السيد محمد علي الحلو
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢
الله عزّوجلّ؟
قال: قولوا لهم إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً حتّى كان رسول الله صلىاللهعليهوآله هو الذي فسّر ذلك لهم.
ونزلت عليه الزكاة ولم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهماً حتّى كان رسول الله صلىاللهعليهوآله هو الذي فسّر ذلك لهم.
ونزل الحجّ فلم يقل لهم طوفوا سبعاً وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله هو الذي فسّر ذلك لهم.
ونزلت (أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) ونزلت في علي والحسن والحسين عليهمالسلام، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله في علي: من كنت مولاه فعليّ مولاه.
وقال عليهالسلام: أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإني سألت الله عزّوجلّ أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما على الحوض، فأعطاني ذلك.
وقال: لا تعلّموهم، فهم أعلم منكم.
وقال: ثم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة.
فلو سكت رسول الله صلىاللهعليهوآله فلم يبيّن من أهل بيته لادّعاها آل فلان وآل فلان ولكن الله عزّوجلّ نزل في كتابه تصديقاً لنبيّه صلىاللهعليهوآله (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة عليهمالسلام فأدخلهم رسول الله صلىاللهعليهوآله تحت الكساء
في بيت أمّ سلمة، ثم قال: اللهمّ إنّ لكل نبيّ أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي.
فقالت أمّ سلمة: ألستُ من أهلك؟
فقال: إنّكِ إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي.
فلما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله كان عليّ أولى الناس بالناس لكثرة ما بلّغ فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله وأقامه للناس وأخذ بيده، فلما مضى عليّ لم يكن يستطيع علي ولم يكن ليفعل أن يدخل محمد بن علي والعباس بن علي ولا أحداً من ولده إذاً لقال الحسن والحسين: إنّ الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله صلىاللهعليهوآله كما بلّغ فيك وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك» (١)
والذي يعنينا من هذه الرواية على طولها:
إنّ هناك اشتراكاً في حيثيات الحجّية لأهل الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير وخصصتهم الروايات المتواترة من قبل الفريقين بأنهم: رسول الله صلىاللهعليهوآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام.
وعليه فإنّ قول الإمام عليهالسلام «إذاً لقال الحسن والحسين: إنّ الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك، وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله صلىاللهعليهوآله كما بلّغ فيك واذهب عنّا الرجس كما أذهبه عنك ...» مما يعني أنّ
__________________
(١) البرهان ٣/ ٣٠٩.
إذهاب الرجس عنهم، له خصوصية في اثبات الحجّية، فكما سيحتجّ الحَسَنان لإثبات حجّيتهما بآية التطهير فإنّ لفاطمة الحجّية كذلك منتزعة من آية التطهير ولإذهاب الرجس عنها عليهاالسلام.
وتلخّص من ذلك: أنه كما أُثبتت حجّية السيّدة مريم عليهاالسلام باصطفائها وتطهيرها لقوله تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)(١) أمكن اثبات حجّية السيّدة فاطمة عليهاالسلام باصطفائها وتطهيرها للأولوية.
ووجه الأولوية: أنّ فاطمة عليهاالسلام قد تمّ إصطفاؤها وتطهيرها بآية التطهير مع النبيّ صلىاللهعليهوآله وعليّ والحسنين عليهمالسلام الذين ثبتت حجّيتهم القطعية؛ لكون الآية مشيرة إلى اشتراك الحكم بين أهل البيت عليهمالسلام الذين كانوا تحت الكساء ومنهم فاطمة عليهاالسلام.
وخصوص المطهّر في الأمّة الإسلامية في شريعة هذا الدين قد أثبت له القرآن وصفاً آخر وهو مسّ الكتاب المكنون الذي فيه حقيقة القرآن وذلك في قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
__________________
(١) آل عمران / ٤٢.
أَفَبِهَـٰذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(١).
