تفسير النسفي - ج ٢

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

وكافلك (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١) وبالتاء مدني وشامي وحفص ، أي أنت وهم على تغليب المخاطب ، قيل خاتمة التوراة هذه الآية ، وفي الحديث : (من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى) (٢).

__________________

(١) في مصحف النسفي يعملون بالياء وهي قراءة.

(٢) لم أجده.

٣٠١

سورة يوسف عليه‌السلام

مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية شامي ، واثنتا عشرة مكي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣)

١ ـ (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) تلك إشارة إلى آيات هذه السورة ، والكتاب المبين السورة ، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب ، أو التي تبين لمن تدبّرها أنها من عند الله لا من عند البشر ، أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم ، أو قد أبيّن فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف عليه‌السلام ، فقد روي أنّ علماء اليهود قالوا للمشركين سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه‌السلام.

٢ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف عليه‌السلام في حال كونه قرآنا عربيا ، وسمّي بعض القرآن قرآنا لأنه اسم جنس يقع على كلّه وبعضه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي تفهموا معانيه ولو جعلناه قرآنا عجميا (١) لقالوا لو لا فصّلت (٢).

٣ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) نبين لك أحسن البيان ، والقاصّ الذي

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أعجميا.

(٢) في (ظ) و (ز) فصلت آياته.

٣٠٢

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

يأتي بالقصة على حقيقتها عن الزّجّاج ، وقيل القصص يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص تقول : قصّ الحديث يقصّه قصصا ، ويكون فعلا بمعنى مفعول كالنّفض (١) والحسب ، فعلى الأول معناه نحن نقصّ عليك أحسن الاقتصاص (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي بإيحائنا إليك هذه السورة على أن يكون أحسن منصوبا نصب المصدر لإضافته إليه ، والمقصوص محذوف لأن بما أوحينا إليك هذا القرآن مغن عنه ، والمراد بأحسن الاقتصاص أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب ، فإنك لا ترى اقتصاصه في كتب الأولين مقاربا لاقتصاصه في القرآن ، وإن أريد بالقصص المقصوص فمعناه نحن نقصّ عليك أحسن ما يقصّ من الأحاديث ، وإنما كان أحسن لما يتضمن من العبر والحكم والعجائب التي ليست في غيرها (٢) ، والظاهر أنه أحسن ما يقتصّ في بابه كما يقال فلان أعلم الناس أي في فنه ، واشتقاق القصص من قصّ أثره إذا اتّبعه (٣) لأنّ الذي يقصّ الحديث يتّبع ما حفظ منه شيئا فشيئا (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) الضمير يرجع إلى ما أوحينا (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عنه ، إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية ، يعني وإنّ الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الجاهلين به.

٤ ـ (إِذْ قالَ) بدل اشتمال من أحسن القصص ، لأنّ الوقت مشتمل على القصص ، أو التقدير اذكر إذ (٤) (يُوسُفُ) اسم عبراني لا عربي إذ لو كان عربيا لانصرف لخلوّه عن سبب آخر سوى التعريف (لِأَبِيهِ) يعقوب (يا أَبَتِ) أبت شامي ، وهي تاء تأنيث عوّضت عن ياء الإضافة لتناسبهما في أنّ (٥) كلّ واحدة منهما زائدة في آخر الاسم ، ولهذا قلبت هاء في الوقف ، وجاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر كما في رجل ربعة ، وكسرت التاء لتدلّ على الياء المحذوفة ، ومن فتح التاء فقد حذف الألف من يا أبتا واستبقى الفتحة قبلها ، كما فعل من حذف الياء في يا غلام (إِنِّي رَأَيْتُ) من الرؤيا لا من الرؤية (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) أسماؤها ببيان النبي عليه‌السلام جريان والطارق والذّيّال (٦) وقابس وعمودان والفليق والمصبح والصّروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) هما أبواه ، أو أبوه وخالته والكواكب إخوته ، قيل الواو

__________________

(١) النّفض : حب العنب حين يوجد بعضه في بعض (القاموس ٢ / ٣٤٦).

(٢) في (ز) غيره.

(٣) في (ز) تبعه.

(٤) في (ظ) اذكر و ، وفي (ز) اذكر إذ قال.

(٥) في (ز) لأن.

(٦) في (ز) والذيال والطارق ، والحديث رواه الحاكم من حديث جابر.

٣٠٣

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

بمعنى مع أي رأيت الكواكب مع الشمس والقمر ، وأجريت مجرى العقلاء في (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) لأنه وصفها بما هو المختص بالعقلاء وهو السجود ، وكررت الرؤيا لأنّ الأولى تتعلق بالذات والثانية بالحال ، أو الثانية كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابا له ، كأن أباه قال له : كيف رأيتها؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين ، أي متواضعين ، وهو حال ، وكان ابن ثنتي عشرة سنة يومئذ ، وكان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة أو ثمانون.

