مقامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الكتاب والسنّة

السيد محمد علي الحلو

مقامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الكتاب والسنّة

المؤلف:

السيد محمد علي الحلو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

الْكَافِرِ‌ينَ)(١)

وقوله تعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْ‌تَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ)(٢).

فظاهر هاتين الآيتين والتي استعرضَتْ كذلك في سور أخرى، من أنّ هذه الأسماء كانت موجودة حيّة شاعرة عاقلة، لأنّ الضمير واسم الإشارة المستخدم في الآيات المزبورة عائدة إلى العاقل الحيّ الشاعر، ومقتضى حصول آدم على شرف الخلافة الإلهية واسجاد الملائكة كلّهم أجمعون خاضعين طائعين له كان بسبب تشريفه بالعلم بتلك الموجودات الحيّة الشاعرة، مما يفضي بشرافة مقام تلك الموجودات الحيّة الشاعرة العاقلة على مقام آدم فضلاً عن جميع الملائكة.

ومما يقضي أنّ خلفاء اللّه من الأنبياء وجميع المرسلين أوصيائهم الذين يندرجون تعاقباً في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَ‌بُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْ‌ضِ خَلِيفَةً)(٣) إنّما يشرّفون ويؤهّلون بمقام الخلافة الإلهية في الأرض، إنّما هو بتوسط تشريفهم بالعلم بتلك الوجودات الحيّة الشاعرة العاقلة، والتي

__________________

(١) البقرة/ ٣١ ـ ٣٤.

(٢) ص/ ٧٥.

(٣) البقرة/ ٣٠.

٤١

أشار إليها تعالى في سورة «ص» بالعالين لأنّه تعالى حصر ما سوى آدم في قوله (أَسْتَكْبَرْ‌تَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) كونه دون آدم فيكون عدم سجود ابليس استكباراً، أو هو من العالين الذين لا يخضعون لآدم ولالطاعته بل يفوقونه، وليس أولئك إلّا الموجودات الحيّة الشاعرة العاقلة الذين ببركتهم شرّف آدم بذلك المقام، فكيف يكونون دونه خاضعين وطائعين له؟

ومقتضى وصف اللّه تعالى لعلم آدم بتلك الموجودات بأنه غيب السماوات والأرض ولأجل ذلك لم تحط الملائكة علماً بتلك الموجودات لأنها بالنسبة إلى السماوات والأرض غيب، أي ليست مشهودة فيها.

ومقتضى كلّ ذلك كون تلك الموجودات الشاعرة الحيّة العاقلة هي من الأنوار المخلوقة قبل السماوات والأرض قبل الملائكة وقبل آدم، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله: «أول ما خلق اللّه نور نبيك يا جابر» وأنّ تلك الأنوار الحيّة الشاعرة العاقلة ليست هي نور آدم ولا نور الأنبياء والمرسلين، وإلّا لكان آدم عالماً بذاته ولما احتاج أن يعلم بموجودات غير ذاته.

وكذلك لما احتاج بقية الأنبياء والمرسلين في استخلافهم عن اللّه في الأرض إلى تعلّم تلك الأسماء مع أنّ الآيات قاضية بأنّ مقام الخلافة الإلهية عن اللّه إنّما يستأهلها أفراد البشر من الأنبياء والمرسلين والذي كان آدم هو المصداق الأول إنّما يستأهلونها بالعلم بتلك الموجودات كسنّة إلهيّة دائمة

٤٢

كلّية في مقام جعل الخليفة في الأرض.

وهذا المفاد لهذه الآيات متطابق للروايات الواردة عنهم عليهم‌السلام في ذيل هذه الآيات، وقد تضمّنت تلك الروايات التنبيه على دلالة وظهور الآيات على مثل ذلك وأنّها في الأنوار الخمسة عليهم‌السلام كما في روايات اشتقاق النور كما تقدم وسيأتي مفصلاً كذلك.

أمّا من السنّة:

فالأولى: روايات بدء الخلقة الآتية حيث دلّت على أنّ أول ما خلق نور سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم نور عليّ عليه‌السلام ثم نور فاطمة عليها‌السلام ثم الحسنين عليهما السلام ثم نور التسعة من ذرّيّة الحسين عليهم‌السلام مما يدلّ على تقدّم خلقتهم النورية على سائر الأنبياء والرسل وبالتالي حجّية تلك الأنوار عليهم صلوات اللّه عليهم.

