مقامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الكتاب والسنّة

السيد محمد علي الحلو

مقامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الكتاب والسنّة

المؤلف:

السيد محمد علي الحلو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

الله عليه وآله أفضل الكائنات وسيّد البرايا «فدنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى دنواً واقتراباً من العليّ الأعلى»، وقال عليّ عليه‌السلام «أنا عبد من عبيدمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» أي المأمور بطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

بل مفاده نظير ما رواه الفريقين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله «عليّ منّي وأنا من عليّ» و«حسين منّي وأنا من حسين» وهو يحتمل أوجه من المعاني، منها: إنّ الغرض والغاية من خلق بدن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في النشأة الدنيوية وابتعاثه لا يكتمل إلّا بالدور الذي يقوم به عليّ وفاطمة عليهما السلام من أعباء إقامة الدين وايضاح طريق الهداية، نظير قوله تعالى النازل في أيام غدير خم يوم تنصيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً عليه‌السلام إماماً (يَا أَيُّهَا الرَّ‌سُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّ‌بِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِ‌سَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِ‌ينَ)(١) فقد جعل تبليغ الرسالة مرهوناً بنصب عليّاً إماماً ليقوم بالدور الذي يلي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكذا قوله تعالى (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَ‌ضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(٢) وهو أيضاً نزل في أيام غدير خم، فَرِضَي الربّ بالدين مشروط بما أقيم في

__________________

(١) المائدة/ ٦٧.

(٢) المائدة/ ٣.

١٠١

ذلك اليوم حيث يئس الكفار من إزالة الدين الإسلامي والقضاء عليه، لأنّ القَيّم على الدين وحفظه لن ينقطع بموت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل باقٍ ما بقيت الدنيا.

ونظير قوله تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً‌ا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْ‌بَىٰ)(١) فجعل الرسالة في كفّةٍ، ومودّةُ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في كفّةٍ معادلة؛ وقال تعالى: (مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ‌ فَهُوَ لَكُمْ)(٢) و(مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‌ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَ‌بِّهِ سَبِيلًا).(٣)

فكانوا هم السبيل إليه تعالى والمسلك إلى رضوانه وأنّ الدور الذي قامت به فاطمة عليها‌السلام من ايضاح محجّة الحق وطريق الهداية في وقت عمّت الفتنةُ المسلمينَ ولم يكن من قالع لظلمتها ودافع للشبه إلّا موقف الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام.

فقد كان ولايزال حاسماً وبصيرة لكلّ المسلمين ولكلّ الأجبال؛ إذ هي التي نزلت في حقّها آية التطهير والدهر وهي أمّ أبيها، إذ الأمومة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مقام لايقاس به الأمومة للمسلمين، وهي روح النبيّ

__________________

(١) الشورى/ ٢٣.

(٢) سبأ/ ٤٧.

(٣) الفرقان/ ٥٧.

١٠٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي بين جنبيه، فكلّ هذه الآيات والأحاديث النبويّة لم تزل حيّة وغضّة في آذان المسلمين.

وهذا المعني للحديث حينئذ يقرب من مفاد قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(١) أي: ليعرفون ثم يعبدون وذلك بوساطة هداية الرسول والدين الحنيف بإقامة الأئمة عليهم‌السلام له بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثاني: الوجه الفلسفي

قد حُرّر في علم المعقول تعدّد الغاية، فمنها غاية نهائية ومنها غايات متوسطة، كما قد حرّر أنّ العلل الغائية تكون بحسب مقامٍ متعاكسةً بحسب مقام آخر.

ولنمثّل بذلك مثال يوضح هذا الأمر، فقد يقول القائل: إنّي أذهب إلى المدرسة لكي أتعلّم، وإنّي أتعلّم لكي أحصّل على الشهادة العيا، كما يصحّ من هذا القائل قوله: لولا ذهابي للمدرسة لما تعلّمتُ ولولا تعلّمي لما حصلتُ على الشهادة العليا، كما يصحّ منه القول: لولا الرغبة للحصول على الشهادة العليا لما تعلّمتُ ولما ذهبتُ إلى المدرسة.

فالحاصل من قول هذا القائل ليس مفاده أفضلية الذهاب إلى المدرسة من التعلّم، ولا أفضلية التعلّم من الدرجة العلمية الفائقة في حصول

__________________

(١) الذاريات: ٥٦.

١٠٣

الشهادة، بل هذا التعليل هو بيان لدور وتأثير الغايات المتوسطة من دون أن يعني ذلك كونها غايات نهائية.

فما يوهمه ظاهر هذا الحديث من كون فاطمة عليها‌السلام علّةً غائيةً نهائيةً وراء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بمراد، بل حاصل ما يعنيه أنّها عليها‌السلام من الوسائط التي بمثابة غايات شريفة تتلو الغاية النهائية في المقام.

