تفسير النسفي - ج ٢

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩)

أعناقهم ، فقال عليه‌السلام : (مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم) حيث قال : (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ومثلك يا عمر كمثل نوح حيث قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢) ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم : (إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم) فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد (٣) ، فلما أخذوا الفداء نزلت الآية : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) متاعها يعني الفداء سماه عرضا لقلّة بقائه وسرعة فنائه (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل (وَاللهُ عَزِيزٌ) يقهر الأعداء (حَكِيمٌ) في عتاب الأولياء.

٦٨ ـ (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ) لو لا حكم من الله (سَبَقَ) أن لا يعذب أحدا على العمل بالاجتهاد ، وكان هذا اجتهادا منهم ، لأنهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم ، وأنّ فداءهم يتقوّى به على الجهاد ، وخفي عليهم أنّ قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم ، أو ما كتب الله في اللوح أن لا يعذب أهل بدر ، أو ألا يؤاخذ قبل البيان والإعذار ، وفيما ذكر من الاستشارة دلالة على جواز الاجتهاد فيكون حجة على منكري القياس. كتاب مبتدأ ومن الله صفته ، أي لو لا كتاب ثابت من الله ، وسبق صفة أخرى له ، وخبر المبتدأ محذوف ، أي لو لا كتاب بهذه الصفة في الوجود ، وسبق لا يجوز أن يكون خبرا لأنّ لو لا لا يظهر خبرها أبدا (لَمَسَّكُمْ) لنالكم وأصابكم (فِيما أَخَذْتُمْ) من فداء الأسرى (عَذابٌ عَظِيمٌ) روي أنّ عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان ، فقال يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت ، فقال : (أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة) (٤) لشجرة قريبة منه. وروي أنه عليه‌السلام قال : (لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ) (٥) لقوله كان الإثخان في القتل أحبّ إليّ.

٦٩ ـ (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) روي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم

__________________

(١) إبراهيم ، ١٤ / ٣٦.

(٢) نوح ، ٧١ / ٢٦.

(٣) رواه مسلم عن ابن عباس عن عمر في حديث طويل.

(٤) رواه أحمد والطبري من حديث عبد الله.

(٥) الطبري من طريق ابن إسحاق.

١٦١

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧١)

إليها ، فنزلت ، وقيل هو إباحة للفداء لأنه من جملة الغنائم ، والفاء للتسبيب ، والسبب محذوف ومعناه قد أحللت لكم الغنائم فكلوا (حَلالاً) مطلقا عن العتاب والعقاب ، من حلّ العقال ، وهو نصب على الحال من المغنوم ، أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا (طَيِّباً) لذيذا هنيئا ، أو حلالا بالشرع طيبا بالطبع (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تقدموا على شىء لم يعهد إليكم فيه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فعلتم من قبل (رَحِيمٌ) بإحلال ما غنمتم.

٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ) في ملكتكم كأن أيديكم قابضة عليهم (مِنَ الْأَسْرى) جمع أسير ، من الأسارى أبو عمرو وجمع أسرى (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) خلوص إيمان وصحة نية (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه أو يثيبكم في الآخرة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) روي أنه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال البحرين ثمانون ألفا ، فتوضأ لصلاة الظهر ، وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ، فأخذ منه ما قدر على حمله ، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة (١) ، وكان له عشرون عبدا وإنّ أدناهم ليتّجر في عشرين ألفا ، وكان يقول : أنجز الله أحد الوعدين وأنا على ثقة من الآخر.

٧١ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا) أي الأسرى (خِيانَتَكَ) نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالرّدّة أو منع ما ضمنوا (٢) من الفداء (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) في كفرهم به ونقض ما أخذ على كلّ عاقل من ميثاقه (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) فأمكنك منهم ، أي أظفرك بهم كما رأيتم يوم بدر ، فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة (٣) (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمآل (حَكِيمٌ) فيما أمر في الحال.

__________________

(١) رواه الطبري عن قتادة.

(٢) في (ز) ضمنوه.

(٣) في (ز) إن عادوا إلى الخيانة.