الثاني: أخذ ولايتها وطاعتها على الأنبياء، وهو مستفاد من الوجه الثاني المتقدّم في الكتاب، وقد تقدّم في رواية دلائل الإمامة حول مصحف فاطمة عليها‌السلام عن أبي بصير وقوله عليه‌السلام:

«ولقد كانت عليها‌السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق اللّه من الجنّ والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة»(١).

__________________

(١) دلائل الإمامة، باب «فاطمة الزهراء»، خبر مصحفها، الرقم المسلسل للحديث ٣٤، ص ١٠٦.

٤٣

وفي رواية بصائر الدرجات عالٍ اسنادها عن حذيفة بن أسعد قال:

«قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله: ما تكاملت النبوّة لنبيّ في الأرض حتّى عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي عليهم‌السلام فمثلوا له فأقرّوا بطاعتهم وولايتهم»(١).

الثالث: ما روي من قولهم عليهم‌السلام:

«لولا أنّ أمير المؤمنين تزوّجها لما كانت لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض، آدم فمن دونه»(٢).

وقد أشار إلى ذلك المجلسي رحمه الله بقوله: إنّه يستدلّ به على كون علي وفاطمة عليهما السلام أشرفَ مِنْ سائر أولي العزم سوى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غير ذلك من الوجوه الروائية التي لا مجال لهذا المختصر من ذكرها.

__________________

(١) وقد أورد المجلسي في بحار الأنوار (كتاب الإمامة، أبواب سائر فضائلهم ومناقبهم وغرائب شؤونهم، الباب ٦: باب تفضيلهم على الأنبياء وعلى جميع الخلق ...) ٨٨ رواية ذكر فيها تفضيلهم عليهم‌السلام على الأنبياء راجع بحار الأنوار ٢٦/٢٦٧ ـ ٣١٩.

(٢) بحار الأنوار ٤٣/١٠، الحديث ١ (أبواب تاريخ سيّدة النساء فاطمة الزهراء، الباب ٢: أسماؤها وبعض فضائلها).

٤٤

المقام الثالث:

مريم بنت عمران

مَثَلٌ ضربه الله لفاطمة

عليها‌السلام

٤٥
٤٦

قال تعالى: (وَمَرْ‌يَمَ ابْنَتَ عِمْرَ‌انَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْ‌جَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّ‌وحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَ‌بِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)(١).

عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال:

«(وَمَرْ‌يَمَ ابْنَتَ عِمْرَ‌انَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْ‌جَهَا) مثلاً ضرب الله لفاطمة عليها‌السلام وقال: إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذرّيتها على النار»(٢).

وقبل ذلك، لابدّ من التنبيه إلى قاعدة في باب المعارف أشارت إليها روايات أهل البيت عليهم‌السلام وهي أنّ ما ذكر في القرآن الكريم ـ من الأنبياء والرسل والأوصياء والحجج وما لهم من مقامات ومناصب وشؤون إلهية ـ من غاياته المهمّة كونه مثلاً ضربه الله تعالى لمقامات وشؤون النبيّ وأهل بيته عليهم‌السلام، وهذه القاعدة باب ينفتح منه أبواب عديدة.

فالمماثلة بين حالتي فاطمة عليها‌السلام وبين مريم عليها‌السلام تتمّ من

__________________

(١) التحريم/ ١٢.

(٢) البرهان في تفسير القرآن ٤/٣٥٨.

٤٧

وجوه قرآنية ـ أي ستكون المقارنة بينهما على أساس استقراء قرآني للآيات الواردة في مقامات مريم عليها‌السلام وبين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في مقامات فاطمة عليها‌السلام ـ لنجد مدى الترابط الوثيق ووضوح المشتركات التي تؤهّل الباحث من متابعة أوجه التشابه بين المقامين.

٤٨

مقامات السيدة مريم عليها‌السلام

إذا كانت مريم عليها‌السلام قد فضّلها الله بكمالات تقارب كمالات الأنبياء والرسل وهي سيّدة نساء عالمها فكيف بسيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين فاطمة بنت محمد صلوات الله عليها.

عن المفضّل بن عمر قال:

«قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام: أخبرني عن قول رسول الله في فاطمة: أنّها سيّدة نساء العالمين، أهي سيّدة نساء عالمها؟ فقال: تلك مريم كانت سيّدة نساء عالمها، وفاطمة سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين»(١).