٥ ـ (قالَ يا بُنَيَ) بالفتح حيث كان حفص (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ) هي بمعنى الرؤية إلّا أنّها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة ، وفرّق بينهما بحرفي التأنيث كما في القربة والقربى (عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ) جواب النهي ، أي إن قصصتها عليهم كادوك. عرف يعقوب عليه‌السلام أنّ الله يصطفيه للنبوة ، وينعم عليه بشرف الدارين ، فخاف عليه حسد الإخوة ، وإنما لم يقل فيكيدوك كما قال فكيدوني لأنه ضمّن معنى فعل يتعدى باللام ليفيد معنى فعل الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمّن ، فيكون آكد وأبلغ في التخويف ، وذلك نحو فيحتالوا لك ، ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر وهو (كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العدواة فيحملهم على الحسد والكيد.

٦ ـ (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الاجتباء الذي دلت عليه رؤياك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) يصطفيك ، والاجتباء الاصطفاء افتعال من جبيت الشيء إذا حصّلته لنفسك ، وجبيت الماء في الحوض جمعته (وَيُعَلِّمُكَ) كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه ، كأنه قيل وهو يعلّمك (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي تأويل الرؤيا ، وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا ، أو تأويل أحاديث الأنبياء وكتب الله ، وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) بأن وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة ، أي جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكا ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة ، وآل يعقوب أهله وهم نسله وغيرهم ، وأصل آل أهل بدليل تصغيره على أهيل إلّا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر ، يقال آل النبي وآل الملك ولا يقال آل الحجّام ولكن أهله ، وإنما علم يعقوب أنّ يوسف يكون نبيا وإخوته أنبياء استدلالا

٣٠٤

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (٩)

بضوء الكواكب فلذا قال وعلى آل يعقوب (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أراد الجدّ وأبا الجدّ (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لأبويك (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) يعلم من يحقّ له الاجتباء (حَكِيمٌ) يضع الأشياء في مواضعها.

٧ ـ (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي في قصتهم وحديثهم (آياتٌ) علامات ودلالات على قدرة الله وحكمته في كل شيء ، آية مكي (لِلسَّائِلِينَ) لمن سأل عن قصتهم وعرفها ، أو آيات على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب ، وأساميهم (١) : يهوذا وروبيل (٢) وشمعون ولاوى وريالون (٣) ويشجر وأمّهم ليّا (٤) ودان ويفتالى وجاد وآشر من سرّيتين زلفة وبلهة ، فلما توفيت ليّا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف.

٨ ـ (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة ، أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه وإنما قالوا وأخوه وهم إخوته أيضا ، لأنّ أمهما كانت واحدة ، وإنما قيل أحبّ في الاثنين لأنّ أفعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر والمؤنث ، ولا بدّ من الفرق مع لام التعريف ، وإذا أضيف ساغ الأمران ، والواو في (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) للحال ، أي أنه يفضلهما في المحبة علينا ، وهما صغيران لا كفاية فيهما ونحن عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقه ، فنحن أحقّ بزيادة المحبة منهما لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) غلط في تدبير أمر الدنيا ، ولو وصفوه بالضلالة في الدين لكفروا. والعصبة العشرة فصاعدا.

٩ ـ (اقْتُلُوا يُوسُفَ) من جملة ما حكي بعد قوله إذ قالوا كأنهم أطبقوا على ذلك إلّا من قال لا تقتلوا يوسف ، وقيل الآمر بالقتل شمعون والباقون كانوا راضين فجعلوا آمرين (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) منكورة مجهولة بعيدة عن العمران ، وهو معنى تنكيرها

__________________

(١) في (ز) واسماؤهم.

(٢) في (ز) روبين.

(٣) في (ز) وزبولون.

(٤) زاد في (ز) بنت ليان. تفسير النسفي ج ٢ / م ٢٠

٣٠٥

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢)

وإخلائها عن الوصف ، ولهذا الإبهام نصبت نصب الظروف المبهمة (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم ، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه ، وجاز أن يراد بالوجه الذات كما قال (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (١) (وَتَكُونُوا) مجزوم عطف على يخل لكم (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد يوسف ، أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب ، أو من بعد قتله أو طرحه ، فيرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين إلى الله مما جنيتم عليه ، أو يصلح حالكم (٢) عند أبيكم.

١٠ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) فإنّ القتل عظيم (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) في قعر البئر وما غاب منه عن عين الناظر. غيابات وكذا ما بعده مدني (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) به شيئا.

١١ ـ (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) بالإشفاق (٣) (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونشفق عليه ، وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم ، وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه.

١٢ ـ (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ) نتسع في أكل الفواكه وغيرها ، والرتعة السّعة (وَيَلْعَبْ) (٤) نتفرج بما يباح كالصيد والرمي والركض. بالياء فيهما مدني وكوفي ، وبالنون فيهما مكي وشامي وأبو عمرو ، وبكسر العين حجازي من ارتعى يرتعي افتعال من الرّعي (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه.