ففي الآية قد عظّم الله تعالى القَسَم فيها بوجوه عديدة لا تخفى على المتأمل في تركيب ألفاظ الآية التي قد تربو على سبعة وجوه، كلّ ذلك لتأكيد القضية التي أراد القَسَم عليها. ثم أكّد القضية بوجهين آخرين أيضاً مما يدلّ على أنّ القضية خبرية وليست إنشائية، والمخبر به هو كون القرآن ذو حقيقة تكوينية مكنونة عِلْوية، وأنّ المصحف المنقوش بين الدفتين تنزيل لتلك الحقيقة من دون تجافي تلك الحقيقة التكوينية المحفوظة في كِنّ القرآن عن موقعها العِلْوي، وأنّ تلك الحقيقة لا يصل إليها ولا يدركها إلّا المطهّر في شرع الإسلام.
والكتاب المكنون هذا الذي فيه حقيقة القرآن قد وصف في سورة الأنعام بأنه الذي يُستطر فيه كلّ رطب ويابس، وفيه ما من غائبة كما في قوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(٢).
__________________
(١) الواقعة/ ٧٩ ـ ٨١.
(٢) الأنعام/ ٥٩.
وقوله تعالى: (يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(١) وقوله تعالى (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(٢).
وقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً)(٣).
وقوله تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(٤).
وقوله تعالى: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ)(٥).
فقد وصف الكتاب بأوصاف جامعة محيطة بكلّ مغيبات الخلقة المستقبلية، ما هو كائن وما يكون وما هو خفي في النشآت العِلْوية، ومن ثم كان مصحف فاطمة عليهاالسلام مشتملاً على الإخبار بالأمور المستقبلية بما كان وما هو كائن، الدال على أنّ إحاطتها عليهاالسلام بذلك لإحاطتها بحقيقة القرآن العِلْوية في الكتاب المكنون بعد دلالة آية التطهير كونها مطهّرة من كلّ رجس ودلالة سورة الواقعة على أنّ كلّ مطهّر في هذه
__________________
(١) الرعد/ ٣٩.
(٢) النمل/ ٧٥.
(٣) النحل/ ٨٩.
(٤) سبأ/ ٣.
(٥) فاطر/ ١١.
الشريعة يمسّ الكتاب المكنون، وهذا مقام لم تصل إليه مريم، بل هو خاص كما ذكرنا بالمطهّرين في شرع الإسلام دون الشرائع السابقة.
فاطمة عليهاالسلام فوق مقام الأبرار
قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّـهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًاوَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)(١).
وصفٌ لحال الأبرار الذين نعموا برضوان الله تعالى وكرامته وبيان لمقامهم، وأظهر مصاديق هذا المقام الكريم أنّهم يشربون كأساً ممزوجةً بكافور.
ثم تنتقل الآية إلى وصف العين التي منها شراب المقرّبين، وهي عين يتولّى أمرها عباد الله إذ يفجّرونها تفجيراً، فَمَن هم هؤلاء الذين يتولّون تفجير هذه العين وأمرَها، ومن ثَمّ يسقون منها الأبرار؟
إنّ الآية تكفّلت لبيان هؤلاء المتولّين لأمر تلك العين وهم عباد الله الذين صفاتهم:
١ ـ يوفون بالنذر.
__________________
(١) الدهر/ ٥ ـ ٩.
٢ ـ يخافون يوم القيامة الذي يكون شرّه مستطيراً مهولاً.
٣ ـ يُطعمون المسكين واليتيم والأسير لله تعالى عطاءً خالصاً لا يرجون من غيره جزاءً ولا شكوراً.
فَمَن هؤلاء إذن؟
اتّفق الفريقان أنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام، فقد أورد الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (١) بأربع وعشرين طريقاً أنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام.
وخلاصة القصة: أنّهم عليهمالسلام السلام نذروا إنْ عوفي الحسنان أن يصوموا لله تعالى ثلاثاً، فلمّا عوفيا، وفوا بنذرهم فجاءهم في اليوم الأول مسكين فأعطوه طعامهم وسألهم في اليوم الثاني يتيم فأعطوه طعامهم ووقف ببابهم أسير فأعطوه طعامهم، فباتوا ثلاثاً طاوئين. فأنزل الله فيهم هذه الآيات، فثبتت صفة عباد الله الذين يفجّرون تلك العين لهم عليهمالسلام.