والمراد من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَ‌كِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)(٢) ليس مطلق العالمين إلى يوم القيامة، بل هو عالم زمانها، نظير قوله تعالى في بني اسرائيل: (اذْكُرُ‌وا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ

__________________

(١) دلائل الإمامة، باب «فاطمة الزهراء»، أخبار في مناقبها، الرقم المسلسل للحديث ٥٨، ص ١٤٩.

(٢) آل عمران/ ٤٢.

٤٩

عَلَى الْعَالَمِينَ)(١) وقوله تعالى على لسان موسى خطاباً لبني اسرائيل: (قَالَ أَغَيْرَ‌ اللَّـهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)(٢) وكذا قوله تعالى: (وَرَ‌زَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)(٣) وقوله تعالى: (وَلَقَدِ اخْتَرْ‌نَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(٤) فإنّه ليس المراد تفضيلهم على كلّ الأمم وإنّما المراد بها تفضيلهم على عالمين زمانهم لقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ‌ أُمَّةٍ أُخْرِ‌جَتْ لِلنَّاسِ)(٥) وقوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّ‌سُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(٦) مما يعني أنّ هذه الأُمّة هي أفضل من بني اسرائيل وإن أريد منها بعض الأُمّة الإسلامية، مضافاً إلى ما سيأتي من دلالة الآيات من أفضلية مقامات الزهراء عليها‌السلام على مريم عليها‌السلام.

فالمراد من اصطفاء مريم على العالمين هو عوالم الأمم من العرقيات والأقوام والملل والنحل التي كانت تعيش في زمانها من شرق الأرض وغربها.

__________________

(١) البقرة/ ٧ و ١٢٢.

(٢) الأعراف/ ١٤٠.

(٣) الجاثية/ ١٦.

(٤) الدخان/ ٣٢.

(٥) آل عمران/ ١١٠.

(٦) البقرة/ ١٤٣.

٥٠

ولكي نستقرأ مقامات فاطمة عليها‌السلام يجدر بنا أن نتعرض للإشارات القرآنية عن مقام مريم عليها‌السلام ليتبيّن لنا مقامات سيّدة نساء العالمين، عندها فلا تكون أية غرابة فيما تعتقده الإمامية من مقامات فاطمة عليها‌السلام وسيتبيّن من النصوص القرآنية النازلة فيها أنّ تلك المقامات حاصلة للصديقة عليها‌السلام، بغضّ النظر عن الأولوية المتقدّمة وما ورد في مريم عليها‌السلام لا يكون إلّا وهو مبيّن ما قد ورد فيها عليها‌السلام وستكون الأولوية حاكمةً في معرفة وبيان مقاماتها بعد ذلك.

مريم وتحديث الملائكة لها

إنّ ما ذكرناه من الإشارة إلى مصحف فاطمة عليها‌السلام وكيفية نزول جبرئيل عليها ليُسلّيها بمُصاب أبيها بعدما دخلها من الحزن الشديد، لم يكن ذلك إلّا حالة من حالات الوحي، إلّا أنّه وحي غير نبوي أثبته القرآن في مواضع عديدة لرجالٍ ونساء كاملين في مقام الحجّية لقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ‌ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَ‌اءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْ‌سِلَ رَ‌سُولًا)(١).

ومعلوم أنّ ما وقع لمريم عليها‌السلام من وحي هو قسم أعظم من نزول جبرئيل عليه‌السلام، وذلك لحصول القسم الأول لها مضافاً إلى الثالث، كما أنّ تقديم ذكره في الترتيب في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ‌ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّـهُ إِلَّا

__________________

(١) الشورى /٥١.

٥١

وَحْيًا) لشرفيته على القسمين الثاني والثالث وهو الايحاء من وراء حجاب وارسال رسول يوحي بإذن الله تعالى.

والشاهد على حصول الأول لها قوله تعالى: (قَالَتْ رَ‌بِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ‌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرً‌ا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ ...) (١) وفاعل «قال» ههنا هو الله تعالى لأنها وجّهتْ قولها مخاطبة الله تعالى متصلاً بالآيات السابقة في سورة آل عمران: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْ‌يَمُ إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُ‌كِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَ‌ةِ ...) (٢) ففي الآيات السابقة الإشارة إلى نزول الملائكة عليها وقولها لها بالبشارة.

