تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها

____________________________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له النبي : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله سبحانه يبغض الحبر السمين ـ وكان اليهودي سمينا ـ فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه : ويحك ولا موسى؟ فأنزل الله هذه الآية (١) (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه سبحانه حق تعظيمه الذي يليق به (إِذْ) نسبوا إليه الكذب ف (قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي لم ينزل على رسول كتابا من السماء ، كما قال ذلك اليهودي. إن معنى عدم إرسال الرسل ، وإنزال الكتب أن الله خلق الخلق عبثا واعتباطا. ومن المعلوم أن نسبة العبث إلى شخص عادي موجب لإهانته وعدم تقديره ، فكيف بالله الحكيم العليم؟! (قُلْ) يا رسول الله لإبطال كلامهم ف (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) عليه‌السلام أليست التوراة من إنزال الله تعالى ، وإنما ذكرها لكون طرف الكلام يهوديا (نُوراً وَهُدىً) أي في حال كون كتابه عليه‌السلام نور يهدي الناس إلى مناهج الحياة الصحيحة ، وهداية (لِلنَّاسِ) إلى الحق (تَجْعَلُونَهُ) أي تجعلون ذلك الكتاب (قَراطِيسَ) أي تكتبونه ، وهذا لزيادة التأكيد ، أي : فكيف تنكرون ما تلقيتموه أنتم بالقبول ، وكنتم تكتبونه في قراطيس باعتبار أنه كتاب سماوي منزل من عند الله سبحانه؟ (تُبْدُونَها) أي تظهرون بعضها ، حيث كانوا يكتبون بعض الأحكام

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٨٩.

١٠١

وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ

____________________________________

الموجودة في التوراة في أوراق ويعطونها بيد الناس (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) من التوراة لأجل كونها خطرا على أموالهم أو جاههم ، أو فيه دلالة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَعُلِّمْتُمْ) أيها اليهود ببركة التوراة المنزلة على موسى (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) فإنكم لو لا كتاب الله المنزل لم تكونوا تعلمون شيئا ، فكيف تنكرون إنزال الله الكتاب ، وتقولون : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)؟ (قُلْ) يا رسول الله : (اللهَ) أنزل الكتاب على موسى (ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي دعهم (فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) فهم وما خاضوا فيه من الباطل والكذب ، إنهم يلعبون بالدين ، فذرهم وما هم فيه

[٩٣] (وَ) كما أنزلنا الكتاب على موسى كذلك (هذا) القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) إليك يا رسول الله (مُبارَكٌ) يوجب البركة والسعادة (مُصَدِّقُ) الكتاب (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي قبله ، من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية ، ومن المعلوم أن تصديق أصل الكتاب لا يلازم تصديق التحريفات التي طرأت عليه ، (وَلِتُنْذِرَ) يا رسول الله (أُمَّ الْقُرى) أي مكة ، وإنما سميت بها لأن الأرض دحيت من تحتها (وَمَنْ حَوْلَها) من سائر أهل الأرض (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) من أهل الكتاب وغيرهم (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن المنزل عليك ، فإن

١٠٢

وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ

____________________________________

الإيمان بالآخرة يوجب خوفا في القلب ، ينبعث منه اتباع الحق أينما وجد ، وفيه تعريض بمن لا يؤمن من أهل الكتاب ، فإنه غير مؤمن بالآخرة (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيؤدونها لأوقاتها ، فمن يترك الصلاة ليس بمؤمن بالآخرة والقرآن ، وإن ادّعى الإيمان.

[٩٤] وحيث كان الكلام حول الوحي ، ومن قال بعدم الوحي إطلاقا ، ناسب ذلك التنديد بمن قال بالوحي كذبا ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) نزلت في ابن أبي سرح الذي استعمله عثمان على مصر وقد هدر رسول الله دمه وكان حسن الخط من كتابة الوحي فإذا قال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) كتب : «إن الله عليم حكيم» وهكذا ، وكان يقول للمنافقين : إني أقول من نفسي مثل ما يجيء به. ثم ارتد كافرا إلى مكة وصار من الطلقاء يوم فتح مكة. ثم لا يخفى أن قوله سبحانه «ومن أظلم» على سبيل الحصر الإضافي ، كقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) (١) ، وغيره.

(أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) كمسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة كذبا ، وكغيره ممن ادّعى هذا المنصب افتراء ، نحو : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) من الآيات أو الأحكام.

في «المجمع» : قيل : المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،

__________________

(١) البقرة : ١١٥.

١٠٣

وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ

____________________________________

أملى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (١) ، فجرى على لسان ابن أبي سرح : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فأملاه عليه وقال : هكذا أنزل فارتد عدو الله وقال : لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال (٢).

(وَلَوْ تَرى) يا رسول الله (إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أي في شدائد الموت عند النزع ، كأن الموت بشدائده يغمرهم مرة فمرة ، كما يغمر الماء الغريق (وَالْمَلائِكَةُ) القابضة لأرواحهم (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لقبض أرواحهم بأبشع الوسائل يضربون وجوههم وأدبارهم ، قائلين لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) من أجسادكم ، وهذا للإذلال والإهانة ، وإلا فليس خروج أنفسهم بإمكانهم ، بل بقدرة الله تعالى (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) أيها الظالمون (عَذابَ الْهُونِ) فإنه ليس عذابا جسديا فقط بل معه ذلة وهوان (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) أي جازاكم بعذاب الهون بسبب مقالتكم الكاذبة على الله حيث كنتم تقولون : «أوحي إلينا ولم يوح إليكم» ومعنى «على الله» أي بالنسبة إليه سبحانه (وَ) بما (كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ) ودلائله

__________________

(١) المؤمنون : ١٣ ـ ١٥.

(٢) مجمع البيان : ج ٤ ص ١١١.

١٠٤

تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

____________________________________

(تَسْتَكْبِرُونَ) فلا تخضعون لأحكامه وأنبيائه ، وجواب «لو» محذوف للتهويل ، أي : لو رأيت ذلك لرأيت أمرا فظيعا مريعا.

[٩٥] وهنا يوجّه الباري سبحانه كلامه إليهم (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) أيها الظالمون (فُرادى) أي في حال كونكم وحدانا لا مال لكم ولا مدافع ، بل واحدا واحدا (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) حين جئتم إلى الدنيا (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي ما أعطيناكم من المال والأقرباء والخدم (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) في دار الدنيا ، فإن الإنسان باعتبار إقباله على الآخرة تكون الدنيا وراء ظهره (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) الذين اتخذتموهم لأنفسكم شفعاء يشفعون لكم يوم القيامة (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي الأصنام التي كان المشركون يزعمون أنها شركاء الله سبحانه في الخلق والرزق وقضاء الحوائج ، وقد كان المشركون يقولون : إنّ هذه الأصنام تشفع لنا يوم القيامة. وورد أن سبب نزول هذه الآية أن النضر قال : سوف يشفع لي اللّات والعزّى.

(لَقَدْ تَقَطَّعَ) أيها الظالمون (بَيْنَكُمْ) وبين الأصنام فلا مواصلة تنفع للشفاعة (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي ضاع وتلاشى (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) من الآلهة المزعومة فلا تجلب نفعا ولا تدفع خيرا.

[٩٦] إن أصنامكم لا تشترك مع الله في الخلق ولا في أي شيء من الشؤون

١٠٥

إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)

____________________________________

بل (إِنَّ اللهَ) وحده (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) أي يشق الحب اليابس الميت ويخرج منه النبات ويشق نواة التمر فيخرج منها النخل (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فالنبات حي يخرجه من الحبة التي لا حياة فيها ، والفرخ حيّ يخرجه من البيض الميت ، والولد الحيّ يخرجه من الأم الميتة ، والبعوض وأشباهه يخرجه من الماء الميت ، وهكذا (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) كالحبة من النبات ، والبيض من الدجاج ، والجنين الميت من الأم الحية ، والفضلات الميتة من الحيّ ، وكأن التغيّر في العبارة «يخرج» و «مخرج» للتفنّن في العبارة الذي هو نوع من أنواع البلاغة (ذلِكُمُ اللهُ) أي ذلك الذي يفعل كل ذلك ـ أيها البشر ـ هو الله وحده (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي تصرفون عن الحق إلى الباطل.

