تفسير النسفي - ج ٢

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠)

قوله : (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (١) ومعنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر أنه حين استقبلهم أنزلهم في مضرب خيمة أو قصر كان له ثمة ، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه (وَقالَ) لهم بعد ذلك (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) من ملوكها ، وكانوا لا يدخلونها إلّا بجواز ، أو من القحط ، وروي أنه لما لقيه قال يعقوب عليه‌السلام : السلام عليك يا مذهب الأحزان ، وقال له يوسف : يا أبت بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ فقال : بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك ، وقيل إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجال ونساء ، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى ، وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف.

١٠٠ ـ (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) قيل لما دخلوا مصر وجلس في مجلسه مستويا على سريره واجتمعوا إليه أكرم أبويه ، فرفعهما على السرير ، وخروا له يعني الإخوة الأحد عشر والأبوين سجّدا ، وكانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ، وقال الزّجّاج : سنّة التعظيم في ذلك الوقت أن يسجد للمعظّم ، وقيل ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه ، وخرورهم سجّدا يأباه ، وقيل وخروا لأجل يوسف سجّدا لله شكرا ، وفيه نبوة أيضا ، واختلف في استنبائهم (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها) أي الرؤيا (رَبِّي حَقًّا) أي صادقة ، وكان بين الرؤيا وبين التأويل أربعون سنة ، أو ثمانون ، أو ست وثلاثون ، أو ثنتان وعشرون (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) يقال أحسن إليه وبه وكذلك أساء إليه وبه (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يذكر الجبّ لقوله لا تثريب عليكم اليوم (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) من البادية لأنهم كانوا أصحاب مواش يتنقّلون في المياه والمناجع (٢) (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي أفسد بيننا وأغرى (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي لطيف التدبير (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) بتأخير الآمال إلى الآجال ، أو حكم بالائتلاف بعد الاختلاف.

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ١٣٣.

(٢) المناجع جمع نجع وهو موضع الكلأ.

٣٤١

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١)

١٠١ ـ (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) تفسير كتب الله ، أو تعبير الرؤيا ، ومن فيهما للتبعيض إذ لم يؤت إلّا بعض ملك الدنيا وبعض التأويل (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) انتصابه على النداء (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي الذي تتولاني بالنعمة في الدارين وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) طلب الوفاة على حال الإسلام ، كقول يعقوب لولده ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون. وعن الضحّاك مخلصا ، وعن التستري (١) مسلّما إليك أمري ، وفي عصمة الأنبياء إنما دعا به يوسف ليقتدي به قومه ومن بعده ممن ليس بمأمون العاقبة ، لأنّ ظواهر الأنبياء لنظر الأمم إليهم (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائي ، أو على العموم.

روي أنّ يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه ، فأدخله خزائن الذهب والفضة ، وخزائن الثياب ، وخزائن السلاح ، حتى أدخله خزانة القراطيس ، قال : يا بني ما أعقّك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل ، فقال : أمرني جبريل ، قال : أوما تسأله؟ قال : أنت أبسط إليه مني فاسأله ، فقال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب فهلّا خفتني.

وروي أنّ يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات ، وأوصى أن يدفنه بالشأم إلى جنب أبيه إسحاق ، فمضى بنفسه ودفنه ثمة ، ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة ، فلما تم أمره طلبت نفسه الملك الدائم ، فتمنى الموت ، وقيل ما تمناه نبيّ قبله ولا بعده ، فتوفاه الله طيبا طاهرا ، فتخاصم أهل مصر وتشاحّوا في دفنه كلّ يحبّ أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يعملوا له صندوقا من مرمر وجعلوه فيه ، ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ، ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلّهم فيه شرعا ، حتى نقل موسى عليه‌السلام بعد أربعمائة سنة تابوته إلى بيت المقدس ، وولد له إفراثيم وميشا ، وولد لإفراثيم نون ، ولنون يوشع فتى موسى ، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر ، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه.

__________________

(١) التستري : هو سهل بن عبد الله بن يونس التستري ، أبو محمد ، أحد أئمة الصوفية وعلمائهم ولد عام ٢٠٠ ه‍ وتوفي عام ٢٨٣ ه‍ (الأعلام ٣ / ١٤٣).

٣٤٢

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦)

١٠٢ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مبتدأ (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبر إن (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) لدى بني يعقوب (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) عزموا على ما همّوا به من إلقاء يوسف في البئر (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بيوسف ويبغون له الغوائل ، والمعنى أنّ هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلّا من جهة الوحي ، لأنك لم تحضر بني يعقوب حين اتفقوا على إلقاء أخيهم في البئر.