ويشهد لكون الخطاب والقول هو من الله تعالى في الآية المزبورة، أنّ القول لم يكن من جبرئيل كما قد يتوهّم؛ إذ تمثّل جبرئيل لها والذي تستعرضه سورة مريم كان بعد مدّة زمنية فاصلة عن نزول الملائكة بالبشارة.

ويشهد لذلك أيضاً أنّ مريم عليها‌السلام أعادت تعجّبها: (قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ‌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَ‌بُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ

__________________

(١) آل عمران / ٤٧ ـ ٤٨.

(٢) آل عمران / ٤٥.

٥٢

وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَ‌حْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرً‌ا مَّقْضِيًّا)(١) من دون توجيهه إلى الله تعالى، وكانت إجابةُ جبرئيل لها بتذكيره لجواب الله تعالى المتصل ببشارة الملائكة في سورة آل عمران.

وعلى ذلك فيظهر من سورة آل عمران أنّ الوحي الذي حصل لمريم بُعيد الوحي بتوسط الملائكة بالبشارة، هو من الوحي بدون وساطة الرسول الملائكي ولم يكن تكليماً من وراء حجاب، أي أنّه من النمط الأول من أقسام الوحي المشار إليه في سورة الشورى وهو أعلى أنماط الوحي كما يدلّ عليه الترتيب الذكري، وهو لا يحصل في الغالب إلّا للأنبياء المرسلين من طبقة أولي العزم وفي بعض حالاتهم. فهذه منقبة ومقام عظيم يتلوه القرآن الكريم لمريم بنت عمران.

كما أنّ مفاد الوحي لمريم هو إبلاغها بنبوّة عيسى وبعثته بشريعة الإنجيل، فكان تصديقها بكلمات الله وكتبِه بتوسط الوحي الذي حصل لها، لا عبر نبيّ مرسل وهو زكريا عليه‌السلام أو يحيي عليه‌السلام وقبل تولّد ابنها النبيّ عيسى عليه‌السلام، فكانت قد أوكل إليها مسؤولية إبلاغ نبوة عيسى عليه‌السلام إلى الملأ من قومها.

وهذا نظير ما ورد في الصديقة الزهراء عليها‌السلام من نزول اللوح

__________________

(١) مريم / ٢٠ ـ ٢١.

٥٣

الأخضر عليها المتضمن لأسماء الأئمة عليهم‌السلام وما ورد من أنّ مصحفها عليها‌السلام متضمّن للوصيّة بالإمامة في ذرّيتها، كما أنها كانت محدَّثة من قبل الملائكة كما كانت مريم مع أنها ليست بنبيّ، وقد روى الصدوق في علل الشرائع عن إسحاق بن جعفر عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال:

«سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول: إنّما سمّيتْ فاطمة عليها‌السلام محدَّثة لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء تناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة، إنّ الله اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نساء العالمين.

يا فاطمة، اقنتي لربكِ واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدّثهم ويحدّثونها.

قالت لهم ذات ليلة: أليست المفضّلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إنّ مريم كانت سيدة نساء عالمها وأنّ الله عزّوجلّ جعلكِ سيّدة نساء عالمكِ وعالمها وسيّدة نساء الأولين والآخرين»(١).

على أنّ مريم أُوحِيَ إليها وكلَّمَتْها الملائكةُ ولم تكن نبيّاً ولا رسولًا، فالتحديث لم يقتصر إذَنْ على نبويّة الموحى إليه، بل يكفي ذلك أن يكون من حجج الله تعالى كما هو الحال في مريم عليها‌السلام، إذ كلَّمَتْها الملائكةُ وحَدَّثَتْها بالبشارة، وقد دلّت مجموعة آيات على تحديثها منها:

__________________

(١) علل الشرايع / ١٨٣.

٥٤

قوله تعالى: (وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ مَرْ‌يَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْ‌قِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْ‌سَلْنَا إِلَيْهَا رُ‌وحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرً‌ا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّ‌حْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَ‌سُولُ رَ‌بِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ‌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَ‌بُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَ‌حْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرً‌ا مَّقْضِيًّا)(١).

