تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ

____________________________________

تعالوا ، فسأل الله ذلك ، فانصدع الجبل صدعا كادت تطير منه عقولهم لما سمعوا ذلك ، ثم اضطرب ذلك الجبل اضطرابا شديدا كالمرأة إذا أخذها المخاض ، ثم لم يفاجئهم إلا رأسها قد طلع عليهم من ذلك الصدع فما استتمّت رقبتها حتى اجترّت ، ثم خرج سائر جسدها ، ثم استوت قائمة على الأرض ، فلما رأوا ذلك قالوا : يا صالح ما أسرع ما أجابك ربك ، ادع لنا يخرج لنا فصيلها ، فسأل الله ذلك فرمت به فدبّ حولها ، فقال لهم : يا قوم أبقي شيء؟ قالوا : لا ، انطلق بنا إلى قومنا نخبرهم بما رأينا ويؤمنون بك. قال الراوي : فرجعوا فلم يبلغ السبعون إليهم حتى ارتد منهم أربعة وستون رجلا ، وقالوا : سحر وكذب. قال : فانتبهوا إلى الجميع فقال الستة : حق ، وقال الجميع : كذب وسحر ، فانصرفوا على ذلك ثم ارتاب واحد فكان فيمن عقرها (١).

(فَذَرُوها) أي دعوها واتركوها وشأنها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) من نبات الأرض (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) وأذية (فَيَأْخُذَكُمْ) أي ينالكم ويصيبكم (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

[٧٥] (وَاذْكُرُوا) نعمة الله عليكم (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) في الأرض بأن أورثكم إياها ومكّنكم فيها (مِنْ بَعْدِ عادٍ) الذين أهلكوا حيث عصوا ربهم (وَبَوَّأَكُمْ) أي جعل لكم بيوتا ومساكن (فِي الْأَرْضِ) بحيث

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣٧٧.

٢٠١

تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥)

____________________________________

(تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها) أي سهول الأرض (قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) وهذه نعمة كبري إذ جعل لكم الأرض ذلولا سهولها وجبالها (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعم الله عليكم ، وقد تقدم أن «آلاء» جمع «إلى» بمعنى النعمة (وَلا تَعْثَوْا) أي : لا تطغوا وتسعوا ، من «العثا» بمعنى شدة الفساد (فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فلا تثيروا الفساد في الأرض.

[٧٦] (قالَ الْمَلَأُ) أي جماعة الأشراف (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن قبول الحق ، ورفعوا أنفسهم عن ذلك (مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم صالح (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي للمؤمنين الذين نظر إليهم المستكبرون بنظر الضعف والضعة (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) ـ بدل من قوله : («لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وإنما جيء به لئلّا يظن أن المراد «المستضعف في الدين» ـ : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) وأنه رسول من الله. وكان هذا السؤال منهم مقدمة لكلامهم أنهم غير مؤمنين به (قالُوا) أي : المؤمنون : (إِنَّا بِما أُرْسِلَ) صالح (بِهِ مُؤْمِنُونَ) فنعتقد بإله واحد وبرسالته وبما جاء به.

٢٠٢

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا

____________________________________

[٧٧] (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) السائلون ـ بعد سماعهم لكلام المؤمنين ـ : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ) من التوحيد والرسالة (كافِرُونَ) جاحدون منكرون.

[٧٨] (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي : قتلوها ، و «العقر» الجرح الذي يأتي على أصل النفس.

ورد أن الله أوحى إلى صالح عليه‌السلام : قل لهم : إن الله قد جعل لهذه الناقة من الماء شرب يوم ، ولكم شرب يوم ، فكانت الناقة إذا كان يوم شربها شربت ذلك اليوم ، فيحلبونها فلا يبقى صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك ، فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم ، فمكثوا بذلك إلى ما شاء الله ثم أنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا : اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها لا نرضى أن يكون لها شرب يوم ولنا شرب يوم ، فجعلوا حبلا لرجل أحمر أشقر أزرق من ولد الزنا لا يعرف له أب يقال له : «قدار» شقي من الأشقياء مشؤوم عليهم فقتلها وهرب فصيلها ، واقتسموا لحمها فيما بينهم ، فأوحى الله إلى صالح : قل لهم : إني مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيام ، فإن تابوا ورجعوا قبلت توبتهم عنهم ، وإن لم يتوبوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث (١).