١٠٣ ـ (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) أراد العموم ، أو أهل مكة ، أي وما هم بمؤمنين ولو اجتهدت كلّ الاجتهاد على إيمانهم.

١٠٤ ـ (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) على التبليغ ، أو على القرآن (مِنْ أَجْرٍ) جعل (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) ما القرآن إلا عظة من الله (لِلْعالَمِينَ) (١) وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله.

١٠٥ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها) على الآيات ، أو على الأرض ويشاهدونها (وَهُمْ عَنْها) عن الآيات (مُعْرِضُونَ) لا يعتبرون بها ، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.

١٠٦ ـ (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) أي وما يؤمن أكثرهم في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السماوات والأرض إلّا وهو مشرك بعبادة الوثن. الجمهور على أنها نزلت في المشركين ، لأنهم مقرون بأن (٢) الله خالقهم ، ورازقهم ، وإذا حزبهم أمر شديد دعوا الله ومع ذلك يشركون به غيره ، ومن جملة الشرك ما يقوله

__________________

(١) في (ظ) : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) من الله (لِلْعالَمِينَ) ما القرآن إلا عظة لهم وحث ... وفي (ز) : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) ما هو إلا موعظة (لِلْعالَمِينَ) وحث ...

(٢) في (ز) بالله.

٣٤٣

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠٩)

القدرية (١) من إثبات قدرة التخليق للعبد ، والتوحيد المحض ما يقوله أهل السّنّة وهو أنه لا خالق إلا الله.

١٠٧ ـ (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ) عقوبة تغشاهم وتشملهم (مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) القيامة (بَغْتَةً) حال ، أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانها.

١٠٨ ـ (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي ، والسبيل والطريق يذكّران ويؤنّثان ، ثم فسّر سبيله بقوله (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) أي أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء (أَنَا) تأكيد للمستتر في أدعو (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف عليه ، أي أدعو إلى سبيل الله أنا ويدعو إليها (٢) من اتبعني ، أو أنا مبتدأ ، وعلى بصيرة خبر مقدّم ، ومن اتبعني عطف على أنا ، يخبر ابتداء بأنه ومن اتّبعه على حجّة وبرهان لا على هوى (وَسُبْحانَ اللهِ) وأنزّهه عن الشركاء (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مع الله غيره.

١٠٩ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) لا ملائكة لأنهم كانوا يقولون لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة ، أو ليست فيهم امرأة (نُوحِي) بالنون حفص (إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) لأنهم أعلم وأحلم وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أي ولدار الساعة الآخرة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك وآمنوا به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وبالياء مكي وأبو عمرو وحمزة وعليّ.

__________________

(١) القدرية : جماعة يزعمون أن الله لا يقدر الشر ويقولون إن الخير من الله والشر من إبليس ويزعمون أن الله قد يريد الشيء فلا يكون ، ويكره كون الشيء فيكون ، وإنه قد يريد من العبد شيئا ، ويريد الشيطان من ذلك العبد شيئا خلاف مراد الله عزوجل ، فيتم مراد الشيطان ، ولا يتم مراد الله فيه. تعالى الله عما يقول الجاحدون علوا كبيرا (الأنساب ٤ / ٤٦٠).

(٢) في (ز) إليه.

٣٤٤

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١)

١١٠ ـ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) يئسوا من إيمان القوم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) (١) وأيقن الرسل أنّ قومهم كذّبوهم ، وبالتخفيف كوفي ، أي وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا ، أي أخلفوا ، أو وظنّ المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل أي كذّبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدقوهم فيه (جاءَهُمْ نَصْرُنا) للأنبياء والمؤمنين بهم فجأة من غير احتساب (فَنُجِّيَ) بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء شامي وعاصم على لفظ الماضي المبني للمفعول ، والقائم مقام الفاعل من. الباقون فننجي بنونين ثانيتهما ساكنة مخفاة للجيم بعدها وإسكان الياء (مَنْ نَشاءُ) أي النبي ومن آمن به (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الكافرين.

