تفسير النسفي - ج ٢

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) (٣٥)

٣٣ ـ (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) احتجاج عليهم في إشراكهم بالله ، يعني أفالله الذي هو رقيب (عَلى كُلِّ نَفْسٍ) صالحة أو طالحة (بِما كَسَبَتْ) يعلم خيره وشرّه ويعدّ لكلّ جزاءه كمن ليس كذلك ، ثم استأنف فقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) أي الأصنام (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي سمّوهم له من هم ونبّئوه بأسمائهم ، ثم قال (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) على أم المنقطعة ، أي بل أتنبئونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السماوات والأرض ، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء ، والمراد نفي أن يكون له شركاء (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة كقوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) (١) (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) (٢) (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) كيدهم للإسلام بشركهم (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) عن سبيل الله ، بضم الصاد كوفي وبفتحها غيرهم ، ومعناه وصدّوا المسلمين عن سبيل الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) من أحد يقدر على هدايته.

٣٤ ـ (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والأسر وأنواع المحن (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) أشدّ لدوامه (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) من حافظ من عذابه.

٣٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفاعه بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، أو الخبر (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) كما تقول صفة زيد أسمر (أُكُلُها دائِمٌ) ثمرها دائم الوجود لا ينقطع (وَظِلُّها) دائم لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي الجنة الموصوفة عقبى تقواهم ، يعني منتهى أمرهم (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ).

__________________

(١) التوبة ، ٩ / ٣٠.

(٢) يوسف ، ١٢ / ٤٠.

٣٦١

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٣٨)

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد من أسلم من اليهود كابن سلام ونحوه ، ومن النصارى بأرض الحبشة (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب وأشياعهما (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم ، وكانوا ينكرون نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) هو جواب للمنكرين ، أي قل إنما أمرت فيما أنزل إليّ بأن أعبد الله ولا أشرك به ، فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده ، فانظروا ماذا تنكرون مع إدعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به (إِلَيْهِ أَدْعُوا) خصوصا لا أدعو إلى غيره (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره (مَآبِ) مرجعي وأنتم تقولون مثل ذلك ، فلا معنى لإنكاركم.

٣٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأمورا فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه والإنذار بدار الجزاء (حُكْماً عَرَبِيًّا) حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ، وانتصابه على الحال ، كانوا يدعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أمور يشاركهم فيها ، فقيل (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي بعد ثبوت العلم بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) أي لا ينصرك ناصر ولا يقيك منه واق ، وهذا من باب التهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين ، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجّة وإلا فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شدة الثبات بمكان.

وكانوا يعيبونه بالزواج والولاد ويقترحون عليه الآيات وينكرون النّسخ ، فنزل :

٣٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) نساءا وأولادا (وَما

٣٦٢

يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤١)

(كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي ليس في وسعه (١) إتيان الآيات على ما يقترحه قومه ، وإنما ذلك إلى الله (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكلّ وقت حكم يكتب على العباد ، أي يفرض عليهم على ما تقتضيه حكمته.

٣٩ ـ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ينسخ ما يشاء نسخه (وَيُثْبِتُ) بدله ، ما يشاء ، أو يتركه غير منسوخ ، أو يمحو من ديوان الحفظة ما يشاء ويثبت غيره ، أو يمحو كفر التائبين ويثبت إيمانهم ، أو يميت من حان أجله وعكسه ، ويثبّت مدني وشامي وحمزة وعليّ (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل كلّ كتاب وهو اللوح المحفوظ لأنّ كلّ كائن مكتوب فيه.

٤٠ ـ (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم ، أو توفيناك قبل ذلك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) فما يجب عليك إلّا تبليغ الرسالة فحسب (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) وعلينا حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم لا عليك فلا يهمنّك إعراضهم ولا تستعجل بعذابهم.

٤١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض الكفرة (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بما نفتح على المسلمين من بلادهم فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام وذلك من آيات النصرة والغلبة ، والمعنى عليك البلاغ الذي حملته ولا تهتم بما وراء ذلك ، فنحن نكفيكه ونتمّ ما وعدناك من النّصرة والظفر (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ لحكمه ، والمعقب الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يعقبه ، أي يقفيه ، أي بالردّ والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب ، والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس ، ومحلّ لا معقب لحكمه النصب على الحال ، كأنه قيل والله يحكم نافذا حكمه ، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة له تريد حاسرا (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا.