فإذَنْ هم الذين يفجّرون عين الكافور ويُفيضون منها على الأبرار ليمتزج شرابهم بقليل من العين، أي إنّهم واسطة فيض على الأبرار ولهم القيمومة التامّة على ذلك، وهذا يطابق قيمومتهم على الأبرار وأنّهم المقرّبون في قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا
__________________
(١) شواهد التنزيل ٢/٣٠٣.
عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)(١).
فشهادة كتاب الأبرار من قبل المقرّبين دليل على قيمومة المقرّبين على الأبرار وشهادتهم عليهم. فالمقرّبون هم الشهداء على كتاب الأبرار، أي أعمالهم، ولذلك ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة «أنتم الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دارالبقاء ..» وفي موضع آخر من الزيارة «شهداء على خلقه وأعلاماً لعباده» هذه هي شهادة المقرّبون وهيمنتهم على الأبرار، والمقرّبون هؤلاء هم السابقون الذين وصفَتْهم الآية بقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(٢) مع أن سورة الدهر لم تزل في سياقات وصف المقرّبين وهم الذين يوفون بالنذر (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًاإِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًافَوَقَاهُمُ اللَّـهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا
__________________
(١) المطففين/ ١٨ ـ ٢١.
(٢) الواقعة/ ١٠ ـ ١١.
زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا).(١)
هذا حال المقرّبين، ويطابق هذا الوصف لعباد الله وارتفاع مقامهم عن الأبرار ما في سورة المطففين من قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).(٢)
فهذه الآيات تشير أيضاً إلى أنّ المقرّبين واسطة فيض للأبرار وهم الذين يمزجون شراب الأبرار بشيء من التسنيم، ولأنهم وسطاء فيض فهم يشهدون أعمال الأبرار.
وهذا يتطابق مع ما تقدّم من أنّ المطهّرين في هذا الشرع المقدس، المعصومين يمسّون الكتاب في اللوح المحفوظ المكنون الذي يستطر فيه كلّ غائبة، ومنها أعمال العباد.
فالمطهّر هوالمقرّب، وهم عباد الله الذين يسقون الأبرار من عين يفجّرونها تفجيرا، وتلك العين هي عين الكافور، وهي عين فوق مقام
__________________
(١) الدهر/ ٧ ـ ١٧.
(٢) المطففين/ ١٨ ـ ٢٨.
الأبرار. والسلسبيلُ الذي هو مصدر المقرّبين والعين التي يسقون منها هو رسول الله صلىاللهعليهوآله؛ إذ هو القيّم على المقرّبين الذين هم أهل البيت عليهمالسلام وهو مصدرهم.
فتلّخص إذن: أنّ الأبرار يُسقون كأساً ممزوجة بالكافور، والمقرّبون هم مصدرالأبرار، والسلسبيل مصدر المقرّبين التي يسقون ويُسقوْنَ منها، على أنّ السقاية من العين وتفجيرها، تعني أنّ المقرّبين هم واسطة إفاضة على الأبرار، الذين يفيضون النور والعلم والحكمة والهداية على الأبرار.
وهؤلاء المقرّبين ـ وهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ـ يُفاض عليهم من عين السلسبيل بواسطة رسول الله صلىاللهعليهوآله. فعلومهم وراثة من رسول اللَّه صلىاللهعليهوآله كما في الروايات الواردة عنهم، مما يعني أنّ المقرّبين هم في مقام الحجّية والقيمومة المهيمنة على الخلق؛ إذ قيمومتهم تصدر من رسول الله صلىاللهعليهوآله الذي ينص على حجّيتهم وإمامتهم بأمر الله تعالى.
