تفسير النسفي - ج ٢

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) (١٥٦)

وسبعين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآيات المحكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب ، وعن كعب : إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لتكونوا على رجاء إصابة التقوى. ذكر أولا تعقلون ثم تذكرون ثم تتقون لأنهم إذا عقلوا تفكروا فتذكروا (١) أي اتعظوا فاتقوا المحارم.

١٥٤ ـ (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً) أي ثم أخبركم إنّا .. آتينا ، أو هو عطف على قل ، أي ثمّ قل آتينا ، أو ثمّ مع الجملة تأتي بمعنى الواو كقوله (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) (٢) (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) على من كان محسنا صالحا ، يريد جنس المحسنين دليله قراءة عبد الله على الذين أحسنوا ، أو أراد به موسى عليه‌السلام أي تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ في كلّ ما أمر به (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) وبيانا مفصلا لكلّ ما يحتاجون إليه في دينهم (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ) أي بني إسرائيل (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون (٣).

١٥٥ ـ (وَهذا) أي القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) كثير الخير (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا) مخالفته (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لترحموا.

١٥٦ ـ (أَنْ تَقُولُوا) كراهة أن تقولوا ، أو لئلا تقولوا (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) أي أهل التوراة وأهل الإنجيل ، وهذا دليل على أنّ المجوس ليسوا بأهل كتاب (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ) عن تلاوة كتبهم (لَغافِلِينَ) لا علم لنا بشيء من ذلك ، إن مخففة من الثقيلة ، واللام فارقة بينها وبين النافية والأصل وإنه كنا عن دراستهم غافلين ، على أنّ الهاء ضمير الشأن ، والخطاب لأهل مكة ، والمراد إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيلا يقولوا يوم القيامة : إنّ التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنّا غافلين عما فيهما.

__________________

(١) في (ز) ثم تذكروا.

(٢) يونس ، ١٠ / ٤٦.

(٣) في (ز) زاد أي بالبعث والحساب وبالرؤية.

٦١

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩)

١٥٧ ـ (أَوْ تَقُولُوا) كراهة أن تقولوا (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) لحدة أذهاننا ، وثقابة أفهامنا ، وغزارة حفظنا لأيام العرب (١) (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم فقد جاءكم ما فيه البيان الساطع والبرهان القاطع فحذف الشرط ، وهو من أحاسن الحذوف (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) بعد ما عرف صحتها وصدقها (وَصَدَفَ عَنْها) أعرض (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) وهو النهاية في النّكاية (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) بإعراضهم.

١٥٨ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما يعتقدون من الضلالة فما ينتظرون في ترك الإيمان (٢) بعدها (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم ، يأتيهم حمزة وعلي (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي أمر ربّك وهو العذاب أو القيامة ، وهذا لأنّ الإتيان متشابه وإتيان أمره منصوص عليه محكم فيردّ إليه (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أي أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) لأنه ليس بإيمان اختيار (٣) بل هو إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) صفة نفسا (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي إخلاصا ، كما لا يقبل إيمان الكافر بعد طلوع الشمس من مغربها لا يقبل إخلاص المنافق أيضا ، أو توبة (٤) وتقديره لا ينفع إيمان من لم يؤمن ولا توبة من لم يتب قبل (قُلِ انْتَظِرُوا) إحدى الآيات الثلاث (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) بكم إحداها.

١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) اختلفوا فيه وصاروا فرقا كما اختلفت اليهود

__________________

(١) أيام العرب : حروبهم فيما بينهم أو الأيام التي وقعت فيها أحداث هامة وشهيرة.

(٢) في (ز) ترك الضلالة.

(٣) في (ز) اختياري.

(٤) في (ز) أو توبته.

٦٢

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣)

والنصارى ، في الحديث : (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلا واحدة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلا واحدة وهي السواد الأعظم) (١) وفي رواية : (وهي ما أنا عليه وأصحابي) وقيل فرّقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. فارقوا دينهم حمزة وعلي أي تركوا (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا كلّ فرقة تشيّع إماما لها (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي من السؤال عنهم وعن تفرّقهم أو من عقابهم (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) فيجازيهم على ذلك.

١٦٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) تقديره عشر حسنات أمثالها إلّا أنه أقيم صفة الجنس المميّز (٢) مقام الموصوف (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص الثواب وزيادة العقاب.

١٦١ ـ (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) ربّي أبو عمرو ومدني (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً) نصب على البدل من محلّ إلى صراط مستقيم لأن معناه هداني صراطا بدليل قوله (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٣) (قِيَماً) قيّما فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم ، قيما كوفي وشامي ، وهو مصدر بمعنى القيام وصف به (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان (حَنِيفاً) حال من إبراهيم (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله يا معشر قريش.

١٦٢ ـ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) أي عبادتي ، والناسك العابد ، أو ذبحي أو حجي (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) وما أتيته في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خالصة لوجهه. ومحياي ومماتي بسكون الياء الأول وفتح الثاني مدني ، وبعكسه غيره.