__________________

(١) الرحمن ، ٥٥ / ٢٧.

(٢) في (أ) يصلح لكم.

(٣) في (ظ) (عَلى يُوسُفَ) بالإشمام ، وفي (ز) (عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ).

(٤) في مصحف النسفي نرتع ... ونلعب.

٣٠٦

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥)

١٣ ـ (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي يحزنني ذهابكم به ، واللام لام الابتداء (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) اعتذر إليهم بأنّ ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة وأنه يخاف عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم.

١٤ ـ (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ) اللام موطئة للقسم والقسم محذوف تقديره والله لئن أكله الذئب ، والواو في (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي فرقة مجتمعة مقتدرة على الدفع للحال (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب للقسم مجزئ عن جزاء الشرط ، أي إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا إذا وخسرناها ، وأجابوا عن عذره الثاني دون الأول لأنّ ذلك كان يغيظهم.

١٥ ـ (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي عزموا على إلقائه في البئر وهي بئر على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه‌السلام ، وجواب لمّا محذوف تقديره فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، فقد روي أنهم لما برزوا به إلى البرية أظهروا له العدواة وضربوه وكادوا يقتلونه فمنعهم يهوذا ، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلّق بثيابهم فنزعوها من يده ، فتعلق بحائط البئر وفربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم فيحتالوا به على أبيهم ، ودلّوه في البئر وكان فيها ماء فسقط فيه ، ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي وكان يهوذا يأتيه بالطعام ، ويروى أنّ إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه‌السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فأخرجه جبريل وألبسه إياه (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) قيل أوحي إليه في الصّغر كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليه‌السلام ، وقيل كان إذ ذاك مدركا (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) أي لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنك يوسف لعلوّ شأنك وكبرياء سلطانك ، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين (١) فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع (٢)

__________________

(١) ممتارين : متبايعين مع أهل مصر.

(٢) الصواع : الجام يشرب فيه (القاموس ٣ / ٥٣).

٣٠٧

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨)

فوضعه على يده ثم نقره فطنّ ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام (١) أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف ، وأنكم ألقيتموه في غيابة الجبّ وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس ، أو يتعلق وهم لا يشعرون بأوحينا ، أي آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة وهم لا يشعرون ذلك.

١٦ ـ (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً) للاستتار والتجسّر على الاعتذار (يَبْكُونَ) حال ، عن الأعمش : لا تصدّق باكية بعد إخوة يوسف ، فلما سمع صوتهم فزع وقال ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا ، قال : فما بالكم وأين يوسف؟

١٧ ـ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نتسابق في العدو أو في الرمي ، والافتعال والتفاعل يشتركان كالارتماء والترامي وغير ذلك (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) بمصدق لنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف ، فكيف وأنت سيء الظنّ بنا غير واثق بقولنا.

١٨ ـ (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) ذي كذب ، أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب هو الكذب بعينه والزور بذاته ، روي أنهم ذبحوا سخلة (٢) ولطخوا القميص بدمها ، وزلّ عنهم أن يمزقوه ، وروي أنّ يعقوب عليه‌السلام لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال : أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضّب وجهه بدم القميص ، وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزّق عليه قميصه ، وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات : كان دليلا ليعقوب على كذبهم ، وألقاه على وجهه فارتدّ بصيرا ، ودليلا على براءة يوسف حين قدّ من دبر (٣) ، ومحلّ على قميصه النصب على الظرف ، كأنه قيل وجاؤوا فوق قميصه بدم (قالَ) يعقوب عليه‌السلام (بَلْ سَوَّلَتْ) زيّنت أو سهّلت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) عظيما ارتكبتموه (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) خبر أو مبتدأ لكونه موصوفا ، أي

__________________

(١) الجام : إناء من فضة (القاموس ٤ / ٩٢).

(٢) السّخلة : ولد الشاة (القاموس ٣ / ٣٩٥).

(٣) في (ز) دبره.

٣٠٨

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٢٠)

فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل (١) ، وهو ما لا شكوى فيه إلى الخلق (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) أي أستعينه (عَلى) احتمال (ما تَصِفُونَ) من هلاك يوسف ، والصبر على الرّزء فيه.

١٩ ـ (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجبّ فأخطأوا الطريق (٢) فنزلوا قريبا منه ، وكان الجبّ في قفرة بعيدة من العمران ، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) هو الذي يرد الماء ليستقي للقوم اسمه مالك بن ذعر الخزاعي (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أرسل الدلو ليملأها فتشبث يوسف بالدلو فنزعوه (قالَ يا بُشْرى) كوفي ، نادى البشرى كأنه يقول تعالي فهذا أوانك ، غيرهم بشراي على إضافتها لنفسه ، أو هو اسم غلامه فناداه مضافا إلى نفسه (هذا غُلامٌ) قيل ذهب به فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به (وَأَسَرُّوهُ) الضمير للوارد وأصحابه ، أخفوه من الرفقة ، أو لأخوة يوسف فإنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه (بِضاعَةً) حال ، أي أخفوه متاعا للتجارة ، والبضاعة ما بضع من المال للتجارة ، أي قطع (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) بما يعمل أخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع.