١٦٢

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣)

٧٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) من مكّة حبا لله ورسوله (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) هم المهاجرون (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) أي آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يتولى بعضهم بعضا في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة وبالنّصرة دون ذوي القرابات حتى نسخ ذلك بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (١) وقيل أراد به النّصرة والمعاونة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) من مكة (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ) من توليهم في الميراث. ولايتهم حمزة ، وقيل هما واحد (مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) فكان لا يرث المؤمن الذي لم يهاجر ممن آمن وهاجر ، ولما أبقى للذين لم يهاجروا اسم الإيمان وكانت الهجرة فريضة فصاروا بتركها مرتكبين كبيرة دلّ على أنّ صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) أي من أسلم ولم يهاجر (فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) أي إن وقع بينهم وبين الكفار قتال وطلبوا معونتكم (٢) فواجب عليكم أن تنصروهم على الكافرين (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فإنه لا يجوز لكم نصركم (٣) عليهم لأنهم لا يبتدئون بالقتال إذ الميثاق مانع من ذلك (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير عن تعدي حدّ الشرع.

٧٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ظاهره إثبات الموالاة بينهم ، ومعناه نهي المسلمين عن موالاة الكفار وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب ، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا ، ثم قال : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضا حتى في التوارث تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تجعلوا قرابة الكفار كلا قرابة (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة لأنّ المسلمين ما لم يصيروا

__________________

(١) الأحزاب ، ٣٣ / ٦.

(٢) في (ز) معونة.

(٣) في (ز) نصرهم.

١٦٣

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥)

يدا واحدة على الشرك كان الشرك ظاهرا والفساد زائدا.

٧٤ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنّهم صدّقوا إيمانهم وحقّقوه بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن والانسلاخ من المال والدنيا لأجل الدين والعقبى (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لا منّة فيه ولا تنغيض ، ولا تكرار لأنّ هذه الآية واردة للثناء عليهم مع الموعد (١) الكريم ، والأولى للأمر بالتواصل.

٧٥ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) جعلهم منهم تفضّلا وترغيبا (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) وأولوا القرابات أولى بالتوارث ، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنّصرة (فِي كِتابِ اللهِ) في حكمه وقسمته ، أو في اللوح ، أو في القرآن ، وهو آية المواريث ، وهو دليل لنا على توريث ذوي الأرحام (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه ، قسّم الناس أربعة أقسام ، قسم آمنوا وهاجروا ، وقسم آمنوا ونصروا ، وقسم آمنوا ولم يهاجروا ، وقسم كفروا ولم يؤمنوا.

__________________

(١) في (ز) الوعد.

١٦٤

سورة التوبة

مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية كوفي ومائة وثلاثون غيره

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١)

لها أسماء : براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشرّدة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافرة ، المنكّلة ، المدمدمة ، لأن فيها التوبة على المؤمنين ، وهي تقشقش من النفاق أي تبرئ منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين ، وتبحث عنها ، وتثيرها وتحفر عنها ، وتفضحهم وتنكّلهم وتشرّدهم وتخزيهم وتدمدم عليهم ، وفي ترك التسمية في ابتدائها أقوال : فعن علي وابن عباس رضي الله عنهم أنّ بسم الله أمان وبراءة نزلت لرفع الأمان. وعن عثمان رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزلت عليه سورة أو آية قال : (اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا) وتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبيّن لنا أين نضعها ، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال لأن فيها ذكر العهود ، وفي براءة نبذ العهود ، فلذلك قرنت بينهما ، وكانتا تدعيان القرينتين (١) ، وتعدّان السابعة من الطوال وهي سبع ، وقيل اختلف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بعضهم : الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال ، وقال بعضهم : هما سورتان ، فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان ، وتركت بسم الله لقول من قال هما سورة واحدة.

١ ـ (بَراءَةٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ

__________________

(١) أخرجه أصحاب السنن وابن حبان وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار وعندهم الحديث بطوله سوى قوله : كانتا تدعيان القرينتين ، فلم يذكره إلا إسحاق.

١٦٥

فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢)

(عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) من لابتداء الغاية متعلق بمحذوف (١) أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم ، كما تقول كتاب من فلان إلى فلان ، أو مبتدأ لتخصّصها (٢) بصفتها والخبر إلى الذين عاهدتم ، كقولك رجل من بني تميم في الدار ، والمعنى أنّ الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ، وأنه منبوذ إليهم.

