مقامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الكتاب والسنّة

السيد محمد علي الحلو

مقامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الكتاب والسنّة

المؤلف:

السيد محمد علي الحلو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

وفيه جهتان من البحث:

الجهة الأولى: حجّيتها على الأئمّة عليهم‌السلام

لما كانت علّة الخلق هي عبادة اللَّه تعالى لقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) ولا تتمّ العبادة إلّا بمعرفته تعالى، ومعرفته لا تتمّ إلّا برسله وأوليائه، إذ هم حججه على العباد في كلّ زمان، فهم الطريق إليه والمسلك إلى سبيله.

عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله عليه‌السلام ... قال:

«إنّما أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أنّ له سفراء في خلقه، يُعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم.

__________________

(١) الذاريات/ ٥٦.

٢١

فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبّرون عنه جلّ وعزّ، وهم الأنبياء عليهم‌السلام وصَفْوَتُه من خلقه، حكماء مؤدَّبين بالحكمة، مبعوثين بها، غيرُ مشاركين للناس ـ على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ـ في شيء من أحوالهم، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة.

ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان ممّا أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجّة يكون معه علمٌ يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته»(١).

فالحجّة إذَنْ هو الدليل إلى الله تعالى يُحذّر به عباده وينذرهم ويهديهم. فمقام الحجّية إلهيّ تصل بوساطته العلوم الإلهية اللدنيّة إلى عباده.

وإذا كان أهل البيت عليهم‌السلام حجج الله على خلقه فإنّ أمّهم فاطمةَ حجّةُ الله عليهم، وهي ما صرّحت به رواية العسكري عليه‌السلام: «نحن حجّة الله على الخلق، وفاطمة عليها‌السلام حجّة علينا»(٢).

ويشهد لهذا المعني ما ورد عن مصادر علومهم عليهم‌السلام كالجفر والصحيفة والجامعة، وأنّ منها مصحف فاطمة عليها‌السلام مما يدلّ على كونها واسطة علمية بين الأئمّة عليهم‌السلام وبين اللَّه تعالى في العلم المحفوظ

__________________

(١) الكافي ١/١٦٨. (كتاب الحجّة، الباب الأول: باب الإضطرار إلى الحجّة، الحديث ١).

(٢) تفسير أطيب البيان ١٣/٢٣٥.

٢٢

في مصحفها المتعلّق بما يكون إلى يوم القيامة، فهي حجّة في هذا العلم الجمّ على الأئمّة عليهم‌السلام يأخذون به، نظير حجّية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن القرآن الكريم الذي هو مصدر علوم الأئمّة عليهم‌السلام كما في الروايات الآتية.

ولا يخفى أنّ وساطتها عليها‌السلام لذلك العلم ليس عبر نقش وخط ذلك المصحف، إذ الوجود الكتبي لمصحفها وجود تنزلي تنزيلي لحقائق ذلك العلم الذي ألقي إليها، فوساطتها بلحاظ عالم الأنوار لهم عليهم‌السلام.

فقد روى فراتي الكوفي في تفسيره، قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن عبيد معنعناً عن أبي عبداللّه عليه‌السلام أنّه قال:

«(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‌) الليلة فاطمة والقَدْر اللّه، فمن عرف فاطمة حقّ معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وانّما سمّيتْ فاطمة، لأنّ الخلق فطموا عن معرفتها.

وقوله (وَمَا أَدْرَ‌اكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌ خَيْرٌ‌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‌) يعني خير من ألف مؤمن، وهي أمّ المؤمنين.

(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّ‌وحُ فِيهَا) والملائكة المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والروح القدس هي فاطمة عليها‌السلام.

(بِإِذْنِ رَ‌بِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ‌ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ‌) يعني حتّي يخرج

٢٣

القائم عليه‌السلام»(١)

فقد روى زرارة عن حمران، قال: «سألت أبا عبداللّه عليه‌السلام عمّا يفرّق في ليلة القدر، هل هو ما يقدّر اللّه فيها؟ قال:

لا توصف قدرة اللّه، إلّا أنه قال (فِيهَا يُفْرَ‌قُ كُلُّ أَمْرٍ‌ حَكِيمٍ) فكيف يكون حكيماً إلّا ما فُرق، ولا توصف قدرة اللّه سبحانه لأنه يحدث ما يشاء.

وأما قوله (لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌ خَيْرٌ‌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‌) يعني فاطمة عليها‌السلام.