٢٠ ـ (وَشَرَوْهُ) وباعوه (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) مبخوس ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا ، أو زيف (دَراهِمَ) بدل من ثمن (مَعْدُودَةٍ) قليلة تعدّ عدا ولا توزن لأنهم كانوا يعدّون ما دون الأربعين ، ويزنون الأربعين وما فوقها ، وكانت عشرين درهما (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) ممن يرغب عما في يده فيبيعه بالثمن الطفيف ، أو معنى وشروه واشتروه يعني الرفقة من إخوته وكانوا فيه من الزاهدين ، أي غير راغبين لأنهم اعتقدوا أنه آبق ، ويروى أنّ إخوته اتبعوهم وقالوا استوثقوا منه لا يأبق ، وفيه ليس من صلة الزاهدين (٣) ، لأنّ الصلة لا تتقدم على الموصول ، وإنما هو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا؟ فقال زهدوا فيه.

__________________

(١) في (ز) أجمل.

(٢) ليست في (أ) وقد وضع الناسخ إشارة ليستدركها لكنه لم يفعل.

(٣) زاد في (ظ) و (ز) أي غير راغبين.

٣٠٩

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢)

٢١ ـ (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) هو قطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر ، والملك يومئذ الريان بن الوليد وقد آمن بيوسف ومات في حياته ، واشتراه العزيز بزنته ورقا (١) وحريرا ومسكا وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة (لِامْرَأَتِهِ) راعيل أو زليخا ، واللام متعلقة بقال لا باشتراه (أَكْرِمِي مَثْواهُ) اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما ، أي حسنا مرضيا بدليل قوله : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) وعن الضحّاك بطيب معاشه ولين رياشه (٢) ووفيّ (٣) فراشه (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) لعله إذا تدرّب وراض (٤) الأمور وفهم مجاريها نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان قطفير عقيما وقد تفرّس فيه الرشد فقال ذلك (وَكَذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه ، والكاف منصوب تقديره ومثل ذلك الإنجاء والعطف (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أي كما أنجيناه وعطّفنا عليه العزيز كذلك مكنا له (فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر وجعلناه ملكا يتصرف فيها بأمره ونهيه (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) كان ذلك الإنجاء والتمكين (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) لا يمنع عما يشاء (٥) ، أو على أمر يوسف بتبليغه ما أراد له دون ما أراد أخوته (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك.

٢٢ ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) منتهى اشتداد (٦) قوته وهو ثماني عشرة سنة أو إحدى وعشرون (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) حكمة وهو العلم مع العمل واجتناب ما يجهّل فيه ، أو حكما بين الناس وفقها (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تنبيه على أنه كان محسنا في عمله

__________________

(١) الورق : الفضة.

(٢) في (ز) لباسه.

(٣) في (ظ) و (ز) ووطئ ... والشيء وفيّا كصليّ تم وكثر فهو وفيّ (القاموس ٤ / ٤٠٠).

(٤) راض الأمور : أي روّضها.

(٥) في (ز) شاء.

(٦) في (ز) استعداد.

٣١٠

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤)

متقيا في عنفوان أمره.

٢٣ ـ (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي طلبت يوسف أن يواقعها ، والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، كأن المعنى خادعته عن نفسه أي فعلت فعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهي عبارة عن التمحّل لمواقعته إياها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) وكانت سبعة (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) هو اسم لتعال وأقبل ، وهو مبني على الفتح ، هيت مكي بناء على الضم ، هيت مدني وشامي ، واللام للبيان كأنه قيل لك أقول هذا كما تقول هلم لك (قالَ مَعاذَ اللهِ) أعوذ بالله معاذا (إِنَّهُ) أي إنّ الشأن والحديث (رَبِّي) سيدي ومالكي يريد قطفير (أَحْسَنَ مَثْوايَ) حين قال لك أكرمي مثواه ، فما جزاؤه أن أخونه في أهله (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الخائبون ، أو الزناة ، أو أراد بقوله إنه ربي الله تعالى لأنه مسبب الأسباب.