٢ ـ (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فسيروا في الأرض كيف شئتم ، والسّيح : السير على مهل ، روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناسا منهم ، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، فنبذ العهد إلى الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا لا يتعرّض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) (٣) ذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها ، وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتّاب ابن أسيد (٤) ، وأمّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر على موسم سنة تسع ، ثم أتبعه عليا راكب العضباء (٥) ليقرأها على أهل الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : (لا يؤدّي عني إلّا رجل مني) فلما دنا علي سمع أبو بكر الرّغاء ، فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور ، فلما كان قبل التّروية خطب أبو بكر وحثّهم على مناسكهم ، وقام عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ، ثم قال : أمرت بأربع ، أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلّا كلّ نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كلّ ذي عهد عهده ، فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا وأنه

__________________

(١) زاد في (ز) وليس بصلة كما في قولك برئت من الدين.

(٢) في (ز) لتخصيصها.

(٣) زاد في (ز) فاقتلوا المشركين.

(٤) عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ، أبو عبد الرحمن ، وال أموي ، قرشي مكي ، من الصحابة ، من أشراف العرب في صدر الإسلام ، أسلم يوم فتح مكة ، واستعمله النبي عليه‌السلام عليها عند خروجه إلى حنين سنة ٨ ه‍ ، وبقي عليها عهد أبي بكر وولد عام ١٣ ق. ه ومات عام ١٣ ه‍ وبعض المؤرخين يذكر أنه عاش واليا إلى أواخر عهد عمر (الأعلام ٤ / ١٩٩).

(٥) العضباء : ناقة مشقوقة الأذن ، وهو أيضا لقب ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم تكن مشقوقة الأذن (مختار الصحاح).

(١) قال ابن حجر : هذا ملفق من مواضع فصدره مذكور في مغازي ابن إسحاق ، وقوله وكان الأمير فيها ـ

١٦٦

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣)

ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف (١). والأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ، أو عشرون من ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر وكانت حرما لأنهم أمّنوا فيها فحرم قتلهم وقتالهم ، أو على التغليب لأنّ ذا الحجّة والمحرّم منها ، والجمهور على إباحة القتال في الأشهر الحرم ، وأنّ ذلك قد نسخ (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) لا تفوتونه وإن أمهلكم (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) مذلّهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.

٣ ـ (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ، والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام ، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أنّ الأولى إخبار بثبوت البراءة والثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، وإنما علّقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلّق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم عرفة لأنّ الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج ، أو يوم النحر لأنّ فيه تمام الحج من الطواف والنحر والحلق والرمي ، ووصف الحجّ بالأكبر لأنّ العمرة تسمّى الحجّ الأصغر (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي بأنّ الله حذفت صلة الأذان تخفيفا (وَرَسُولِهِ) عطف على المنوي في بريء ، أو على الابتداء وحذف الخبر ، أي ورسوله بريء ، وقرئ بالنصب عطفا على اسم إنّ ، وبالجرّ على الجوار أو على القسم كقولك لعمرك ، وحكي أنّ أعرابيا سمع رجلا يقرؤها ، فقال : إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء فلبّبه (٢) الرجل إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته ، فعندها أمر عمر بتعلّم العربية (٣) (فَإِنْ تُبْتُمْ) من الكفر والغدر (فَهُوَ) أي التوبة (خَيْرٌ لَكُمْ) من الإصرار على الكفر (وَإِنْ

__________________

ـ فهذا ذكره الواقدي في المغازي ، وقوله فأمّر أبا بكر على موسم سنة تسع فهو في الصحيح من حديث أبي هريرة بمعناه ، وأما قوله ثم أتبعه عليا فرواه أحمد.

(٢) لببه : لزمه ورافقه.

(٣) ذكره القرطبي في التذكرة عن ابن أبي مليكة.

١٦٧

إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

(تَوَلَّيْتُمْ) عن التوبة ، أو تبتم على التولّي والإعراض عن الإسلام (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) غير سابقين الله ولا فائتين أخذه وعقابه (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مكان بشارة المؤمنين بنعيم مقيم.

٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) استثناء من قوله : فسيحوا في الأرض ، والمعنى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلّا الذين عاهدتم منهم (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط العهد ، أي وفوا بالعهد ولم ينقضوه ، وقرئ لم ينقضوكم ، أي عهدكم وهو أليق ، لكن المشهورة أبلغ لأنه في مقابلة التمام (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) ولم يعاونوا عليكم عدوا (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) فأدوه إليهم تاما كملا (١) (إِلى مُدَّتِهِمْ) إلى تمام مدّتهم ، والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين ، لكنّ الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفيّ كالغادر (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يعني أنّ قضية التقوى أن لا (٢) يسوّى بين الفريقين فاتقوا الله في ذلك.