١١١ ـ (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي في قصص الأنبياء وأممهم ، أو في قصة يوسف وإخوته (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) حيث نقل من غاية الحبّ ، إلى غيابة الجبّ ، ومن الحصير ، إلى السرير ، فصارت عاقبة الصبر سلامة وكرامة ، ونهاية المكر وخامة وندامة (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) ما كان القرآن حديثا مفترى كما زعم الكفار (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ولكن تصديق الكتب التي تقدمته (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين ، لأنه القانون الذي تستند إليه السّنة والإجماع والقياس (وَهُدىً) من الضلال (وَرَحْمَةً) من العذاب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله وأنبيائه ، وما نصب بعد لكن معطوف على خبر كان.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (علموا أرقاءكم سورة يوسف ، فأيما عبد تلاها وعلّمها أهله وما ملكت يمينه هوّن الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما) (٢) قال الشيخ أبو منصور رحمه‌الله : في ذكر قصة يوسف عليه‌السلام وإخوته تصبير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أذى قريش ، كأنه يقول إنّ إخوة يوسف مع موافقتهم إياه في الدين ومع الأخوّة عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر وصبر على ذلك ،

__________________

(١) في مصحف النسفي كذّبوا وهي قراءة.

(٢) لم أجده.

٣٤٥

فأنت مع مخالفتهم إياك في الدين أحرى أن تصبر على أذاهم. وقال وهب (١) : إنّ الله تعالى لم ينزل كتابا إلّا وفيه سورة يوسف عليه‌السلام تامة كما هي بالقرآن (٢).

__________________

(١) وهب : هو وهب بن منبه الأبناوي الصنعاني الذماري ، أبو عبد الله ، مؤرخ ، كثير الإخبار عن الكتب القديمة ، عالم بأساطير الأولين ولا سيما الإسرائيليات ولد عام ٣٤ ه‍ ومات عام ١١٤ ه‍ (الأعلام ٨ / ١٢٥).

(٢) في (ظ) كما هي في القرآن والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وفي (ز) كما هي في القرآن العظيم والله أعلم.

٣٤٦

سورة الرعد

مكية ، وهي ثلاث وأربعون آية كوفي ، وخمس وأربعون آية شامي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢)

١ ـ (المر) أنا الله أعلم وأرى عن ابن عباس رضي الله عنهما (تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة (آياتُ الْكِتابِ) أريد بالكتاب السورة ، أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن كلّه (الْحَقُ) خبر والذي (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) فيقولون تقوّله محمد.

ثم ذكر ما يوجب الإيمان فقال :

٢ ـ (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) أي خلقها مرفوعة لا أن تكون موضوعة فرفعها ، والله مبتدأ والخبر الذي رفع السماوات (بِغَيْرِ عَمَدٍ) حال ، وهو جمع عماد أو عمود (تَرَوْنَها) الضمير يعود إلى السموات ، أي ترونها كذلك فلا حاجة إلى البيان ، أو إلى عمد فيكون في موضع جر على أنه صفة لعمد ، أي بغير عمد مرئيّة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استولى بالاقتدار ونفوذ السلطان (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمنافع عباده ومصالح بلاده (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) وهو انقضاء الدنيا (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أمر ملكوته وربوبيته (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يبين آياته في كتبه المنزلة (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) لعلكم توقنون بأنّ هذا المدبّر والمفصّل لا بد لكم من الرجوع إليه.

٣٤٧

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥)

٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت (وَأَنْهاراً) جارية (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي الأسود والأبيض والحلو والحامض والصغير والكبير وما أشبه ذلك (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا. يغشّي حمزة وعليّ وأبو بكر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيعلمون أنّ لها صانعا عليما حكيما قادرا.

٤ ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة ، طيبة إلى سبخة ، وكريمة إلى زهيدة ، وصلبة إلى رخوة ، وذلك دليل على قادر مريد (١) ، موقع لأفعاله على وجه دون وجه (وَجَنَّاتٌ) معطوفة على قطع (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) بالرفع مكي وبصري وحفص عطف على قطع. غيرهم بالجر بالعطف على أعناب ، والصنوان جمع صنو ، وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد ، وعن حفص بضم الصاد ، وهما لغتان (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) وبالياء عاصم وشامي (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ) وبالياء حمزة وعليّ (فِي الْأُكُلِ) في الثمر ، وبسكون الكاف نافع ومكّي (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عن الحسن مثّل اختلاف القلوب في آثارها وأنوارها وأسرارها باختلاف القطع في أنهارها وأزهارها وثمارها.

٥ ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من قولهم في إنكار البعث (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) خبر ومبتدأ ، أي فقولهم حقيق بأن يتعجّب منه ، لأنّ من قدر على إنشاء ما عدّد عليك كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) في محل الرفع بدل من قولهم. قرأ عاصم وحمزة كلّ

__________________

(١) في (ز) قادر مدبر مريد.