٢٤ ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) همّ عزم (وَهَمَّ بِها) همّ الطباع مع الامتناع قاله الحسن ، وقال الشيخ أبو منصور رحمه‌الله : وهمّ بها همّ خطرة ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب ولا مؤاخذة عليه ، ولو كان همّه كهمّها لما مدحه الله تعالى بأنه من عباده المخلصين ، وقيل وهمّ بها وشارف أن يهمّ بها ، يقال همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه ، وجواب (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) محذوف أي لكان ما كان ، وقيل وهمّ بها جوابه ، ولا يصحّ لأنّ جواب لو لا لا يتقدّم عليها لأنه في حكم الشرط وله صدر الكلام ، والبرهان الحجة ، ويجوز أن يكون وهمّ بها داخلا في حكم القسم في قوله : ولقد همت به ، ويجوز أن يكون خارجا ، ومن حقّ القارئ إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاما برأسه أن يقف على به ويبتدئ بقوله وهمّ بها ، وفيه أيضا إشعار بالفرق بين الهمّين ، وفسّر همّ يوسف بأنه حلّ تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع (١) وهي مستلقية على قفاها ، وفسّر البرهان بأنه سمع صوتا إياك وإياها مرتين ، فسمع ثالثا

__________________

(١) شعبها الأربع : يداها ورجلاها.

٣١١

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٥)

أعرض عنها ، فلم ينجع فيه ، حتى مثّل له يعقوب عاضا على أنملته ، وهو باطل ، ويدلّ على بطلانه قوله هي راودتني عن نفسي ، ولو كان ذلك منه أيضا لما برّأ نفسه من ذلك ، وكذلك (١) لنصرف عنه السوء والفحشاء ولو كان كذلك لم يكن السوء مصروفا عنه ، وقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ولو كان كذلك لخانه بالغيب ، وقوله : (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ... الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ولأنه لو وجد منه ذلك لذكرت توبته واستغفاره كما كان لآدم ونوح وذي النون وداود عليهم‌السلام ، وقد سماه الله مخلصا فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام وجاهد نفسه مجاهدة أولي العزم ناظرا في دلائل التحريم حتى استحقّ من الله الثناء ، ومحلّ الكاف في (كَذلِكَ) نصب ، أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، أو رفع أي الأمر مثل ذلك (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) خيانة السيد (وَالْفَحْشاءَ) الزنا (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) بفتح اللام حيث كان مدني وكوفي ، أي الذين أخلصهم الله لطاعته ، وبكسرها غيرهم أي الذين أخلصوا دينهم لله ، ومعنى من عبادنا بعض عبادنا ، أي هو مخلص من جملة المخلصين.

٢٥ ـ (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) وتسابقا إلى الباب هي للطلب وهو للهرب على حذف الجارّ وإيصال الفعل كقوله (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (٢) أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا ففرّ منها يوسف فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج ، ووحّد الباب وإن كان جمعه في قوله وغلّقت الأبواب لأنه أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار ، ولما هرب يوسف جعل فراش (٣) القفل يتناثر ويسقط حتى خرج (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) اجتبذته (٤) من خلفه فانقدّ أي انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) وصادفا بعلها قطفير مقبلا يريد أن يدخل فلما رأته احتالت لتبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة ولتخويف يوسف طمعا في أن يواطئها خيفة منها ومن مكرها حيث (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ما نافية أي ليس جزاؤه إلّا السجن أو عذاب أليم وهو الضرب

__________________

(١) في (ظ) و (ز) وقوله كذلك.

(٢) الأعراف ، ٧ / ١٥٥.

(٣) فراش القفل : ما ينشب فيه (القاموس ٢ / ٢٨٢).

(٤) في (ظ) و (ز) اجتذبته ، واجتبذ واجتذب بمعنى.

٣١٢

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (٢٨)

بالسياط ، ولم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوء لأنها قصدت العموم أي كلّ من أراد بأهلك سوء فحقه أن يسجن أو يعذب ، لأن ذلك أبلغ فيما قصدت من تخويف يوسف. ، ولمّا عرضته للسجن والعذاب ووجب عليه الدفع عن نفسه.

٢٦ ـ ٢٧ ـ (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ولو لا ذلك لكتم عليها ولم يفضحها (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) هو ابن عم لها ، وإنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها لتكون أوجب للحجّة عليها وأوثق لبراءة يوسف ، وقيل كان ابن خال لها وكان صبيا في المهد وسمّى قوله شهادة لأنه أدى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ* وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) والتقدير وشهد شاهد فقال : إن كان قميصه ، وإنما دلّ قدّ قميصه من قبل على أنها صادقة لأنه يسرع خلفها ليلحقها فيعثر في مقادم قميصه فيشقه ، ولأنه يقبل عليها وهي تدفعه عن نفسها فيتخرق قميصه من قبل ، وأما تنكير قبل ودبر فمعناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر ، وإنما جمع بين إنّ التي للاستقبال وبين كان لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ.

٢٨ ـ (فَلَمَّا رَأى) قطفير (قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) وعلم براءة يوسف وصدّقه وكذّبها (قالَ إِنَّهُ) إنّ قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ، أو إنّ هذا الأمر وهو الاحتيال لنيل الرجال (مِنْ كَيْدِكُنَ) الخطاب لها ولأمّتها (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) لأنهنّ ألطف كيدا وأعظم حيلة وبذلك يغلبن الرجال ، والقصريّات (١) منهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البوائق. وعن بعض العلماء : إني أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان لأنّ الله تعالى قال : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٢) وقال لهن : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ).