٥ ـ (فَإِذَا انْسَلَخَ) مضى أو خرج (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الذين نقضوكم وظاهروا عليكم (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من حلّ أو حرم (وَخُذُوهُمْ) وأسروهم ، والأخيذ الأسير (٣) (وَاحْصُرُوهُمْ) وقيّدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) كل ممر ومجتاز ترصدونهم به ، وانتصابه على الظرف (فَإِنْ تابُوا) عن الكفر (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر ، أو فكفّوا عنهم ولا تتعرضوا لهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر الكفر والغدر بالإسلام (٤) (رَحِيمٌ) برفع القتل قبل الأداء بالالتزام.

__________________

(١) في (ز) كاملا ، ومعنى كملا أي كلّه.

(٢) في (ز) إلّا.

(٣) في (ظ) و (ز) الأخذ : الأسر.

(٤) في (ز) بستر الكفر والغدر بالإسلام.

١٦٨

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨)

٦ ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) أحد مرتفع بفعل الشرط مضمرا (١) يفسره الظاهر ، أي وإن استجارك أحد استجارك ، والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمّنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ويتدبره ويطّلع على حقيقة الأمر ، (ثُمَّ أَبْلِغْهُ) بعد ذلك (مَأْمَنَهُ) داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ، ثم قاتله إن شئت ، وفيه دليل على أنّ المستأمن لا يؤذى ، وليس له الإقامة في دارنا ، ويمكّن من العود (ذلِكَ) أي الأمر بالإجارة في قوله فأجره (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام ، وما حقيقة ما يدعو إليه ، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق.

٧ ـ (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) كيف استفهام في معنى الاستنكار أي مستنكر أن يثبت لهؤلاء عهد ، فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدّثوا به نفوسكم ولا تفكّروا في قتلهم ، ثم استدرك ذلك بقوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) أي ولكن الذين عاهدتم منهم (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) (٢) فما أقاموا على وفاء العهد (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) على الوفاء ، وما شرطية ، أي فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يعني أنّ التربّص بهم من أعمال المتقين.

٨ ـ (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوما ، أي كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا) لا يراعوا حلفا أو (٣) قرابة (وَلا ذِمَّةً) عهدا (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) بالوعد

__________________

(١) في (ز) بفعل شرط مضمر.

(٢) زاد في (ز) ولم يظهر منهم نكث أي.

(٣) في (ز) ولا.

١٦٩

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢)

بالإيمان والوفاء بالعهد ، وهو كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) الإيمان والوفاء بالعهد (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) ناقضون العهد ، أو متمردون في الكفر ، لا مروّة تزعهم (١) عن الكذب ، ولا شمائل تردعهم عن النّكث ، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادي عنهما.

٩ ـ (اشْتَرَوْا) استبدلوا (بِآياتِ اللهِ) بالقرآن (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضا يسيرا وهو اتباع الأهواء والشهوات (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس الصنيع صنيعهم.

١٠ ـ (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) ولا تكرار لأنّ الأول على الخصوص حيث قال فيكم ، والثاني على العموم لأنه قال في مؤمن (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة.

١١ ـ (فَإِنْ تابُوا) عن الكفر (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ) فهم إخوانكم على حذف المبتدأ (فِي الدِّينِ) لا في النسب (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) ونبيّنها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يفهمون فيتفكرون فيها وهذا اعتراض ، كأنه قيل وإنّ من تأمل تفصيلها فهو العالم ، تحريضا على تأمّل ما فصّل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها.

١٢ ـ (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) أي نقضوا العهود المؤكدة بالأيمان (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) وعابوه (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم ، وهم رؤساء الشرك ، أو زعماء قريش الذين همّوا بإخراج الرسول ، وقالوا : إذا طعن الذميّ في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله ، لأنّ العهد معقود معه

__________________

(١) في (ز) لا مروءة تمنعهم.

