السيد محمد علي الحلو
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢
احتلّتْ سورة الكوثر مساحةً واسعةً من المرتكز الإسلامي الذي يؤكّد على أنّ المقصود من الكوثر هو فاطمة عليهاالسلام. فإنّ سياق الآية في مقابل الشانيء الذي هو أبتر لا ذرّية له، بخلاف النبيّ صلىاللهعليهوآله فإنّ له الكوثر أي الذرّية الكثيرة، وهي فاطمة عليهاالسلام ذرّيتُها.
والمقابلة إنّما هي في كثرة الذرّية، وإلّا لاختلّت المقابلة، ولا يرد الإثبات والنفي على شيء واحد.
وهذا لا ينافي تأويل الكوثر بأنه نهر في القيامة يُسقي به النبيّ صلىاللهعليهوآله أمّته؛ لأنّ الكلام في مورد نزول الآية، وقد ذهب إلى ذلك الفريقين.
والعلّامة الطبرسي في جوامع الجامع في تفسيره قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: هو كثرة النسل والذرية، وقد ظهر ذلك في نسله من ولد فاطمة عليهاالسلام؛ إذ لا ينحصر عددهم، ويتصل بحمد الله إلى آخر الدهر عددهم، وهذا يطابق ما ورد في سبب نزول السورة وهو أنّ العاص بن وائل السهمي سمّاه الأبتر لما توفي ابنه عبدالله وقالت قريش: إنّ محمداً
صلبور فيكون تنفيساً عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ما وجد في نفسه الكبيرة من جهة فعالهم وهدماً لمحالهم (١).
وقد ذهب إلى ذلك الفخر الرازي بقوله: الكوثر أولاده صلىاللهعليهوآله؛ لأنّ هذه السورة نزلت ردّاً على من عابه بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مَرّ الزمان، فانظر كم قُتِلَ من أهل البيت ثم العالَم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يُعبأ به. (٢)
وبالفعل فإنّ الإحصائيات تشير إلى أنّ سدس سكّان المغرب العربي مثلاً هم من بني فاطمة عليهاالسلام من السادة الحسنيين؛ أي بنسبة خمسة ملايين من مجموع ثلاثين مليوناً.
وهذا أظهر مصاديق الكوثر المشار إليه في الآية الكريمة، إذ ذلك العطاء كان بمقتضى شكره صلىاللهعليهوآله لربّه وإقامة الصلاة والدعاء والثناء عليه تعالى، ولا يخفى ارتباط حقيقة النهر المسمّى بالكوثر بها سلام الله عليها، لأنّ بين التأويل والظاهر دوامَ ارتباط.
ولا يخفى أنّ المباهاة بها عليهاالسلام من قبل الله تعالى لنبيّه صلىاللهعليهوآله على عدوّه، يعطي دلالات لحجّيتها، إذ الآية في مقام بيان كرامة النبيّ صلى
__________________
(١) تفسير جوامع الجامع/ ٥٥٣.
(٢) التفسير الكبير ١٦/١١٨.
الله عليه وآله عند الله تعالى، وكرامتُه هذه مقرونة بحيازته صلىاللهعليهوآله لأفضل مخلوق وصفه الله تعالى بالكوثر ـ أي الخير الكثير ـ ولا تتمّ ذلك إلّا بكون مورد المباهاة من الخير المطلق الكامل التام.
المقام السابع:
خطبتها وعظيم حجّيتها
سلام الله عليها
لا تزال خطبة السيّدة فاطمة عليهاالسلام ترنّ في أسماع الدهر وتتجدّد على مرّ العصور، مؤكِّدة في الوقت نفسه جوانبَ شخصيتها الإلهيّة ومقاماتِ معرفتها الربوبية، مشيرة إلى عظيم ما اطّلعت عليه من مكنون علم الله عزّوجلّ ومخزون معارفه، والتي لا يُظهرها الله إلّا على خاصّة أوليائه وأهل صفوته وسدَنَةِ أسراره، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. ولما كانت فاطمة عليهاالسلام أحد مصاديق أهل التطهير وأولي الذكر، فلا غرابة أن تفتق في خطبتها من بعض خزائن معارفه تعالى.