٣٤٨

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨)

واحد بهمزتين (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أولئك الكاملون (١) المتمادون في كفرهم (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) وصف لهم بالإصرار ، أو من جملة الوعيد (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دلّ تكرار أولئك على تعظيم الأمر.

٦ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) بالنقمة قبل العافية ، وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا ، والمثلة العقوبة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب ، ومحلّه الحال ، أي ظالمين لأنفسهم ، قال السّدّي : يعني المؤمنين وهي أرجى آية في كتاب الله حيث ذكر المغفرة مع الظلم وهو بدون التوبة ، فإنّ التوبة تزيلها وترفعها (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) على الكافرين ، أو هما جميعا في المؤمنين لكنه معلق بالمشيئة فيهما ، أي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.

٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لم يعتدّوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنادا ، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى من انقلاب العصا حية ، وإحياء الموتى ، فقيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) إنما أنت رجل أرسلت منذرا مخوّفا لهم من سوء العاقبة ، وناصحا كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإتيان بما يصحّ به أنك رسول منذر ، وصحة ذلك حاصلة بأيّة (٣) آية كانت ، والآيات كلّها سواء في حصول صحة الدعوى بها (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) من الأنبياء يهديهم إلى الدين ويدعوهم إلى الله بآية خصّ بها لا بما يريدون ويتحكّمون.

٨ ـ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) ما في هذه

__________________

(١) في (ز) الكافرون.

(٢) الشورى ، ٤٢ / ٤٠.

(٣) في (ز) بأي.

٣٤٩

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١١)

المواضع الثلاثة موصولة ، أي يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخداج (١) ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك ، وما تغيضه الأرحام أي ويعلم ما تنقصه ، يقال غاض الماء وغضته أنا ، وما تزداده ، والمراد عدد الولد فإنها تشتمل على واحد واثنين وثلاثة وأربعة ، أو جسد الولد فإنه يكون تاما ومخدجا ، أو مدة الولادة فإنها تكون أقلّ من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عندنا ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك ، أو مصدرية أي يعلم حمل كلّ أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) بقدر وحدّ لا يجاوزه ولا ينقص عنه لقوله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٢).

٩ ـ (عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن الخلق (وَالشَّهادَةِ) ما شاهدوه (الْكَبِيرُ) العظيم الشأن الذي كلّ شيء دونه (الْمُتَعالِ) المستعلي على كلّ شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها ، وبالياء في الحالين مكي.

١٠ ـ (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي في علمه (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) متوار (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) ذاهب في سربه ، أي في طريقه ووجهه ، يقال سرب في الأرض سروبا. وسارب عطف على من هو مستخف لا على مستخف ، أو على مستخف غير أنّ من في معنى الاثنين.

١١ ـ والضمير في (لَهُ) مردود على من ، كأنه قيل لمن أسرّ ومن جهر ومن استخفى ومن سرب (مُعَقِّباتٌ) جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه ، والأصل معتقبات فأدغمت التاء في القاف ، أو هو مفعلات من عقّبه إذا جاء على عقبه ، لأنّ بعضهم يعقّب بعضا ، أو لأنهم يعقّبون ما يتكلّم به فيكتبونه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي قدّامه وورائه (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) هما صفتان جميعا ، وليس من أمر الله بصلة للحفظ ، كأنه قيل : له معقبات من أمر الله ، أو يحفظونه من أجل أمر الله ،

__________________

(١) خداج : المولود قبل تمام أيامه.

(٢) القمر ، ٥٤ / ٤٩.

٣٥٠

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (١٣)

أي من أجل أنّ الله تعالى أمرهم بحفظه ، أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب بدعائهم له (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من العافية والنعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الحال الجميلة بكثرة المعاصي (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) عذابا (فَلا مَرَدَّ لَهُ) فلا يدفعه شيء (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) من دون الله ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم.

١٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) انتصبا على الحال من البرق ، كأنه في نفسه خوف وطمع ، أو على ذا خوف وذا طمع ، أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين ، والمعنى يخاف من وقوع الصواعق عند لمع البرق ويطمع في الغيث ، قال أبو الطيب :

فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى

يرجّى الحيا منه وتخشى الصواعق

أو يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر ، ومن له بيت يكفّ ، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ، ويطمع فيه من له نفع فيه (وَيُنْشِئُ السَّحابَ) هو اسم جنس والواحدة سحابة (الثِّقالَ) بالماء ، وهو جمع ثقيلة ، تقول سحابة ثقيلة وسحاب ثقال.