١٧٠

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (١٤)

على أن لا يطعن ، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذّمة. أئمة بهمزتين كوفي وشامي ، الباقون بهمزة واحدة غير ممدودة بعدها ياء مكسورة وأصلها أأممة ، لأنها جمع إمام كعماد وأعمدة ، فنقلت حركة الميم الأولى إلى الهمزة الساكنة وأدغمت في الميم الأخرى ، فمن حقّق الهمزتين أخرجهما على الأصل ومن قلب الثانية ياء فلكسرتها (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) وإنما أثبت لهم الأيمان في قوله : وإن نكثوا أيمانهم لأنه أراد أيمانهم التي أظهروها ، ثم قال لا أيمان لهم على الحقيقة ، وهو دليل لنا على أنّ يمين الكافر لا تكون يمينا ، ومعناه عند الشافعي رحمه‌الله أنهم لا يوفون بها لأنّ يمينهم يمين عنده حيث وصفها بالنّكث. لا إيمان شامي أي لا إسلام (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق بفقاتلوا أئمة الكفر وما بينهما اعتراض ، أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم انتهاءهم عما هم عليه بعد ما وجد منهم من العظائم ، وهذا من غاية كرمه على المسيء. ثم حرّض على القتال فقال :

١٣ ـ (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) التي حلفوها في المعاهدة (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكّة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالقتال ، والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم ، وبّخهم بترك مقاتلتهم وحضّهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحثّ (١) عليها من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب (أَتَخْشَوْنَهُمْ) توبيخ على الخشية منهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) بأن تخشوه ، فتقاتلوا (٢) أعداءه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فاخشوه ، أي إنّ قضية الإيمان الكامل أن لا يخشى المؤمن إلّا ربّه ولا يبالي بمن سواه.

ولمّا وبّخهم الله على ترك القتال جرّد لهم الأمر به بقوله :

١٤ ـ (قاتِلُوهُمْ) ووعدهم النصر ليثبّت قلوبهم ويصحّح نياتهم بقوله : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) قتلا (وَيُخْزِهِمْ) أسرا (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) يغلّبكم عليهم (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) طائفة منهم ، وهم خزاعة عيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الحض.

(٢) في (ظ) و (ز) فقاتلوا.

(٣) عيبة رسول الله : موضع سره (القاموس ١ / ١٠٩).

١٧١

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦)

١٥ ـ (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) لما لقوا منهم من المكروه ، وقد حصّل الله هذه المواعيد كلّها ، فكان دليلا على صحة نبوته (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره ، وكان ذلك أيضا ، فقد أسلم ناس منهم كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل (١) وسهيل بن عمرو (٢) ، وهي تردّ على المعتزلة قولهم إنّ الله تعالى شاء أن يتوب على جميع الكفرة لكنهم لا يتوبون باختيارهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان (حَكِيمٌ) في قبول التوبة.

١٦ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أم منقطعة ، والهمزة فيها للتوبيخ على وجود الحسبان ، أي لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبيّن الخلّص (٣) منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) أي بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، ولمّا معناها التوقّع وقد دلت على أنّ تبيّن ذلك متوقع كائن ، وأنّ الذين لم يخلصوا دينهم لله يميّز بينهم وبين المخلصين ، ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا داخل في حيز الصلة ، كأنه قيل ولمّا يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله ، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كقولك ما علم الله مني ما قيل فيّ ، تريد ما وجد ذلك مني ، والمعنى أحسبتم أن تتركوا بلا مجاهدة ولا براءة من المشركين (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من خير أو شرّ فيجازيكم عليه.

__________________

(١) عكرمة بن أبي جهل (عمرو بن هشام) المخزومي القرشي ، من صناديد قريش في الجاهلية والإسلام أسلم بعد فتح مكة وحسن إسلامه ، ولي الأعمال لأبي بكر ، ولد عام ٥١ ق. ه ومات عام ١٣ ه‍ (الأعلام ٤ / ٢٤٤).

(٢) سهيل بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامري من لؤي ، خطيب قريش وأحد ساداتها ، أسره المسلمون يوم بدر وافتدي فأقام على دينه إلى يوم الفتح فأسلم ، وهو الذي تولى أمر صلح الحديبية مات في الشام عام ١٨ ه‍ (الأعلام ٣ / ١٤٤).

(٣) في (ز) المخلص.

١٧٢

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨)

١٧ ـ (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) ما صحّ لهم وما استقام (أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) مسجد الله مكي وبصري ، يعني المسجد الحرام ، وإنما جمع في القراءة بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها ، فعامرها (١) كعامر جميع المساجد ، ولأنّ كلّ بقعة منه مسجد ، أو أريد جنس المساجد ، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس وهو آكد ، إذ طريقه طريق الكناية كما تقول : فلان لا يقرأ كتب الله كنت (٢) أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) باعترافهم بعبادة الأصنام ، وهو حال من الواو في يعمروا ، والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين : عمارة متعبّدات الله مع الكفر بالله وبعبادته (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) دائمون.