فهي مع ذكرها البالغ لتمام الحمد على نعمائه، وسوابغ الشكر على آلائه، والثناء لربوبيته، والتوحيد لصفاته، تَسُوقُ البيانَ للتوحيد بما ليس معهوداً في الفلسفات البشرية أنذاك من اليونانية أو الفارسية أو الهندية، وتكشفُ الغطاءَ عن ظرائف التوحيد مالم يُعهَد في العرفان المتداول آنذاك.
فإنّ بيان معرفة التوحيد بنفي الصفات عنه ـ المشير إلى الغيب المطلق ـ وأنّ الصفات الإلهيّة تجلّيات أسمائية دون مقام غيب الغيوب، لم يُعهد قبل
الإسلام، ولم يُبده قبل القرآن الكريم ولم يكن في متناول أفهام المسلمين في الصدر الأول، ثمّ شَرَعَتْ في بيان سلسلة الصوادر عنه تعالى وكيفية الصدور واختلاف النشآت بما هو غير معهود في المعارف البشرية آنذاك؛ الفلسفية والعرفانية مما قد تعرّضتْ إليه إشارات القرآن الخفية التي لم تنلها أفهام المسلمين حينذاك.
ثم بيّنتْ ضرورةَ الشرع والشريعة، وبيّنت مقاماتِ النبيّ صلىاللهعليهوآله في النشآت السابقة والتعينات الخلفية للأشياء بحسب العوالم المتعاقبة وهذه من المعارف التي لم يُبْحَ بها قبل ذلك.
ثم بيّنتْ فصولَ علوم القرآن وجوامعَ أبوابه، فأخذت في بيان علل وحِكَم الأركان وأحكام الدين، مما لم تَنَلْه الأذهان قبل ذلك.
ثم بيّنتْ بمجمل سيرة النبيّ صلىاللهعليهوآله وسننه وعِظم ما عاناه في دعوته ورسالته، وما كابده أخاه ووزيره وابن عمّه ووصيّه أمير المؤمنين عليهالسلام، وأنّهما صلوات الله عليهما شيّدا صرحَ الدين والدولة والنظام في الإسلام.
ثم أخذت في تحليل الفتنة التي مُني بها المسلمون بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآله سياسياً واجتماعياً، وما سيؤول إليه حالهم لاغتصابهم الخلافة.
كلّ ذلك بيان جزل وألفاظ منمقة وتناسق أنيق تستجيب العبارات لها
وتنصاع المعاني لمراداتها والحقائق التي أبرزتها، وكلّ هذه المعارف مما لم تكن متداولةً بين المسلمين، لعدم وروده فيما صدر من أحاديث النبيّ صلىاللهعليهوآله للعامّة.
فمجمل ذلك أنّه برهان على صدوره من علمٍ لدنّي، ونَضْحِه من عين ربّانيّة.
وبعبارة أخري: تَسُوق البيانَ لمقام النبوّة ومعدن الرسالة وفضلها الذي لا يحصى؛ إذ به أخرج اللهُ الناسَ من ظلمات الجهل إلى نور الهداية، وطهّرهم من دنس الشرك فأنار اللهُ عزّوجلّ بمحمّد صلىاللهعليهوآله ظُلَمَ عبادة الأوثان وفرّج عن القلوب بُهَمَها، وجَلى عن الأبصار غَمَمَها، بعد أن كان الناس على شفا حفرة من النار، يَشربون الطَرْقَ ويقتاتون الورقَ، أذلّة خاسئين، يخافون أن يتخطّفَهمُ الناسُ من حولهم، وتهوي بهم عواصف الشرك من مكان سحيق.
وبعد أن عرّفَتْهم بعض مقام أبيها صلىاللهعليهوآله عند الله تعالى وأظهرتْ فضلَه وبيّنتْ برهانَه، وأوضحتْ حجَّتَه، وأعلَمَتْهم معالم دينهم، وأركانَ فرائضهم وبيانَ حكمة كلّ ركنٍ؛ أصولها وفروعها، فحلّقت بهم إلى كلّ معرفة ربوبية، وأخذت بهم عند كلّ سبيل.