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي تجاوزوا الحد في الفساد (وَقالُوا

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ص ١٨٧.

٢٠٣

يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ

____________________________________

يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على قتل الناقة والبقاء في الكفر (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ثم أخبر سبحانه بما حلّ بهم من العذاب.

[٧٩] (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) «الرجف» الاضطراب (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي في محلهم ، يقول الحاضر : «أنا في داري» أي بلدي ومحلتي (جاثِمِينَ) أي صرعى ميّتين ساقطين لا حركة لهم.

ورد أن صالح لما وعدهم بالعذاب وأمهلهم ثلاثة أيام ، قال صالح عليه‌السلام : إنكم تصبحون وجوهكم مصفرّة ، واليوم الثاني محمرة ، والثالث مسودة. فجاءهم ما قاله لهم فلم يتوبوا ولم يرجعوا ، فلما كان منتصف الليل أتاهم جبريل فصرخ بهم صرخة خرقت أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم.

وفي بعض التفاسير : إن النار كانت تصحب الصيحة حيث أخذتهم. ولعل تسمية ذلك بالرجفة لأجل الاضطراب الحاصل للإنسان حينما يسمع صيحة مهولة (١).

[٨٠] (فَتَوَلَّى) أي أعرض صالح عليه‌السلام (عَنْهُمْ) حين رأى إصرارهم على الكفر (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أدّيت النصح الذي يسعدكم في دنياكم وأخراكم

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٢٩٦.

٢٠٤

وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ

____________________________________

(وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) فلا تقبلون نصحي. ولعل سر تأخير هذه الجملة ، عن جملة «فأخذتهم الرجفة» مع تقديمها في ظرف الوقوع عليها ، إيهام السياق سرعة الخاتمة ، حتى لا يكون فصل بين الإعراض وبين العذاب في اللفظ ، وهذا من فنون البلاغة ، لكن حيث أن مصير صالح عليه‌السلام لم يعلم مما قبل ، استأنف السياق ذكر مصيره وأنه نفض يديه منهم ، وتركهم ليلاقوا ما جلبوه على أنفسهم ، دونه.

[٨١] (وَ) اذكر (لُوطاً) ولعلّ اختلاف السياق هنا عمّا سبقه ، حيث كان يقول : «وإلى» ، تنبيه عدم التعرض لمن توسطهما من الأنبياء ، كإبراهيم عليه‌السلام الذي كان معاصرا للوط ، وإنما لم يذكر إبراهيم عليه‌السلام لعله لعدم نزول عقاب على قومه كما نزل على قوم لوط ، وقوم الأنبياء السابقي الذكر (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ)؟ على نحو الاستفهام الإنكاري ، والمراد ب «الفاحشة» المعصية المتجاوزة للحدود ، وهي اللواط بالرجال (ما سَبَقَكُمْ بِها) أي بهذه الفاحشة (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) فإن قوم لوط أول من تعاطى هذا العمل الشنيع.

[٨٢] (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) أي إتيانا شهويا ، فإن لفظ «أتى» بدون هذا القيد «الشهوة» يكون بمعنى «جاء» (مِنْ دُونِ النِّساءِ) فلا تأتون المباح ، وتأتون المحرّم ، ولعلّ عدم الإتيان لهن كان أيضا محرما ، كما

٢٠٥

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً

____________________________________

أنه كذلك عندنا ، بعد أربعة أشهر (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) متجاوزون في الظلم والفساد ، فإن الإسراف بمعنى التجاوز.

[٨٣] (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي جواب القوم للوط عليه‌السلام الذي كان ينهاهم عن اللواط (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَخْرِجُوهُمْ) أي أخرجوا لوطا وأهله (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي مدينتكم ، وهي «سدوم» (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يتحرّجون عن هذا العمل ، من أجل الطهارة والنزاهة.

[٨٤] (فَأَنْجَيْناهُ) أي خلصنا لوطا (وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) من العذاب النازل بقومه ، حيث أمرناهم بالسير والفرار من المدينة ، ففروا جميعا إلا زوجته (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في قومه المتخلفين عن لوط ، وإنما بقيت وهلكت لأنها كانت على طريقتهم ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) (١) ، إذ لم تؤمنا بما آمن به زوجيهما.