١٣ ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) قيل يسبّح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر ، أي يصيحون بسبحان الله والحمد لله ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (الرعد ملك موكّل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب) (١) والصوت الذي يسمع زجره السحاب حتى ينتهي إلى حيث أمر (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) ويسبّح الملائكة من هيبته وإجلاله (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) الصاعقة : نار تسقط من السماء ، لمّا ذكر علمه النافذ في كلّ شيء واستواء الظاهر والخفي عنده وما دلّ على قدرته الباهرة ووحدانيته قال (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) يعني الذين كذّبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجادلون في الله حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث

__________________

(١) الترمذي والنسائي وأحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

٣٥١

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) (١٤)

وإعادة الخلائق بقولهم : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (١) ويردّون الوحدانية باتخاذ الشركاء ويجعلونه بعض الأجسام بقولهم الملائكة بنات الله. أو الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم ، وذلك أنّ أربد أخا لبيد بن ربيعة العامري (٢) قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين وفد عليه مع عامر بن الطفيل (٣) قاصدين لقتله فرمى الله عامرا بغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ، وأرسل على أربد صاعقة فقتله : أخبرني عن ربّنا أمن نحاس هو أم من حديد (٤) (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي المماحلة وهي شدة المماكرة والمكايدة ، ومنه تمحّل لكذا إذا تكلّف استعمال (٥) الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان ، والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون.

١٤ ـ (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) أضيفت الدعوة (٦) إلى الحقّ الذي هو ضدّ الباطل للدلالة على أنّ الدعوة ملابسة للحقّ وأنها بمعزل من الباطل ، والمعنى أنّ الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ويعطي الداعي سؤله ، فكانت دعوة ملابسة للحقّ ، لكونه حقيقا بأنه يوجّه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه ، واتصال شديد المحال وله دعوة الحقّ بما قبله على قصة أربد ظاهر لأنّ إصابته بالصاعقة محال من الله ومكر به من حيث لم يشعر ، وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله : (اللهم اخسفهما بما شئت) (٧) فأجيب فيهما ، فكانت الدعوة

__________________

(١) يس ، ٣٦ / ٧٨.

(٢) لبيد بن ربيعة بن مالك ، أبو عقيل العامري ، من أهل عالية نجد ، أدرك الإسلام ، ويعد من الصحابة ومن المؤلفة قلوبهم ، سكن الكوفة وعاش طويلا ، وهو أحد أصحاب المعلقات ترك الشعر فلم يقل في الإسلام إلا بيتا واحدا مات عام ٤١ ه‍ (الأعلام ٥ / ٢٤٠).

(٣) عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر العامري ، من بني عامر بن صعصعة ، فارس قومه في الجاهلية وهو ابن عم لبيد ولد عام ٧٠ ق. ه ومات عام ١١ ه‍ كافرا (الأعلام ٣ / ٢٥٢).

(٤) أخرجه الثعلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والطبراني وابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس والنسائي والطبري والعقيلي وأبو يعلى عن ثابت عن أنس ورواه البزار والبيهقي في الدلائل عن ابن غزوان عن ثابت نحوه.

(٥) في (ظ) لاستعمال الحيلة ، وفي (ز) لاستعماله.

(٦) ليست في (ز).

(٧) ذكره الواحدي في الأسباب عن ابن عباس.

٣٥٢

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦)

دعوة حقّ ، وعلى الأول وعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحلول (١) محاله بهم وإجابة دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم إن دعا عليهم (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) (٢) من دون الله (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) من طلباتهم (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) الاستثناء من المصدر ، أي من الاستجابة التي دلّ عليها لا يستجيبون ، لأنّ الفعل بحروفه يدلّ على المصدر ، وبصيغته على الزمان ، وبالضرورة على المكان والحال ، فجاز استثناء كلّ منها من الفعل ، فصار التقدير لا يستجيبون استجابة إلّا استجابة كاستجابة باسط كفّيه إلى الماء ، أي كاستجابة الماء لمن بسط كفّيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفّيه ، ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحسّ بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. واللام في ليبلغ متعلق بباسط كفّيه (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) وما الماء يبلغ (٣) فاه (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) في ضياع لا منفعة فيه ، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا الأصنام لم تستطع إجابتهم.

١٥ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سجود تعبّد وانقياد (طَوْعاً) حال ، يعني الملائكة والمؤمنين (وَكَرْهاً) يعني المنافقين والكافرين في حال الشدة والضيق (وَظِلالُهُمْ) معطوف على من جمع ظلّ (بِالْغُدُوِّ) جمع غداة كقنيّ وقناة (وَالْآصالِ) جمع أصل جمع أصيل ، قيل ظلّ كلّ شيء يسجد لله بالغدوّ والآصال ، فظلّ (٤) الكافر يسجد كرها وهو كاره ، وظلّ المؤمن يسجد طوعا وهو طائع.