فعرّفتهم تكليف كلّ قضية في دينهم ودنياهم، فكأنما كانت تُفرِغُ عن
لسان أبيها حكمة ومعرفة، فصاحة وبياناً، حتّى كانت أول خطبة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله تُلقي عليهم الحجّة، وتنذرهم بعاقبة أمرهم إذا ما هم أقاموا على غيّهم وغوايتهم وباطلهم، يرون تراث رسول الله صلىاللهعليهوآله قد تناهبته الأهواء وهم قابعون، لا يدفعون يد لامس، ولا يتناهون عن باطل، ولا يأمرون بمعروف ولاينهون عن منكر.
وليس هذا إلّا عن علم إلهي لدنّي لا يناله إلّا حجّة، ولا يحوزه إلّا كلّ مقرَّب مطهَّر.
فاستطاعت فاطمة عليهاالسلام في خطبتها أنْ تؤكّد على أمور:
أولاً: إنّ خطبتها كانت أول خطبة بعد خُطَب رسول الله صلىاللهعليهوآله تُسَجِّلُها محافلُ المسلمين في ذاكرتها إلى اهتمام المسلمين بمقامها وحجّيتها البالغة في مرتكزاتهم.
ثانياً: تُعدّ خطبة فاطمة عليهاالسلام إحدى الملاحم التوحيدية التي تذكر فيها ثناء الله تعالى ووحدانيته وتشير إلى نبوّة محمد صلىاللهعليهوآله وأثرها في حياة المسلمين، وتستعرض أركان الدين وما يقابلها من حكمة التشريع، وتثير تساؤلاتها بعد ذلك عن مشروعية البيعة المأخوذة تحت عنوان السقيفة ومدى صلاحية هذه البيعة المدّعاة مما تؤدّي بكثير من مدّعيات القوم وتعاجل مشاريعهم.
ثالثاً: حاولت السيّدةُ فاطمةُ عليهاالسلام في خطبتها تعريةَ كلّ مشروع يُصاغ على النهج السياسي السقيفي مستقبلاً، وحصّنتْ من خلال ذلك الصيغةَ الإسلامية المحمّدية في نظام الحكم لئلّا تختلط الأوراق وتتشابك الدعاوي.
وكانت تنطلق في دعوتها لهم من موقعيتها في نفوسهم ومقامها لديهم الذي قد بناه القرآن النازل في حقّها وتأكيدات النبيّ بمقامها وفضلها، والحجّيةِ في جميع ما تلقّيه من حِكَم ومواعظ ونصائح وأحكام، ثم تحليل القضايا التي واجهت الأُمّة وستواجهها مستقبلاً، مما يحفظ لخطبتها البليغة مكانة الحجّية في مرتكزات المسلمين فضلاً عن حجّيتها الثابتة بالدليل القرآني والسنّة النبوية.
رابعاً: الملاحم لمستقبلية التي أنبئت المسلمين بها من تفشّي الفتنة فيهم والظلم والفرقة، حيث قالت:
«أما لعمري لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً، وذعافاً مبيداً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبَّ ما أسّس الأوّلون، ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً، واطمأنّوا للفتنة جأشاً.
وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وبِهَرَجٍ شامل، واستبداد من
الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً»(١).
وقد وقع ما أخبرتْ به إلى حيث نرى ما يجري اليوم من ذلّ المسلمين على كثرتهم الكاثرة أمام فئة اليهود القليلة، وهم لا يدفعون يد لامس، فعاد جمعهم حصيداً، وفيئهم زهيداً، فبئس ما أسّسه الأوّلون من نظام حُكمٍ جَرَّ المسلمين إلى ما هم عليه اليوم.
__________________
(١) بحار الأنوار ٤٣/١٠٩ و ١٦١ (تاريخ سيّدة النساء فاطمة الزهراء، الباب ٧: باب ما وقع عليها من الظلم).
المقام الثامن:
حجّية الصدّيثة سلام الله عليها
في مقام الدفاع عن
صدّيق الأمّة، أميرالمؤمنين عليهالسلام
شهدت الساعات الأولى من رحيل النبيّ صلىاللهعليهوآله صراعاً عنيفاً بين أجنحة التيارات الطامحة في الحكم، ولم تمرّ وقت قليل حتّى تمّت تصفيةُ حسابات توزعت من خلالها مناصب الحكم لتتفق بعد ذلك على إقصاء الشرعية الإلهيّة المتمثّلة في الإمام عليّ عليهالسلام.
