تفسير النسفي - ج ٢

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٠)

٨٦ ـ (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) يجوز أن يراد سورة بتمامها ، وأن يراد بعضها ، كما يقع القرآن والكتاب على كلّه وعلى بعضه (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ) بأن آمنوا ، أو هي أن المفسّرة (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) ذوو الفضل والسّعة (وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) مع الذين لهم عذر في التخلّف كالمرضى والزّمنى.

٨٧ ـ (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي النساء جمع خالفة (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلّف من الهلاك والشقاوة.

٨٨ ـ (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي إن تخلّف هؤلاء فقد نهض إلى الغزو من هو خير منهم (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) تناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ ، وقيل الحور لقوله (فِيهِنَّ خَيْراتٌ) (١) (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بكل مطلوب.

٨٩ ـ (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) قوله أعدّ دليل على أنها مخلوقة.

٩٠ ـ (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) هو من عذّر في الأمر إذا قصّر فيه وتوانى ، وحقيقته أن يوهم أنّ له عذرا فيما فعل ولا عذر له ، أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين وهم الذين يعتذرون بالباطل ، قيل هم أسد وغطفان قالوا : إنّ لنا عيالا وإنّ بنا جهدا فأذن لنا في التخلّف (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا ، فظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) من الأعراب (عَذابٌ

__________________

(١) الرحمن ، ٥٥ / ٧٠.

٢٠١

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٩٣)

(أَلِيمٌ) في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.

٩١ ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) الهرمى والزّمنى (وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) هم الفقراء من مزينة وجهينة وبني عذرة (حَرَجٌ) إثم وضيق في التأخر (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بأن آمنوا في السرّ والعلن وأطاعوا كما يفعل الناصح بصاحبه (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ) المعذورين الناصحين (مِنْ سَبِيلٍ) أي لا جناح عليهم ولا طريق للعاتب (١) عليهم (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر تخلّفهم (رَحِيمٌ) بهم.

٩٢ ـ (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) لتعطيهم الحمولة (قُلْتَ) حال من الكاف في أتوك ، وقد قبله مضمرة ، أي إذا ما أتوك قائلا (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) هو جواب إذا (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) أي تسيل ، كقولك تفيض دمعا وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأنّ العين جعلت كأنّ كلها دمع فائض ، ومن للبيان كقولك أفديك من رجل ، ومحلّ الجار والمجرور النصب على التمييز ، ويجوز أن يكون قلت لا أجد استئنافا ، كأنه قيل إذا ما أتوك لتحملهم تولّوا فقيل ما لهم تولّوا باكين ، فقيل قلت لا أجد ما أحملكم عليه إلّا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض (حَزَناً) مفعول له (أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) لئلّا يجدوا ما ينفقون ، ومحلّه نصب على أنه مفعول له وناصبه حزنا ، والمستحملون أبو موسى الأشعري (٢) وأصحابه ، أو البكاؤون وهم ستة نفر من الأنصار.

٩٣ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) في التخلّف (وَهُمْ أَغْنِياءُ) وقوله (رَضُوا) استئناف كأنه قيل ما بالهم استأذنوا ، وهم أغنياء فقيل رضوا (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ

__________________

(١) في (ز) للعتاب.

(٢) أبو موسى الأشعري : هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب ، أبو موسى ، من بني الأشعر من قحطان ، صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين وأحد الحكمين اللذين رضي بهما علي ومعاوية بعد حرب صفين ولد عام ٢١ ق. ه ومات عام ٤٤ ه‍ (الأعلام ٤ / ١١٤).

٢٠٢

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٩٧)

(الْخَوالِفِ) أي بالانتظام في جملة الخوالف (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

٩٤ ـ (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) يقيمون لأنفسهم عذرا باطلا (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) من هذه السفرة (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا) بالباطل (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لن نصدّقكم ، وهو علة للنهي عن الاعتذار ، لأنّ غرض المعتذر أن يصدّق فيما يعتذر به (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) علة لانتفاء تصديقهم ، لأنه تعالى إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أتنيبون أم تثبتون على كفركم (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي تردون إليه وهو عالم كلّ سرّ وعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم على حسب ذلك.

٩٥ ـ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) لتتركوهم ولا توبّخوهم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) فأعطوهم طلبتهم (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) تعليل لترك معاتبتهم ، أي أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم لأنهم أرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ومصيرهم النار ، يعني وكفتهم النار عتابا وتوبيخا فلا تتكلفوا عتابهم (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي يجزون جزاء كسبهم.