وقوله (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّ‌وحُ فِيهَا) والملائكة في هذا الموضع المؤمنون الذين يملكون علم آل محمّد عليهم‌السلام.

(وَالرُّ‌وحُ) روح القدس، وهو في فاطمة عليها‌السلام.

(مِّن كُلِّ أَمْرٍ‌ سَلَامٌ) يقول من كلّ أمر مسلّمة.

(حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ‌) يعني حتّي يقوم القائم عليه‌السلام».(٢)

وكما هو الحال في وساطة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لايصال القرآن لهم، ففي صحيحة زرارة قال:

«سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول: لولا أننا نزداد لأنفَدْنا.

قال قلت: تزدادون شيئاً لا يعلمه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

قال: أماء إنّه إذا كان ذلك عرض على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ على الأئمّة

__________________

(١) تفسير فرات الكوفي/ ٥٨١.

(٢) تأويل الآيات الظاهرة/ ٧٩١، والظاهر أنّه أخرجه عن تفسير محمد بن عباس.

٢٤

ثمّ انتهى الأمر إلينا».

وفي رواية عن أبي عبداللّه عليه‌السلام قال:

«ليس يخرج شيء من عند اللّه عزّوجلّ حتّى يُبدأ برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ بأمير المؤمنين عليه‌السلام ثم واحداً بعد واحد لكي لا يكون آخرنا أعلم من أولنا».(١)

فالوساطة ليست في خصوص الوجود الكتبي للقرآن، بل في ايصال الحقائق النورية للقرآن إلى أنوار أرواحهم عليهم‌السلام، فالإلقاء والتلقّي نوريٌ بلحاظ نشأة الملكوت المطويّ في وجوداتهم وأرواحهم كما يشير إليه قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْ‌آنٌ كَرِ‌يمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ)(٢).

وقد بيّن الإمام أبو عبدالله الصادق عليه‌السلام ما يتضمنه هذا المصدر العلمي الإلهي في رواية بقوله:

«إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة وسبعين يوماً، وكان دَخَلَها حزنٌ شديد على أبيها، وكان جبرئيل عليه‌السلام يأتيها فيُحسن عزاءها على أبيها ويُطيّب نفسها ويُخبرها عن أبيها ومكانه، ويُخبرها بما يكون بعدها في ذريّتها، وكان عليّ عليه‌السلام يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة عليها‌السلام»(٣).

__________________

(١) الكافي ١/ ٢٥٥.

(٢) الواقعة/ ٧٧ ـ ٧٨.

(٣) الكافي ١/٢٤١ (كتاب الحجّة، باب في ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ...، الحديث ٥).

٢٥

وفي رواية أخرى يبيّن الإمام عليه‌السلام جانباً آخر من جوانب ما يتضمنه هذا المصدر الإلهي، ففي حديث قال أبو عبدالله عليه‌السلام:

«ومصحف فاطمة ما أزعم أنّ فيه قرآناً وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى أنّ فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش ...»(١).

ولعلّ الرواية الأخرى تفيدنا جانباً آخر مما يتضمنه مصحف فاطمة عليها‌السلام؛ عن أبي عبدالله عليه‌السلام:

«وإنّ عندنا لمصحف فاطمة عليها‌السلام وما يدريهم مامصحف فاطمة عليها‌السلام؟

قال: قلت: وما مصحف فاطمة عليها‌السلام؟

قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد»(٢).

وقوله عليه‌السلام: «والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد» ليس المراد منه

__________________

(١) بصائر الدرجات، الباب (١٤) من الجزء الثالث، باب في الأئمة عليهم‌السلام أعطوا الجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها‌السلام، الحديث ١. (ص ١٥٠ من الطبعة القديمة وص ٢٠٨ من الطبعة الحديثة).

(٢) الكافي ١/٢٣٩ (كتاب الحجّة، الباب ٤٠: فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها‌السلام، الحديث ١).

٢٦

خلوّ القرآن الكريم عن ذلك العلم المودع في مصحف فاطمة عليها‌السلام؛ إذ القرآن تبيان كلّ شيء، بل المراد أنّه ليس فيه من ألفاظ وآيات وكلمات القرآن شيء، إذ علمها عليها‌السلام بذلك بنزول جبرئيل عليها هو ما سيأتي بيانه من كونها مطهَّرة تُمسُّ القرآن الكريم في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ الذي يُستَطَرُ فيه كلّ غائبة ورطب ويابس وما كان وما يكون. فعلمها بذلك هو من العلم بحقيقة القرآن العِلْوية، لا هو شيء خارج عن حقيقة القرآن، غاية الأمر أنّ تلك الحقيقة موجودة بالألفاظ بين الدفّتين وما علمتْ به عليها‌السلام كالشرح لبطونه وحقائقه التكوينية العِلْوية.