فتلك المحاورة بين مريم وبين الوحي تُبيّن الإصطفاء الإلهي المقدّس الذي حظيت به مريم عليها‌السلام، فتمثّل جبرئيل بشراً سوياً ليُلقي لها البشارة من الله تعالى ويكشف ذلك عن الدرجة التي بلغتها مريم كحجّة من حجج الله تعالى، إذ التمثّل هذا نظير التمثّل الذي حدث لإبراهيم عليه‌السلام عند إتيانه البشارة كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُ‌سُلُنَا إِبْرَ‌اهِيمَ بِالْبُشْرَ‌ىٰ)(٢) البشارتان كانتا في سياق واحد، إنّه منح إبراهيم إسحاق ويعقوب نبييّن، كما مَنَحَتْ مريم عليها‌السلام عيسى نبياً مرسلاً، فالتشابه في مهمّتي نبي الله إبراهيم لتلقيّه البشرى في إسحاق ويعقوب كمهمّة مريم في تلقّيها البشارة الإلهية في عيسى عليه‌السلام، وهذه البشارة الإلهية لها دلالاتها الخطيرة في مهام المبشِّر فضلاً عن المبشَّر به.

__________________

(١) مريم / ١٦ ـ ٢١.

(٢) هود / ٦٩.

٥٥

على أنّ حالتي التمثّل لدى نبي الله إبراهيم عليه‌السلام هي نفسها حالة التمثّل التي حصلت لمريم عليها‌السلام، والتمثّل لم يكن تغيّراً في المتمثّل حقيقة، بل هو تغير في ظرف الإدراك، فلا تغيّر إذَنْ في الخارج ولا في نفس الماهية الملكية للوحي.

ومن هنا سيتبيّن عِظَم مسؤولية مريم عليها‌السلام من كونها في مصاف الأنبياء، وممن هداهم الله واجتباهم من غير النبييّن وهي مريم عليها‌السلام التي تحتلّ مقام الحجيّة لله تعالى بما يقارب حجيّة الأنبياء إلّا في خصوصيات النبوّة والرسالة.

ولم تقتصر حالة التكليم للملائكة من قبل مريم، بل تترقى إلى الوحي المباشر مع الله تعالى مع أنّ وحي الله تعالى كان قبل تمثّل جبرئيل لها.

قال تعالى حكاية عن مريم: (قَالَتْ رَ‌بِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ‌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرً‌ا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(١).

فالوحي الإلهي المباشر الذي حظيت به مريم عليها‌السلام يكشف عن خطورة المنزلة التي تحتلّها مريم عليها‌السلام، إذ الوحي الإلهي المباشر لا يختصّ به إلّا بعض الأنبياء وفي أوقات خاصّة، وهذا نظير ما حدث لزكريا عليه‌السلام حين كلّمتْه الملائكة وبشّرتْه بيحيى.

__________________

(١) آل عمران / ٤٧.

٥٦

ومن ثم كان وحي الله تعالى له مباشرة يكشف عن حقيقة مهمة، وهي تشابه حالتي زكريا ومريم في تلقّي البشارة وتكليم الملائكة لهما ومن ثم تكليمها الله تعالى، فحالتا الإصطفاء والبشارة كما حدثت لنبيّ الله زكريا حدثت مثلها وفي ظرف زماني متقارب لحجّة الله مريم عليها‌السلام، دليل على التقارب بين مهمّتي المقامين، أي مقام النبوّة لزكريا ومقام الحجّية لمريم.

والآيات التالية تتكفّل ببيان المقام، قال تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَ‌ابِ أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُ‌كَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورً‌ا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَ‌بِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ‌ وَامْرَ‌أَتِي عَاقِرٌ‌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّـهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)(١).

فتوارد النظائر في الحالتين دليل على وجود ترابط ظاهر أو خفي بين حالتي نبوّة زكريّا وحجّية مريم عليها‌السلام، والنظائر الواردة في الآية للحالتين كما يلي:

إتيان البشارة لزكريا وتكليمه الملائكة أثناء عبادته لله تعالى، فقال تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَ‌ابِ).

كما أنّ البشارة لمريم وتكليمها الملائكة حين قيامها لله تعالى منتبذة قومها

__________________

(١) آل عمران / ٣٩ ـ ٤٠.

٥٧

قال تعالى (وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ مَرْ‌يَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْ‌قِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْ‌سَلْنَا إِلَيْهَا رُ‌وحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرً‌ا سَوِيًّا)(١).