__________________

(١) من هنا إلى الآية رقم ٣٥ من سورة الحجر نقص في (أ) مع أن أرقام الصفحات مسلسلة ، فاكتفي بالمقابلة بين (ظ) و (ز).

٣٦٣

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣)

٤٢ ـ (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كفار الأمم الخالية بأنبيائهم ، والمكر إرادة المكروه في خفية ، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) ثم فسّر ذلك بقوله (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) يعني العاقبة المحمودة لأنّ من علم ما تكسب كلّ نفس وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كلّه ، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة عما يراد بهم ، الكافر على إرادة الجنس حجازي وأبو عمرو.

٤٣ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) المراد بهم كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود قالوا : لست مرسلا ، ولهذا قال عطاء : هي مكية إلّا هذه الآية (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بما أظهر من الأدلة على رسالتي ، والباء دخلت على الفاعل ، وشهيدا تمييز (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قيل هو الله عزوجل ، والكتاب : اللوح المحفوظ دليله قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب أي ومن لدنه علم الكتاب : لأن علم من علمه من فضله ولطفه ، وقيل ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم ، وقال ابن سلام : فيّ نزلت هذه الآية ، وقيل هو جبريل عليه‌السلام ، ومن في موضع الجرّ بالعطف على لفظ الله ، أو في موضع الرفع بالعطف على محلّ الجارّ والمجرور إذ التقدير كفى الله وعلم الكتاب ، يرتفع بالمقدر في الظرف فيكون فاعلا لأنّ الظرف صلة لمن ، ومن هنا بمعنى الذي ، والتقدير من ثبت عنده علم الكتاب ، وهذا لأنّ الظرف إذا وقع صلة يعمل عمل الفعل نحو مررت بالذي في الدار أخوه ، فأخوه فاعل ، كما تقول بالذي استقرّ في الدار أخوه ، وفي القراءة بكسر ميم من يرتفع العلم بالابتداء.

٣٦٤

سورة إبراهيم عليه‌السلام

مكية وهي اثنتان وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٣)

١ ـ (الر كِتابٌ) هو خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا كتاب يعني السورة والجملة التي هي (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) في موضع الرفع صفة للنكرة (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) بدعائك إياهم (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من الضلالة إلى الهدى (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بتيسيره وتسهيله ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب ، وذلك ما يمنحهم من التوفيق (إِلى صِراطِ) بدل من النور بتكرير العامل (الْعَزِيزِ) الغالب بالانتقام (الْحَمِيدِ) المحمود على الإنعام.

٢ ـ (اللهِ) بالرفع مدني وشامي على هو الله ، وبالجر غيرهما على أنه عطف بيان للعزيز الحميد (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا ، ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعّد الكافرين بالويل ، وهو نقيض الوأل وهو النجاة ، وهو اسم معنى كالهلاك ، فقال (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) وهو مبتدأ وخبر ، وصفة.

٣ ـ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ) يختارون ويؤثرون (الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ

٣٦٥

وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥)

(عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دينه (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يطلبون لسبيل الله زيغا واعوجاجا ، والأصل ويبغون لها فحذف الجارّ وأوصل الفعل. الذين مبتدأ خبره (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحقّ ، ووصف الضلال بالبعد من الإسناد المجازي والبعد في الحقيقة للضالّ (١) ، لأنه هو الذي يتباعد عن طريق الحقّ فوصف به فعله ، كما تقول جدّ جدّه ، أو مجرور صفة للكافرين ، أو منصوب على الذم ، أو مرفوع على أعني الذين ، أو هم الذين.

٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) إلّا متكلما بلغتهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ما هو مبعوث به وله ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولون له : لم نفهم ما خوطبنا به ، فإن قلت إنّ رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الناس جميعا بقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٢) بل إلى الثقلين ، وهم على ألسنة مختلفة ، فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة ، قلت : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة ، أو بواحد منها فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل ، فتعين أن ينزل بلسان واحد ، وكان لسان قومه أولى بالتعيين لأنهم أقرب إليه ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) من آثر سبب الضلال (٣) (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من آثر سبب الاهتداء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يغالب على مشيئته (الْحَكِيمُ) فلا يخذل إلّا أهل الخذلان.

٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) التسع (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) بأن أخرج ، أو أي أخرج ، لأنّ الإرسال فيه معنى القول ؛ كأنه قيل أرسلناه وقلنا له أخرج قومك (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم ، قوم نوح وعاد وثمود ، ومنه أيام العرب لحروبها

__________________

(١) في (ظ) للضلال.

(٢) الأعراف ، ٧ / ١٥٨.

(٣) في (ظ) الضلالة.

٣٦٦

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٧)

وملاحمها ، أو بأيام الإنعام حيث ظلّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وفلق لهم البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على البلايا (شَكُورٍ) على العطايا ، كأنه قال لكلّ مؤمن ، إذ الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.

٦ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) إذ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أي إنعامه عليكم ذلك الوقت ، أو بدل اشتمال من نعمة الله ، أي اذكروا وقت إنجائكم (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) ذكر في البقرة يذبحون وفي الأعراف يقتلون بلا واو وهنا مع الواو ، والحاصل أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيرا للعذاب وبيانا له وحيث أثبت الواو جعل التذبيح من حيث إنه زاد على جنس العذاب كأنه جنس آخر (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) الإشارة إلى العذاب والبلاء المحنة أو إلى الإنجاء والبلاء النعمة (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (١).

٧ ـ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي آذن ، ونظير تأذّن وآذن توعّد وأوعد ، ولا بد في تفعّل من زيادة معنى ليس في أفعل ، كأنه قيل وإذ آذن ربّكم إيذانا بليغا تنتفي عنده الشكوك والشّبه ، وهو من جملة ما قال موسى لقومه ، وانتصابه للعطف على نعمة الله عليكم ، كأنه قيل وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذّن ربّكم ، والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) يا بني إسرائيل ما خوّلتكم من نعمة الإنجاء وغيرها (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة إلى نعمة ، فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود ، وقيل إذا سمعت النعمة نغمة الشكر تأهبت للمزيد ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لئن شكرتم بالجدّ في الطاعة لأزيدنّكم بالجدّ في المثوبة (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) ما أنعمت به عليكم (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) لمن كفر نعمتي ، أما في الدنيا فسلب النّعم وأمّا في العقبى فتوالي النّقم.

__________________

(١) الأنبياء ، ٢١ / ٣٥.

٣٦٧

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٠)

٨ ـ (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ) يا بني إسرائيل (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) والناس كلّهم (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن شكركم (حَمِيدٌ) وإن لم يحمده الحامدون ، وأنتم ضررتم أنفسكم حيث حرمتموها الخير الذي لا بدّ لكم منه.

٩ ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) من كلام موسى لقومه ، أو ابتداء خطاب لأهل عصر محمد عليه‌السلام (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضا ، أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح ، ولا يعلمهم إلّا الله اعتراض ، المعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلّا الله ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون ، وروي أنه عليه‌السلام قال عند نزول هذه الآية : (كذب النسابون) (١) (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) الضميران يعودان إلى الكفرة ، أي أخذوا أناملهم بأسنانهم تعجبا ، أو عضّوا عليها تغيّظا ، أو الثاني يعود إلى الأنبياء ، أي ردّ القوم أيديهم في أفواه الرسل كيلا يتكلموا بما أرسلوا به (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من الإيمان بالله والتوحيد (مُرِيبٍ) موقع في الريبة.

١٠ ـ (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأنّ الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه وأنه لا يحتمل الشكّ لظهور الأدلة ، وهو جواب قولهم وإنّا لفي شك (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) إذا آمنتم ولم تجئ مع من إلّا في خطاب الكافرين كقوله : (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ* يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (٢) (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ

__________________

(١) كنز العمال ٧ / ١٨٤٥٥. ١٠ / ٢٩١٥٧.

(٢) نوح ، ٧١ / ٣ ـ ٤.

٣٦٨

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢)

(وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (١) وقال في خطاب المؤمنين : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) إلى أن قال (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (٢) وغير ذلك مما يعرف بالاستقراء ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوّى بين الفريقين في الميعاد (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت قد سماه وبيّن مقداره (قالُوا) أي القوم (إِنْ أَنْتُمْ) ما أنتم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) لا فضل بيننا وبينكم ولا فضل لكم علينا فلم تخصّون بالنبوة دوننا؟ (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) يعني الأصنام (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجّة بينة ، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتا ولجاجا.