[٨٥] (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي أرسلنا عليهم الحجارة كالمطر ، كما قال

__________________

(١) التحريم : ١١.

٢٠٦

فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

____________________________________

تعالى في آية أخرى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (١) ، ثم قلبت مدينتهم حتى جعل عاليها سافلها (فَانْظُرْ) أي فاعلم يا رسول الله ، أو أيها الناظر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) المرتكبين للسيئات.

[٨٦] (وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ) هم قبيلة سميت باسم جدّهم «مدين» حفيد إبراهيم عليه‌السلام (أَخاهُمْ شُعَيْباً) وهو من أحفاد إبراهيم عليه‌السلام ، فهو أخ القبيلة (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) من الأصنام التي تبعدونها (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) دلالة واضحة تدل على صدقي. والظاهر أن المراد «المعجزة» ، فإن الأنبياء كانوا مزوّدين بالإعجاز (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) أخذا وعطاء ، فلا تأخذوا زائدا ولا تعطوا ناقصا (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) من «بخس» بمعنى «نقص» (أَشْياءَهُمْ) أي لا تعطوهم ناقصا حيث إن الشيء المباع هو ملك المشتري ، فيكون الشيء للناس ، ولذا أضيف إليهم (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بأن

__________________

(١) الحجر : ٧٥.

٢٠٧

بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً

____________________________________

تعملوا بالمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِها) لا يراد بذلك الإصلاح التام ، بل المعنى أن لا تأتوا بالفاسد مكان الصالح ، فإن الفساد إنما يتدرج إلى المجتمع ، أو المراد : لا تفسدوا بعد ما أصلح الأنبياء الأرض.

(ذلِكُمْ) الذي أمرتكم به من إتيان الواجبات وترك المحرمات (خَيْرٌ لَكُمْ) أي أنفع مما أنتم فيه ، وكأن الإتيان بصفة التفضيل في أمثال المقام ، للفضل المتوهم في الطرف الآخر ، مثلا : كان هؤلاء يزعمون أن ما يعملونه في الفضل ، فقيل لهم : إن ما تدعون إليه خير (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهؤلاء وإن لم يكونوا مؤمنين لكن الشرط في أمثال المقام مرتبط بفعل مقدر ، أي إن كنتم مؤمنين لعلمتم أنه خير لكم ـ كما ذكره أهل الأدب ـ.

[٨٧] (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) فإنهم كانوا قطاع طرق ، يقعدون في الطرق ، يوعدون الناس بالقتل والإيذاء إن لم يرضخوا للنهب والسلب (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي تمنعون عن إيمان الناس ، فقد كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بشعيب (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي من أراد الإيمان ، أو المراد صد المؤمنين عن القيام بوظائف الإيمان (وَتَبْغُونَها) أي تطلبون السبيل (عِوَجاً) أي تريدون الطريق المعوجّ ، ولا تريدون الطريق المستقيم ، أو المراد تتصيدون الاعوجاج لسبيل الله تعالى ، فإن أهل الباطل دائما يفكرون في نقد الحق ، حتى يروه للناس أعوج.

٢٠٨

وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا

____________________________________

(وَاذْكُرُوا) أيها القوم (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) في العدد (فَكَثَّرَكُمْ) الله فإن جدّهم «مدين» كان واحدا ، ثم كثروا ، كما هو شأن كل قبيلة ، فاشكروا أيها القوم هذه النعمة (وَانْظُرُوا) تفكروا وتدبروا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم التي تقدمتكم ، حيث أهلكت بعذاب الله سبحانه لما فسدوا وأفسدوا وخالفوا أوامر الله سبحانه ، فخافوا أيها القوم نكال الله وعقابه.

[٨٨] ولا يغرّنكم أيها القوم تفرق الناس عني بين مؤمن وكافر ، فإن المصلحين يتفرّق الناس عنهم فرقتين دائما ، وقبل شروعهم في الإصلاح ، ويكون الناس حولهم فرقة واحدة موالية ، ولا يخفى أن هذا لا يكون سببا لأن يزعم كل من تفرّق الناس عنه فرقتين أنه مصلح وعلى حق ، فإن العاقبة للحق والضمائر تشهد بالصدق والكذب ، وهاتان علامتان مميزتان بين المحق والمبطل ، ولذا تمسك شعيب عليه‌السلام بقوله : «فاصبروا».