[٩٧] (فالِقُ الْإِصْباحِ) أي يشق عمود الصبح عن ظلمة الليل ، ويخرج الضياء من الظلمة (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) تسكنون فيه وتهدؤون عن العمل إذا أظلم (وَ) جعل (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) تجريان في أفلاكهما بحساب دقيق ، و «حسبان» مصدر ، وكونهما حسبانا أي مصدري حساب وتوقيت ، نحو : «زيد عدل» ، مما حمل المصدر على الذات مبالغة ، فمن الشمس تتولد الأيام ، ومن القمر تتولد الشهور والأعوام (ذلِكَ) المذكور من فلق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْعَلِيمِ)

١٠٦

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ

____________________________________

بمصالح العباد ، فأي شيء يرتبط بأصنامكم أيها الضالون.

[٩٨] (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أيها البشر (النُّجُومَ) في السماء (لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فإن الإنسان يعرف طريقه من النجم في الليالي ، فمن قصد مدينة نحو المشرق جعل النجم المشرقي أمامه ، ومن قصد مدينة نحو المغرب ، جعله خلفه ، وهكذا (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) الدالة على الخالق وصفاته (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لهم علم ومعرفة بالأوضاع.

[٩٩] (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي خلقكم وأبدعكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم عليه‌السلام ومن فضل طينته خلقت حواء عليها‌السلام ، إنه سبحانه القادر لمثل هذا الأمر العظيم فلكم مستقر في بطون الأمهات (وَمُسْتَوْدَعٌ) في أصلاب الآباء ، وإنما سمي ذلك مستودعا لأن المني يبقى قليلا في الصلب حتى ينزل ، فهو أشبه بالوديعة (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي الأدلة والحجج (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي يفهمون الأدلة ، كي يعلمون أن الله سبحانه هو الذي صنع كل ذلك.

[١٠٠] (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر ، والمراد بالسماء جهة العلو ، فإن ما علاك فأظلك هو السماء ـ في لغة العرب ـ (فَأَخْرَجْنا بِهِ

١٠٧

نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ

____________________________________

نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي أخرجنا بسبب الماء نبات كل شيء قابل للإنبات من مختلف أقسام النباتات (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي من الماء ، والتكرار ، لأنه أجمل أولا ، ثم أريد التفصيل ، أو الضمير عائد إلى النبات ، فإن النبت أولا ليس أخضر ، وإنما أبيض صغير ثم يصير أخضر (خَضِراً) هو بمعنى أخضر ، أي نخرج من ذلك زرعا رطبا أخضر (نُخْرِجُ مِنْهُ) من ذلك الزرع الأخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) قد تركّب بعضه على بعض كحب الحنطة والشعير (وَ) يخرج (مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها) بدل «من النخل» (قِنْوانٌ) أي أعذاق الرطب ، فإن «قنوان» : جمع «قنو» بكسر القاف وضمها ، وهو «العذق» بالكسر (دانِيَةٌ) أي قريبة التناول (وَ) أخرجنا منه (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ أَعْنابٍ) جمع «عنب» (وَ) أخرجنا منه (الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أي شجريهما (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) فبعض الأشجار والأثمار والأوراق والأزهار والحبات متشابهة وبعضها غير متشابهة ، في اللون والطعم والحجم والخاصية وغيرها. والاختلاف بين لفظي «مشتبه ومتشابه» من أحسن أنواع البلاغة ، لتطابق اللفظ والخارج (انْظُرُوا) أيها الناس (إِلى ثَمَرِهِ) أي ثمر كل واحد من المذكورات (إِذا أَثْمَرَ) فإن في ذلك دلالة عجيبة على الصانع تعالى (وَ) انظروا إلى (يَنْعِهِ) أي نضجه إذ نضج ، فإن من نظر إلى ذلك نظر تأمل واعتبار ، عرف عظيم

١٠٨

إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

الصنعة وجليل الخلقة ، ودقيق الحكمة ، و «ينع» في اللغة بمعنى «النضج» وقيل : جمع «يانع» ؛ كصحب وصاحب (إِنَّ فِي ذلِكُمْ) أي فيما تقدم من الخلقة (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالحقائق ، ويتجنبون السخافة.