١٦٣ ـ (لا شَرِيكَ لَهُ) في شيء من ذلك (وَبِذلِكَ) الإخلاص (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ

__________________

(١) أصحاب السنن إلا النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بألفاظ متقاربة.

(٢) في (ز) المميزة.

(٣) الفتح ، ٤٨ / ٢٠.

٦٣

قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

(الْمُسْلِمِينَ) لأنّ إسلام كلّ نبيّ متقدم على إسلام أمته.

١٦٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم ، والهمزة للإنكار أي منكر أن أطلب ربا غيره ، وتقديم المفعول للإشعار بأنه أهم (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) وكلّ من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) جواب عن قولهم اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تأخذ نفس آثمة ذنب (١) نفس أخرى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من الأديان التي فرّقتموها.

١٦٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) لأنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين فأمته قد خلفت سائر الأمم ، أو لأن بعضهم يخلف بعضا ، أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في الشرف والرزق وغير ذلك (دَرَجاتٍ) مفعول ثان ، أو التقدير إلى درجات ، أو هي واقعة موقع المصدر كأنه قيل رفعة بعد رفعة (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) فيما أعطاكم من نعمة الجاه والمال كيف تشكرون تلك النّعمة ، وكيف يصنع الشريف بالوضيع والغني بالفقير والمالك بالمملوك (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن كفر نعمته (٢) (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن قام بشكرها ، ووصف العقاب بالسرعة لأنّ ما هو آت قريب وما أمر الساعة إلّا كلمح البصر أو هو أقرب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام حين يصبح وكّل الله تعالى به سبعين ألف ملك يحفظونه وكتب له مثل أعمالهم إلى يوم القيامة) (٣).

__________________

(١) في (ز) بذنب.

(٢) ليست في (ز).

(٣) أخرجه الثعلبي من حديث أبي بن كعب وفيه أبو عصمة وهو متهم بالكذب ، وأوله عند الطبراني في الصغير في ترجمة إبراهيم بن نائلة من حديث ابن عمر ، وفيه يوسف بن عطية وهو ضعيف ، وأخرجه عنه ابن مردويه في تفسيره وأبو نعيم في الحلية.

٦٤

سورة الأعراف

مكية وهي مائتان وخمس آيات بصري [عند البصريين] ومئتان

وست آيات كوفي ومدني [عند الكوفيين والمدنيين]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢)

١ ـ (المص) قال الزجّاج : المختار في تفسيره ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا الله أعلم وأفصّل.

٢ ـ (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفته ، والمراد بالكتاب السورة (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) شكّ منه (١) وسمّي الشكّ حرجا لأنّ الشاكّ ضيّق الصدر حرجه ، كما أنّ المتيقن منشرح الصدر منفسحه ، أي لا شكّ في أنه منزل من الله ، أو حرج من تبليغه (٢) لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم ، فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينشط له ، فأمّنه الله ونهاه عن المبالاة بهم ، والنهي متوجه إلى الحرج وفيه من البلاغة (٣) ما فيه والفاء للعطف ، أي هذا كتاب أنزلناه (٤) إليك فلا يكن بعد إنزاله حرج في صدرك ، واللام في (لِتُنْذِرَ بِهِ) متعلق بأنزل أي أنزل إليك لإنذارك به ، أو بالنهي لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ، وكذا إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار (٥) ، لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربّه (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) في محل النصب بإضمار فعلها ، أي لتنذر به وتذكّر

__________________

(١) في (ز) فيه.

(٢) في (ز) أو حرج منه بتبليغه.

(٣) في (ز) المبالغة.

(٤) في (ز) هذا الكتاب أنزلته.

(٥) زاد في (ز) به. تفسير النسفي ج ٢ / م ٥.

٦٥

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٦)

تذكيرا ، فالذكرى اسم بمعنى التذكير ، أو الرفع بالعطف على كتاب أي هو كتاب وذكرى للمؤمنين ، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو الجرّ بالعطف على محل لتنذر ، أي للإنذار وللذكرى.

٣ ـ (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي القرآن والسنّة (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) من دون الله (أَوْلِياءَ) أي ولا تتولّوا من دونه من شياطين الجنّ والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره ، وقليلا نصب بتذكرون ، أي تذكرون تذكّرا قليلا ، وما مزيدة لتوكيد القلة ، تتذكرون شامي.

٤ ـ (وَكَمْ) مبتدأ (مِنْ قَرْيَةٍ) تبيين ، والخبر (أَهْلَكْناها) أي أردنا إهلاكها كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (١) (فَجاءَها) جاء أهلها (بَأْسُنا) عذابنا (بَياتاً) مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين ، يقال بات بياتا حسنا (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) حال معطوفة على بياتا ، كأنه قيل فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين (٢) ، وإنما قيل هم قائلون بلا واو ولا يقال جاءني زيد هو فارس بغير واو لأنه لمّا عطف على حال قبلها حذفت الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف ، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل ، وخص هذان الوقتان لأنهما وقتا الغفلة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع. وقوم لوط عليه‌السلام أهلكوا بالليل وقت السّحر ، وقوم شعيب عليه‌السلام وقت القيلولة ، وقيل بياتا ليلا ، أي ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم قائلون.

