركه وشأنه ليضل. وقد سبق أن الفعل ينسب إلى الله تعالى ، لأن الأسباب والآلات منه تعالى ، كما يقال : «أفسد فلان ولده» إذا أعطاه المال ولم يؤاخذه بعمله الفاسد (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) لم يذكر هنا «بها» لأن الهداية تكون بدون الاختبار أيضا ، فالهداية أعم من الابتدائية ومما تتعقب الاختبار (أَنْتَ) يا رب (وَلِيُّنا) مولانا وأولى بالتصرف فينا فلك ما تفعل ولا تسأل عن فعلك (فَاغْفِرْ لَنا) بستر ذنوب من أذنب منّا (وَارْحَمْنا) بفضلك ورحمتك (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) فإن غفرانك بلا منة وذلة. ثم إنه سبحانه أحيى السبعين الذين هلكوا ، كما تقدم في سورة البقرة.

٢٥٢

وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

____________________________________

[١٥٧] (وَاكْتُبْ لَنا) يا رب (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) الشيء الحسن ، وهو جنس شامل لأنواع الحسنات من أمن وصحة ورفاه وفضيلة وغيرها (وَفِي الْآخِرَةِ) حسنة ، بالجنة والرضوان (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) من «هاد» بمعنى «رجع» أي رجعنا بتوبتنا إليك ، فكأن العاصي يبتعد عنه سبحانه ، ثم إذا تاب يرجع إليه ، تشبيها للبعد والقرب عن الرحمة ، بالقرب والبعد الحسّيّين.

وموسى عليه‌السلام وإن لم يكن داخلا في العصيان لكن العادة جرت على أن يتكلم الرؤساء عن جماعتهم (قالَ) الله سبحانه في جواب موسى وطلبه التوبة : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ممن استحق ذلك بالكفر والمعصية ، فالمشيئة ليست باعتبار الزيادة عمّن استحق ، بل باعتبار النقصان ، فإنه تعالى لا يعذب بعض المستحقين ، لا أنه يعذب المستحقين (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فإن الخلق والرزق وغيرهما كلها رحمة منه سبحانه ، وفي الدعاء : «يا من سبقت رحمته غضبه» (١) ، باعتبار أن الغضب لا يكون إلا بعد الخلق والرزق والعصيان ، فالرحمة سابقة.

وفي هذا الجو الرقيق ، الذي ترقّقت فيه قلوب بني إسرائيل يشير سبحانه إلى النبي الأمي ، ليتركّز في قلوبهم ، فإن الأمور تتركز في

__________________

(١) مصباح الكفعمي : ص ٦٦٧.

٢٥٣

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٧) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ

____________________________________

القلوب أكثر إذا رقّت (فَسَأَكْتُبُها) أي اكتب رحمتي. وهذا على سبيل الاستخدام ، فإن المراد بالرحمة أولا جميع أقسام الرحمة ، والمراد بها من الضمير ثانيا : الرحمة الخاصة الزائدة (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يعطونها (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا) أي بحججنا ودلالاتنا (يُؤْمِنُونَ). ثم بيّن أولئك بقوله :

[١٥٨] (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ) أي أن الذين تكتب لهم الرحمة الكاملة هم التابعون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الْأُمِّيَ) نسبة إلى أم القرى «مكة» وبمعنى الذي لم يتعلم عند معلم ـ وإن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم كل شيء بوحي الله وإرادته ـ والعرب تسمي من لم يتعلم ب «الأمي» ، نسبة إلى الأم ، كأنه بقي مثل ما ولدته أمه (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) فإن الكتابين بشّرا به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرا بنعته ، وإنما حرّفهما ـ بعد ذلك ـ اليهود والنصارى.

وللشيخ محمد صادق فخر الإسلام ، في كتابه «أنيس الأعلام» قصة طويلة حول هذا الموضوع ، ولم يكن هذا بدعا ، فقد كان كل نبي سابق يبشر بالنبي اللاحق ، كما أن كل نبي لا حق يصدّق النبي السابق ، ونحن اليوم نرى صفة الإمام المهدي عليه‌السلام في كتبنا ، حيث وعدنا بظهوره «عجل الله فرجه».