[١٠١] إن الله هو خالق كل شيء وهو الإله الواحد الذي لا شريك له (وَ) لكن الكفار (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) فقالوا بأن لله شركاء في الألوهية هم من الجن (وَ) الحال أنه سبحانه هو الذي (خَلَقَهُمْ) أي خلق الجن ، فكيف يكون المخلوق شريكا مع الخالق في الألوهية (وَخَرَقُوا) أي جعلوا ، ولا يخفى ما في التعبير بلفظ «خرقوا» من اللطافة. (لَهُ) تعالى (بَنِينَ وَبَناتٍ) فقد قال اليهود : عزير ابن الله ، وقالوا : نحن أبناء الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وجعل المشركون الملائكة بنات الله ، كما قال سبحانه : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (١) ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فإن ذلك منهم كان ظنا وتوهما (سُبْحانَهُ) منصوب بفعل محذوف ، أي : «أنزهه تنزيها له» (وَتَعالى) أي تقدس وترفع (عَمَّا يَصِفُونَ) أي الأوصاف التي يلصقونها بساحة قدسه ، من جعل الشريك والأولاد.

[١٠٢] إنه وحده هو (بَدِيعُ) أي مبدع (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وخالقهما بلا

__________________

(١) الزخرف : ٢٠.

١٠٩

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)

____________________________________

شريك أو ظهير ، وهذا ردّ على من جعل له شريكا (أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ) الحال أنه تعالى (لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أي زوجة؟ وهذا رد لمن جعل له أولادا (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فهو الخالق المطلق ، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو العالم المطلق.

[١٠٣] (ذلِكُمُ) أي ذلك المذكور له الصفات المتقدمة هو (اللهُ) تعالى ، و «كم» للخطاب إلى السامعين (رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلا شيء خارج من خلقه ، حتى يكون له شريكا (فَاعْبُدُوهُ) وحده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حفيظ ومدبّر وقائم ، فلا حافظ غيره ، ولا قائم بالأمر أحد سواه.

[١٠٤] (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فإنه سبحانه ليس بجسم حتى يكون مرئيا ، وهذا لا فرق فيه بين الدنيا والآخرة ، فهو لا يبصر في الدنيا ولا يبصر في الآخرة (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) روعي في الكلام التجانس اللفظي ، وإلا فهو يدرك كل شيء الأبصار وغيرها (وَهُوَ اللَّطِيفُ) لا يراد به اللطف بالمعنى في الأجسام ، المراد به النافذ في الأجسام ، والرقيق ، وما أشبه ، بل من باب «خذ الغايات واترك المبادئ» فعلمه نافذ في الأشياء ، وقدرته سارية في الأكوان (الْخَبِيرُ) العالم بكل شيء.

١١٠

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ

____________________________________

[١٠٥] (قَدْ جاءَكُمْ) أيها البشر (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) «بصائر» جمع «بصيرة» وهي الدلالة البيّنة التي يبصر بها الشيء ، أي جاءتكم دلالات من قبل الله سبحانه ، على الأصول ، والأحكام (فَمَنْ أَبْصَرَ) أي من تبيّن هذه الدلالات ونظر فيها نظر معتبر بصير (فَلِنَفْسِهِ) فإنه يعود خير ذلك إلى ذاته وشخصه (وَمَنْ عَمِيَ) عنها فلم ينظر فيها وأعرض عنها (فَعَلَيْها) أي أن وبال الإعراض يعود على نفسه (وَما أَنَا) المراد بالضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَلَيْكُمْ) أيها الناس (بِحَفِيظٍ) أحفظكم عن الخطأ والانحراف ، وإنما أنا مبلغ مرشد ، من آمن فلنفسه ومن ضل فعليها.

[١٠٦] (وَكَذلِكَ) أي مثل تصريفنا الآيات من ذي قبل (نُصَرِّفُ) هذه (الْآياتِ) نرسلها ونبيّنها (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي يقول الكفار : درست هذه الآيات وتعلمتها من غيرك ، كما كانوا ينسبون القرآن إلى تعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الراهب في طريق الشام ، أو من سلمان ، أو من بعض اليهود (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي نوضّح ما تقدم من الآيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي للعلماء الذين يعلمون الآيات ، فإن هؤلاء هم المنتفعون بالآيات ، ولذا خصّهم بالذكر.