٥ ـ (فَما كانَ دَعْواهُمْ) دعاؤهم وتضرّعهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) لما جاءهم أوائل العذاب (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) اعترفوا بالظلم على أنفسهم والشرك حين لم ينفعهم ذلك ، ودعواهم اسم كان وأن قالوا الخبر ويجوز العكس (٣).

٦ ـ (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أرسل مسند إلى إليهم ، أي فلنسألنّ

__________________

(١) المائدة ، ٥ / ٦.

(٢) قائلون ، من القيلولة وهي النوم في الظهيرة.

(٣) في (أ) ويجوز على العكس.

٦٦

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠)

المرسل إليهم ، وهم الأمم عما أجابوا به رسلهم (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عما أجيبوا به.

٧ ـ (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم (بِعِلْمٍ) عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم وعمّا وجد منهم ، ومعنى السؤال التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به (١) بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم.

٨ ـ (وَالْوَزْنُ) أي وزن الأعمال ، والتمييز بين راجحها وخفيفها ، وهو مبتدأ خبره (يَوْمَئِذٍ) أي يوم يسأل الله الأمم ورسلهم ، فحذفت الجملة وعوّض عنها التنوين (الْحَقُ) أي العدل صفته ، ثم قيل توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفّتان إظهارا للنّصفة ، وقطعا للمعذرة ، وقيل هو عبارة عن القضاء السويّ والحكم العادل والله أعلم بكيفيته (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) جمع ميزان ، أو موزون ، أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات ، أو ما توزن به حسناتهم (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون.

٩ ـ (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) هم الكفار ، فإنه لا إيمان لهم ، ليعتبر معه عمل فلا يكون في ميزانهم خير فتخف موازينهم (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) يجحدون ، فالآيات الحجج ، والظلم بها وضعها في غير موضعها ، أي جحودها وترك الانقياد لها.

١٠ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا ، أو مكّنّاكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة ، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها (٢) ، والوجه تصريح الياء لأنها أصلية ، بخلاف صحائف فالياء فيها زائدة ، وعن نافع أنه همز تشبيها بصحائف (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) مثل قليلا ما تذكرون.

__________________

(١) ليست في (ز).

(٢) في (ز) وغيرهما.

٦٧

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣)

١١ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي خلقنا أباكم آدم عليه‌السلام طينا غير مصوّر ثم صورناه بعد ذلك ، دليله (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ممن سجد لآدم عليه‌السلام.

١٢ ـ (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) ما رفع أي أيّ شيء منعك من السجود ، ولا زائدة بدليل (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (١) ومثلها (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (٢) أي ليعلم (إِذْ أَمَرْتُكَ) فيه دليل على أنّ الأمر للوجوب ، والسؤال عن المانع من السجود مع علمه به للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه‌السلام (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) وهي جوهر نوراني (وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وهو ظلماني ، وقد أخطأ الخبيث بل الطين أفضل لرزانته ووقاره ، ومنه الحلم والحياء والصبر ، وذلك دعاه إلى التوبة والاستغفار ، وفي النار الطيش والحدّة والترفّع وذلك دعاه إلى الاستكبار ، والتراب عمدة (٣) الممالك ، والنار عدّة المهالك ، والنار مظنة الخيانة والإفناء ، والتراب مئنة الأمانة والإنماء ، والطين يطفئ النار ويتلفها ، والنار لا تتلفه ، وهذه فضائل غفل عنها إبليس حتى زلّ بفاسد من المقاييس. وقولنا (٤) في القياس أول من قاس إبليس ، قياس على أنّ القياس عند مثبته مردود عند وجود النصوص (٥) وقياس إبليس عناد للأمر المنصوص. وكان الجواب لما منعك أن يقول منعني كذا ، وإنما قال أنا خير منه لأنه لما (٦) استأنف قصة وأخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم عليه‌السلام وبعلة فضله عليه ، فعلم منها الجواب ، كأنه قال منعني من السجود فضلي عليه وزيادتي عليه (٧) وهي إنكار الأمر واستبعاد (٨) أن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله ، إذ سجود الفاضل للمفضول خارج عن الصواب.

١٣ ـ (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) من الجنة ، أو من السماء ، لأنه كان فيها وهي مكان

__________________

(١) ص ، ٣٨ / ٧٥.

(٢) الحديد ، ٥٧ / ٢٩.

(٣) في (ز) عدة.

(٤) في (أ) و (ز) وقول نافي القياس.

(٥) في (ظ) و (ز) النص.

(٦) في (ز) قد.

(٧) في (ظ) و (ز) وزيادة.