١١ ـ (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) تسليم لقولهم إنهم بشر مثلهم (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بالإيمان والنبوّة كما منّ علينا (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) جواب لقولهم فأتونا بسلطان مبين ، والمعنى أنّ الإتيان بالآية التي قد اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا ، وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكّل ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا ، كأنهم قالوا ومن حقّنا أن نتوكّل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وإيذائكم ، ألا ترى إلى قوله :

١٢ ـ (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) معناه وأيّ عذر لنا في أن لا نتوكّل عليه (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) وقد فعل بنا ما يوجب توكّلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كلّ منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين ، قال أبو تراب (٣) : التوكّل طرح البدن في العبودية ، وتعلّق القلب بالربوبية ، والشكر عند العطاء ، والصبر عند البلاء (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) جواب قسم مضمر ، أي حلفوا على الصبر على أذاهم وأن لا يمسكوا عن دعائهم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي فليثبت المتوكلون على

__________________

(١) الأحقاف ، ٤٦ / ٣١.

(٢) الصف ، ٦١ / ١٠ ـ ١٢.

(٣) أبو تراب هو الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، مرت ترجمته في ٣ / ١٤٩. تفسير النسفي ج ٢ / م ٢٤

٣٦٩

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) (١٦)

توكّلهم حتى لا يكون تكرارا.

١٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) سبلنا لرسلهم أبو عمرو (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) من ديارنا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي ليكوننّ أحد الأمرين إخراجكم أو عودكم ، وحلفوا على ذلك ، والعود بمعنى الصيرورة ، وهو كثير في كلام العرب ، أو خاطبوا به كلّ رسول ومن آمن معه ، فغلّبوا في الخطاب الجماعة على الواحد (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) القول مضمر ، أو أجري الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه.

١٤ ـ (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي أرض الظالمين وديارهم. في الحديث : (من آذى جاره ورثه الله داره) (١) (ذلِكَ) الإهلاك والإسكان ، أي ذلك الأمر حقّ (لِمَنْ خافَ مَقامِي) موقفي ، وهو موقف الحساب ، أو المقام مقحم ، أو خاف قيامي عليه بالعلم ، كقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٢) والمعنى أنّ ذلك حقّ للمتقين (وَخافَ وَعِيدِ) عذابي ، وبالياء يعقوب.

١٥ ـ (وَاسْتَفْتَحُوا) واستنصروا الله على أعدائهم ، وهو معطوف على أوحى إليهم (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ) وخسر كلّ متكبر بطر (عَنِيدٍ) مجانب للحق ، معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا وخاب كلّ جبار عنيد ، وهم قومهم ، وقيل الضمير للكفار ومعناه واستفتح الكفار على الرسل ظنا منهم بأنهم على الحقّ والرسل على الباطل وخاب كلّ جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه.

١٦ ـ (مِنْ وَرائِهِ) من بين يديه (جَهَنَّمُ) وهذا وصف حاله وهو في الدنيا ، لأنه مرصدلجهنم ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها ، أو وصف حاله في الآخرة حيث يبعث ويوقف (وَيُسْقى) معطوف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) ما يسيل من جلود أهل النار ، وصديد عطف بيان

__________________

(١) قال ابن حجر : لم أجده.

(٢) الرعد ، ١٣ / ٣٣.

٣٧٠

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٩)

لماء لأنه مبهم فبين بقوله صديد.

١٧ ـ (يَتَجَرَّعُهُ) يشربه جرعة جرعة (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة ، كقوله : (لَمْ يَكَدْ يَراها) (١) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي أسباب الموت من كلّ جهة ، أو من كلّ مكان من جسده ، وهذا تفظيع لما يصيبه من الآلام ، أي لو كان ثمة موت لكان كلّ واحد منها مهلكا (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) لأنه لو مات لاستراح (وَمِنْ وَرائِهِ) ومن بين يديه (عَذابٌ غَلِيظٌ) أي في كلّ وقت يستقبله يتلقى عذابا أشدّ مما قبله وأغلظ ، وعن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد.