الثالث: الوجه العرفاني

ومحصّله هو التنويه بالذات النورية للخمسة أصحاب الكساء، وأنّ بذواتهم النورية اشتّق اللّه خلق بقية المخلوقات وهو نظير ما ورد في روايات الفريقين، «أول ما خلق اللّه نور نبيّك يا جابر» وفي رواية أخرى العقل، وفي لسان القرآن: الماء، لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(١) فهو نظير الروايات الواردة في اشتقاق النور.

وقد أسند اللفظ في صدر هذه الرواية، وجُعل الشرط في الشرطية الأولى ذات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الشريفة لا خلقته، والمراد بها ذاته النورية التي هي من عالم الأمر، أي المخلوقة بالمعنى الأعم لا المعنى الأخص كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ‌)(٢) وقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُ‌هُ إِذَا أَرَ‌ادَ

__________________

(١) الأنبياء/ ٣٠.

(٢) الأعراف/ ٥٤.

١٠٤

شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْ‌جَعُونَ)(١) فالمخلوقات على قسمين: من عالم الأنوار، ومن عالم التراب والمادة الغليظة وهي النشأة الدنياوية.

ففي الشرطية الأولى جُعلتْ ذاته النورية واسطة لفيض خلق الأفلاك، وفي الشرطية الثانية جُعلتْ ذات عليٍّ النورية واسطة فيض لخلق البدن الجسدي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الشرطية الثالثة جُعلتْ ذات فاطمة النوريةُ واسطة فيض لخلق بدن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبدن الوصيّ. فالتعبير في الحديث في غاية الدقّة والظرافة، حيث لم يُسند في الشرطية الثانية ولا الأولى ولا الثالثة، ولم يُجعل الشرط في كلّ منها خلق الثلاثة الأطهار، بل جعل ذواتهم النورية وجعل الجزاء في الشرطيات الثلاث الخلق، فليس التعبير «لولا خَلْقُكَ لما خلقتُ الأفلاك ولولا عليّ لما كنتَ ولولا خلقُ فاطمة لما خلقتكما» والمغزى في أسلوب هذا الحديث المثير للوهم، هو التنبيه على مقامات فاطمة عليها‌السلام وأنّها تلو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والوصيّ عليهما صلوات اللّه دون سائر الأنبياء والمرسلين، كما تقدّم يضاحه فيما سبق.

فالمحصّل: إنّ أول المخلوقات نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم نور عليّ عليه‌السلام ثم نور فاطمة عليها‌السلام ثم بقية الأنوار ثم بقية عوالم ونشآت الخلقة

__________________

(١) يس/ ٨٢ ـ ٨٣.

١٠٥

التي تتضمن الأبدان الشريفة للمعصومين. فنور عليّ وفاطمة يتوسط بين نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأجساد الشريفة في تسلسل عوالم الخلقة، وهذا هو المراد من قولنا: إنّ نور عليّ وفاطمة عليهما‌السلامواسطة فيض لخلق بدن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أنّ نور فاطمة عليها‌السلام واسطة لخلق بدنهما.

١٠٦

المقام الرابع:

أمومتها النبيّ

صلى‌الله‌عليه‌وآله

في مقابل

أمومة زوجات النبي للمؤمنين

١٠٧
١٠٨

إنّ الله تبارك وتعالى أكرم زوجات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن جعلهنّ أمّهات للمؤمنين لقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)(١) وفيه إشارة إلى بعض آثار الأمومة من الإحترام والتكريم لهنّ كاحترام الأمّ الحقيقيّة وتكريمها، ولكنّ فاطمة عليها‌السلام قد فاقت منزلتُها بحجّيتها الإلهية، فإنْ كانت زوجات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمهات المؤمنين فهي أمٌّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله «فاطمة أمّ أبيها»(٢) مما يشير إلى عِظم منزلتها وخطير درجتها.

__________________

(١) الأحزاب/ ٦.

(٢) بحار الأنوار ٤٣/١٩، الحديث ١٩ (تاريخ سيّدة النساء فاطمة الزهراء، الباب ٢: باب أسمائها وبعض فضائلها) وكذلك ٢٢/١٥٢، الحديث ٤ (تاريخ نبيّنا، أبواب ما يتعلّق به من أولاده وأزواجه، الباب ١: عدد أولاد النبيّ ...). * وتاج المواليد للطبرسي/ ٢٠ * وفي مصادر أهل السنّة ما رواه الحافظ ابن المغازلي في المناقب/ ٣٤٠ * ومقاتل الطالبيين لأبي فرج الإصفهاني/ ٢٩ * المعجم الكبير للطبراني ٢٢/ ٣٩٧، الرقم ٩٨٥ و ٩٨٨ (باب بنات رسول الله، ذكر سنّ فاطمة ووفاتها).