(٨) في (أ) والاستبعاد.

٦٨

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧)

المطيعين والمتواضعين ، والفاء في فاهبط جواب لقوله أنا خير منه ، أي إن كنت تتكبر فاهبط (فَما يَكُونُ لَكَ) فما يصح لك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) وتعصي (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) من أهل الصّغار والهوان على الله وعلى أوليائه ، يذمّك كلّ إنسان ويلعنك كلّ لسان لتكبّرك ، وبه علم أنّ الصّغار لازم للاستكبار.

١٤ ـ (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أمهلني إلى يوم البعث وهو وقت النفخة الأخيرة.

١٥ ـ (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) إلى النفخة الأولى (١) ، وإنما أجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء ، وفيه تقريب لقلوب الأحباب ، أي هذا بريء بمن يسبني (٢) فكيف بمن يحبّني ، وإنما جسره على السؤال مع وجود الزّلل منه في الحال علمه بحلم ذي الجلال.

١٦ ـ (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أضللتني ، أي فبسبب إغوائك إياي ، والباء تتعلق بفعل القسم المحذوف ، تقديره فسبب إغوائك أقسم ، أو تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) لأعترضنّ لهم على طريق الإسلام مترصدا للردّ متعرضا للصدّ كما يتعرض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة ، وانتصابه على الظرف كقولك ضرب زيد الظهر أي على الظهر ، وعن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل قدريّ فقال له طاوس : تقوم أو تقام؟ فقام الرجل ، فقيل : إنه فقيه (٣)؟ فقال : إبليس أفقه منه ، قال رب بما أغويتني ، وهو يقول أنا أغوي نفسي.

١٧ ـ (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أشكّكهم في الآخرة (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أرغّبهم في الدنيا (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) من قبل الحسنات (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) من قبل السيئات ، وهو جمع شمال ، يعني ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الأغلب ، وعن

__________________

(١) في (ظ) إلى يوم الوقت المعلوم أي النفخة الأولى.

(٢) في (ز) يسيئني.

(٣) في (ز) فقيل له : أتقول هذا لرجل فقيه.

٦٩

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢٠)

شقيق (١) : ما من صباح إلّا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد ، من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم ، فأقرأ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (٢) ومن خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفيّ ، فاقرأ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٣) وعن يميني فيأتيني من قبل الثناء فأقرأ (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٤) وعن شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) (٥). ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة ، وقال في الأولين من لابتداء الغاية ، وفي الأخيرين عن لأنّ عن تدلّ على الانحراف (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) مؤمنين ، قاله ظنا فأصاب ، لقوله (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (٦) أو سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى إياهم.

١٨ ـ (قالَ اخْرُجْ مِنْها) من الجنة أو من السماء (مَذْؤُماً) معيبا من ذأمه إذا ذمّه ، والذأم والذم العيب (مَدْحُوراً) مطرودا مبعدا من رحمة الله ، واللام في (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) موطّئة للقسم جوابه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) وهو ساد مسدّ جواب الشرط (مِنْكُمْ) منك ومنهم فغلب ضمير المخاطب (أَجْمَعِينَ).

١٩ ـ (وَيا آدَمُ) وقلنا يا آدم بعد إخراج إبليس من الجنة (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) اتخذاها (٧) مسكنا (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا) فتصيرا (مِنَ الظَّالِمِينَ).

٢٠ ـ (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) وسوس إذا تكلّم كلاما خفيا يكرره وهو غير متعد (٨) ، ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح ، ولكن موسوس له

__________________

(١) شقيق : هو شقيق بن إبراهيم بن علي الأزدي البلخي ، أبو علي ، زاهد صوفي وكان من كبار المجاهدين ، استشهد في غزوة كولان عام ١٩٤ ه‍ (الأعلام ٣ / ١٧١).

(٢) طه ، ٢٠ / ٨٢.

(٣) هود ، ١١ / ٦.

(٤) الأعراف ، ٧ / ١٢٨ ، القصص. ٢٨ / ٨٣.

(٥) سبأ ، ٣٤ / ٥٤.

(٦) سبأ ، ٣٤ / ٢٠.

(٧) في (ز) اتخذها.

(٨) في (ز) متئد.

٧٠

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢)

وموسوس إليه ، وهو الذي يلقى إليه الوسوسة ، ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) ليكشف لهما ما ستر عنهما من عوراتهما ، وفيه دليل على أنّ كشف العورة من عظائم الأمور وأنّه لم يزل مستقبحا في الطباع والعقول. فإن قلت ما للواو المضمومة في ووري لم تقلب همزة كما في أويصل؟ ـ تصغير واصل ، وأصله وويصل ، فقلبت الواو همزة كراهة لاجتماع الواوين ـ قلت : لأن الثانية مدة كألف وارى فكما لم يجب همزها في واعد لم يجب في ووري ، وهذا لأن الواوين إذا تحركتا ظهر فيهما من الثقل ما لا يكون فيهما إذا كانت الثانية ساكنة وهذا مدرك بالضرورة ، فالتزموا إبدالها في موضع الثقل لا في غيره ، وقرأ عبد الله أورى بالقلب «وقال ما نهاكما ربّكما عن هذه الشّجرة إلّا أن تكونا مالكين» إلّا كراهة أن تكونا ملكين تعلمان الخير والشرّ وتستغنيان عن الغذاء ، وقرئ ملكين لقوله : (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١) (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.