٩٦ ـ (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي غرضهم بالحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فإنّ رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطا عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها ، وإنما قيل ذلك لئلّا يتوهّم أنّ رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم.

٩٧ ـ (الْأَعْرابُ) أهل البدو (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) من أهل الحضر لجفائهم

٢٠٣

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٩)

وقسوتهم وبعدهم عن العلم والعلماء (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا) وأحقّ بأن لا يعلموا (حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) يعني حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام ، ومنه قوله عليه‌السلام : (إنّ الجفاء والقسوة في الفدّادين) (١) يعني الأكرة لأنهم يفدّون أي يصيحون في حروثهم والفديد الصياح (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم (حَكِيمٌ) في إمهالهم.

٩٨ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) أي يتصدق (مَغْرَماً) غرامة وخسرانا لأنه لا ينفق إلا تقيّة من المسلمين ورياء لا لوجه الله وابتغاء المثوبة عنده (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي دوائر الزمان وتبدّل الأحوال بدور الأيام لتذهب غلبتكم عليه فيتخلّص من إعطاء الصدقة (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعون وقوعها في المسلمين. السّوء مكي وأبو عمرو وهو العذاب ، والسّوء بالفتح ذم للدائرة كقولك رجل سوء في مقابلة قولك رجل صدق (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يقولون إذا توجّهت عليهم الصّدقة (عَلِيمٌ) بما يضمرون (٢).

٩٩ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) في الجهاد والصدقات (قُرُباتٍ) أسبابا للقربة (عِنْدَ اللهِ) وهو مفعول ثان ليتّخذ (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي دعاءه لأنه عليه‌السلام كان يدعو للمتصدّقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله : (اللهم صل على آل أبي أوفى) (٣) (أَلا إِنَّها) أي النفقة أو صلوات الرسول (قُرْبَةٌ لَهُمْ) قربة نافع ، وهذا شهادة من الله للمتصدّق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكّنه ، وكذلك (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي جنّته ، وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدلّ هذا الكلام على رضا الله عن المتصدقين ، وأنّ الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها (إِنَّ اللهَ

__________________

(١) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري.

(٢) في (ز) يضمرونه.

(٣) متفق عليه من حديث عبد الله بن أبي أوفى.

٢٠٤

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١٠١)

(غَفُورٌ) يستر عيب المخلّ (رَحِيمٌ) يقبل جهد المقلّ.

١٠٠ ـ (وَالسَّابِقُونَ) مبتدأ (الْأَوَّلُونَ) صفة لهم (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) تبيين لهم ، وهم الذين صلّوا إلى القبلتين ، أو الذين شهدوا بدرا ، أو بيعة الرضوان (وَالْأَنْصارِ) عطف على المهاجرين ، أي ومن الأنصار ، وهم أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) من المهاجرين والأنصار ، فكانوا سائر الصحابة ، وقيل هم الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة ، والخبر (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بأعمالهم الحسنة (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية (وَأَعَدَّ لَهُمْ) عطف على رضي (جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) من تحتها مكي (خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

١٠١ ـ (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) يعني حول بلدتكم وهي المدينة (مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على خبر المبتدأ الذي هو ممن حولكم ، والمبتدأ منافقون ، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدّرت ومن أهل المدينة قوم (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي تمهّروا فيه ، على أنّ مردوا صفة موصوف محذوف ، وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاما مبتدأ ، أو صفة لمنافقون فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره ، ودل على مهارتهم فيه بقوله (لا تَعْلَمُهُمْ) أي يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوّقهم (١) في تحامي ما يشكّك في أمرهم ، ثم قال : (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي لا يعلمهم إلّا الله ، ولا يطّلع على سرّهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) هما القتل وعذاب القبر ، أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الصدقات من أموالهم ونهك أبدانهم (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) أي عذاب النار.

__________________

(١) تنوّق : تجوّد (القاموس ٣ / ٢٨٧).