١٨ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ) مبتدأ محذوف الخبر ، أي فيما يتلى عليكم مثل الذين (كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة ، وقوله (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم؟ فقيل : أعمالهم كرماد (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) الرياح مدني (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) جعل العصف لليوم ، وهو لما فيه ، وهو الريح كقولك. يوم ماطر ، وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسرى وعقر الإبل للأضياف وغير ذلك ، شبهها في حبوطها لبنائها على غير أساس وهو الإيمان بالله تعالى برماد طيّرته الريح العاصف (لا يَقْدِرُونَ) يوم القيامة (مِمَّا كَسَبُوا) من أعمالهم (عَلى شَيْءٍ) أي لا يرون له أثرا من ثواب كما لا يقدر من المراد المطيّر في الريح على شيء (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحقّ ، أو عن الثواب.

١٩ ـ (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم الخطاب لكلّ أحد (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) خالق مضافا حمزة وعليّ (بِالْحَقِ) بالحكمة والأمر العظيم ولم يخلقها عبثا (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق

__________________

(١) النور ، ٢٤ / ٤٠.

٣٧١

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١)

مكانهم خلقا آخر على شكلهم ، أو على خلاف شكلهم إعلاما بأنه قادر على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم.

٢٠ ـ (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذر.

٢١ ـ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) ويبرزون يوم القيامة وإنما جيء به بلفظ الماضي لأنّ ما أخبر به عزوجل لصدقه كأنه قد كان ووجد ، ونحوه (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (١) (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) (٢) وغير ذلك ، ومعنى بروزهم لله والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أنّ ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أنّ الله لا تخفى عليه خافية ، أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه (فَقالَ الضُّعَفاءُ) في الرأي ، وهم السفلة والأتباع ، وكتب (٣) بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم السادة والرؤساء الذين استغووهم وصدّوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) تابعين ، جمع تابع (٤) كخادم وخدم وغائب وغيّب ، أو ذوي تبع ، والتبع الاتباع يقال تبعه تبعا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فهل تقدرون على دفع شيء مما نحن فيه ، ومن الأولى للتبيين والثانية للتبعيض ، كأنه قيل فهل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله ، أو هما للتبعيض أي فهل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله (٥) ، ولما كان قول الضعفاء توبيخا لهم وعتابا على استغوائهم لأنهم علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم (قالُوا) لهم مجيبين معتذرين (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) أي لو هدانا الله إلى الإيمان في الدنيا لهديناكم إليه ، أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم ، أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) مستويان

__________________

(١) الأعراف ، ٧ / ٤٤.

(٢) الأعراف ، ٧ / ٥٠.

(٣) في (ز) وكتب الضعفاء.

(٤) في (ز) جمع تابع على تبع.

(٥) في (ظ) فهل أنتم مغنون عنا بعض شيء وهو بعض عذاب الله أي بعض بعض عذاب الله.

٣٧٢

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٢)

علينا الجزع والصبر ، والهمزة وأم للتسوية.

روي أنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع ، فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر ، ثم يقولون سواء علينا أجزعنا أم صبرنا.

واتصاله بما قبله من حيث إن عتابهم لهم كان جزعا مما هم فيه ، فقالوا لهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا يريدون أنفسهم وإياهم لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها ، يقولون ما هذا الجزع والتوبيخ ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) منجّى ومهرب جزعنا أم صبرنا ، ويجوز أن يكون هذا من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعا.

٢٢ ـ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) حكم بالجنة والنار لأهليهما وفرغ من الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، وروي أنّ الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا على منبر من نار فيقول لأهل النار (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفّى لكم بما وعدكم (وَوَعَدْتُكُمْ) بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء (فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) (١) من تسلط واقتدار (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) لكني دعوتكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني ، والاستثناء منقطع لأنّ الدعاء ليس من جنس السلطان (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) فأسرعتم إجابتي (فَلا تَلُومُونِي) لأنّ من تجرّد للعداوة لا يلام إذا دعا إلى أمر قبيح مع أنّ الرحمن قد قال لكم (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) (٢) (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) حيث اتبعتموني بلا حجة ولا برهان ، وقول المعتزلة هذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين باطل لقوله : لو هدانا الله ، أي إلى الإيمان لهديناكم كما مر (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) لا

__________________

(١) في (ز) : «فأخلقنكم» كذبتكم (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ).

(٢) الأعراف ، ٧ / ٢٧.