ثم بيّن سبحانه سائر صفاته التي تجعل من دينه دين الفضيلة

٢٥٤

يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ

____________________________________

والحرية الصحيحة والسعادة (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) فما يأمرهم به يكون معروفا يقبله عرف العقلاء ويرتضيه (وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) فما ينهاهم عنه يكون منكرا عند عرف العقلاء ، فأمره ونهيه حسب الموازين العرفية العقلية ، لا اعتباطا واشتهاء (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) المستلذات الحسنة ، من مأكل ومشرب ومنكح ومسكن ومركب وغيرها (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) القبائح التي تعافها النفوس المستقيمة ، فتحليله وتحريمه ليسا اعتباطين ، بل لشيء في ذات الحلال والحرام ، بخلاف تحليل سائر الناس وتحريمهم ، فإنهم قد يحرمون الطيب ، كما حرمت الجاهلية السائبة وما إليها ، وقد يحللون الخبيث كما أن اليهودية والنصرانية ومن إليهما يحللون الخمر ولحم الخنزير. ثم لا يخفى أن الأمر والنهي أعم من التحليل والتحريم ، لكن حيث تقابلا ، كان لكل منهما مصداق غير مصداق الآخر.

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي ثقلهم ، فإن الإصر هو الحمل الثقيل ومعنى «وضعه» أن مناهجه سهلة سمحة لا ثقل فيها ولا صعوبة (وَ) يضع عنهم (الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أغلال جمع «غلّ» ، وهو ما يقيد يد الإنسان أو رجله أو غيرهما ، فإن من خواص الإسلام أنه يطلق الحريات المعقولة ، فالسفر والإقامة والتجارة والزراعة والصناعة والبيع والشراء والكلام والكتابة والتجمع وغيرها ، كلها مباحة لا قيود عليها إلا بعض الشرائط الطفيفة التي هي في صالح المجتمع والفرد ، ولا

٢٥٥

فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٨) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

____________________________________

يعلم مدى ذلك إلا بالمقايسة إلى الأنظمة والمناهج الدنيوية التي كلها كبت واستعباد واستغلال (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) أي بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَعَزَّرُوهُ) أي عظّموه ووقروه (وَنَصَرُوهُ) على أعدائه (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي القرآن ، فإنه نور يهتدى به في مسالك الحياة المظلمة ، كما أن الضياء يهتدى به في مسالك الليل المظلم ، أو المراد : علي والأئمة عليهم‌السلام كما في بعض الأحاديث ، أو الجميع ، لأنه لفظ عام ، وكل واحد من هذه الأمور مصداق ، و «الإنزال» بالنسبة إلى الأئمة ليس فيه محذور ، لما سبق ، أن التعبير بالإنزال في مثل هذه الموارد من جهة الله سبحانه الواهب لهذه الأشياء كما قال : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (١) ، وكما قيل في قوله سبحانه : (اهْبِطُوا) (٢) ، (أُولئِكَ) الذين آمنوا بهذا النبي (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدنيا والآخرة.

[١٥٩] وقبل أن يرجع السياق إلى تتميم قصة موسى عليه‌السلام ، تتميما لما سبق من وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيخاطبه سبحانه بقوله : (قُلْ) يا رسول الله للناس : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أرسلني إليكم لأدعوكم إلى الله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المالك لهما

__________________

(١) الحديد : ٢٦.

(٢) البقرة : ٣٧.

٢٥٦

لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)

____________________________________

المتصرف فيهما (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له (يُحيِي وَيُمِيتُ) فالجماد يجعله حيا نباتا أو إنسانا أو حيوانا ، والأحياء يميتهم ، ولعل ذكر هذه الصفات لرد النصارى واليهود الذين جعلوا لله شريكا وولدا ، ولرد المشركين الذين كانوا ينسبون الإحياء والإماتة إلى الأصنام (فَآمِنُوا) أيها الناس (بِاللهِ) إيمانا صحيحا (وَرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) وكأنه أتي بهذا الوصف للتناسب مع ما في الكتابين السابقين (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) فإنه آمن أولا ثم أمركم بالإيمان ، لا مثل كثير من الرؤساء الذين هم أنفسهم لا يطبقون المبادئ التي يدعون إليها. ولعل المراد بالكلمات : الكتب السابقة والقرآن الكريم (وَاتَّبِعُوهُ) فيما يأمركم وينهاكم (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لتكونوا مهديين ، فإن الفعل قد ينسلخ من معناه الزمني ليدل على أصل المعنى المادي ، أو المراد تهتدون إلى الجنة والرضوان ، حتى يصح تعقّب الاهتداء لما تقدم.