٢١ ـ (وَقاسَمَهُما) وأقسم لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) وأخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه لما كان منه القسم ومنهما التصديق فكأنها من اثنين.

٢٢ ـ (فَدَلَّاهُما) فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة (بِغُرُورٍ) بما غرّهما به من القسم بالله وإنما يخدع المؤمن بالله ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما : من خدعنا بالله انخدعنا له (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) وجدا طعمها آخذين في الأكل منها ، وهي السنبلة أو الكرم (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ظهرت لهما عوراتهما لتهافت اللباس عنهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر ، وقيل كان لباسهما من جنس الأظفار ، أي كالظفر بياضا في غاية اللطف واللين فبقي عند الأظفار تذكيرا للنّعم وتجديدا للنّدم (وَطَفِقا) وجعلا ، يقال طفق يفعل كذا أي جعل (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) يجعلان على عورتهما من ورق التين أو الموز ورقة فوق ورقة ليستترا بها كما تخصف

__________________

(١) طه / ٢٠ / ١٢٠.

٧١

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦)

النّعل (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) هذا عتاب من الله وتنبيه على الخطأ ، وروي أنه قال لآدم عليه‌السلام : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال : بلى ، ولكن ما ظننت أنّ أحدا يحلف بك كاذبا. قال : فبعزتي لأهبطنّك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا بكد يمين وعرق جبين. فأهبط وعلّم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث ، فحرث وسقى وحصد ودرس وذرى وطحن وعجن وخبز (وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ).

٢٣ ـ (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فيه دليل لنا على المعتزلة لأنّ الصغائر عندهم مغفورة.

٢٤ ـ (قالَ اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء بلفظ الجمع لأنّ إبليس هبط من قبل ، ويحتمل أنه هبط إلى السماء ثم هبطوا جميعا إلى الأرض (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال ، أي متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) استقرار أو موضع استقرار (وَمَتاعٌ) وانتفاع بعيش (إِلى حِينٍ) إلى انقضاء آجالكم ، وعن ثابت البناني (١) : لما أهبط آدم عليه‌السلام وحضرته الوفاة وأحاطت به الملائكة ، فجعلت حواء تدور حولهم ، فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني ما أصابني فيك ، فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وترا وحنّطته وكفنته في وتر من الثياب ، وحفروا له قبرا ودفنوه بسرنديب (٢) بأرض الهند ، وقالوا لبنيه هذه سنتكم بعده.

٢٥ ـ (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ) في الأرض (وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) للثواب والعقاب ، تخرجون حمزة وعليّ.

٢٦ ـ (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) جعل ما في الأرض منزّلا من السماء ،

__________________

(١) ثابت البناني : هو ثابت بن أسلم البناني ، أبو محمد ، تابعي ، زاهد ، روى الحديث عن غير واحد من الصحابة وأكثر الرواية عن أنس بن مالك وروى عنه جماعة من التابعين. (حلية الأولياء ٢ / ٣١٨ ترجمة رقم ١٩٧).

(٢) سرنديب : هي سيرلانكا اليوم وسيلان سابقا.

٧٢

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧)

لأنّ أصله من الماء وهو منها (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) يستر عوراتكم (وَرِيشاً) لباس الزينة استعير من ريش الطير ، لأنه لباسه وزينته ، أي أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم ولباسا يزينكم (وَلِباسُ التَّقْوى) ولباس الورع الذي يقي العقاب ، وهو مبتدأ وخبره الجملة ، وهي (ذلِكَ خَيْرٌ) كأنه قيل ولباس التقوى هو خير ، لأنّ أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذّكر ، أو ذلك صفة للمبتدأ وخير خبر المبتدأ ، كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير ، أو لباس التقوى خبر مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى ، أي ستر العورة لباس المتقين ، ثم قال ذلك خير ، وقيل ولباس أهل التقوى من الصوف والخشن ، ولباس التقوى مدني وشامي وعليّ عطفا على لباسا أي وأنزلنا عليكم لباس التقوى (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) الدالة على فضله ورحمته على عباده ، يعني إنزال اللباس (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيعرفوا عظيم النعمة فيه ، وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السّوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنّة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري من الفضيحة ، وإشعارا بأن التستر من التقوى.