١٦ ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) حكاية لاعترافهم لأنه إذا قال لهم من ربّ السماوات والأرض لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا : الله ، دليله قراءة ابن مسعود وأبيّ قالوا الله ، أو هو تلقين أي فإن لم يجيبوا فلقّنهم فإنه لا جواب إلّا هذا (قُلْ

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بحلول.

(٢) في (ظ) : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) والالهة التي يدعونهم الكفار (مِنْ دُونِهِ) وفي (ز) والالهة الذين يدعوهم الكفار.

(٣) في (ظ) و (ز) ببالغ.

(٤) في (ظ) و (ز) وظل. تفسير النسفي ج ٢ / م ٢٣

٣٥٣

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧)

(أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أبعد أن علمتموه ربّ السماوات والأرض اتخذتم من دونه آلهة (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا ضررا عنها ، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟ وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب فما أبين ضلالتكم (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الكافر والمؤمن ، أو من لا يبصر شيئا ومن لا يخفى عليه شيء (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) ملل الكفر والإيمان. يستوي كوفي غير حفص (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) بل أجعلوا ، ومعنى الهمزة الإنكار (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) خلقوا مثل خلقه ، وهو صفة لشركاء ، أي أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) فاشتبه عليهم مخلوق الله بمخلوق الشركاء حتى يقولوا قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه فاستحقوا العبادة فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد ، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي خالق الأجسام والأعراض لا خالق غير الله ، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق فلا يكون له شريك في العبادة ، ومن قال إنّ الله لم يخلق أفعال الخلق وهم خلقوها فتشابه الخلق على قولهم (وَهُوَ الْواحِدُ) المتوحّد بالربوبية (الْقَهَّارُ) لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور.

١٧ ـ (أَنْزَلَ) أي الواحد القهار وهو الله سبحانه (مِنَ السَّماءِ) من السحاب (ماءً) مطرا (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) جمع واد وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة ، وإنما نكّر لأنّ المطر لا يأتي إلّا على طريق المناوبة بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض (بِقَدَرِها) بمقدارها الذي علم الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ) أي رفع (زَبَداً) هو ما على وجه الماء (١) من الرغوة ، والمعنى علاه زبد (رابِياً) منتفخا مرتفعا على وجه السيل (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ) (٢) وبالياء كوفي غير أبي بكر ، ومن لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، أو للتبعيض أي وبعضه زبد (فِي النَّارِ) حال من الضمير في عليه ، أي ومما توقدون عليه ثابتا في النار

__________________

(١) في (ظ) و (ز) ماء على وجه الماء.

(٢) في مصحف النسفي توقدون.

٣٥٤

(ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) مبتغين حلية فهو مصدر في موضع الحال من الضمير في توقدون (أَوْ مَتاعٍ) من الحديد والنّحاس والرّصاص يتّخذ منها الأواني وما يتمتّع به في الحضر والسفر ، وهو معطوف على حلية أي زينة من الذهب والفضة (زَبَدٌ) خبث وهو مبتدأ (مِثْلُهُ) نعت له ، ومما توقدون خبر له أي لهذه الفلزّات إذا أغليت زبد مثل زبد الماء (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي مثل الحقّ والباطل (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) حال ، أي متلاشيا وهو ما تقذفه القدر عند الغليان والبحر عند الطغيان ، والجفء الرمي ، وجفأت الرجل صرعته (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء والحليّ والأواني (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فيثبت الماء في العيون والآبار والحبوب والثمار ، وكذلك الجواهر تبقى في الأرض مدة طويلة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ليظهر الحقّ من الباطل ، وقيل هذا مثل ضربه الله للحقّ وأهله والباطل وحزبه ، فمثّل الحقّ وأهله بالماء الذي ينزله (١) من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع (٢) المنافع وبالفلزّ الذي ينتفعون به في صوغ الحليّ منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة وإن ذلك (٣) ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا ، يثبت الماء في منافعه وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة ، وشبّه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله بزبد السيل الذي يرمي به ، وبزبد الفلزّ الذي يطفو فوقه إذا أذيب وقال الجمهور : وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والقلوب والحقّ والباطل ، فالماء القرآن نزل لحياة الجنان كالماء للأبدان ، والأودية للقلوب ، ومعنى بقدرها سعة القلب وضيقه ، والزبد هواجس النفس ووساوس الشيطان ، والماء الصافي المنتفع به مثل الحقّ ، فكما يذهب الزبد باطلا ويبقى صفو الماء كذلك تذهب هواجس النفس ووساوس الشيطان ويبقى الحقّ كما هو ، وأما حلية الذهب والفضة فمثل للأحوال السنية والأخلاق الزكية ، وأما متاع الحديد والنّحاس والرّصاص فمثل للأعمال الممدّة بالإخلاص المعدّة للخلاص ، فإنّ الأعمال جالبة للثواب دافعة للعقاب ، كما أنّ تلك الجواهر بعضها أداة النفع في الكسب (٤) وبعضها آلة الدفع في الحرب ، وأما الزبد فالرياء والخلل (٥) والملل والكسل.