[١٦٠] وحيث فرغ السياق عن الفذلكة المرتبطة بذكر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجع إلى قصة موسى عليه‌السلام وقومه ، ولمّا أن وصف سبحانه قوم موسى عليه‌السلام بالكفر وعبادة العجل وغير ذلك ، ذكر أن منهم من بقوا على الإيمان والطاعة (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) أي جماعة (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) أي يدعون إلى الحق ويرشدون إليه (وَبِهِ) أي بالحق (يَعْدِلُونَ) أي يحكمون

٢٥٧

وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ

____________________________________

بالحق ويعدلون في حكمهم. وهذا واضح ، فإن كل أمة انحرفت لا بد وأن يبقى فيها أناس معتدلون ، وكذلك كان قوم موسى عليه‌السلام في زمانه وبعده إلى زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانوا إذا رأوا عيسى نبيا آمنوا به ، وإذا رأوا الرسول مبعوثا صدقوه واتبعوه ، لكن الكثرة الساحقة منهم لمّا كانت منحرفة ، كانت «عمومات الخطاب القرآني» تنصب عليهم ، فإن البلغاء غالبا يتكلمون حول الأمور بمراعاة الغالب ، فيقال : «أهل مدينة كذا حسان الوجوه ، أو قباح ، أو كرماء ، أو بخلاء أو جبناء ، أو ما أشبه» وهم يريدون الكثرة الغالبة ، لا الجميع.

[١٦١] (وَقَطَّعْناهُمُ) أي فرّقنا بني إسرائيل تفريقا قبيليا (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) كل فرقة منهم قبيلة تنتهي إلى سبط من أسباط يعقوب عليه‌السلام فقد كان له اثني عشر ولدا ، كل ولد ولّد قبيلة (أُمَماً) بيان لاثنتي عشرة أسباطا ، فكل جماعة منهم أمة. وهذا من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل لأن القبائل المتعددة تمشي أمورها بيسر بخلاف ما لو كان الجميع قبيلة واحدة ، فإن الرؤساء إذا تعددوا تنافسوا في المكارم ، وسهل مراجعة المرؤوسين إليهم ، كما قال سبحانه : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (١).

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) أي طلبوا منه السقيا ، وأن يسقيهم ماء ، وذلك حينما كانوا في التيه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) وهو حجر كان معه فإذا أرادوا الماء وضعوه ، وضربه موسى

__________________

(١) الحجرات : ١٤.

٢٥٨

فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ

____________________________________

بعصاه التي كانت تنقلب ثعبانا متى ما أراد (فَانْبَجَسَتْ) أي انفجرت. ولعل الفرق بينهما أن الانبجاس خروج الماء بقلّة ، والانفجار خروجه بكثرة. وفي بعض التفاسير : إن الماء كان يخرج من الحجر أولا بقلّة ثم بكثرة.

(مِنْهُ) أي من الحجر (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) لكل سبط عين ، حتى لا يزاحم بعضهم بعضا في الشرب (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) من الأسباط (مَشْرَبَهُمْ) أي محل شربهم وأخذ الماء منه (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) حيث كان يؤذيهم حرّ الشمس فتأتي سحابة تظللهم ليستريحوا تحت ظلها (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ) هو شيء حلو كالسكر (وَالسَّلْوى) هو الطير السماني ـ كما تقدم ذلك في سورة البقرة ـ (كُلُوا) يا بني إسرائيل (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) واتركوا خبائثه (وَما ظَلَمُونا) إذ كفروا وعصوا ، فإن الله لا يضره كفر الكافر وعصيان العاصي (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث حرموها من خير الدنيا وسعادة الآخرة.

[١٦٢] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قِيلَ لَهُمُ) أي لبني إسرائيل ، والقائل هو الله سبحانه على لسان نبيه موسى عليه‌السلام : (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدس أو أريحا (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) من أنواع المآكل ومختلف

٢٥٩

وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ

____________________________________

المزارع والمواضع (وَقُولُوا حِطَّةٌ) إذ نطلب من الله سبحانه حطّ ذنوبنا (وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية (سُجَّداً) جمع «ساجد» ، أي : في حال السجود ، بمعنى أنه إذا وصلتم إلى الباب اسجدوا وادخلوا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) متعلق بقوله : «قولوا حطة» أي إن قلتم وسجدتم نغفر لكم و (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) على غفران الخطايا بالتفضّل والتكرّم. وبين سياق هذه الآية ، وما تقدم في سورة البقرة خلاف جزئي ، وذلك من فنون البلاغة ، وأوجه الإعجاز.

[١٦٣] (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي غيّر العاصون الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فبدلا من أن يقولوا : «حطة» قالوا : «حنطة حمراء خير لنا» (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً) أي عذابا (مِنَ السَّماءِ) من جهة العلو (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) أي بسبب ظلمهم.

[١٦٤] (وَسْئَلْهُمْ) أي اسأل يا رسول الله اليهود ، لأجل تذكيرهم بما كانوا يفعلون من المعصية فابتلوا بعذاب الله ، حتى لا يتكرّر منهم ذلك (عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي مجاورة للبحر وقريبة منه ، من «حضر» ضد «غاب». وقد ذكر بعض المفسرين أنها كانت «إيلة».

٢٦٠