٢٧ ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) لا يخدعنّكم ولا يضلنّكم بأن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم بأن أخرجهما منها (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) حال ، أي أخرجهما نازعا لباسهما بأن كان سببا في أن نزع عنهما ، والنهي في الظاهر للشيطان ، وفي المعنى لبني آدم ، أي لا تتّبعوا الشيطان فيفتنكم (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) عوراتهما (إِنَّهُ) الضمير للشأن والحديث (يَراكُمْ هُوَ) تعديل للنهي وتحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي (١) يكيدكم من حيث لا تشعرون (وَقَبِيلُهُ) وذريته ، أو وجنوده من الشياطين ، وهو عطف على الضمير في يراكم المؤكّد بهو ، ولم يعطف عليه لأنّ معمول الفعل هو المستكن دون هذا البارز ، وإنما يعطف على ما هو معمول الفعل (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) قال ذو النون : إن كان هو يراك من حيث لا تراه فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه وهو الله الكريم الستّار الرحيم الغفار (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) فيه دلالة خلق الأفعال.

__________________

(١) المداجي : الذي يستر عداوته لكم عنكم.

٧٣

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١)

٢٨ ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) ما تبالغ (١) في قبحه من الذنوب ، وهو طوافهم بالبيت عراة وشركهم (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) أي إذا فعلوها اعتذروا بأنّ آباءهم كانوا يفعلونها ، فاقتدوا بهم ، وبأنّ الله أمرهم بأن يفعلوها حيث أقرّنا عليها إذ لو كرهها لنقلنا عنها ، وهما باطلان لأنّ أحدهما تقليد للجهّال والثاني افتراء على ذي الجلال (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) إذ المأمور به لا بدّ أن يكون حسنا وإن كان فيه على مراتب ، على ما عرف في أصول الفقه (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) استفهام إنكار وتوبيخ.

٢٩ ـ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بالعدل وبما هو حسن عند كلّ عاقل فكيف يأمر بالفحشاء؟ (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقل أقيموا وجوهكم ، أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها في كلّ وقت سجود ، أو في كلّ مكان سجود (وَادْعُوهُ) واعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة مبتغين بها وجهه خالصا (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) كما أنشأكم ابتداء يعيدكم ، احتج عليه في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق ، والمعنى أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة.

٣٠ ـ (فَرِيقاً هَدى) وهم المسلمون (وَفَرِيقاً) أي أضلّ فريقا (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) وهم الكافرون (إِنَّهُمُ) إنّ الفريق الذين حقّ عليهم الضلالة (اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أنصارا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) والآية حجة لنا على أهل الاعتزال في الهداية والإضلال.

٣١ ـ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) لباس زينتكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) كلما صليتم ، وقيل الزينة المشط أو الطيب ، والسنّة أن يأخذ الرجل أحسن هيئاته للصلاة ، لأنّ الصلاة مناجاة الربّ فيستحبّ لها التزيّن والتعطّر كما يجب التستّر والتطهّر

__________________

(١) في (ظ) و (ز) ما يبالغ في قبحه.

٧٤

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢)

(وَكُلُوا) من اللحم والدسم (وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) بالشروع في الحرام ، أو في مجاوزة الشبع (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت ما اخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. وكان للرشيد (١) طبيب حاذق فقال لعليّ بن الحسين بن واقد (٢) : ليس في كتابكم من علم الطبّ شيء ، والعلم علمان ، علم الأبدان وعلم الأديان ، فقال له عليّ : قد جمع الله الطبّ كلّه في نصف آية من كتابه وهو قوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) ، فقال النصراني : ولم يرو عن رسولكم شيء في الطبّ ، فقال : فقد جمع رسولنا الطبّ في ألفاظ يسيرة وهي قوله عليه‌السلام : (المعدة بيت الداء والحمية رأس كلّ دواء وأعط كلّ بدن ما عوّدته) (٣) فقال النصراني ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا.

ثم استفهم إنكارا على محرّم الحلال بقوله :

٣٢ ـ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) من الثياب وكلّ ما يتجمّل به (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) أي أصلها يعني القطن من الأرض والقزّ من الدود (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) والمستلذّات من المآكل والمشارب ، وقيل كانوا إذا أحرموا حرّموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) غير خالصة لهم ، لأنّ المشركين شركاؤهم فيها (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا يشركهم فيها أحد ، ولم يقل للذين آمنوا ولغيرهم لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة والكفار تبع لهم. خالصة بالرفع نافع ، فهي مبتدأ خبره للذين آمنوا ، وفي الحياة الدنيا ظرف للخبر ، أو خالصة خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أي هي خالصة ، وغيره نصبها على الحال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر ، أي هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيامة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) نميّز الحلال من الحرام (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أنه لا شريك له.

__________________

(١) الرشيد ، هو الخليفة العباسي هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور دامت ولايته ٢٣ عاما ، ولد عام ١٤٩ وتوفي عام ١٩٣ ه‍ (الأعلام ٨ / ٦٢).

(٢) سبق ترجمته في ٤ / ١٧١.

(٣) هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب (أسنى المطالب ص ٣٢٥).