١٨ ـ (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) عمارتها رمّ (٣) ما استرمّ منها وقمّها (٤) وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا ، لأنها بنيت للعبادة والذكر ، ومن الذكر درس العلم (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ولم يذكر الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما علم أنّ الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول لاقترانهما في الأذان والإقامة وكلمة الشهادة وغيرها ، أو دلّ عليه بقوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) وفي قوله (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) تنبيه على الإخلاص ، والمراد الخشية في أبواب الدّين بأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقّع مخوّف إذ المؤمن قد يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها ، وقيل كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء ، وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم ، لأن عسى كلمة إطماع ، والمعنى إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتدا بها عند الله دون من سواهم.

__________________

(١) في (ز) فعامره.

(٢) في (ز) فإنه.

(٣) رمّ : إصلاح (القاموس ٤ / ١٢٢).

(٤) قمّ : كنس (القاموس ٤ / ١٦٧).

١٧٣

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢)

١٩ ـ (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية ، ولا بدّ من مضاف محذوف تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله؟ وقيل المصدر بمعنى الفاعل يصدقه قراءة ابن الزبير سقاة الحاجّ وعمرة المسجد الحرام ، والمعنى إنكار أن يشبّه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة ، وأن يسوّى بينهم ، وجعل تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما. نزلت جوابا لقول العباس حين أسر ، فطفق عليّ رضي الله عنه يوبّخه بقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقطيعة الرّحم : تذكر مساوينا وتدع محاسننا! فقيل : أولكم محاسن؟ فقال : نعمر المسجد ونسقي الحاجّ ونفك العاني ، وقيل افتخر العباس بالسقاية وشيبة (١) بالعمارة وعليّ رضي الله عنه بالإسلام والجهاد فصدّق الله تعالى عليا.

٢٠ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أولئك (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) من أهل السقاية والعمارة (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) لا أنتم ، والمختصون بالفوز دونكم (٢).

٢١ ـ (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) يبشرهم حمزة (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ) تنكير المبشّر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف (لَهُمْ فِيها) في الجنات (نَعِيمٌ مُقِيمٌ) دائم.

٢٢ ـ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا ينقطع.

__________________

(١) شيبة : هو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة القرشي من بني عبد الدار ، صحابي من أهل مكة ، أسلم يوم الفتح وكان حاجب الكعبة في الجاهلية ورث حجابتها عن آبائه وأقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، ولا يزال بنوه حجابها إلى اليوم ، توفي عام ٥٩ ه‍ (الأعلام ٣ / ١٨١).

(٢) في (ز) دونهم.

١٧٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢٥)

لمّا أمر الله النبيّ عليه‌السلام بالهجرة جعل الرجل يقول لابنه ولأخيه ولقرابته : إنّا قد أمرنا بالهجرة ، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من تتعلق به زوجته أو ولده فيقول : تدعنا بلا شيء فنضيع ، فيجلس معهم ويدع الهجرة ، فنزل :

٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي آثروه واختاروه (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) أي ومن يتولّى الكافرين (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

٢٤ ـ (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) أقاربكم ، وعشيراتكم أبو بكر (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) اكتسبتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) فوات وقت نفاقها (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) وهو عذاب عاجل ، أو عقاب آجل ، أو فتح مكة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) والآية تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدّين واضطراب حبل اليقين ، إذ لا تجد عند أورع الناس ما يستحبّ له دينه على الآباء والأبناء والأموال وحظوظ الدنيا (١).

٢٥ ـ (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) كوقعة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة ، وقيل إنّ المواطن التي نصر الله فيها النبيّ عليه‌السلام والمؤمنين ثمانون موطنا ، ومواطن الحرب مقاماتها ومواقفها (وَيَوْمَ) أي واذكروا يوم (حُنَيْنٍ) واد بين مكّة والطائف كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفا وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب

__________________

(١) في (ز) والخطوظ.