__________________

(١) القصريات : اللواتي يعشن في القصور.

(٢) النساء ، ٤ / ٧٦.

٣١٣

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣١)

٢٩ ـ (يُوسُفُ) حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث ، وفيه تقريب له وتلطيف لمحله (أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر واكتمه ولا تتحدث به ، ثم قال لراعيل (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال خطئ إذا أذنب متعمدا ، وإنما قال بلفظ التذكير تغليبا للذكور على الإناث ، وكان العزيز رجلا حليما قليل الغيرة حيث اقتصر على هذا القول.

٣٠ ـ (وَقالَ نِسْوَةٌ) جماعة من النساء وكنّ خمسا : امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب ، والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثها غير حقيقي ولذا لم يقل قالت ، وفيه لغتان كسر النون وضمّها (فِي الْمَدِينَةِ) في مصر (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) يردن قطفير ، والعزيز الملك بلسان العرب (تُراوِدُ فَتاها) غلامها ، يقال فتاي وفتاتي أي غلامي وجاريتي (عَنْ نَفْسِهِ) لتنال شهوتها منه (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) تمييز ، أي قد شغفها حبّه يعني خرق حبّه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد ، والشغاف حجاب القلب أو جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في خطأ وبعد عن طريق الصواب.

٣١ ـ (فَلَمَّا سَمِعَتْ) راعيل (بِمَكْرِهِنَ) باغتيابهنّ وقولهن امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني وومقتها (١) وسمّى الاغتياب مكرا لأنه في خفية وحال غيبة كما يخفي الماكر مكره ، وقيل كانت استكتمتهن سرّها فافشينه عليها (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) دعتهن ، قيل دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات (وَأَعْتَدَتْ) وهيّأت ، افتعلت من العتاد (لَهُنَّ مُتَّكَأً) ما يتكئن عليه من نمارق (٢) ، قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهن أن يدهشن عند رؤيته ويشغلن عن نفوسهن ، فتقع

__________________

(١) المقة : المحبة ، وهي في (ظ) و (ز) ومقتها بدون واو العطف.

(٢) النمارق جمع نمرق ونمرقة وهي الوسادة الصغيرة.

٣١٤

أيديهنّ على أيديهنّ فيقطّعنها لأنّ المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) وكانوا لا يأكلون في ذلك الزمان إلّا بالسكاكين كفعل الأعاجم (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) بكسر التاء بصري وعاصم وحمزة ، وبضمّها غيرهم (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع (١) والجمال الفائق ، وكان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء ، وكان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران ، وكان يشبه آدم يوم خلقه ربّه ، وقيل ورث الجمال من جدّته سارة ، وقيل أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت ، إذ لا يقال النساء قد حضنه لأنّه لا يتعدى إلى مفعول ، يقال أكبرت المرأة أي (٢) حاضت وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصّغر ، وكأنّ أبا الطيّب (٣) أخذ من هذا التفسير قوله :

خف الله واستر ذا الجمال ببرقع

فإن لحت حاضت في الخدور العواتق (٤)

(وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) وجرحنها ، كما تقول كنت أقطع اللحم فقطعت يدي تريد جرحتها ، أي أردن أن يقطّعن الطعام الذي في أيديهن ، فدهشن لما رأينه ، فخدشن أيديهنّ (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) حاشا كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء ، تقول أساء القوم حاشا زيد ، وهي حرف من حروف الجر ، فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى حاشا لله (٥) براءة الله وتنزيه الله ، وقراءة أبي عمرو حاشا لله نحو قولك سقيا لك ، كأنه قال براءة ، ثم قال لله ، لبيان من يبرّء وينزّه ، وغيره حاش (٦) بحذف الألف الأخيرة ، والمعنى تنزيه الله من صفات العجز ، والتعجّب من قدرته على خلق جميل مثله (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) نفين عنه البشرية لغرابة جماله وأثبتن له الملكيّة وبتتن بها الحكم لما ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك كما ركز فيها أنّ لا أقبح من الشيطان.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الرائق.

(٢) في (ظ) إذا ، وليست في (ز).

(٣) أبو الطيب : هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي ، أبو الطيب المتنبي الشاعر ، ولد بالكوفة عام ٣٠٣ ه‍ ومات قتلا عام ٣٥٤ ه‍ (الأعلام ١ / ١١٥).

(٤) العواتق : الأبكار اللواتي أول ما بلغن.

(٥) في (ظ) و (ز) الله.

(٦) في (ظ) و (ز) حاش لله ، وفي (أ) ضرب على لله.