وبذلك يتّضح مقام فاطمة عليهاالسلام وكونها إحدى وسائط الإفاضة على الخلق النابعة من مصدرٍ إلهي يمثّله رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وظهر أنّها شاهدة للّه على الخلق، وأنّها هادية لهم، وأنّها من الراسخين في العلم الذين يمسّون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ، فهي من الذين أوتوا العلم
وأثبت في صدورهم وأنها ممّن يُعرض عليها أعمال العباد.
فاطمة عليهاالسلام من المطهّرين الذين يمسّون الكتاب
وإذا ثبت أنّ المطهّرين هم محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام بحكم آية التطهير (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فإنّ من خصوصيات المطهَّرين أنهم هم الذين يمسّون كتاب الله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(١) أي: لا يعلمه إلّا المطهَّرون.
ولا يعني «المسّ» هنا مسّ نفس الوجود الخطي والكتبي للقرآن الكريم، إذ لا معنى لذلك بل الآية في مقام الإشارة إلى مكنونية هذا الكتاب بمثل هذا القَسَم المغلّظ الذي يتعلّق بالأمر الخبري لا الإنشائي. فلفظ «لا» في الآية نافية لا ناهية، بل يقصد الإخبار.
كما أنّه قد وصف الكتاب المكنون بأنّه الذي تنزل منه القرآن المصحف الذي بين الدفتين. فالقرآن في الكتاب المكنون له حقيقة عِلْوية لا يتناولها إلّا المطهّر المعصوم، وتلك الحقيقة بعيدة عن أفهام الناس إلّا بواسطة المطهَّرين. والمطهَّرون هم أهل بيانه وتفسيره ومعرفته، وهم العالمون ببطونه وعلومه
__________________
(١) الواقعة/ ٧٧ ـ ٧٩.
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(١) ولا يعلم تأويل الكتاب إلّا الراسخون في العلم (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).(٢) قال أبو عبدالله عليهالسلام: «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله».
وإذا ثبت أنّ المطهَّرين هم المقرّبون ـ كما تقدّم ذكره من أنّ المقرّبين هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ـ فإنّ الكتاب المكنون لا يمسّه إلّا المطهَّرون.
أخرج السيوطي عن ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوآله في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ) قال: عند الله في صحف مطهَّرة (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) قال: المقرّبون (٣).
وإذا كان المطهَّرون هم المقرّبون الذين يمسّون الكتاب ويعلمون تأويل بواطنه فإنّ لهم الحجّية من الله تعالى على الخلق، إذ الحجّة هو الموصل لمعرفة الطريق إلى الله.
ومن هنا نعلم أنّ إحاطتهم عليهمالسلام بكلّ شيء دليل حجّيتهم، إذ علمهم بالكتاب يعمّ علمهم بكلّ شيء، فالكتاب محفوظ فيه علم كلّ شيء
__________________
(١) الزخرف/ ٤.
(٢) آل عمران/ ٧.
(٣) الدر المنثور ٨/ ٢٦ (ذيل آية ٧٧ من سورة الواقعة).
لقوله تعالى: (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)(١).
فالحجّية تعني ولايتهم على الخلق بقِسْمَيْها؛ ولايتهم التشريعية المنبعثة من مقام علمهم بالكتاب الذي يضمّ علم كلّ شيء، إذ الولاية التشريعية لا تتمّ إلّا بمعرفة أحكام كلّ شيء فهي من لوازم العلم. وبحكم علمهم بكتاب الله فإنّ لهم الولاية التكوينية على الخلق، إذ هذا القرآن ـ بحقيقته المكنونة التكوينية الملكوتية الذي لا يعلمه إلّا المطهَّرون ـ موصوف بقابلياته الإلهيّة المودعة فيه: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ...) (٢) وقوله تعالى: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)(٣) فالحجّية هي المقام الإلهي المنبعثة منها ولايتهم عليهمالسلام بقِسْمَيْها.
وبهذا سيتمّ لنا معرفة مقام فاطمة عليهاالسلام من حيث معرفتها بكتاب الله وبواطنه وعلومه، ومن حيث ولايتها التشريعية والتكوينية معاً.