[١٠٧] (اتَّبِعْ) يا رسول الله (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وهو (لا إِلهَ إِلَّا

١١١

هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ

____________________________________

هُوَ) وذر الأصنام والأوثان ، فإن صاحب الدعوة لا يبالي بما قاله المغرضون ، ولا يضره انحراف المنحرفين (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فلا تتعرض لهم ، وليس المراد عدم دعائهم إلى الإسلام ، أو عدم القتال معهم ، بل معناه : «أعرض عن أقوالهم وطريقتهم» ، وهذا كما يقال : «أعرض عن فلان» يراد عدم الاهتمام بقوله والاعتناء بشأنه ، وأنه لا بد من سلوك الطريق المستقيم أحبّ أم كره.

[١٠٨] (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يكرههم على عدم الشرك (ما أَشْرَكُوا) ولكن الدنيا دنيا اختبار وامتحان ، وإنما يريهم الله سبحانه الطريق ، فمن شاء آمن ومن شاء أشرك (وَما جَعَلْناكَ) يا رسول الله (عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تحفظهم عن الشرك ، حتى يكون إثم الشرك عليك (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي لست بموكل عليهم في ذلك ، وإنما عليك البلاغ والإنذار ، ولعل الفرق بين الحفيظ والوكيل ، أن الحفيظ هو الذي يحفظ الشيء عن الضرر ، والوكيل هو الذي يناط به أمره ، فيجب عليه دفع الضرر عنه وجلب النفع إليه ، فهو أعم من الحفيظ.

[١٠٩] (وَلا تَسُبُّوا) أيها المسلمون الآلهة (الَّذِينَ يَدْعُونَ) ها الكفار (مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله (فَيَسُبُّوا اللهَ) مقابلة بالمثل (عَدْواً) أي ظلما ، بمعنى التعدي عن الحق (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فإنهم جاهلون بالله ، وإلا لماذا

١١٢

كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ

____________________________________

كانوا يسبونه ، ويتخذون آلهة سواه؟ (كَذلِكَ) الاعتقاد بالآلهة الباطلة (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) فإن كل إنسان يرى عمله حسنا ، ولو تفكر وقارن رأى الصحيح من عمله وأباطيله. ونسبة التزيين إلى الله سبحانه لأنه هو الذي يخالف الخلق وسبب الأسباب ، وذلك للامتحان ، وليتبين من يخالف نفسه ومن يتبع هواها (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) فإن الجميع يرجعون إلى حساب الله سبحانه ، وثوابه وعقابه (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الأعمال الحسنة والقبيحة ، ومعنى ذلك أنه يجازيهم بأعمالهم ، كما تقول لابنك العاصي : «أخبرك بما عملت ...» تريد التهديد والوعيد.

وهنا سؤال : كيف نهى الله عن سبّ الأصنام ، وفي القرآن كثير من القدح فيهم؟

والجواب : إن الفرق بين سبّ الحكيم وسبّ الجاهل أن الأول يعرف موقع السب ، بخلاف الثاني ، كما لو نهى القاضي عن ضرب الناس ، ورأينا أنه يضرب بنفسه لحدّ أو قصاص ، فإن الأمرين لا يتنافيان.

[١١٠] (وَأَقْسَمُوا) أي حلف الكفار (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أيمانهم الغليظة (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) أي معجزة خارقة حسب ما طلبوا من مقترحاتهم (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) أي بتلك الآية (قُلْ) يا رسول الله لهم : (إِنَّمَا الْآياتُ) الخارقة (عِنْدَ اللهِ) ومن لدنه ، وليس لدي منها شيء ،

١١٣

وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)

____________________________________

فإن عرف الله الصلاح في الإتيان بها أظهرها ، وإن عرف الصلاح في عدم الإتيان لم يأت بها (وَما يُشْعِرُكُمْ) أيها المؤمنون (أَنَّها) أي الآيات (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) كما جاءت الآيات من قبل فلم يؤمنوا. والسر أن المعاند لا تفيده الآية ، والطالب للحق تكفيه ما تقدم من الآيات ، فإنزال الآيات المقترحة لا فائدة فيها.