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) بأن صدقوني وقبلوا رسالتي (وَطائِفَةٌ) أخرى (لَمْ يُؤْمِنُوا) بل جحدوا وبقوا على كفرهم (فَاصْبِرُوا) أيها القوم ، المؤمن منكم والكافر (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) في الدنيا بإعلاء كلمة الدين وإبطال كلمة الكافرين ، أما في

٢٠٩

وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)

____________________________________

الآخرة فهو شيء واضح (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يجور في الحكم ، عن عمد أو غير عمد ، بل يعطي كل ذي حق حقه ، (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١).

__________________

(١) الأنبياء : ٤٨.

٢١٠

تقريب القران الى الأذهان

الجزء التّاسع

من آية ٨٩ من سورة الأعراف

إلى آية ٤١ من سورة الأنفال

٢١١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٢١٢

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها

____________________________________

[٨٩] (قالَ الْمَلَأُ) جماعة الأشراف (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) رفعوا أنفسهم فوق مقدارها وعتوا وطغوا (مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم شعيب (لَنُخْرِجَنَّكَ) بكل تأكيد (يا شُعَيْبُ وَ) لنخرجنّ (الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) أي بلدنا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) «الملّة» هي الطريقة ، أي ارجعوا كفارا كما كنتم ، والعود في الملة إما باعتبار الغالب ، فأدخل فيه شعيبا عليه‌السلام تغليبا ، فإن المؤمنين به كانوا كفارا ثم آمنوا ، أو لزعمهم أن شعيبا عليه‌السلام كان منهم حيث كان أحدهم قبل ادّعاء النبوة ، وإما بمعنى الصيرورة ، فإن «عاد» يستعمل بمعنى «صار» ، كما قال الشاعر :

تلك المكارم لا ثعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

(قالَ) شعيب عليه‌السلام لهم : أتعيدوننا في ملتكم وتدخلوننا إليها (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) للدخول فيها؟ أي : أتجبروننا على ذلك؟ ولعل القصد : إنكم لا تقدرون على ذلك في حين كراهيتنا لذلك ، فإن العقائد لا تزول بالإكراه والإجبار.

[٩٠] ثم قال شعيب : إنه من المستحيل أن نتخذ طريقتكم ، إذ (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) بأن نجعل لله شريكا ، ونحلّل حرامه ، ونحرّم حلاله وننسب كل ذلك إليه (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها)

٢١٣

وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ

____________________________________

بأن أوضح الحق وأقام الحجة عليه (وَما يَكُونُ لَنا) أي لا يجوز لنا (أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) وهذا من التعليق على المحال ، لأن الله لا يشاء الكفر والعصيان ، كما قال : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (١) ، وقال : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (٢) ، أو المراد مشيئة الله بسلب التوفيق منهم ، وهذا ممكن بالنسبة إلى بعض المؤمنين الذين لا رسوخ لإيمانهم ، كما ارتد بعضهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحيث أن العود بالنسبة إلى كل واحد واحد صح ذلك (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه سبحانه كل شيء ، فهو أعلم بالصلاح وأعلم بالواقع والحقيقة ، فما كان من عبادتنا لتوحيده ، بأمره ونهيه ، هو الصحيح دون ما أنتم عليه من الشرك والعناد (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في أمورنا ، فلا نخاف من تهديدكم بإخراجنا.

ثم دعا شعيب عليه‌السلام قائلا : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) ومعنى «الفتح» النجاة ووضوح الحق ، إذ الواقع في المشكلة كأن الطريق مسدود أمامه ، كما أن من يريد الهداية يرى الضلال حاجزا ، فيطلب الفتح لهذا الحاجز وإزالته ليرى الحق ، وقيد «بالحق» توضيحي ، لإفادة أن فتحه سبحانه بالحق ، أو احترازي لأن الفتح يطلق على الفتح بالباطل ـ كما يفتح الكافر مدينة ما ـ والفتح بالحق (وَأَنْتَ) يا إلهنا

__________________

(١) الزخرف : ٨٢.

(٢) الأعراف : ٤١.