ولم تكن هذه المراحل القاسية التي مرّت على الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام باليسيرة، بل صاحَبَتْها محاولاتُ إرغامٍ على البيعة عانى الإمام وأصحابه الأبرار شتّى الضغوط النفسية التي من خلالها حاولت مجموعة السقيفة إلى أخذ إقرار ولو صوريّ على تأييد محاولات البيعة المدّعاة ليكون الأمر بعد ذلك ممرراً تحت غطاء الشرعية.
هكذا حاولت السقيفة إقناع عامّة المسلمين، إلّا أنّ ذلك لم يتمّ مع وجود فاطمة الزهراء عليهاالسلام وهي تتصدى لمحاولات الإرغام على البيعة التي تُطال علياً عليهالسلام وأصحابَهُ؛ وذلك لِما تتمتّع به فاطمة عليهاالسلام من مقام الحجّية المرتكز في نفوس المسلمين، إذ لا زالت ذاكرة المسلمين تسجّل
ما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يؤكّده في فاطمة عليهاالسلام من مقام شامخ وذكر عظيم.
عن كتاب المحتضر للحسن بن سليمان من تفسير الثعلبي بإسناده عن مجاهد قال:
«خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله وقد أخذ بيد فاطمة وقال: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة منّي، وهي قلبي الذي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(١).
وعن جابر بن عبدالله قال:
«قال رسول الله صلىاللهعليهوآله: إنّ فاطمة شعرة منّي، فمن آذى شعرة منّي فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله ملء السماوات والأرض»(٢).
وقد فهم المسلمون أنّ اقتران أذى فاطمة عليهاالسلام بأذى رسول الله صلىاللهعليهوآله وبالتالي بأذى الله تعالى الموجب للّعنة والعذاب الأليم، لا يتمّ إلّا لمن كان له مقام الحجّية الإلهيّة، وإلّا لا يمكن أن يتمّ قوله صلّى الله
__________________
(١) عوالم العلوم ١/١٤٨، الرقم ٢٠ (أحوال سيّدة النساء، الباب ٥: باب أن أذى فاطمة أذى الله أذى الرسول).
(٢) عوالم العلوم ١/١٤٩، الرقم ٢١ (نفس الأبواب).
عليه وآله أنّ أذى فاطمة عليهاالسلام يعني أذاه الذي هو أذى الله تعالى.
فإنّ ذلك دليل الحجّية التي تتمتّع بها مقام فاطمة من بين المسلمين، لذا فلا يكون دخولها عليهاالسلام وسط الأحداث الملتهبة إلّا إخماداً لتلك النائرة التي أجَّجَتْها طموحاتُ القوم وأمانيّهم مما أدّى إلى إرباك خططهم وتداعي كلّ محاولة خارجة عن نطاق الشرعية.
فقد روى ابن أبي الحديد عن أستاذه النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري حين تساءل عن كلام أبي بكر بعد خطبة فاطمة عليهاالسلام وتعريضه لعليّ فقال: إنّه الملك يا بني. قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذكر عليّ، فخاف من اضطراب الأمر عليهم (١).
والرواية التالية ستشهد مدى تأثير الموقف الفاطمي في ارباك محاولات القوم لما ارتكز عند القوم من حجّية فاطمة عليهاالسلام فضلاً عما هو مرتكز لدى المسلمين وقتذاك من النصوص القرآنية على حجّيتها وباقي الأحاديث النبوية حول مقام الزهراء من قبيل «أنها سيدة نساء أهل الجنّة» والذي قد روي في الصحاح وغير ذلك فكيف بمن تكون سيّدةَ نساء أهل الجنّة لا تبايع إمام زمانها وتموت ميتة جاهلية؟ مع أنّه سمعوا النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال: «من مات ولم يعرف أو لم يبايع إمام زمانه مات ميتة جاهلية» مما يدلل
__________________
(١) شرح نهج البلاغة ١٦/٢١٥.