وتكليم نبيّ الله زكريا لله تعالى بلا واسطة، قال تعالى حكاية عن زكريا: (قَالَ رَ‌بِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ‌ وَامْرَ‌أَتِي عَاقِرٌ‌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّـهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)(٢) وهو نظير ما حدث لمريم عليها‌السلام، قال تعالى حكاية عن مريم: (قَالَتْ رَ‌بِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ‌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)(٣).

فكلاهما عرضا مقتضي الإمتناع عن قابليتهما لبشارة الغلام، إذ احتجّ زكريا كون امرأته عاقراً غير مقتضية للحمل وهي في هذا السن المتقدّم، ومريم احتجّت بكونها غير قابلة للحمل لعدم امكان ذلك من دون زوج، وكان جوابه تعالى لهما واحداً: (قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّـهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) مما يدلل على وحدة المقام لكلا الحالتين: حالة زكريا وحالة مريم، فضلاً عن ارتباط المهمّتين.

والتشابه بين البشارتين تتكفّله سورة مريم، قال تعالى: (أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُ‌كَ

__________________

(١) مريم / ١٦ ـ ١٧.

(٢) آل عمران / ٤٠.

(٣) آل عمران / ٤٧.

٥٨

بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ)(١). على أنا لا نغفل عما تقدّم من دعاء زكريا من كون دعائه في طلب الولد كان معلّلاً بخوفه الموالي من بعده أن لا يحسنوا خلافته، إذ كان زكريا مشفقاً على دعوته أن لا يخلفها أحد من بعده، فهو سيخلف من ورائه موالي سوء، لا يحسنون خلافته في دعوته فضلاً عن وراثته مما ترك، مما يعني أنّ يحيى سيواجه خطر التنافس على وراثة أبيه فضلاً عن عدم التصديق به من قبل قومه ومواليه، وكون هؤلاء يتحينون موت زكريا ليتوثّبون على خلافته، وسيكون لمريم وابنها أثر مهمّ في تأييد دعوة يحيى وتصديقه، إتماماً لرسالة زكريا ودعوته وحفظهما من الضياع الذي سيؤل اليه تنافس قومه. فمريم عليها‌السلام سيكون موقفهما موقف المدافع والمصدّق لرسالة زكريا في حفظ يحيى من تكذيب قومه ووثوبهم على خلافته، لكونهما يشتركان في نفس المهمّة.

وسيأتي التماثل بين فاطمة وبين مريم في مقام الحجيّة، فإنّ فاطمة عليها‌السلام أيضاً أثبتت بحجّيتها خلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المتمثّلة في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إبّان صراعها ومدافعتها المتوثّبون للخلافة حيث تحفزوا أن يخرجوا وراثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من آله عليهم‌السلام، تماماً كما تماثلت ظروف وراثة زكريا وما آلت إليه الخلافة الإلهية ليحيى حيث

__________________

(١) آل عمران / ٣٩.

٥٩

قتلوه ونكلوا به أخيراً.

حجيّة مريم بنت عمران عليها‌السلام

وحجيّة مريم صرّح بها القرآن بقوله تعالى (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)(١) و«الآية» هي الحجّة، أي: جَعَلْنا عيسى وأمَّه حجّة.

عن يحيى بن أبي القاسم عن أبي عبدالله عليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) قال: «أي حجّة»(٢).

فحجيّتها عليها‌السلام في عرض حجّية ولدها عيسى نبي الله، بل حجّيتها سَبَقَتْ حجّيةَ عيسى، كما أنّ حجّية عيسى تلت حجّيتها زماناً واقتضاءً.

فالترتب الزماني بين الحجّتين ظاهر، إذ كان تكليم الله لها وكذلك الملائكة قبل ولادة عيسى بفترة، على أنّ السبق الزمني لا يكون بالضرورة لخصوصية معينة، وإنّما هي أشبه بحالات إرهاص لنبوّة عيسى عليه‌السلام ولا شك أنها خصوصية عظيمة ومنزلة رفيعة.

فقوله تعالى (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي: إنّ المسيح وأمّه كليهما من أصول الديانة المسيحية، بل من الإعتقادات اللازم الإعتقاد بها عند المسلمين أيضاً لوجوب الايمان بكلّ كلمات الله وآياته وكتبه ورسله وآياته

__________________

(١) المؤمنون / ٥٠.

(٢) البرهان ٣/١١٣.

٦٠