١٧٥

ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٧)

اليوم من قلة ، فساءت رسول الله عليه الصلاة والسلام (إِذْ) بدل من يوم (أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) فأدرك (١) المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة ، وزلّ عنهم أنّ الله هو الناصر لا كثرة الجنود ، فانهزموا حتى بلغ فلّهم مكة وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده وهو ثابت في مركزه ليس معه إلا عمّه العباس آخذا بلجام دابته وأبو سفيان ابن الحارث ابن عمّه آخذا بركابه فقال للعباس : (صح بالناس) وكان صيّتا فنادى يا أصحاب الشجرة ، فاجتمعوا وهم يقولون : لبيك ، لبيك ونزلت الملائكة عليهم الثياب البيض على خيول بلق (٢) ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفا من تراب فرماهم به ، ثم قال : (انهزموا ورب الكعبة) فانهزموا ، وكان من دعائه عليه‌السلام يومئذ : (اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان) (٣) وهذا دعاء موسى عليه‌السلام يوم انفلاق البحر (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) ما مصدرية والباء بمعنى مع أي مع رحبها ، وحقيقته ملتبسة برحبها على أن الجار والمجرور في موضع الحال كقولك دخلت عليه بثياب السفر أي ملتبسا (٤) بها ، والمعنى لم تجدوا موضعا لفراركم عن أعدائكم فكأنها ضاقت عليكم (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) ثم انهزمتم.

٢٦ ـ (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) رحمته التي سكنوا بها وأمنوا (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) يعني الملائكة وكانوا ثمانية آلاف ، أو خمسة آلاف ، أو ستة عشر ألفا (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

٢٧ ـ (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) وهم الذين أسلموا منهم (وَاللهُ غَفُورٌ) بستر كفر العدوّ بالإسلام (رَحِيمٌ) بنصر الولي بعد الإنهزام.

__________________

(١) في (ز) فادركت.

(٢) خيول بلق : سوداء وبيضاء معا (القاموس ٣ / ٢١٤).

(٣) القصة في مسلم من طريق الزهري عن كثير بن عباس بن عبد المطلب عن العباس فيها تغيير ونقص عما ساقه النسفي.

(٤) في (ز) متلبسا.

١٧٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩)

٢٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) أي ذوو نجس ، وهو مصدر ، يقال نجس نجسا وقذر قذرا ، لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النّجس ، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنّهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) فلا يحجّوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم (١) ، وهو مذهبنا ، ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندنا ، وعند الشافعي رحمه‌الله يمنعون من المسجد الحرام خاصة ، وعند مالك يمنعون منه ومن غيره ، وقيل نهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي فقرا ، بسبب منع المشركين من الحجّ وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الغنائم ، أو المطر والنبات ، أو من متاجر حجج الإسلام (إِنْ شاءَ) هو تعليم لتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى لتنقطع الآمال إليه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) في تحقيق آمالكم ، أو عليم بمصالح العباد حكيم فيما حكم وأراد.

ونزل في أهل الكتاب :

٢٩ ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) لأنّ اليهود مثنّية والنصارى مثلّثة (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنهم فيه على خلاف ما يجب ، حيث يزعمون أن لا أكل في الجنة ولا شرب (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) لأنهم لا يحرمون ما حرّم في الكتاب والسنة ، أو لا يعملون بما في التوراة والإنجيل (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) ولا يعتقدون دين الإسلام الذي هو الحقّ ، يقال فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده

__________________

(١) زاد في (ز) ويكون المراد من نهي القربان النهي عن الحج والعمرة.

١٧٧

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٣٠)

(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان للذين قبله ، وأما المجوس فملحقون بأهل الكتاب في قبول الجزية ، وكذا الترك والهنود وغيرهما بخلاف مشركي العرب لما روى الزهري (١) أنّ النبيّ عليه‌السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية إلّا من كان من العرب (٢) (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) إلى أن يقبلوها وسميت جزية لأنه مما يجب على أهلها أن يجزوه أي يقضوه ، أو هي جزاء على الكفر على التمهيل في تذليل (٣) (عَنْ يَدٍ) أي عن يد مواتية غير ممتنعة لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد (٤) ؛ ولذا قالوا أعطى بيده إذا انقاد ، وقالوا نزع يده عن الطاعة ، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة لا مبعوثا على يد أحد ، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي تؤخذ منهم على الصّغار والذّلّ ، وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ، وأن يتلتل تلتلة (٥) ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أدّ الجزية يا ذمي ، وإن كان يؤديها ، ويزخّ (٦) في قفاه ، وتسقط بالإسلام.