٣١٥

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٣)

٣٢ ـ (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) تقول هو ذلك العبد الكنعاني الذي صورتنّ في أنفسكنّ ثم لمتنّني فيه ، تعني إنكنّ لم تصوّرنه بحقّ (١) صورته وإلّا لعذرتنّني في الافتتان به (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) والاستعصام بناء مبالغة يدلّ على الامتناع البليغ ، والتحفّظ الشديد ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها ، وهذا بيان جلي على أنّ يوسف عليه‌السلام بريء مما فسّر به أولئك الفريق الهمّ والبرهان ثم قلن له أطع مولاتك ، فقالت راعيل (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) الضمير راجع إلى ما وهي موصولة ، والمعنى ما آمره به ، فحذف الجار ، كما في قوله أمرتك الخير ، أو ما مصدرية والضمير يرجع إلى يوسف ، أي ولئن لم يفعل أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه (لَيُسْجَنَنَ) ليحبسنّ والألف في (وَلَيَكُوناً) بدل من نون التأكيد الخفيفة (مِنَ الصَّاغِرِينَ) مع السّرّاق والسّفّاك والأبّاق ، كما سرق قلبي وأبق مني وسفك دمي بالفراق ، فلا يهنؤه (٢) الطعام والشراب والنوم هنالك ، كما منعني هنا كلّ ذلك ، ومن لم يرض بمثلي في الحرير على السرير أميرا حصل في الحصير على الحصير حسيرا.

فلما سمع يوسف تهديدها :

٣٣ ـ (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أسند الدعوة إليهنّ لأنهن قلن له ما عليك لو أجبت مولاتك ، أو افتتنت كلّ واحدة به فدعته إلى نفسها سرا فالتجأ إلى ربّه ، وقال ربّ السجن أحبّ إليّ من ركوب المعصية (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) فزع منه إلى الله في طلب العصمة (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أمل إليهنّ ، والصبوة الميل إلى الهوى ، ومنه الصّبا (٣) لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) من الذين لا يعملون بما يعلمون ، لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لم يعلم سواء ، أو من السفهاء.

فلما كان في قوله وإلّا تصرف عني كيدهنّ معنى طلب الصرف والدعاء قال :

__________________

(١) في (ظ) و (ز) حق صورته.

(٢) في (ز) يهنأ ليوسف.

(٣) الصبا : ريح تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ومقابلتها الدبور.

٣١٦

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣٦)

٣٤ ـ (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) أي أجاب الله دعاءه (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعوات الملتجئين إليه (الْعَلِيمُ) بحاله وحالهن.

٣٥ ـ (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) فاعله مضمر لدلالة ما يفسّره عليه وهو ليسجننّه ، والمعنى بدا لهم بداء أي ظهر لهم رأي ، والضمير في لهم للعزيز وأهله (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) وهي الشواهد على براءته كقدّ القميص (١) وشهادة الصبي وغير ذلك (لَيَسْجُنُنَّهُ) لإبلاء (٢) عذر الحال ، وإرخاء الستر على القيل والقال ، وما كان ذلك باستنزال المرأة لزوجها ، وكان

مطواعا لها وحميلا (٣) ذلولا ، زمامه في يدها وقد طمعت أن يذلّله السجن ويسخّره لها ، أو خافت عليه العيون وظنّت فيه الظنون ، فألجأها الخجل من الناس ، والوجل من اليأس (٤) ، إلى أن رضيت بالحجاب ، مكان خوف الذهاب ، لتشتفي بخبره ، إذا منعت من نظره (حَتَّى حِينٍ) إلى زمان ، كأنها اقترحت أن يسجن زمانا حتى تبصر ما يكون منه.

٣٦ ـ (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) عبدان للملك خبّازه وشرابيّه بتهمة السمّ ، فأدخلا السجن ساعة أدخل يوسف لأنّ مع يدلّ على معنى الصحبة ، تقول خرجت مع الأمير تريد مصاحبا له ، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له (قالَ أَحَدُهُما) أي شرابيّه (إِنِّي أَرانِي) أي في المنام ، وهي حكاية حال ماضية (أَعْصِرُ خَمْراً) أي عنبا ، تسمية للعنب بما يؤول إليه ، أو الخمر بلغة عمان اسم للعنب (وَقالَ الْآخَرُ) أي خبّازه (إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) بتأويل ما رأيناه (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من الذين يحسنون عبارة الرؤيا ، أو من المحسنين إلى أهل السجن ، فإنك تداوي المرضى (٥) ، وتعزي

__________________

(١) زاد في (ز) وقطع الأيدي.

(٢) في (ز) لإبداء ، والإبلاء : قبول عذر مقدم (انظر القاموس ٤ / ٣٠٥).

(٣) حميلا : تصغير حمل وهو الخروف الصغير.

(٤) في (ز) الباس.

(٥) في (ز) المريض.

٣١٧

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٣٨)

الحزين ، وتوسّع على الفقير ، فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا ، وقيل إنهما تحالما له ليمتحناه ، فقال الشرابي : إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل حبلة (١) عليها ثلاثة عناقيد من عنب ، فقطفتها وعصرتها في كاس الملك وسقيته ، وقال الخباز : إني رأيت كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة ، فإذا سباع الطير تنهش منها.