وقد رُوِيَتْ في عرض ولايتها على الخلق كباقي ولاية أصحاب الكساء
__________________
(١) الأنعام/ ٥٩.
(٢) الرعد/ ٣١.
(٣) النمل/ ٤٠.
والأئمة المعصومين عليهمالسلام روايات عديدة فلاحظ (١).
فاطمة عليهاالسلام وحجّيتها لدين الإسلام
وفيه جهتان:
الجهة الأولي:
تُعدّ آية المباهلة من أهمّ الآيات التي أثبتت حجّية فاطمة عليهاالسلام؛ إذ هذه الآية كانت مقام الفصل بين حقانية الدين الإسلامي ونسخ غيره من الأديان.
فالنصارى الذين احتجّ عليهم رسول الله صلىاللهعليهوآله بكلّ حجّة لم يذعنوا في الظاهر، وتمادوا في تشكيكهم وتكذيبهم لدعوة النبيّ صلىاللهعليهوآله ولم يملكوا إلّا الإذعان لما دعاهم النبي صلىاللهعليهوآله للتباهل إلى الله تعالى ليلعن الكاذب، ولم يجد النصارى بُدّاً من القبول بذلك، حتّى إذا أراد
__________________
(١) بحار الأنوار ١١/١٧٢، الحديث ١٩ (كتاب النبوة، أبواب قصص آدم وحواء وأولادهما، الباب ٣: إرتكاب ترك الأولى ومعناه ...) وكذلك ٢٧/١٩٩ و ٢٠٠ ، الحديث ٦٦ و ٦٧ (كتاب الإمامة، أبواب ولايتهم وحبّهم وبغضهم، الباب ٧: باب أنّه لا تقبل الأعمال إلّا بالولاية) وكذلك ١٦/٣٦١، الحديث ٦١ (تاريخ نبيّنا، الباب ١١: فضائله وخصائصه وما امتنّ الله به على عباده) وكذلك ٣٦/٢٦١، الحديث ٨٢ (تاريخ أمير المؤمنين، الباب ٤١: في نصوص الرسول على الأئمّة) وكذلك ٣٧/٦٢ و ٦٣، الحديث ٣٠ و ٣١ (تاريخ أمير المؤمنين، الباب ٥٠: في مناقب أصحاب الكساء) * وفي معاني الأخبار/ ٣٨ ـ ٣٩.
النبيّ صلىاللهعليهوآله مباهلتهم علموا صدق النبيّ صلىاللهعليهوآله بالخروج بالمباهلة بنفسه وأهل بيته، مما دعى النصارى إلى التسليم لصدق دعوته وإذعانهم إليه، قال تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(١).
أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن جابر قال: «قدم على النبي صلىاللهعليهوآله العاقب والسيّد فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد. قال: كذبتما، إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام. قالا: فهات.
قال: حُبُّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير.
قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه إلى الغد، فغدا رسول الله صلىاللهعليهوآله وأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرّا له. فقال: والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً.
قال جابر: فيهم نزلت (تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ...) الآية قال جابر: (وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ) رسول الله صلىاللهعليهوآله وعليّ، و(أَبْنَاءَنَا) الحسن والحسين، (وَنِسَاءَنَا) فاطمة»(٢).
وروى ذلك السيوطي بعدّة طرق، وأخرج الحاكم النيسابوري في شواهد
__________________
(١) آل عمران/ ٦١.
(٢) الدرّ المنثور ٢/٢١٩. (ذيل آية ٦١ من سورة آل عمران).
التنزيل القصة في تسع طرق. (١) وروى ذلك ابن كثير في تفسيره عن جابر. (٢)
فمباهلة النبيّ صلىاللهعليهوآله بعليّ وفاطمة والحسن والحسين يعني احتجاجه على النصارى بهؤلاء الذين هم الحجّة على صدق دعوة النبيّ وبعثته. كما أنّ المباهلة تعني بحسب ماهيّتها أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله جعل هؤلاء المتباهل بهم شركاء في دعوته، مما يعني أنّ مسؤولية الدعوة تقع على عاتقهم كذلك بحجّيتهم ومقامهم، مشيرة إلى وجود تعاضد وتقاسم بينهم وبين النبيّ صلىاللهعليهوآله.