١٠٩

فأمومتها له صلى‌الله‌عليه‌وآله تعني أنّ هناك علاقة ارتباط وثيق على مستوى الحجّية، فإنّ في أمومتها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تنطوي ـ مضافاً إلى مهمّة رعايتها له له صلى‌الله‌عليه‌وآله والقيام بشؤونه ـ جنبة إشراف ورعاية لدعوته وتصديقه، كإشراف مريم عليها‌السلام لنبيّ الله عيسى ورعايتها له فضلاً عن رعايتها لدعوته والقيام ببعض شؤون رسالته.

فكما أنّ الرسالة العيسوية قد اعتمدت نشوءاً وبقاءً على مقام السيّدة مريم من بدء الحمل، فإنّ فاطمة عليها‌السلام حيث أنّها تحتلّ مقام الحجّية ـ المشار إليها سابقاً ـ فيُعطي وقفتُها عليها‌السلام بُعداً آخر في تأييد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصديقه بدعوته؛ إذ اقترانها معه بآية التطهير ومشاركتها له بآية المباهلة وبيان مقامها في سورة الدهر من كونها من المقرّبين الذين يفيضون على الأبرار ويتزوّدون من عين السلسبيل وهي عين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ كلّ ذلك يؤكّد أنّ أمومتها ـ إستناداً إلى حجّيتها ـ ستكون رعايةً إشراف وحجّية للدين، وبهذا فكم فرق بين الأمومة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأمومة للمؤمنين.

ويحتمل معنى أمومتها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما تقدّم في المقام السابق من كون وجودها النوري أصل لوجوده البدني، لأنّ الأمّ في اللغة تستعمل بمعنى الأصل، نظير ما ورد أنّ المؤمن أبوه النور وأمّه الرحمة.

١١٠

المقام الخامس:

رضى فاطمة عليها‌السلام رضى الله

وغضبها غضبه

١١١
١١٢

روى الفريقان أنّ رضى فاطمة رضى الله تعالى وغضبها غضبه، فقد روي في عوالم العلوم عن المناقب: أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «يا فاطمة، إنّ الله ليغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ»(١).

وعن كشف الغمة، عن الحسين بن علي عن أبيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «يا فاطمة، إنّ الله ليغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ»(٢).

وروى أهل السنّة بأسانيد مختلفة وطرق متكثرة؛ مثل ما أخرجه محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام: إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «يا فاطمة، إنّ الله عزّوجلّ يغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ»(٣).

__________________

(١) عوالم العلوم ١/١٥١، الرقم ٢٦ (أحوال سيدة النساء، الباب ٥: باب أن أذى فاطمة أذى الله وأذى الرسول).

(٢) عوالم العلوم ١/١٥٢، الرقم ٣١ (نفس الباب).

(٣) ذخائر العقبى ١/١٧٦ (في ذكر سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، باب ذكر ما جاء أنّ الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها).

١١٣

ويُعدّ هذا الحديث من جملة الأدلّة على إثبات عصمتها عليها‌السلام، مضافاً إلى آية التطهير التي تدلّ على عصمتها وحجّيتها على الخلق، حيث أنّ غضب فاطمة ورضاها تدلّان على الرضا والغضب الإلهيّين وهذا يعني أنّ غضب فاطمة ورضاها فرع غضب الله تعالى ورضاه، ومتى ما كان الأمر كذلك فإنّنا نستكشف بالدليل الإنّي عصمتَها عليها‌السلام، لأنّ الرضا والغضب الصادرين من شخص، لا يكون رضا وغضباً إلهياً إلّا حينما يكون هذا الشخص بعينه معصوماً عن كلّ عيب ممتنعاً عن كلّ قبيح ليكون رضاه وغضبه في حدود الرضا والغضب الإلهيّين.

وفاطمة عليها‌السلام حضيت بتلك المنزلة تدليلاً على عصمتها وطهارتها فضلاً عن حجّيتها ومقامها الإلهيّين.

كما أنّ في الحديث دلالةً كافيةً للزوم ولايتها وطاعتها على الخلق حتّى يحصل بذلك رضاها ويتحقق عدم غضبها عليها‌السلام، فإذا تحقق ذلك أمكن إحراز الرضا الإلهي وتجنّب غضبه تعالى، مما يؤكّد أنّ هذه المواصفات لا تتوفر إلّا لمن تمتّع بمقام الحجّية والتطهير الإلهيّين الملازم لوجوب الطاعة على الخلق.