[١١١] (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) جمع «فؤاد» وهو القلب (وَأَبْصارَهُمْ) جمع «بصر» وهو العين (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي بالقرآن (أَوَّلَ مَرَّةٍ) فإنهم جوزوا بإنكارهم أول الأمر الذي استلزم عنادهم وتماديهم في غيهم ، بأن أزعجت نفوسهم ، فجعلت قلوبهم تخفق ، وأبصارهم تتحرك زائغة ، كما هو شأن كل مبطل أمام الحق أنه لا يدري ما يصنع ، وعينه تتلفت هنا وهناك تبحث في الأرض والسماء عن طريق المهرب والخلاص من الأزمة التي وقع فيها (وَنَذَرُهُمْ) أي ندعهم (فِي طُغْيانِهِمْ) الذي طغوا وتعدوا فيه الحق (يَعْمَهُونَ) يتردّدون في الحيرة.

وقد روي أنهم لما طلبوا الآيات ، أراد النبي أن يسأل ربه بتلك الآيات ، فجاء جبرئيل وقال : إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولكن إن لم يصدقوا ، عذّبوا ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل أتركهم حتى يتوب تائبهم (١). فأنزل الله تعالى هذه الآية.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٩١.

١١٤

تقريب القران الى الأذهان

الجزء الثّامن

من آية ١١٢ من سورة الأنعام

إلى آية ٨٨ من سورة الأعراف

١١٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

١١٦

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ

____________________________________

[١١٢] ثم بيّن سبحانه أنّ هؤلاء معاندين لا يريدون بالآيات إلا الاقتراح ، ولو أنزلت إليهم لم يكونوا مؤمنين (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) حتّى يرونهم مشاهدة ، ويشهدون لك بالرسالة (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) أي أحيينا الأموات حتّى تكلّمهم (وَحَشَرْنا) أي جمعنا (عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) أي مقابلة ومعاينة ، بأن جئنا لهم بما طلبوا من الآيات ، أو المراد : جمعنا حواليهم الأشياء الكونية ، بأن يأتيهم الشجر والحجر والماء والحيوان ، وكان ذلك لبيان حشر صور مدهشة مرعبة (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لعنادهم وإصرارهم (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن يجبرهم على الإيمان ، ولكن الله لا يشاء ذلك لأنه خلاف الحكمة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا ، بل يزعمون أنهم يؤمنون إن رأوا ، لجهلهم بعنادهم الكامن في نفوسهم ، الذي لا ينفع معه كل آية.

[١١٣] (وَكَذلِكَ) أي كما جعلنا لك يا رسول الله أعداء معاندين (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) ومعنى «الجعل» التخلية بينهم وبين اختيار العداوة ، وذلك اختبار لهم ، ورفعا لدرجات الأنبياء. وقد سبقت الإشارة إلى أن الأمور الاختيارية للناس تنسب إلى الله سبحانه باعتبار جعله الأسباب والتخلية بين الناس وبينها ، كما تنسب إلى فاعليها لأنهم السبب المريد لها (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) نصب «شياطين» لأنه بدل «عدوا»

١١٧

يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ

____________________________________

والمراد به الجنس لا الواحد ، والمراد بشياطين الإنس ، إما الشياطين الموكلة بالإنسان التي تغويه وتأمره بالقبائح ، وإما من قبيل «خاتم فضة» أي المردة من أفراد الإنسان ، فإن الشيطان بمعنى المارد من «شطن» ، قال الشاعر :

أيا شاطن عصاه عكاه

ثم يلقى في السجن والأغلال

وهكذا يقال بالنسبة إلى شياطين الجن (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي يوسوس خفية (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي : القول المزخرف ، الذي يستحسن ظاهره ولا حقيقة له ولا أصل (غُرُوراً) أي لأجل الغرور والإضلال (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) أي لو أراد جبرهم على عدم هذه الأعمال العدوانية ضد الأنبياء ، لتمكّن من ذلك ، لكنه لم يشأ ، لأنه خلاف الحكمة (فَذَرْهُمْ) أي دعهم (وَما يَفْتَرُونَ) أي افتراؤهم ، فأعرض عنهم ، ولا تتعرّض لهم ، بل خذ طريقك ، وبلّغ رسالات ربك.