__________________

(١) في (ز) ينزل.

(٢) في (ز) بأنواع.

(٣) في (ز) المختلفات وذلك.

(٤) في (ظ) و (ز) للكسب.

(٥) الخلل : الفساد في الأمر.

٣٥٥

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (٢٠)

١٨ ـ واللام في (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) أي أجابوا متعلقة بيضرب ، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا (لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) وهي صفة لمصدر استجابوا ، أي استجابوا الاستجابة الحسنى (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) أي وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، أي هما مثلا الفريقين ، وقوله (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين أي لو ملكوا أموال الدنيا وملكوا معها مثلها لبذلوه ليدفعوا عن أنفسهم عذاب الله ، والوجه أنّ الكلام قد تمّ على الأمثال ، وما بعده كلام مستأنف ، والحسنى مبتدأ خبره للذين استجابوا ، والمعنى لهم المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره لو مع ما في حيزه (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) المناقشة فيه ، في الحديث : (من نوقش الحساب عذّب) (١) (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ومرجعهم بعد المحاسبة النار (وَبِئْسَ الْمِهادُ) المكان الممهد والمذموم ، محذوف أي جهنم.

١٩ ـ دخلت همزة الإنكار على الفاء في (أَفَمَنْ يَعْلَمُ) لإنكار أن تقع شبهة ما بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم (أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فاستجاب بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر ، فيستجيب ، وهو المراد بقوله (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي الذين عملوا على قضايا عقولهم فنظروا واستبصروا.

٢٠ ـ (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) مبتدأ والخبر أولئك لهم عقبى الدار ، كقوله : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ ... أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) وقيل هو صفة لأولي الألباب ، والأول أوجه ، وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٢) (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ما وثّقوه (٣) على أنفسهم

__________________

(١) كنز العمال ١٤ / ٣٨٩٧٦ ، أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٢) الأعراف ، ٧ / ١٧٢.

(٣) في (ظ) و (ز) أوثقوه.

٣٥٦

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) (٢٣)

وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد تعميم بعد تخصيص.

٢١ ـ (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الأرحام والقرابات ، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان ، إنما المؤمنون إخوة بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ونصرتهم والذّبّ عنهم والشفقة عليهم وإفشاء السلام عليهم وعيادة مرضاهم ، ومنه مراعاة حقّ الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي وعيده كلّه (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

٢٢ ـ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا) مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاقّ التكاليف (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل وأوقره عند الزلازل ولا لئلا يعاب في الجزع (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) داوموا على إقامتها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي من الحلال وإن كان الحرام رزقا عندنا (سِرًّا وَعَلانِيَةً) يتناول النوافل لأنها في السرّ أفضل ، والفرائض لأن المجاهرة بها أفضل نفيا للتهمة (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرهم ، أو إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا ، وإذا أذنبوا تابوا ، وإذا هربوا أنابوا ، وإذا رأوا منكرا أمروا بتغييره ، فهذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة الدنيا وهي الجنة ، لأنها التي أرادها الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها.

٢٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى الدار (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ) أي آمن (مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) وقرئ صلح والفتح أفصح ، ومن في محل الرفع بالعطف على الضمير في يدخلونها ، وساغ ذلك وإن لم يؤكد لأنّ ضمير المفعول صار فاصلا ، وأجاز الزّجّاج أن يكون مفعولا معه ، ووصفهم بالصلاح ليعلم أنّ الأنساب لا تنفع بنفسها ، والمراد أبوا كلّ واحد منهم ، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ

٣٥٧

سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٢٧)

(عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) في قدر كلّ يوم وليلة ثلاث مرات بالهدايا وبشارة (١) الرضا.