٣٧ ـ (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) أي لبيان ماهيته وكيفيته ، لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) ولمّا استعبراه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك ، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبّئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ، ويصفه لهما ويقول اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت فيكون كذلك ، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزيّنه لهما ويقبّح إليهما الشرك ، وفيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده ، وغرضه أن يقتبس منه لم يكن من باب التزكية (ذلِكُما) إشارة لهما إلى التأويل ، أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) وأوحى به إليّ ولم أقله عن تكهن وتنجّم (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) يجوز أن يكون كلاما مبتدأ وأن يكون تعليلا لما قبله ، أي علّمني ذلك وأوحى به إليّ لأني رفضت ملة أولئك وهم أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم.

٣٨ ـ (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وهي الملة الحنيفية ، وتكرير هم للتوكيد ، وذكر الآباء ليريهما أنه من بيت النبوة بعد أن عرّفهما أنه نبي (٢) بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوّي رغبتهما في اتّباع قوله ، والمراد به التّرك ابتداء (٣) لا أنه كان فيه ثم تركه (ما كانَ لَنا) ما صحّ لنا معشر الأنبياء (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ

__________________

(١) الحبلة : الكرم أو أصل من أصوله (القاموس ٣ / ٣٥٤).

(٢) زاد في (ز) يوحى إليه.

(٣) في (ز) ترك الابتداء.

٣١٨

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٤١)

(شَيْءٍ) أي شيء كان صنما أو غيره ، ثم قال (ذلِكَ) التوحيد (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) فضل الله ، فيشركون به ولا يتنبّهون (١).

٣٩ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) يا ساكني السجن كقوله : (أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٢) (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) يريد التفرّق في العدد والتكاثر ، أي أن تكون أرباب شتى يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا خير لكما أم يكون لكما ربّ واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية ، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام.

٤٠ ـ (ما تَعْبُدُونَ) خطاب لهما ولمن كان على دينهما من أهل مصر (مِنْ دُونِهِ) من دون الله (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة ، ثم طفقتم تعبدونها ، فكأنكم لا تعبدون إلّا أسماء لا مسميّات لها ، ومعنى سميتموها سمّيتم بها ، يقال سميته زيدا وسميته بزيد (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) بتسميتها (مِنْ سُلْطانٍ) حجّة (إِنِ الْحُكْمُ) في أمر العبادة والدين (إِلَّا لِلَّهِ) ثم بين ما حكم به فقال (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الثابت الذي دلت عليه البراهين (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وهذا يدلّ على أنّ العقوبة تلزم العبد وإن جهل إذا أمكن له العلم بطريقه. ثم عبر الرؤيا فقال :

٤١ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) يريد الشرابيّ (فَيَسْقِي رَبَّهُ) سيّده (خَمْراً) أي يعود إلى عمله (وَأَمَّا الْآخَرُ) أي الخباز (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) روي أنه قال للأول : ما رأيت من الكرمة (٣) هو الملك وحسن حالك عنده ، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت

__________________

(١) في (ز) ينتهون.

(٢) الحشر ، ٥٩ / ٢٠.

(٣) زاد في (ز) وحسنها.

٣١٩

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (٤٣)

عليه ، وقال للثاني : ما رأيت من السّلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل ، ولما سمع الخباز صلبه قال : ما رأيت شيئا ، فقال يوسف (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي قطع وتم ما تستفتيان فيه من أمركما وشأنكما ، أي ما يجرّ عليه (١) من العاقبة ، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر.

٤٢ ـ (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) الظانّ هو يوسف عليه‌السلام إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ، وإن كان بطريق الوحي فالظانّ هو الشرابي ، أو يكون الظنّ بمعنى اليقين (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) صفني عند الملك بصفتي وقصّ عليه قصتي لعلّه يرحمني ويخلّصني من هذه الورطة (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ) فأنسى الشرابي (ذِكْرَ رَبِّهِ) أن يذكره لربّه ، أو عند ربّه ، أو فأنسى يوسف ذكر الله حين وكّل أمره إلى غيره ، وفي الحديث : (رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعا) (٢) (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) أي سبعا عند الجمهور ، والبضع ما بين الثلاث إلى التسع.

٤٣ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) لما دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف ، فابتلعت العجاف السمان ، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبّها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها ، وقيل كان ابتداء بلاء يوسف في الرؤيا ثم كان سبب نجاته أيضا الرؤيا ، سمان جمع سمين وسمينة ، والعجاف : المهازيل والعجف

__________________

(١) في (ظ) و (ز) إليه.

(٢) هو عند ابن حبان بلفظ : رحم الله يوسف لو لا الكلمة التي قالها اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث (حديث رقم ٦١٧٣).

٣٢٠