[١١٤] إن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول لأجل الغرور (وَلِتَصْغى) لأجل أن تميل (إِلَيْهِ) أي إلى هذا الوحي بزخرف القول (أَفْئِدَةُ) أي : قلوب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) فإنهم يوسوسون ليغروا الناس وليستميلوا أفئدة الكفار إلى مكائدهم (وَلِيَرْضَوْهُ) أي يرضى من لا يؤمن بالآخرة ، بالوحي والوسوسة ، بمعنى إرضاء الكفار

١١٨

وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ

____________________________________

بمنهجهم فلا يميلوا إلى الحق (وَلِيَقْتَرِفُوا) أي يرتكبوا من الكفر والمعاصي (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي الشيء الذي يرتكبون. وجملة المعنى أن وسوسة الشياطين لأجل أن يغروا الناس ، ويستميلوا قلوبهم ، ويرضون عن طريقتهم ، ويرتكبون الآثام.

[١١٥] إنّ هناك شخصين متعاديين الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي لا يؤمن بالآخرة ، فمن الحكم بينهما؟ وهنا يأتي الجواب أن الحكم هو الله وحده ، قل يا رسول الله لهؤلاء : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) أي أطلب سوى الله حاكما (وَهُوَ) أعلم الحكّام (الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) فيه ما يحتاج إليه الإنسان ، يفصل بين الحقّ والباطل ، ومعنى التفصيل : تبيين المعاني بما يوجب رفع الاشتباه. ومن المعلوم أن القادر على تنزيل الكتاب ، هو الذي يتخذ حكما (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي الكتاب وهو القرآن (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) وليس كلام الآدميين ، وتخصيص أهل الكتاب ، لأن علمهم يقتضي أن يعرفوا ذلك ، فإنه «إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه» (فَلا تَكُونَنَ) يا رسول الله (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي الشاكين. ومن المعلوم أن النبي لا يشك وإنما المراد به السامع ، وإن كان الخطاب موجها إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[١١٦] (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) بالقرآن الكريم ، فما أراده الله سبحانه من

١١٩

صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦)

____________________________________

البشر ، تم بإنزال هذا الكتاب ، فليس وراءه كتاب آخر وكلمة أخرى (صِدْقاً وَعَدْلاً) فما فيه من الأخبار صدق لا يشوبه كذب ، وعدل لا يشوبه انحراف وزيغ ، فكل خبر يخالف إخباره عن المبدأ وعن المعاد وعن الرسالة وعن العدل وعن الخلافة وعن غيرها ، فهو كذب ، وكل حكم يخالف حكمه فهو زيغ وباطل (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) فإن كلمات الله سبحانه هي الميزان لكل شيء فلا أحد يبدّل كلماته تعالى بالزيادة والنقصان ، تبديلا صحيحا ، ومن بدّل فهو المنحرف الضال (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال الناس (الْعَلِيمُ) بكل ما يفعلون فيجازيهم حسب أعمالهم وأقوالهم.

[١١٧] إن الميزان هو كلمات الله سبحانه ، فليس هناك حق فيما عدا ذلك (وَ) لذا (إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لأن غالب الناس كفّار أو ضالين ، فاتّباعهم موجب للكفر والضلال ، نعم هناك قلة لم يخل منهم زمان ، هم الآخذون بأحكام الله تعالى ، فإطاعتهم هي إطاعة الله ، ولا يوجب اتباعهم ضلالا وزيغا (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتّبع هؤلاء الكثرة من الناس (إِلَّا الظَّنَ) فليس لهم حجة وبرهان في كفرهم وضلالهم ، وإنما يرجّحون ظنّا ما يعتقدونه ، أو يعملون به (وَإِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا يَخْرُصُونَ) «الخرص» هو التخمين ، أي يقولون تخمينا لا اعتقادا وجزما.

١٢٠