٣٧٣

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) (٢٤)

ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه ، والإصراخ الإغاثة ، بمصرخيّ حمزة اتباعا للخاء ، غيره بفتح الياء لئلا تجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين ، وهو جمع مصرخ ، فالياء الأولى ياء الجمع والثانية ضمير المتكلم (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ) وبالياء بصري وما مصدرية (مِنْ قَبْلُ) متعلق بأشركتموني ، أي كفرت اليوم بإشراككم إياي مع الله من قبل هذا اليوم ، أي في الدنيا كقوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) (١) ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرّؤه منه واستنكاره له ، كقوله : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) (٢) ومن قبل متعلق بكفرت ، وما موصولة أي كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عزوجل ، تقول أشركني فلان أي جعلني له شريكا ، ومعنى إشراكهم الشيطان بالله طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان ، وهذا آخر قول الشيطان ، وقوله (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قول الله عزوجل ، وقيل هو من تمام كلام إبليس ، وإنما حكى الله عزوجل ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون لطفا للسامعين.

٢٣ ـ (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) عطف على برزوا (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلق بأدخل ، أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) هو تسليم بعضهم على بعض في الجنة ، أو تسليم الملائكة عليهم.

٢٤ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي وضعه (٣) وبيّنه (كَلِمَةً طَيِّبَةً) نصب بمضمر ، أي جعل كلمة طيبة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهو تفسير لقوله ضرب الله مثلا ، نحو شرّف الأمير زيدا كساه حلّة وحمله على فرس ، أو انتصب مثلا وكلمة بضرب ، أي ضرب كلمة طيبة مثلا ، يعني جعلها مثلا ، ثم قال كشجرة طيبة على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي هي كشجرة طيبة (أَصْلُها ثابِتٌ) أي في الأرض ضارب بعروقه فيها (وَفَرْعُها) وأعلاها ورأسها (فِي السَّماءِ) والكلمة الطيبة كلمة التوحيد ،

__________________

(١) فاطر ، ٣٥ / ١٤.

(٢) الممتحنة ، ٦٠ / ٤.

(٣) في (ز) وصفه.

٣٧٤

(تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢٧)

أصلها تصديق بالجنان ، وفرعها إقرار باللسان ، وأكلها عمل الأركان ، وكما أنّ الشجرة شجرة وإن لم تكن حاملا ، فالمؤمن مؤمن وإن لم يكن عاملا ، ولكن الأشجار لا تراد إلا للثمار ، فما أقوات النار إلا من الأشجار إذا اعتادت الإخفار في عهد الأثمار ، والشجرة كلّ شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين ونحو ذلك ، والجمهور على أنها النخلة ، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات يوم : (إنّ الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي) فوقع الناس في شجر البوادي ، وكنت صبيا ، فوقع في قلبي أنها النخلة ، فهبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ألا إنها النخلة) فقال عمر : يا بني لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من حمر النّعم (١).

٢٥ ـ (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) تعطي ثمرها كلّ وقت وقّته الله لإثمارها (بِإِذْنِ رَبِّها) بتيسير خالقها وتكوينه (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأنّ في ضرب الأمثال زيادة أفهام وتذكير وتصوير للمعاني.

٢٦ ـ (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) هي كلمة الكفر (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) هي كلّ شجرة لا يطيب ثمرها ، وفي الحديث أنها شجرة الحنظل (٢) (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) استؤصلت جثتها ، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلّها ، وهو في مقابلة أصلها ثابت (ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي استقرار ، يقال قرّ الشيء قرارا كقولك ثبت ثبوتا ، شبّه بها القول الذي لا يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت.

٢٧ ـ (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يديمهم عليه (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلّوا (٣) ، كما ثبّت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك (وَفِي الْآخِرَةِ) الجمهور على

__________________

(١) متفق عليه وله ألفاظ.

(٢) رواه ابن جرير عن مجاهد.

(٣) في (ظ) لم يزالوا.

٣٧٥

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣١)

أنّ المراد به في القبر ، بتلقين الجواب ، وتمكين الصواب ، فعن البراء أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : (ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له من ربّك وما دينك ومن نبيّك؟ فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي ، فذلك قوله يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ، ثم يقول الملكان عشت سعيدا ومتّ حميدا نم نومة العروس) (١) (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) فلا يثبّتهم على القول الثابت في مواقف الفتن ، وتزلّ أقدامهم أول شيء ، وهم في الآخرة أضلّ وأزلّ (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) فلا اعتراض عليه في تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين.