٢٠٥

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣)

١٠٢ ـ (وَآخَرُونَ) أي قوم آخرون سوى المذكورين (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أي لم يعتذروا من تخلّفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين ، وكانوا عشرة ، فسبعة منهم لما بلغهم ما نزل في المتخلّفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل المسجد فصلّى ركعتين ، وكانت عادته كلما قدم من سفر ، فرآهم موثقين ، فسأل عنهم ، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يحلّهم ، فقال : (وأنا أقسم أن لا أحلّهم حتى أومر فيهم) فنزلت ، فأطلقهم ، فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك فتصدّق بها وطهّرنا ، فقال : (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا) فنزل خذ من أموالهم صدقة (١) (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) خروجا إلى الجهاد (وَآخَرَ سَيِّئاً) تخلّفا عنه ، أو التوبة والإثم ، وهو من قولهم بعت الشاء شاة ودرهما ، أي شاة بدرهم ، فالواو بمعنى الباء لأنّ الواو للجمع والباء للإلصاق فيتناسبان ، أو المعنى خلط كلّ واحد منهما بالآخر ، فكلّ واحد منهما مخلوط ومخلوط به ، كقولك خلطت الماء واللبن تريد خلطت كلّ واحد منهما بصاحبه ، بخلاف قولك خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به ، وإذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما ، كأنك قلت خلطت الماء باللبن بالماء (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولم يذكر توبتهم لأنه ذكر اعترافهم بذنوبهم ، وهو دليل على التوبة.

١٠٣ ـ (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) كفارة لذنوبهم ، وقيل هي الزكاة (تُطَهِّرُهُمْ) عن الذنوب ، وهو صفة لصدقة ، والتاء للخطاب ، أو لغيبة المؤنث ، والتاء في (وَتُزَكِّيهِمْ) للخطاب لا محالة (بِها) بالصدقة والتزكية ، مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحّم والسّنّة أن يدعو المصّدّق لصاحب الصدقة إذا أخذها (إِنَّ صَلاتَكَ) صلاتك كوفي غير أبي بكر ، وقيل الصلاة أكثر من الصلوات لأنها للجنس (سَكَنٌ لَهُمْ)

__________________

(١) البيهقي في الدلائل.

٢٠٦

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦)

يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأنّ الله قد تاب عليهم (وَاللهُ سَمِيعٌ) لدعائك ، أو يسمع اعترافهم (١) بذنوبهم ودعائهم (عَلِيمٌ) بما في ضمائرهم من الندم والغمّ لما فرط منهم.

١٠٤ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا) المراد المتوب عليهم ، أي ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) إذا صحّت (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) ويقبلها إذا صدرت على خلوص النية ، وهو للتخصيص ، أي إنّ ذلك ليس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردّها فاقصدوه بها ووجهوها إليه (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) كثير قبول التوبة (الرَّحِيمُ) يعفو الحوبة.

١٠٥ ـ (وَقُلِ) لهؤلاء التائبين (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي فإنّ عملكم لا يخفى خيرا كان أو شرا على الله وعباده كما رأيتم وتبيّن لكم ، أو غير التائبين ترغيبا لهم في التوبة ، فقد روي أنه لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلّمون ولا يجالسون فما لهم؟ فنزلت ، وقوله تعالى فسيرى الله ، وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) ما يغيب عن الناس (وَالشَّهادَةِ) ما يشاهدونه (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تنبئة تذكير ومجازاة عليه.

١٠٦ ـ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) بغير همز مدني وكوفي غير أبي بكر ، مرجئون غيرهم من أجريته وأرجأته إذا أخرته ، ومنه المرجئة ، أي وآخرون من المتخلّفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن أصروا ولم يتوبوا (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) إن تابوا وهم ثلاثة : كعب بن مالك (٢) وهلال بن أمية (٣) ومرارة

__________________

(١) في (ز) أو سميع لاعترافهم.

(٢) كعب بن مالك بن عمرو بن القين الأنصاري السلمي الخزرجي ، صحابي من أكابر الشعراء من أهل المدينة ، وشهد أكثر المواقع توفي عام ٥٠ ه‍ (الأعلام ٥ / ٢٢٨).

(٣) هلال بن أمية بن واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس الأنصاري الواقفي ، من أهل بدر وممن شهدها وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم (الأنساب ٥ / ٥٦٧).

٢٠٧

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٠٧)

ابن الربيع والضابط مكنة (١) ، تخلّفوا عن غزوة تبوك وهم الذين ذكروا في قوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَاللهُ عَلِيمٌ) برجائهم (حَكِيمٌ) في إرجائهم ، وإمّا للشك ، وهو راجع إلى العباد ، أي خافوا عليهم العذاب وأرجو لهم الرحمة ، وروي أنه عليه‌السلام أمر أصحابه أن لا يسلّموا عليهم ولا يكلّموهم ، ولم يفعلوا كما فعل ذلك الفريق من شدّ أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغمّ ، فلما علموا أن أحدا لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم رحمهم‌الله.