٧٥

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧)

٣٣ ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) ربّي حمزة ، الفواحش ما تفاحش قبحه أي تزايد (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) سرّها وعلانيتها (وَالْإِثْمَ) أي شرب الخمر أو كلّ ذنب (وَالْبَغْيَ) والظلم والكبر (بِغَيْرِ الْحَقِ) متعلق بالبغي ، ومحل (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حجة ، كأنه قال حرّم الفواحش وحرّم الشرك ، ينزل بالتخفيف مكي وبصري ، وفيه تهكم إذ لا يجوز أن ينزل برهانا على أن يشرك به غيره (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وأن تتقولوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره.

٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) وقت معين يأتيهم فيه عذاب الاستئصال إن لم يؤمنوا ، وهو وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) قيّد بساعة لأنّها أقلّ ما يستعمل في الإمهال.

٣٥ ـ (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) هي إن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط لأنّ ما للشرط ، ولذا لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة (رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) يقرؤون عليكم كتبي ، وهو في موضع رفع صفة لرسل ، وجواب الشرط (فَمَنِ اتَّقى) الشرك (وَأَصْلَحَ) العمل منكم (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أصلا (١).

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) منكم (بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) تعظّموا عن الإيمان بها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

٣٧ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ) فمن أشنع ظلما (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) ممن تقوّل على الله ما لم يقله ، أو كذّب ما قاله (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) ما

__________________

(١) زاد في (ز) فلا خوف يعقوب.

٧٦

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩)

كتب لهم من الأرزاق والأعمار (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) ملك الموت وأعوانه ، وحتى غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له ، وهي حتى التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام هنا الجملة الشرطية ، وهي إذا جاءتهم رسلنا (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) يقبضون أرواحهم ، وهو حال من الرسل ، أي متوفيهم ، وما في (قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ) موصولة (١) بأين وحقّها أن تكتب مفصولة لأنها موصولة ، والمعنى أين الآلهة الذين تعبدون؟ (مِنْ دُونِ اللهِ) ليذبّوا عنكم (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) غابوا عنا فلا نراهم (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) اعترفوا بكفرهم بلفظ الشهادة التي هي لتحقيق الخبر.

٣٨ ـ (قالَ ادْخُلُوا) أي يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء الكفار ادخلوا (فِي أُمَمٍ) في موضع الحال ، أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم (قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) من كفار الجنّ والإنس (فِي النَّارِ) متعلق بادخلوا (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) شكلها في الدين ، أي التي ضلت بالاقتداء بها (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها) أصله تداركوا ، أي تلاحقوا واجتمعوا في النار ، فأبدلت التاء دالا وسكّنت للإدغام ، ثم أدخلت همزة الوصل (جَمِيعاً) حال (قالَتْ أُخْراهُمْ) منزلة وهي الأتباع والسفلة (لِأُولاهُمْ) منزلة وهي القادة والرؤوس ، ومعنى لأولاهم لأجل أولاهم ، لأنّ خطابهم مع الله لا معهم (رَبَّنا) يا ربنا (هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) مضاعفا (مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) للقادة بالغواية والإغواء ، وللأتباع بالكفر والاقتداء (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ما لكلّ فريق منكم من العذاب. لا يعلمون أبو بكر ، أي لا يعلم كلّ فريق مقدار عذاب الفريق الآخر.

٣٩ ـ (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) عطفوا هذا

__________________

(١) جاء في (ز) في خط المصحف موصولة. ويقصد خط المصحف الذي اعتمده النسفي في تفسيره ، والمصاحف اليوم إن بقراءة حفص عن عاصم أو بقراءة ورش عن نافع تكتب (أَيْنَ ما) مفصولة ، وقوله وحقها أن تكتب مفصولة لأنها موصولة أي ما التي بمعنى الذي.

٧٧

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢)

الكلام على قول الله تعالى للسّفلة لكلّ ضعف ، أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وأنّا متساوون في استحقاق الضّعف (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) بكسبكم وكفركم ، وهو من قول القادة للسّفلة ، ولا وقف على فضل ، أو من قول الله لهم جميعا والوقف على فضل.

٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي لا يؤذن لهم في صعود السماء ليدخلوا الجنة إذ هي في السماء (١) ، أو لا يصعد لهم عمل صالح ولا تنزل عليهم البركة ، أو لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين إلى السماء ، وبالتاء مع التخفيف أبو عمرو ، وبالياء معه حمزة وعليّ (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة ، أي لا يدخلون الجنة أبدا ، لأنه علّقه بما لا يكون ، والخياط والمخيط ما يخاط به وهو الإبرة (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الجزاء الفظيع الذي وصفنا (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي الكافرين بدلالة التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها.

٤١ ـ (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) فراش (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أغطية ، جمع غاشية (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أنفسهم بالكفر.