٢٨ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) أي شكر نعمة الله (كُفْراً) لأنّ شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا ، فكأنهم غيّروا الشكر إلى الكفر وبدّلوه تبديلا ، وهم أهل مكة أكرمهم بمحمد (٢) عليه‌السلام فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) الذين تابعوهم على الكفر (دارَ الْبَوارِ) دار الهلاك.

٢٩ ـ (جَهَنَّمَ) عطف بيان (يَصْلَوْنَها) يدخلونها (وَبِئْسَ الْقَرارُ) وبئس المقرّ (٣) جهنم.

٣٠ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أمثالا في العبادة ، أو في التسمية (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) وبفتح الياء مكي وأبو عمرو (قُلْ تَمَتَّعُوا) في الدنيا ، والمراد به الخذلان والتّخلية ، وقال ذو النون : التمتع أن يقضي العبد ما استطاع من شهوته (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) مرجعكم إليها.

٣١ ـ (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) خصّهم بالإضافة إليه تشريفا (٤) (يُقِيمُوا الصَّلاةَ

__________________

(١) أخرجه أبو داود وأبو عوانة والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبي شيبة وأبو يعلى.

(٢) في (ظ) أكرمهم بنبيه محمد عليه‌السلام.

(٣) في (ظ) القرار.

(٤) زاد في (ز) وبسكون الياء شامي وحمزة وعلي والأعشى.

٣٧٦

اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤)

(وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) المقول محذوف لأنّ قل تقتضي مقولا وهو أقيموا ، وتقديره قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا ، يقيموا الصلاة وينفقوا ، وقيل إنه أمر وهو المقول ، والتقدير ليقيموا ولينفقوا فحذف اللام لدلالة قل عليه ، ولو قيل يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام لم يجز (سِرًّا وَعَلانِيَةً) انتصبا على الحال أي ذوي سرّ وعلانية ، يعني مسرّين ومعلنين ، أو على الظرف ، أي وقتي سرّ وعلانية ، أو على المصدر ، أي إنفاق سرّ وانفاق علانية ، والمعنى إخفاء التطوع وإعلان الواجب (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) أي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالّة ، والخلال المخالّة ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. بفتحهما مكي وبصري ، والباقون بالرفع والتنوين.

٣٢ ـ (اللهُ) مبتدأ (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) خبره (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) من السحاب مطرا (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) من الثمرات بيان للرزق ، أي أخرج به رزقا هو ثمرات ، أو من الثمرات مفعول أخرج ورزقا حال من المفعول (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ).

٣٣ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) دائمين ، وهو حال من الشمس والقمر ، أي يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم.

٣٤ ـ (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) من للتبعيض ، أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه ، أو وآتاكم من كلّ شيء سألتموه وما لم تسألوه ، فما موصوفة (١) والجملة صفة لها ، وحذفت الجملة الثانية لأنّ الباقي يدلّ على المحذوف كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٢) من كلّ عن أبي عمرو ، وما سألتموه نفي ومحلّه النصب على الحال ، أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، أو ما موصولة ، أي وآتاكم من كلّ ذلك ما

__________________

(١) في (ز) موصولة.

(٢) النحل ، ١٦ / ٨١.

٣٧٧

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧)

احتجتم إليه فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) لا تطيقوا عدّها وبلوغ آخرها ، هذا إذا أرادوا أن يعدّوها على الإجمال ، وأما التفصيل فلا يعلمه إلّا الله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) بظلم النعمة بإغفال شكرها (كَفَّارٌ) شديد الكفران لها ، أو ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع ، والإنسان للجنس فيتناول الإخبار بالظلم ، والكفران من يوجدان منه.

٣٥ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) واذكر إذ قال إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) أي البلد الحرام (آمِناً) ذا أمن ، والفرق بين هذه وبين ما في البقرة أنه قد سأل فيها أن يجعله من جملة البلدان التي يأمن أهلها ، وفي الثاني أن يخرجه من صفة الخوف إلى الأمن ، كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمنا (وَاجْنُبْنِي) وبعّدني ، أي ثبتني وأدمني على اجتناب عبادتها ، كما قال : (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (١) أي ثبّتنا على الإسلام (وَبَنِيَ) أراد بنيه من صلبه (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) من أن نعبد الأصنام.