١٠٧ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) تقديره ومنهم الذين اتخذوا ، الذين بغير واو مدني وشامي ، وهو مبتدأ خبره محذوف ، أي جازيناهم ، روي أنّ بني عمرو بن عوف (٢) لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم ، فأتاهم ، فصلى فيه ، فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف (٣) ، وقالوا : نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب (٤) إذا قدم من الشام ، وهو الذي قال لرسول الله عليه‌السلام يوم أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء ، وقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، ونحن نحبّ أن تصلي لنا فيه ، فقال : (إني على جناح سفر وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلّينا فيه) فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد ، فنزلت عليه فقال لوحشي قاتل حمزة ومعن بن عدي وغيرهما : (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه) ففعلوا (٥) ، وأمر أن يتّخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام (ضِراراً) مفعول له وكذا ما بعد ، أي مضارّة

__________________

(١) مرارة بن الربيع العامري : صحابي من أهل بدر وهو ثالث الثلاثة الذين تيب عليهم تخلفهم عن غزوة تبوك ، وليس في (ز) والضابط مكنة أي قادرون وستأتي قصة الثلاثة في الآية ١١٨ من هذه السورة.

(٢) عمرو بن عوف ، جد جاهلي من الأزد ومن سلالته بطون (الأعلام ٥ / ٨٢).

(٣) غنم بن عوف ، جد جاهلي من الأزد ومن سلافته بطون (الأعلام ٥ / ١٢٢).

(٤) أبو عامر الراهب ، هو عمرو بن صيفي بن مالك بن أمية ، من الأوس ، جاهلي من أهل المدينة ، كان يذكر البعث ودين الحنيفية ولما ظهر الإسلام حسد النبي عليه‌السلام قاتل مع المشركين في أحد ومات عام ٩ ه‍ (الأعلام ٥ / ٧٩).

(٥) أخرجه ابن مردويه من طريق ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس ، والواحدي عن سعد بن أبي وقاص.

٢٠٨

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨)

لإخوانهم أصحاب مسجد قباء (وَكُفْراً) وتقوية للنفاق (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم كانوا يصلّون مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا أن يتفرّقوا عنه وتختلف كلمتهم (وَإِرْصاداً لِمَنْ) وإعدادا لأجل من (حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وهو الراهب ، أعدوه له ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل كلّ مسجد بني مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله أو بمال غير طيب فهو لا حق بمسجد الضّرار (مِنْ قَبْلُ) متعلق بحارب ، أي من قبل بناء هذا المسجد يعني يوم الخندق (وَلَيَحْلِفُنَ) كاذبين (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى ، وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في حلفهم.

١٠٨ ـ (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) للصلاة (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) اللام للابتداء ، وأسس نعت له ، وهو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء (١) ، أو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من أيام وجوده ، قيل القياس فيه منذ ، لأنه لابتداء الغاية في الزمان ، ومن لابتداء الغاية في المكان ، والجواب إنّ من عام في الزمان والمكان (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) مصلّيا (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه المهاجرون حتى وقفوا على باب مسجد قباء ، فإذا الأنصار جلوس ، فقال : (أمؤمنون أنتم) فسكت القوم ، ثم أعادها ، فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه‌السلام : (أترضون بالقضاء) قالوا : نعم ، قال : (أتصبرون على البلاء) قالوا : نعم ، قال : (أتشكرون في الرخاء) قالوا : نعم ، قال عليه‌السلام : (مؤمنون أنتم ورب الكعبة) فجلس. ثم قال : (يا معشر الأنصار إنّ الله عزوجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟) فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ، ثم نتبع الأحجار الماء ، فتلا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) (٢) : قيل هو عام في التّطهّر عن النجاسات كلّها ، وقيل هو التّطهّر من الذنوب بالتوبة ،

__________________

(١) زاد في (ز) وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة.

(٢) القصة واحدة والطرق متعددة والألفاظ متقاربة عند الطبري والحاكم دون المقدمة بدءا من يا معشر الأنصار.

٢٠٩

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١١٠)

ومعنى محبتهم للتّطهّر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء ، ومعنى محبة الله إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحبّ بمحبوبه.