٢١٤

خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١)

____________________________________

(خَيْرُ الْفاتِحِينَ) فإن سائر الفاتحين قد يظلم عمدا أو خطأ أو جهلا ، أما الله سبحانه فلا يحيد فتحه عن الحق ، قيد شعرة.

[٩١] ثم بيّن سبحانه ما قالت جماعة شعيب بعضهم لبعض (وَقالَ الْمَلَأُ) أي جماعة الأشراف (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم شعيب ، بعضهم لبعض : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) في دينه وطريقته (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) خسرتم منافعكم وطريقة آبائكم.

[٩٢] (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة ، أو الصيحة ، الموجبة للرجف والاضطراب (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي محلهم وبلدهم (جاثِمِينَ) أي ميتين ملقين لا حراك فيهم.

في المجمع : قيل : أرسل الله عليهم رمدة «أي هلاكا جعلهم كالرماد» وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا أجواف البيوت ، فدخل عليهم البيوت ، فلم ينفعهم ظل ولا ماء وأنضجهم الحرّ ، فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها وظل السحابة فتنادوا : «عليكم بها» فخرجوا إلى البرية فلما اجتمعوا تحتها ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا وهو عذاب يوم الظلّة (١).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٣٠٩.

٢١٥

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)

____________________________________

ثم روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنه بعث الله عليهم صيحة واحدة فماتوا» (١).

[٩٣] (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) ولم يؤمنوا به وبرسالته (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) «غنى بالمكان» يعني : «أقام فيه» أي : كأن المكذبين لم يقيموا في دارهم أصلا ، حيث ذهبت أخبارهم وآثارهم (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) عاد اللفظ تأكيدا (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) فقد خسروا دينهم ودنياهم وآخرتهم ، وهذا في قبال قولهم : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

[٩٤] (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) شعيب ، أي أعرض عنهم ، إما قبل الهلاك ـ وتأخير هذه الجملة لما تقدم في قصة قوم صالح ـ وإما حين الهلاك إذ أخذهم العذاب (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) وجمع «رسالات» باعتبار كل رسالة من مختلف الشؤون (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) بأن تتبعوني حتى تكونوا في أمن وسلامة (فَكَيْفَ آسى) أي أحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) بعد أن قمت بواجب النصح والإرشاد. والمراد بالاستفهام «كيف» النفي ، أي : لا أحزن ، فإنهم استحقوا العقاب بإعراضهم واستكبارهم وتمرّدهم.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٣٨٣.

٢١٦

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ

____________________________________

[٩٥] ثم ذكر سبحانه أنه هكذا جرت عادة الناس بالنسبة إلى الأنبياء ، وهكذا جرت سنة الله بالنسبة إلى المكذبين ، تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإيقاظا لمن أراد القيام بالأمر والنهي في سبيل الله تعالى (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) المراد بها المدينة (مِنْ نَبِيٍ) لإرشادهم ، فلم يؤمنوا به (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) أي أهل تلك القرية (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) البأساء : الشدة ، والضراء : سائر أنواع الضرر (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي يتضرعون ، بأن يتنبهوا ويتوبوا عن شركهم وكفرهم ومعاصيهم.

[٩٦] (ثُمَ) بعد أخذهم بالبأساء والضراء (بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) بأن رفعنا عنهم الشدة وجعلنا الرفاه والرخاء مكانها لعلهم يشكرون ، كما قال سبحانه : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ، فإن الله سبحانه يوقظ العصاة أولا بالشدة ، فإن لم تنفع يوقظهم بالرفاه ، فإن لم ينفع عذّبهم ، حيث لم يفدهم لا الخوف ولا الإحسان (حَتَّى عَفَوْا) «العفو» هو : الإغضاء عن الذنب ، أي فعلوا الذنوب غاضّين عنها ، تاركين أنفسهم وشهواتها.

(وَ) إذا قيل لهم : إن الشدة والرخاء للابتلاء والإيقاظ ، لم يصدقوا ، بل (قالُوا) : هذه عادة الدنيا دائما ف (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ

__________________

(١) الأنعام : ٤٥.