٣٦ ـ (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) جعلن مضلّات على طريق التسبيب ، لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ فكأنهنّ أضللنهم (فَمَنْ تَبِعَنِي) على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي (وَمَنْ عَصانِي) فيما دون الشرك (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أو ومن عصاني عصيان شرك فإنك غفور رحيم إن تاب وآمن.

٣٧ ـ (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه (بِوادٍ) هو وادي مكة (٢) (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) لا يكون فيه شيء من زرع قط (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) هو بيت الله سمّي به لأنّ الله تعالى حرّم التعرض له ، والتهاون به ، وجعل ما حوله حرما لمكانه ، أو لأنه لم يزل ممنعا يهابه كلّ جبار ، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحلّ انتهاكها ، أو لأنه حرّم على الطّوفان أي منع منه ، كما سمي عتيقا لأنه أعتق منه (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) اللام متعلقة بأسكنت أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع إلّا

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ١٢٨.

(٢) في (ز) هو واد مكة.

٣٧٨

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٩)

ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرّم ويعمّروه بذكرك وعبادتك (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) أفئدة من أفئدة الناس ، ومن للتبعيض لما روي عن مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند ، أو للابتداء كقولك القلب مني سقيم تريد قلبي ، فكأنه قيل أفئدة ناس ، ونكّر (١) المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة ، لأنها في الآية نكرة ، ليتناول بعض الأفئدة (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) تسرع إليهم من البلاد الشاسعة وتطير نحوهم شوقا (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) مع سكناهم واديا ما فيه شيء منها بأن تجلب إليهم من البلاد الشاسعة (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات في واد ليس فيه شجر ولا ماء.

٣٨ ـ (رَبَّنا) النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله (إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) تعلم السرّ كما تعلم العلن (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) من كلام الله عزوجل تصديقا لإبراهيم عليه‌السلام ، أو من كلام إبراهيم ، ومن للاستغراق كأنه قيل وما يخفى على الله شيء ما.

٣٩ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) على بمعنى مع ، وهو في موضع الحال ، أي وهب لي وأنا كبير (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) روي أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة ، وروي أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين وإسحاق لتسعين ، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنّة بهبة الولد فيها أعظم ، لأنها حال وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النّعم ، ولأنّ الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) مجيب الدعاء ، من قولك سمع الملك كلام فلان إذا تلقاه بالإجابة والقبول ، ومنه سمع الله لمن حمده ، وكان قد دعا ربّه وسأله الولد ، فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢) فشكر الله ما أكرمه به من إجابته ، وإضافة السميع إلى الدعاء من إضافة الصفة إلى مفعولها ، وأصله لسميع الدعاء ، وقد ذكر سيبويه فعيلا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل كقولك هذا رحيم أباه.

__________________

(١) في (ز) ونكرت.

(٢) الصافات ، ٣٧ / ١٠٠.

٣٧٩

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣)

٤٠ ـ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وبعض ذريتي ، عطفا على المنصوب في اجعلني ، وإنما بعّض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذريته كفار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يزال من ولد إبراهيم ناس على الفطرة إلى أن تقوم الساعة (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) بالياء في الوصل والوقف مكي ، وافقه أبو عمرو وحمزة في الوصل ، الباقون بلا ياء ، أي استجب دعائي أو عبادتي وأعتزلكم وما تدعون من دون الله.

٤١ ـ (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) أي آدم وحواء ، أو قاله قبل النهي واليأس عن إيمان أبويه (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي يثبت ، أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسنادا مجازيا مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١).

٤٢ ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، والخطاب لغير الرسول عليه‌السلام ، وإن كان للرسول فالمراد تثبيته عليه‌السلام على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا كقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٢) وكما جاء في الأمر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (٣) وقيل المراد به الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون لا يخفى عليه منه شيء ، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٤) (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) أي عقوبتهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى.

٤٣ ـ (مُهْطِعِينَ) مسرعين إلى الداعي (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) صفر من الخير ، لا تعي شيئا من الخوف ، والهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام فوصف به ،

__________________

(١) يوسف ، ١٢ / ٨٢.

(٢) القصص ، ٢٨ / ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) النساء ، ٤ / ١٣٦.

(٤) البقرة ، ٢ / ٢٨٣.

٣٨٠