١٠٩ ـ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) وضع أساس ما يبنيه (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) هذا سؤال تقرير وجوابه مسكوت عنه لوضوحه ، والمعنى أفمن أسّس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهي (١) تقوى الله ورضوانه خير أم من أسّسه على قاعدة هي (٢) أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلّة الثبات والاستمساك ، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى ، والشفا : الحرف والشفير ، وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفّر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيا ، والهار : الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدّم والسقوط ، ووزنه فعل قصر عن فاعل كخلف من خالف وألفه ليس بألف فاعل إنما هي عينه ، وأصله هور فقلبت ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدلّ على حقيقة الباطل وكنه أمره. أفمن أسس بنيانه ؛ أمّن أسس شامي ونافع ، جرف شامي وحمزة ويحيى ، هاريا لأمالة أبو عمرو وحمزة في رواية ويحيى (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) فطاح به الباطل في نار جهنم ، ولما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل رشّح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف وليصور أنّ المبطل كأنه أسّس بنيانه على شفا جرف هار من أودية جهنم ، فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها ، قال جابر : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضّرار حين انهار (٣) (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لا يوفقهم للخير عقوبة لهم على نفاقهم.

١١٠ ـ (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) لا يزال هدمه سبب شكّ ونفاق زائد على شكّهم ونفاقهم لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) شامي وحمزة وحفص أي تتقطع. غيرهم تقطع أي إلّا أن تقطّع قلوبهم

__________________

(١ و ٢) في (أ) هو.

(٣) رواه الطبري.

٢١٠

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢)

قطعا وتفرّق أجزاء فحينئذ يسلون عنه ، وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة ، ثم يجوز أن يكون ذكر التقطّع تصويرا لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم ، أو في القبور ، أو في النار ، أو معناه إلّا أن يتوبوا توبة تتقطّع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بعزائمهم (حَكِيمٌ) في جزاء جرائمهم.

١١١ ـ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) مثّل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء ، وروي : تاجرهم ، فأغلى لهم الثمن ، وعن الحسن أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها ، ومرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرابيّ وهو يقرؤها فقال : بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله ، فخرج إلى الغزو واستشهد (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) بيان محلّ التسليم (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي تارة يقتلون العدوّ وطورا يقتلهم العدوّ فيقتلون. ويقتلون حمزة وعليّ (وَعْداً عَلَيْهِ) مصدر ، أي وعدهم بذلك وعدا (حَقًّا) صفته ، أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) وهو دليل على أنّ أهل كلّ ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه ، ثم قال (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) لأنّ إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكريم منّا فكيف بأكرم الأكرمين ، ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن منه وأبلغ (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) فافرحوا غاية الفرح فإنكم تبيعون فانيا بباق (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) قال الصادق : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلّا بها.

١١٢ ـ (التَّائِبُونَ) رفع على المدح ، أي هم التائبون ، يعني المؤمنين المذكورين ، أو هو مبتدأ خبره (الْعابِدُونَ) أي الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة ، وما بعده خبر بعد خبر ، أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وعن الحسن : هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤوا من النفاق (الْحامِدُونَ)

٢١١

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤)

على نعمة الإسلام (السَّائِحُونَ) الصائمون لقوله عليه‌السلام : (سياحة أمتي الصيام) (١) أو طلبة العلم لأنهم يسيحون في الأرض يطلبونه في مظانّه ، أو السائرون في الأرض للاعتبار (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) المحافظون على الصلوات (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإيمان (٢) والطاعة (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الشرك والمعاصي ، ودخلت الواو للإشعار بأنّ السبعة عقد تام ، أو لتضاد (٣) بين الأمر والنهي ، كما في قوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (٤) (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أوامره ونواهيه ، أو معالم الشرع (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) المتّصفين بهذه الصفات.

وهمّ عليه‌السلام أن يستغفر لأبي طالب فنزل :

١١٣ ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي ما صحّ له الاستغفار في حكم الله وحكمته (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك ، ثم ذكر عذر إبراهيم فقال :

١١٤ ـ (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي وعد أبوه إياه أن يسلم ، أو وعد هو (٥) أباه أن يستغفر وهو قوله (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) (٦) دليله قراءة الحسن وعدها أباه ، ومعنى استغفاره سؤاله المغفرة له بعد ما أسلم ، أو سؤاله إعطاء الإسلام الذي به يغفر له (فَلَمَّا تَبَيَّنَ) من جهة الوحي (لَهُ) لإبراهيم (أَنَّهُ) أنّ أباه (عَدُوٌّ لِلَّهِ) بأن يموت كافرا وانقطع رجاؤه عنه (تَبَرَّأَ مِنْهُ) وقطع استغفاره (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) هو المتأوه شفقا وفرقا ، ومعناه أنه لفرط ترحّمه ورقته كان يتعطّف على أبيه الكافر (حَلِيمٌ) هو الصبور على البلاء الصفوح عن الأذى ، لأنه كان يستغفر لأبيه وهو يقول : (لَأَرْجُمَنَّكَ) (٧).