كما يفيد ذلك حديث المنزلة الذي رواه الفريقان، عن سعد بن أبي وقاص: أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال لعليّ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»(٣) فمنزلته عليهالسلام بمنزلة هارون، وصفٌ لحجّيته ومشاركته في دعوته كما شارك هارون موسي في دعوته. فهذه المقاسمة والمشاركة في المنزلة دليل حجّيته عليهالسلام كما أنّ مشاركة عليّ
__________________
(١) شواهد التنزيل ١/ ١٨٣ ـ ١٩٨.
(٢) تفسير ابن كثير ١/ ٤٨٤.
(٣) ذخائر العقبى ١/ ٢٨٧ (في ذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، باب ذكر أنّه من رسول الله بمنزلة هارون من موسى) و ٣٨٧ (الفصل السابق، باب ذكر أنّ جمعاً من الصحابة لما سُئلوا أحالوا في السؤال عليه). وأخرجه البخاري (في فضائل الصحابة، باب مناقب عليّ بن أبي طالب وفي المغازي، باب غزوة تبوك) ومسلم (باب الفضائل).
وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام في المباهلة مع النبيّ صلىاللهعليهوآله دليل حجّيتهم ومشاركتهم معه عليهمالسلام في تبليغ صدق بعثته صلىاللهعليهوآله هذا ما تُبَيِّنُه آية المباهلة من مقام فاطمة عليهاالسلام وحجّيتها كذلك.
فهذه مقامات يمكن متابعتها في اصطلاحات القرآن تفسّر مقام الزهراء عليهاالسلام وأنها بنص القرآن حجّة من حجج الله تعالى في مصاف الأنبياء والرسل.
وما روي عن أبي جعفر عليهالسلام في حجّية فاطمة عليهالسلام قوله: «ولقد كانت فاطمة عليهاالسلام طاعتها مفروضة على جميع من خلق الله من الجنّ والإنس والطير والوحش، والأنبياء والملائكة»(١).
فتحصّل: أنّ مؤدّى آية المباهلة هو نصب الله تعالى فاطمة عليهاالسلام حجّة على حقانية الإسلام ونبوّة نبيّه وشريعته؛ لاحتجاجه تعالى بها على النصارى وأهل الكتاب، فلم يحصر تعالى الحجّية على الدين بالنبيّ صلىاللهعليهوآله، بل جعل الخمسة كلّهم حجّة على دينه.
ومقتضي هذا الإحتجاج منه تعالى أنّ متابعة عليّ وفاطمة والحسنين عليهم
__________________
(١) عوالم العلوم ١/ ١٧٢ (أبواب فضائلها ومناقبها، الباب ١٣: باب أنّها مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله تعالى). * وفي دلائل الإمامة، باب «فاطمة الزهراء»، خبر مصحفها، الرقم المسلسل للحديث ٣٤، ص ١٠٦.
السلام للنبيّ صلىاللهعليهوآله وتصديقهم به هو بنفسه دليل على صدق النبيّ صلىاللهعليهوآله ورسالته، نظير قوله تعالى: (كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(١) حيث جعل شهادة «مَنْ عنده علم الكتاب» دليلاً على صدق النبيّ صلىاللهعليهوآله، من سنخ شهادة معجزة القرآن التي هي شهادة الله لنبيّه والآية من سورة الرعد المكّية نزولاً النازلة في عليّ، حيث لم يسلم من أهل الكتاب في مكّة أحد، بل لا يخفى على اللبيب الفطن أنّ «مَن عنده علم الكتاب» شامل للمطهَّرين في شريعة الإسلام وهم أصحاب آية التطهير، لأنّهم هم الذين يمسّون الكتاب المكنون كما أشارت إليه سورة الواقعة وتقدّم مفصلاً.