٢١٧

وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

وَالسَّرَّاءُ) ما يضر من الشدائد ، وما يسر من الرفاه ، وليسا للابتلاء والإيقاظ فانسدت جميع أبواب الهداية في وجوههم ، ولم ينفعهم إرشاد الأنبياء ، ولا الضراء ولا السراء (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة بدون إمهال (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بالعذاب إلّا حين يرونه ، وربما كان هناك احتمال إقلاع ، وهنا يأتي العذاب تدريجيا ، كما حصل لقوم يونس عليه‌السلام ، أو إبلاغا للحجة إلى أقصاها ، كما صنع بقوم صالح عليه‌السلام.

ثم إن المؤمن والكافر كلاهما يبتليان بالضراء والسراء ، لكن هناك فرق ؛ فضراء المؤمن مع صبر وارتياح ، وضراء الكافر مع جزع وكمد ، وسراء المؤمن مع بركة وأمن واطمئنان ، وسراء الكافر مع محق وقلق واضطراب.

[٩٧] (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا) بالله تعالى وبأنبيائه (وَاتَّقَوْا) معاصيه وعملوا الصالحات (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) «البركات» الخيرات النامية ، وفتح الخير من السماء بكثرة الأمطار ، وطيب الهواء ، وفتحه من الأرض بإخراج النبات والثمار ، وتفجّر العيون ، إلى غيرهما من الخيرات المادية والمعنوية كاستجابة الدعاء ونحوها ، وهذا إلى جنب كونه معنويا بلطفه سبحانه ، كذلك يكون بالأسباب الظاهرة ، فإن الإيمان والتقوى يوجبان سيادة مناهج الله تعالى وهي توجب الأخوة والتعاون مما يسببان ازدهار الحياة وتعميم

٢١٨

وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)

____________________________________

الرفاه والأمن ، كما أن الكفر والعصيان سببان لعكس ذلك (وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرسل ولم يؤمنوا (فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب كسبهم المعاصي والآثام.

[٩٨] ثم ذكر سبحانه أن أهل المعاصي لا بد لهم أن يترقبوا العقاب والنكال (أَفَأَمِنَ) أي هل يأمن (أَهْلُ الْقُرى) المكذبون للرسل العاصون لله سبحانه (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) أي ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ) في أمن وراحة واطمئنان؟ والمعنى : أنهم يجب أن لا يأمنوا ذلك.

[٩٩] (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) الهمزة للاستفهام ، والواو للعطف ، أي وهل يأمن أهل البلاد (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) نكالنا وعقابنا (ضُحًى) نهارا عند ارتفاع الشمس (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) في أمن واطمئنان ، أنهم إن عصوا فلن يكونوا آمنين في أحسن أوقات أمنهم ليلا ولا نهارا.

[١٠٠] (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) المكر : العلاج الخفي ، وإن غلب استعماله عرفا في معالجة الأشياء بالباطل ، أي يجب أن لا يأمن أحد من مكر الله ، وتسبيبه الأسباب للنكال به (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم ، ولا ينكرون من أمرهم ، وإلا فالمؤمنين يخافون

٢١٩

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ

____________________________________

سوء العاقبة الموجب للنكال والعقاب ، والمعصومون خارجون عن العموم لأن مصب الكلام حول العصاة ـ فإنه عبارة أخرى عن وجوب حذر العصاة ـ أو داخلون باعتبار احتمال صدور ترك الأولى منهم ، الموجب لعدم بلوغ بعض الدرجات الرفيعة ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١).

[١٠١] (أَوَلَمْ يَهْدِ) أي : ألم ينبّه ويرشد (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أي الذين صاروا خلفاء لآبائهم وأجدادهم ، من بعد ما أفنينا أولئك ، وأبحنا الأرض لهؤلاء ، أي أليس يعرف الناس مما رأوه من عذاب الأمم السابقة ـ حينما عصوا ـ (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) وأخذناهم (بِذُنُوبِهِمْ) كما أهلكنا الأمم السابقة (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بأن نعلمها بعلامة الكفر ، أو نغفلها حتى لا تعقل شيئا ، وذلك بسبب اقترافهم الجرائم والآثام ـ كما سبق ـ (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الوعظ ولا يقبلونه.

[١٠٢] (تِلْكَ الْقُرى) التي هلكت واضمحلت (نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا رسول الله (مِنْ أَنْبائِها) أي أخبارها لتنظر فيها بنظر الاعتبار ، وتخبر بها المسلمين وغير المسلمين حتى يعتبروا (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الأدلة

__________________

(١) طه : ١١٦.

٢٢٠