__________________

(١) الطبري عن عائشة موقوف بلفظ سياحة هذه الأمة الصيام.

(٢) زاد في (ز) والمعرفة.

(٣) في (ز) للتضاد.

(٤) التحريم ، ٦٦ / ٥.

(٥) في (ز) أو هو وعد أباه.

(٦) الممتحنة ، ٦٠ / ٤.

(٧) مريم ، ١٩ / ٤٦.

٢١٢

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧)

١١٥ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) أي ما أمر الله باتقائه واجتنابه ، كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه ، وبيّن أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره وعلمهم بأنه واجب الامتثال (١) ، وأما قبل العلم والبيان فلا ، وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين ، والمراد بما يتقون ما يجب اتقاؤه للنهي ، فأمّا ما يعلم بالعقل فغير موقوف على التوقيف (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

١١٧ ـ (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) أي تاب عليه بإذنه (٢) للمنافقين في التخلّف عنه ، كقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) (٣) (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) فيه بعث للمؤمنين على التوبة وأنّه ما من مؤمن إلّا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين والأنصار (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) في غزوة تبوك ، ومعناه في وقتها ، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق ، وكانوا في عسرة من الظّهر (٤) يعتقب العشرة على بعير واحد ، ومن الزاد تزوّدوا التمر المدوّد والشعير المسوّس والإهالة (٥) الزّنخة ، وبلغت بهم الشدة حتى اقتسم بالتمرة اثنان ، وربما مصّها الجماعة ليشربوا عليها الماء ، ومن الماء حتى نحروا الإبل وعصروا كرشه (٦) وشربوه ، وفي شدة زمان من حارّة (٧) القيظ ، ومن الجدب والقحط (٨) (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ

__________________

(١) أي الامتثال للنهي ، وفي (ظ) و (ز) الاجتناب.

(٢) في (ز) من إذنه.

(٣) سبق ذكرها ، الاية رقم ٤٣.

(٤) أي الدواب من خيل وبغال وجمال.

(٥) الإهالة : الشحم أو ما أذيب منه أو الزيت وكل ما ائتدم به (القاموس ٣ / ٣٣١).

(٦) في (ز) كرشها.

(٧) في (ظ) و (ز) حمارّة.

(٨) في (ز) القطّ.

٢١٣

وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢٠)

(قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) عن الثبات على الإيمان ، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه ، وفي كاد ضمير الشأن ، والجملة بعده في موضع النصب ، وهو كقولهم ليس خلق الله مثله ، أي ليس الشأن خلق الله مثله ، يزيغ حمزة وحفص (١) (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتوكيد (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

١١٨ ـ (وَعَلَى الثَّلاثَةِ) أي وتاب على الثلاثة وهم مكنة (٢) وهو عطف على النبيّ (الَّذِينَ خُلِّفُوا) عن الغزو (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) برحبها ، أي مع سعتها ، وهو مثل للحيرة في أمرهم كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقرّون فيه قلقا وجزعا (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور ، لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلّا إلى استغفاره (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) بعد خمسين يوما (لِيَتُوبُوا) ليكونوا من جملة التوابين (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عن أبي بكر الورّاق أنه قال : التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة.

١١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في إيمانهم دون المنافقين ، أو مع الذين لم يتخلّفوا ، أو مع الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا. والآية تدلّ على أنّ الإجماع حجة لأنه أمر بالكون مع الصادقين فلزم قبول قولهم.

١٢٠ ـ (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) المراد بهذا النفي النهي ، وخصّ هؤلاء بالذكر وإن استوى كلّ الناس في ذلك

__________________

(١) على أن ما في مصحف النسفي تزيغ.

(٢) ليس في (ظ) و (ز) مكنة ، وزاد كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية.