فمنه يعلم أنّ قوله تعالى (كَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا) مفادها هو مفاد آية المباهلة في كونها حجّة على بعثة الرسول صلىاللهعليهوآله، وهذا المعنى هو الذي يشير إليه ما رواه الواقدي أنّ علياً عليهالسلام كان من معجزات النبيّ صلىاللهعليهوآله كالعصا لموسى وإحياء الموتى لعيسى. (٢)
ففي مقام الإحتجاج على أهل الأديان لم يأمر الله تعالى نبيّه بدعوة زوجاته أمهات المؤمنين ولا أحدٍ من الصحابة ولا سائر بني هاشم، ولا
__________________
(١) الرعد/ ٤٣.
(٢) الفهرست لابن النديم، الفن الأول من المقالة الثالثة/ ١١١.
يخفى أنّ تعيين الخمسة عليهمالسلام للمباهلة لم يكن موكولاً للنبيّ صلىاللهعليهوآله، بل بأمر من الله وتعيين وتنصيص من الله في قرآنه النازل، وإن كان النبيّ صلىاللهعليهوآله مأموراً بدعوتهم للمباهلة.
وبمعني آخر: إنّ المباهلة في اللغة تعني الملاعنة ودعاء كلّ طرف على الآخر، وهي إنّما يتوسّل بها في مقام الإحتجاج وإقامة الحجّة من كلّ طرف على مدّعاه في قبال الآخر ـ كما يشير إلى ذلك صدر الآية (فَمَنْ حَاجَّكَ) ـ وعند عدم استجابة أحد الطرفين لحجّة الطرف الآخر، فتكون المباهلة نوعاً من حكم الله بين الطرفين وكأنّه استعجال لحكم الله وقضائه الأخروي إلى هذه النشأة الدنيوية.
ولا ريب أنّ أهمية وخطورة المباهلة تتبع مورد المباهلة، فكلّما ازداد خطورةً اختلفت أهمية حكم الله وفصل قضائه وبالتالي اختلفت نوعية حكمه تعالى، كما أنّ مقتضى ماهية المباهلة كون طرفي المباهلة هما المتداعيان، أي: كلٌّ منهما صاحب دعوة في قبال الآخر، فكلٌ منهما هو صاحب دعوى المتحمل لتلك الدعوى، كما هو الحال في بقية النزاعات والخصومات أن يكون كلّ منهما على تقدير صدق دعواه وثبوتها هو صاحب الحق ومن له صلة بالحق، كما لا معنى للنيابة في الخصومة في مقام الحلف وما هو من قبيله كالمباهلة.
وإذ تبيّنتْ ماهية المباهلة حكماً وموضوعاً ومتعلّقاً، يتبيّن أنّ الخمسة أصحاب الكساء صلوات الله عليهم، هم أصحاب الدعوة للدين بالأصالة، وأنّ كلاً منهم ذو صلة وشأن في حقانية الدين وصدق البعثة النبويّة، ومعني صدقهم في دعواهم أنّ كلاً منهم يخبر عن علمه بصدق الرسالة ونزول الوحي على النبيّ صلىاللهعليهوآله وانبعاثه بدين الإسلام.
ومن ثَمّ لابدّ أن تكون علومهم لدنّيه تؤهّلهم للتصدّي لهذه الدعوة، إذ بالعلم اللدنيّ وحده يمكن الإطّلاع على نزول الوحي، وبالتالي فإنّ مسؤولية حفظ الدين وحمايته تقع على الخمسة بنحو المشاركة، مما يدلل على وحدة سنخ المقام والمنصب الشرعي ـ عدا النبوّة ـ فضلاً عن ولايتهم الشرعية على الدين.
الجهة الثانية:
ما ورد في الحديث القدسي: «لولاك ما خلقت الأفلاك ولولا عليّ لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما جميعاً».
ولتفسير الحديث ثلاثة أوجه:
الأول: الوجه الكلامي:
قد يتوهّم في باديء النظر أنّ معناه هو أفضلية عليّ أو فاطمة عليهما السلام بالنسبة إلى الرسول صلي الله عليه وآله، وليس كذلك فإنّ الرسول صلّى