٢٤ ـ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) في موضع الحال ، إذ المعنى قائلين سلام عليكم ، أو مسلّمين (بِما صَبَرْتُمْ) متعلق بمحذوف تقديره هذا بما صبرتم ، أي هذا الثواب بسبب صبركم عن الشهوات ، أو على أوامر (٢) الله ، أو بسلام أي نسلّم عليكم ونكرّمكم بصبركم ، والأول أوجه (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الجنات.

٢٥ ـ (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالكفر والظلم (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) الإبعاد من الرحمة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا ، لأنه في مقابلة عقبى الدار ، وأن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها.

٢٦ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي ويضيّق لمن يشاء ، والمعنى الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره (٣) دون غيره (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يؤجروا بنعيم الآخرة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) وخفي عليهم أنّ نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلّا شيئا نزرا يتمتع به كعجلة الراكب ، وهو ما يتعجّله من تميرات أو شربة سويق.

٢٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي الآية المقترحة (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ويرشد إلى دينه من رجع إليه بقلبه.

__________________

(١) في (ز) بشارات.

(٢) في (ظ) و (ز) على أمر الله.

(٣) في (ز) ويقدر.

٣٥٨

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١)

٢٨ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا) هم الذين ، أو محله النصب بدل من من (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) تسكن (بِذِكْرِ اللهِ) على الدوام ، أو بالقرآن ، أو بوعده (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) بسبب ذكره تطمئن قلوب المؤمنين.

٢٩ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدأ (طُوبى لَهُمْ) خبره ، وهو مصدر من طاب كبشرى ، ومعنى طوبى لك أصبت خيرا وطيبا ، ومحلّها النصب أو الرفع ، كقولك طيبا لك وطيب لك وسلاما لك وسلام لك ، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك ، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها كموقن ، والقراءة في (وَحُسْنُ مَآبٍ) مرجع. بالرفع والنصب تدلّ على محلّيها.

٣٠ ـ (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) مثل ذلك الإرسال أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات ، ثم فسّر كيف أرسله فقال (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) أي أرسلناك في أمة تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك (وَهُمْ يَكْفُرُونَ) وحال هؤلاء أنهم يكفرون (بِالرَّحْمنِ) بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كلّ شيء (قُلْ هُوَ رَبِّي) وربّ كلّ شيء (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هو ربّي الواحد المتعالي عن الشركاء (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في نصرتي عليكم (وَإِلَيْهِ مَتابِ) مرجعي فيثيبني على مصابرتكم. متابي وعقابي (١) ومآبي في الحالين يعقوب.

٣١ ـ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) عن مقارّها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ)

__________________

(١) متابي أي الكلمة الأخيرة في الآية رقم ٣٠ وعقابي الكلمة الأخيرة في الآية ٣٢ ومآبي الكلمة الأخيرة في الآية ٣٦.

٣٥٩

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٣٢)

حتى تتصدع وتتزايل قطعا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف ، فجواب لو محذوف ، أو معناه ولو أنّ قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم (١) لما آمنوا به ولما تنبّهوا عليه كقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) (٢) الآية (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) بل لله القدرة على كلّ شيء ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أفلم يعلم ، وهي لغة قوم من النخع (٣) ، وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمّنه معناه ، لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل النسيان في معنى الترك لتضمن ذلك ، دليله قراءة عليّ رضي الله عنه أفلم يتبين ، وقيل إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوي السنّات (٤) وهذه والله فرية ما فيها مرية (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من كفرهم وسوء أعمالهم (قارِعَةٌ) داهية تقرعهم بما يحلّ الله بهم في كلّ وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أو تحلّ القارعة قريبا منهم فيفزعون ويتطاير عليهم شررها ويتعدى إليهم شرورها (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) أي موتهم ، أو القيامة ، أو ولا يزال كفار مكّة تصيبهم بما صنعوا برسول الله من العداوة والتكذيب قارعة لأنّ جيش رسول الله يغير حول مكة ويختطف منهم ، أو تحلّ أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله أي فتح مكة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي لا خلف في موعده.

٣٢ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الإملاء الإمهال ، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله استهزاء به ، وتسلية له.

__________________

(١) في (ظ) وتنبئهم ، وفي (ز) وتنبيئهم.

(٢) الأنعام ، ٦ / ١١١.

(٣) النّخع : قبيلة من العرب نزلت الكوفة ومنها انتشر ذكرهم ، وهو جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد ، سمي النّخع لأنه ذهب عن قومه (الأنساب ٥ / ٤٧٣).

(٤) في (ظ) النسيان ، وهو تصحيف السينات ، وفي (ز) السنات.

٣٦٠