٢١٤

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢)

لقربهم منه ، ولا يخفى عليهم خروجه (وَلا يَرْغَبُوا) ولا أن يضنّوا (بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) عما يصيب نفسه ، أي لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء ويلقوا أنفسهم بين يديه في كلّ شدة (ذلِكَ) النهي عن التخلّف (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش (وَلا نَصَبٌ) تعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) مجاعة (فِي سَبِيلِ اللهِ) في الجهاد (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً) ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم (يَغِيظُ الْكُفَّارَ) يغضبهم ويضيّق صدورهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) ولا يصيبون منهم إصابة بقتل أو أسر أو جرح أو كسر أو هزيمة (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) عن ابن عباس رضي الله عنهما : لكل روعة سبعون ألف حسنة ، يقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عامّ في كلّ ما يسوؤهم ، وفيه دليل على أنّ من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك ، وعلى أنّ المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم ، وقد أسهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بني عامر وقد قدما بعد تقضّي الحروب (١). والموطئ إمّا مصدر كالمورد ، وإمّا مكان فإن كان مكانا فمعنى يغيظ الكفار يغيظهم وطؤه (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي أنهم محسنون والله لا يبطل ثوابهم.

١٢١ ـ (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً) في سبيل الله (صَغِيرَةً) ولو تمرة (وَلا كَبِيرَةً) مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي أرضا في ذهابهم ومجيئهم ، وهو كلّ منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل ، وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال ، ومنه الودي ، وقد شاع في الاستعمال بمعنى الأرض (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) من الإنفاق وقطع الوادي (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلق بكتب ، أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يجزيهم على كلّ واحد جزاء أحسن عمل كان لهم ، فيلحق ما دونه به توفيرا لأجرهم.

١٢٢ ـ (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) اللام لتأكيد النفي ، أي أنّ نفير

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الحرب.

٢١٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤)

الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح للإفضاء إلى المفسدة (فَلَوْ لا نَفَرَ) فحين لم يكن نفير الكافة فهلّا نفر (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) أي من كلّ جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ليتكلّفوا الفقاهة فيه ويتجشّموا المشاقّ في تحصيلها (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) وليجعلوا مرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) دون الأغراض الخسيسة من التصدّر والترؤس والتشبّه بالظلمة في المراكب والملابس (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ما يجب اجتنابه ، وقيل إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك بعد ما أنزل في المتخلّفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعا عن التفقه في الدين ، فأمروا أن ينفر من كلّ فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى سائرهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، إذ الجهاد بالحجاج أعظم أثرا من الجهاد بالنصال ، والضمير في ليتفقهوا للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم ، ولينذروا قومهم ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصّلوا في أيام غيبتهم من العلوم ، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.

١٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) يقربون منكم (مِنَ الْكُفَّارِ) القتال واجب مع جميع الكفرة قريبهم وبعيدهم ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب ، وقد حارب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم الشام ، والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره ، وهكذا المفروض على أهل كلّ ناحية أن يقاتلوا من وليهم (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) شدة وعنفا في المقال قبل القتال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالنّصرة والغلبة.

١٢٤ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ما صلة (١) مؤكدة (فَمِنْهُمْ) فمن المنافقين (مَنْ يَقُولُ) بعضهم لبعض (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) إنكارا واستهزاء بالمؤمنين ، وأيكم مرفوع بالابتداء ، وقيل هو قول المؤمنين للحثّ والتنبيه (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) يقينا وثباتا ، أو خشية أو إيمانا بالسورة ، لأنهم لم يكونوا

__________________

(١) ما صلة : قليلة (القاموس ٤ / ٥١) ولعلها فاصلة أي قاطعة باتة.

٢١٦

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨)

آمنوا بها تفصيلا (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يعدّون زيادة التكليف بشارة التشريف.

١٢٥ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شكّ ونفاق فهو فساد يحتاج إلى علاج كالفساد في البدن (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) كفرا مضموما إلى كفرهم (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) هو إخبار عن إصرارهم عليه إلى الموت.

١٢٦ ـ (أَوَلا يَرَوْنَ) يعني المنافقين ، وبالتاء حمزة ، خطاب للمؤمنين (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) يبتلون بالقحط والمرض وغيرهما (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) عن نفاقهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) لا يعتبرون ، أو بالجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوبون بما يرون من دولة الإسلام ، ولا هم يذّكّرون بما يقع بهم من الاستسلام (١).

١٢٧ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تغامزوا بالعيون إنكارا للوحي وسخرية به قائلين (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المسلمين؟ لننصرف فإنّا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضّحك فنخاف الافتضاح بينهم ، أو إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين أشار بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد إن قمتم من حضرته عليه‌السلام؟ (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن حضرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخافة الفضيحة (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن فهم القرآن (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يتدبرون حتى يفقهوا.