موقف فاطمة عليهاالسلام لهم أنّ أبي بكر لم يكن صاحب البيعة الشريعة ولا الإمام الذي يبايع فقد كانت بيعة الزهراء عليهاالسلام لعليّ عليهالسلام.
ويدل على مثل ذلك ما رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: أنّ عمر قال لأبي بكر: إنطلق بنا إلى فاطمة، فإنّا قد أغضبناها فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلّماه فأدخلهما عليها. فلما قعدا عندها، حوّلتْ وجهها إلى الحائط. فسلّما عليها، فلم تردّ عليهما السلامَ. فتكلّم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي، وأنّكِ لأحبُّ إليّ من عائشة ابنتي، ولوددتُ يوم مات أبوكِ أني متُّ ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفكِ وأعرف فضلكِ وشرفكِ، وأمنعكِ حقّكِ وميراثكِ من رسول الله؟ إلّا أنّي سمعتُ أباك رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة».
فقالت: أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله صلىاللهعليهوآله تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم.
فقالت: «نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبَّ فاطمة ابنتي فقد أحبَّني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني» قالا: نعم سمعناه من رسول الله صلىاللهعليهوآله.
قالت: «فإنّي أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبيّ لأشكونكما إليه».
فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة؟ ثم انتحب أبو بكر يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: «والله لأدعونّ الله عليك في كلّ صلاة أصلّيها» ثم خرج باكياً فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كلّ رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي. (١)
هذا ما أحدثه موقف فاطمة عليهاالسلام إذ لو لم يكن لموقف فاطمة عليهاالسلام الحجّية كما هو مرتكز عند المسلمين لما طلب الشيخان الإعتذار منها، وقد ذكّرتْهما بحجّيتها فأقرّ لها ذلك عند قولها: «ألم تسمعا رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول: رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ...» فشهدا لها بذلك وأقرّا منزلتها وصَدَّقا حجّيتها.
وعدم رضاها عنهما دفع أبو بكر إلى البكاء مما ضاق منه لعدم رضا فاطمة عليهاالسلام، ولو لم يكن لها ذلك المقام الشامخ عند المسلمين لما كانت حاجة ملّحة في الإعتذار والإستشفاع لنيل رضاها فيدلّ على أنّهم كانوا يعلمون أنّ رضا رِضَى الله، ولما أيقنا سخطها تبادر لهما أنّ سخطها سخط الله، لذا
__________________
(١) الإمامة والسياسة، باب «كيف كانت بيعة عليّ بن أبي طالب» ج ١، ص ١٣ ـ ١٤.
فقد استنجد أبو بكر بالمسلمين لإقالته بيعته وإقراره أنّ سخط فاطمة عليهاالسلام يلغي شرعية نظامه من الأساس.
فإنّ موقف فاطمة عليهاالسلام ترك أثراً مهماً في مجريات الأحداث، إذ دفع بالقيادة إلى الإرتداع ولو مؤقّتاً عن مواقف الإبتزاز التي استعملت مع عليّ عليهالسلام لأخذ البيعة قهراً.
ومن أجل هذا قيل لأبي بكر: يا خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآله، إنّ هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنّه كان هذا لم يقم لله دين. فقال: والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه ما بتُّ العروة ليلة ولي في عنق مسلم بيعة بعدما سمعتُ ورأيتُ من فاطمة.
قال ابن قتيبة: فلم يبايع عليّ كرم الله وجهه حتّى ماتت فاطمة رضي الله عنها (١). مما يعني أنّ القيادة كانت متوجسة من إثارة غضب فاطمة عليهاالسلام بالإصرار على مبايعة عليّ عليهالسلام لهم، فكانت تتحسب لمقام فاطمة عليهاالسلام حسابها، متيقنةً مدى خطورة حجّيتها في حسم الأحداث وتوجيه المواقف إذا هم تمادوا في مضايقة عليّ عليهالسلام والتشديد عليه لأخذ البيعة بعد ذلك.
ولا ننسى ما اتّخذه الخليفة الأول من موقف المهادن طالما دخلتْ فاطمةُ
__________________
(١) الإمامة والسياسة، باب «كيف كانت بيعة عليّ بن أبي طالب» ج ١، ص ١٤.