٣٠ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ) كلّهم أو بعضهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) مبتدأ وخبر كقوله : المسيح ابن الله ، وعزيز اسم أعجميّ ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ، ومن نوّن وهو (٧) عاصم وعليّ فقد جعله عربيا (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي قول لا يعضده برهان ولا يستند إلى بيان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من (٨) معنى تحته كالألفاظ المهملة (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم ، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا ، يعني أنّ الذين كانوا في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) الزهري : هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، من بني زهرة بن كلاب من قريش ، أبو بكر أول من دوّن الحديث وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء ، تابعي من أهل المدينة ولد عام ٥٨ ه‍ ومات عام ١٢٤ ه‍ (الأعلام ٧ / ٩٧).

(٢) عبد الرزاق في تفسيره.

(٣) في (ز) على التحميل في تذليل.

(٤) ليست في (ظ) و (ز).

(٥) التلتلة : التحريك والإقلاق والزعزعة والسير الشديد (القاموس ٣ / ٣٤٠).

(٦) يزخ : يدفع (القاموس ١ / ٢٦٠).

(٧) في (ز) وهم.

(٨) في (ظ) و (ز) عن.

١٧٨

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣)

من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم ، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث ، أو الضمير للنصارى أي يضاهي قولهم المسيح ابن الله قول اليهود عزير ابن الله ، لأنهم أقدم منهم ، يضاهئون عاصم ، وأصل المضاهاة المشابهة ، والأكثر ترك الهمز ، واشتقاقه من قولهم امرأة ضهياء ، وهي التي أشبهت الرجال بأنها لا تحيض ، كذا قاله الزجّاج (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحقّ بعد قيام البرهان.

٣١ ـ (اتَّخَذُوا) أي أهل الكتابين (١) (أَحْبارَهُمْ) علماءهم (وَرُهْبانَهُمْ) نسّاكهم (أَرْباباً) آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) حيث أطاعوهم في تحليل ما حرّم الله ، وتحريم ما أحلّ الله ، كما يطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) عطف على أحبارهم ، أي اتخذوه ربّا حيث جعلوه ابن الله (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) يجوز الوقف عليه ، لأن ما بعده يصلح ابتداء ، ويصلح وصفا لواحدا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه له عن الإشراك.

٣٢ ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) مثّل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبثّ في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلّغه الغاية القصوى من الإشراق ليطفئه بنفخة. أجري ويأبى الله مجرى لا يريد الله ولذا وقع في مقابلة يريدون ، وإلا فلا (٢) يقال كرهت أو أبغضت إلا زيدا.

٣٣ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا عليه‌السلام (بِالْهُدى) بالقرآن (وَدِينِ الْحَقِ) الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) ليعليه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على أهل الأديان كلّهم أو

__________________

(١) في (ز) الكتاب.

(٢) في (ظ) و (ز) لا.

١٧٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥)

ليظهر دين الحقّ على كل دين (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

٣٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ) استعار الأكل للأخذ (بِالْباطِلِ) أي بالرّشا في الأحكام (وَيَصُدُّونَ) سفلتهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرّهبان للدلالة على اجتماع (١) ذميمتين فيهم : أخذ الرشا وكنز الأموال والضنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير ، ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ، ويقرن بينهم وبين المرتشين من أهل الكتاب تغليظا. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما أدّي زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا ، وما بلغ أن يزكّى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهرا) (٢) ولقد كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الأموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية (٣) لأنّ الإعراض اختيار للأفضل والاقتناء مباح لا يذمّ صاحبه (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) الضمير راجع إلى المعنى لأنّ كلّ واحد منهما دنانير ودراهم ، فهو كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٤) أو أريد الكنوز والأموال ، أو معناه ولا ينفقونها والذهب كما أن معنى قوله (٥) * فإني وقيار بها لغريب* وقيار كذلك. وخصّا بالذكر من بين سائر الأموال لأنهما قانون التموّل وأثمان الأشياء ، وذكر كنزهما دليل على ما سواهما (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

٣٥ ـ ومعنى قوله (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أنّ النار تحمى عليها أي توقد ، وإنما ذكّر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور أصله يوم تحمى النار عليها ،

__________________

(١) زاد في (ز) خصلتين.

(٢) رواه البيهقي عن ابن عمر مرفوعا بلفظ (كل ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا ، وكل ما لا يؤدّى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا).

(٣) القنية : بكسر القاف وضمها ، ما اكتسب (القاموس ٤ / ٣٨١).

(٤) الحجرات ، ٤٩ / ٩.

(٥) مر في سورة المائدة الآية رقم ٦٩ وترجم له هناك.

١٨٠