١٢٨ ـ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) محمد عليه‌السلام (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم ومن نسبكم عربيّ قرشيّ مثلكم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) شديد عليه شاقّ لكونه بعضا منكم ، عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) على إيمانكم (بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم (رَؤُفٌ

__________________

(١) في (ظ) من الاصطلام ، وفي (ز) من الاصطدام.

٢١٧

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩)

(رَحِيمٌ) قيل لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٢٩ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) فاستعن بالله وفوّض إليه (١) ، فهو كافيك معرّتهم وناصرك عليهم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فوضت أمري إليه (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ) هو أعظم خلق الله ، خلق مطافا لأهل السماء وقبلة للدعاء (الْعَظِيمِ) بالجر ، وقرئ بالرفع على نعت الربّ جلّ وعزّ. وعن أبيّ (٢) : آخر آية نزلت لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، الآية.

__________________

(١) زاد في (ز) أمورك.

(٢) أبيّ : هو أبي بن كعب سبقت ترجمته في ٢ / ٣٤.

٢١٨

سورة يونس عليه‌السلام

مائة وتسع آيات مكية وكذا ما بعدها إلى سورة النور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢)

١ ـ (الر) ونحوه ممال حمزة وعليّ وأبو عمرو ، وهو تعديد للحروف على طريق التحدي (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والكتاب السورة (الْحَكِيمِ) ذي الحكمة لاشتماله عليها ، أو المحكم عن الكذب والافتراء (١).

٢ ـ والهمزة في (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) لإنكار التعجّب والتعجيب منه (أَنْ أَوْحَيْنا) اسم كان وعجبا خبره ، واللام في للناس متعلق بمحذوف هو صفة لعجبا ، فلما تقدّم صار حالا (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) بأن أنذر ، أو هي مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ) بأنّ لهم ، ومعنى اللام في للناس أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجّبون منه ، والذي تعجّبوا منه أن يوحى إلى بشر وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أنّ الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلّا يتيم أبي طالب (٢) ، وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنيران ويبشّر بالجنان ، وكلّ واحد من هذه الأمور ليس بعجب لأنّ الرّسل المبعوثين

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الاقتراف.

(٢) أبو طالب : هو عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم من قريش ، أبو طالب ، والد علي رضي الله عنه وعم النبي عليه‌السلام وكافله ومربيه ومناصره ، امتنع عن الإسلام خوفا من أن تعيّره العرب بتركه دين آبائه ، ولد عام ٨٥ ق. ه ومات عام ٣ ق. ه (الأعلام ٤ / ١٦٦).

٢١٩

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

إلى الأمم لم يكونوا إلّا بشرا مثلهم ، وإرسال اليتيم أو الفقير ليس بعجب أيضا ، لأنّ الله تعالى إنما يختار للنبوة من جمع أسبابها ، والغنى والتقدّم في الدنيا ليس من أسبابها ، والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى ، فكيف يكون عجبا؟ إنما العجب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة ، ولما كان السعي والسّبق بالقدم سمّيت المسعاة الجميلة والسابقة قدما ، كما سمّيت النعمة يدا لأنّها تعطى باليد ، وباعا لأنّ صاحبها يبوع بها ، فقيل لفلان قدم في الخير ، وإضافتها إلى صدق دلالة على زيادة فضل ، وأنه من السوابق العظيمة ، أو مقام صدق أو سبق السعادة (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا) الكتاب (١) (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) مدني وبصري وشامي. ومن قرأ لساحر فهذه إشارة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا.

٣ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى ، فقد يقدّس الديان عن المكان والمعبود عن الحدود (يُدَبِّرُ) يقضي ويقدّر على مقتضى الحكمة (الْأَمْرَ) أي أمر الخلق كلّه وأمر ملكوت السماوات والأرض والعرش.

ولمّا ذكر ما يدلّ على عظمته وملكه من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش أتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور عن قضائه وتقديره ، وكذلك قوله (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) دليل على عزته وكبريائه (ذلِكُمُ) العظيم الموصوف بما وصف به (اللهُ رَبُّكُمْ) وهو الذي يستحقّ العبادة (فَاعْبُدُوهُ) وحدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من إنسان أو ملك فضلا عن جماد لا يضرّ ولا ينفع (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أفلا تتدبرون فتستدلون بوجود (٢) المصالح والمنافع على وجود المصلح النافع.

٤ ـ (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) حال ، أي لا ترجعون في العاقبة إلّا إليه ، فاستعدوا

__________________

(١) سقطت من (ز) ولتداركه كرر الطابع شطر الآية في الشرح.

(٢) في (ز) بوجوب.

٢٢٠