على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عبّر عن حجّيتها بماهيّة الحجّية في العقل العملي لا بماهيّة الحجّية في العقل النظري التي تبحث في علم المنطق كالأشكال

١١٤

الأربعة أو في علم أصول الفقه، والسرّ في ذلك أنّ الحجّية في العقل العملي تستلزم الحجّية النظرية دون العكس ومما يدلل على مقام حجّيتها وعصمتها العلمية والعملية.

وبيان ذلك: إنّ خاصية الحجّية النظرية تختلف عن خاصية وماهيّة الحجّية في الحكمة العملية، ففي بحث المنطق تذكر البراهين والأقيسة التي تشير إلى العقل العملي كما أنّ في أصول الفقه تذكر الحجّية هي كاشفة، أي حاكية وموصلة.

أما الحجّية العملية فإنّها تتميز بكون هويّتها وخاصيتها أنها لازم عملي وليس المقصود منه العمل الجارحي وحده بل العمل الجوانحي كذلك، أي الحجّية العملية ترتبط بالصفات العملية في النفس، بل هي ترتقي فوق الصفات العملية ولا تقتصر على الجوانح، بل ترتقي إلى القلب لتشمل الحبّ والبغض، والرضاء والغضب، والتولّي والتبرّيء، فخاصية الحجّية العملية إذَنْ ترتبط بالجانب العملي على مستوى القلب الذي يكون أعلى من الإدراك الساذج البسيط.

ومن ثمّ فإنّ التعبير للحجّية العملية لا يعبّر عنها بتعبيرات الحجّية النظرية، كما في التعبير عنها بالنور واليقين والبيان وغيرها؛ في حين يختلف الأمر عما هو عليه في الحجّية العملية كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «علي مع

١١٥

الحق والحق مع علي» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «انّ الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها».

أو ما عبّر عنه القرآن الكريم: (كَذَٰلِكَ لِنَصْرِ‌فَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(١) وقوله تعالى: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٢) وقوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَ‌سُولًا نَّبِيًّا)(٣) فالتعبير بالمخلَص تعبير عن الحجّية لكن بما هي حجّية عملية لا الحجّية النظرية.

وكما في عناوين التطهير والإصطفاء وصفاً للأنبياء كما في قوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ)(٤) وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِ‌يدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّ‌جْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَ‌كُمْ تَطْهِيرً‌ا).(٥)

وكما في عنوان «المقرّب» كقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّ‌بُونَ)(٦) فهو تعبير عن الحجّية العملية وهو وإنْ كان عملاً إلّا أنّه على صعيد القلب، كما أنّ النور فوق الإدراك مع أنه على صعيد العمل.

__________________

(١) يوسف/ ٢٤.

(٢) الحجر/ ٣٩ ـ ٤٠.

(٣) مريم/ ٥١.

(٤) ص/ ٤٧.

(٥) الأحزاب/ ٣٣.

(٦) الواقعة/ ١٠ ـ ١١.

١١٦

إذَن فالحجّية العملية هي حجّية نظرية مشوبة بعمل كما أنها أبلغ في البيان عن الحجّية النظرية؛ لأنّ الحجّية النظرية والعصمة النظرية (كلاهما بمعنى واحد) تؤمّنان لنا العصمة والأمن من الزلل في التلقّي النظري، في حين أنّها لا تشمل الأمن من الخطأ في السلوك العملي، بينما الحجّية العملية تؤمّن لنا الأمنَ في التلقّي النظري في حين أنّها تؤمّن الخطأ في السلوك العملي. فالتلقّي النظري وعصمته أمر مفروغ عنهما فضلاً عن الأمان والعصمة في التطبيق العملي، ومن ثَمّ فتكون أبلغ في الأمان في علوّ درجة العصمة ومنزلتها من الحجّية النظرية وحدها.

إذَنْ فالرضا والغضب الذي أشار إليهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثه لابدّ أن يكونا تابعين لإرادة الله تعالى، في حين أنّها متبوعان بمعنى اطلاعها العلمي بإرادات الله تعالى ورضاه وموارد غضبه، مما يؤكّد وجود العلم اللدنّي لدى فاطمة عليها‌السلام؛ للملازمة بين هذا العلم وبين الإطلاع على كلّ الجزئيات التي لا يتمّ الإطّلاع عليها بدقائقها وأسرارها وغوامضها الّا بالعلم اللدنّي الذي يخصّ الله به أوليائه وحججه المقرّبين، التي أظهر مصاديقها وأتمها فاطمة الزهراء عليها‌السلام.

١١٧
١١٨

المقام السادس:

مباهاة الله عزّوجلّ بفاطمة سلام الله عليها

لرسوله الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله

١١٩
١٢٠