٤٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) طاقتها ، والتكليف إلزام ما فيه كلفة أي مشقّة (أُولئِكَ) مبتدأ والخبر (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) والجملة خبر الذين ، ولا نكلف نفسا إلا وسعها اعتراض بين المبتدأ والخبر (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

__________________

(١) في (ز) إذ هي في السماء أو لا يصعد لهم عمل صالح ... بينما هي في (أ) و (ظ) كما أثبتنا لأن هذه الجملة سقطت في الأصل من المخطوط واستدركت على هامشها فوقع الخلاف على مكان إضافتها.

٧٨

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤٤)

٤٣ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) حقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التوادّ والتعاطف ، وعن علي رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) حال من هم في صدورهم ، والعامل فيها معنى الإضافة (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) لما هو وسيلة إلى هذا الفوز العظيم وهو الإيمان (وَما كُنَّا) ما كنّا بغير واو شامي على أنها جملة موضحة للأولى (لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) اللام لتوكيد النفي ، أي وما كان يصح أن نكون مهتدين لو لا هداية الله ، وجواب لو لا محذوف دلّ عليه ما قبله (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فكان لنا لطفا (١) وتنبيها على الاهتداء فاهتدينا (٢) ، يقولون ذلك سرورا بما نالوا وإظهارا لما اعتقدوا (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) أن مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ، والجملة بعدها خبرها ، تقديره ونودوا بأنه تلكم الجنة ، والهاء ضمير الشأن ، أو بمعنى أي (٣) ، كأنه قيل لهم تلكم الجنة (أُورِثْتُمُوها) أعطيتموها وهو حال من الجنة والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ) سمّاها ميراثا لأنّها لا تستحقّ بالعمل بل هي محض فضل الله وعده على (٤) الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شيء بل هو صلة خالصة. وقال الشيخ أبو منصور رحمه‌الله : إن المعتزلة خالفوا الله فيما أخبر ونوحا عليه‌السلام وأهل الجنة والنار وإبليس لأنه قال الله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٥) وقال نوح عليه‌السلام : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) (٦) وقال أهل الجنة : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) وقال أهل النار : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) (٧) وقال إبليس : (بِما أَغْوَيْتَنِي) (٨).

٤٤ ـ (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا) أن مخففة من الثقيلة أو مفسرة

__________________

(١) في (ز) لطفا لنا.

(٢) في (ز) فاهدينا.

(٣) ليس في (ظ) أي.

(٤) ليس في (أ) على.

(٥) النحل ، ١٦ / ٩٣.

(٦) هود ، ١١ / ٣٤.

(٧) إبراهيم ، ١٤ / ٢١.

(٨) الحجر ، ١٥ / ٣٩.

٧٩

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٧)

وكذلك (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ما وَعَدَنا رَبُّنا) من الثواب (حَقًّا) حال (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) من العذاب (حَقًّا) وتقديره وعدكم ربّكم فحذف كم لدلالة وعدنا ربّنا عليه ، وإنما قالوا لهم ذلك شماتة بأصحاب (١) النار واعترافا بنعم الله تعالى (قالُوا نَعَمْ) وبكسر العين حيث كان عليّ (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) نادى مناد وهو ملك يسمع أهل الجنة والنار (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أنّ لعنة مكي وشامي وحمزة وعليّ.

٤٥ ـ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ) يمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) مفعول ثان ليبغون ، أي ويطلبون لها الاعوجاج والتناقض (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) بالدار الآخرة (كافِرُونَ).

٤٦ ـ (وَبَيْنَهُما) وبين الجنة والنار ، أو بين الفريقين (حِجابٌ) وهو السور المذكور في قوله (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) (٢) (وَعَلَى الْأَعْرافِ) على أعراف الحجاب ، وهو السور المضروب بين الجنة والنار ، وهي أعاليه جمع عرف استعير من عرف الفرس وعرف الديك (رِجالٌ) من أفاضل المسلمين ، أو من آخرهم دخولا في الجنة لاستواء حسناتهم وسيآتهم ، أو من لم يرض عنه أحد أبويه ، أو أطفال المشركين (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من زمر (٣) السعداء والأشقياء (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم ، قيل سيما المؤمنين بياض الوجوه ونضارتها ، وسيما الكافرين سواد الوجوه وزرقه العيون (وَنادَوْا) أي أصحاب الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أنه سلام ، أو أي سلام ، وهو تهنئة منهم لأهل الجنة (لَمْ يَدْخُلُوها) أي أصحاب الأعراف ، ولا محلّ له لأنه استئناف ، كأنّ سائلا سأل أصحاب الأعراف فقيل لم يدخلوها (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) في دخولها ، أوله محل وهو صفة لرجال.

٤٧ ـ (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) أبصار أصحاب الأعراف ، وفيه أنّ صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا (تِلْقاءَ) ظرف ، أي ناحية (أَصْحابِ النَّارِ) ورأوا ما هم فيه

__________________

(١) في (أ) لأصحاب.

(٢) الحديد ، ٥٧ / ١٣.

(٣) في (ظ) و (ز) زمرة.

٨٠