ويشهد لذلك رواية أخرى عن مصحفها عليها‌السلام وهي ما رواه الطبري في دلائل الإمامة من معتبرة أبي بصير قال:

«سألت أبا جعفر محمّد بن علي عليهما السلام عن مصحف فاطمة فقال: أُنزِلَ عليها بعد موت أبيها.

قلت: ففيه شيء من القرآن.

فقال: ما فيه شيء من القرآن.

قلت: فَصِفْه لي. قال: له دَفّتان من زَبَرْجَدَتين على طول الورق وعرضه حمراوين.

قلت: جعلت فداك فَصِفْه لي وَرَقَهُ. قال: ورقه من دُرٍّ أبيض، قيل له: كُنْ فكان.

٢٧

قلت: جعلت فداك فما فيه؟ قال: فيه خبرُ ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر سماء سماء، وعدد ما في السماوات من ملائكة وغير ذلك، وعدد كلّ ما خلق اللّه مرسلاً وغير مرسل، وأسماؤهم، وأسماء من أرسل إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب، وأسماء جميع من خلق اللّه من المؤمنين والكافرين من الأوّلين والآخرين، وأسماء البلدان وصفة كلّ بلد في شرق الأرض وغربها، وعدد ما فيها من مؤمنين، وعدد ما فيها من كافرين، وصفة كلّ مَن كذّب، وصفة القرون الأولى وقصصهم، ومن وليّ من الطواغيت ومدّة ملكهم وعددهم، وأسماء الأئمّة وصفتهم وما يملك واحداً واحداً، وصفة كرّاتهم، وجميع من تردد في الأدوار من الأوّلين والآخرين.

قلت: جعلت فداك وكم الأدوار؟ قال: خمسون ألف عام، وهي سبعة أدوار فيها أسماء جميع ما خلق اللّه من الأوّلين والآخرين وآجالهم، وصفة أهل الجنّة، وعدد من يدخلها، وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وهؤلاء، وفيه علم القرآن كما أُنزل، وعلم التوراة كما أُنزلت، وعلم الإنجيل كما أُنزل، وعلم الزبور وعدد كلّ شجرة ومدرة في جميع البلاد.

قال أبو جعفر: ولما أراد اللّه تعالى أن يُنزله عليها أمر جبرئيل وميكائيل واسرافيل أن يحملوا فينزلوا بها عليها، وذلك في ليلة الجمعة، الثلث الثاني من الليل، هبطوا به عليها وهي قائمة تصلّي، فما زالوا قياماً حتّى قعدتْ، فلمّا فرغت من صلاتها سلّموا عليها، وقالوا: السلام يقرئك السلام ووضعوا

٢٨

المصحف في حِجْرها.

فقالت لهم: للّه السلام ومنه السلام، وإليه السلام، وعليكم يا رسل اللّه السلام.

ثمّ عرجوا إلى السماء. فما زالت بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرأه حتّى أتت على آخره.

ولقد كانت عليها‌السلام طاعتها مفروضة على جميع مَن خلق اللّه من الجنّ والإنس والطير والوحش، والأنبياء والملائكة.

فقلت: جعلت فداك، فلمّا مضت إلى مَنْ صار ذلك المصحف؟

قال: دفعتْه إلى أمير المؤمنين، فلما مضى صار إلى الحسن عليه‌السلام ثمّ إلى الحسين عليه‌السلام ثم عند أهله حتّي يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر عليه‌السلام.

فقلت: إنّ هذا العلم كثير.

قال: يا أبا محمّد، إنّ هذا الذي وصفتُه لك لفي ورقتين من أوّله، وما وصفت بعد في الورقة الثالثة (١) ولا تكلّمتُ بحرف منه(٢)».

ويجدر التنبيه إلى أنّ اختلاف ألسن الروايات في كيفية مصحفها إمّا راجع إلى تعدّد صحفها عليها‌السلام أو الإختلاف في أبعاض المصحف

__________________

(١) في نسخة: الثانية بدلاً من الثالث.

(٢) دلائل الإمامة، في باب «فاطمة الزهراء»، خبر مصحفها، الرقم المسلسل للحديث ٣٤، ص ١٠٤ ـ ١٠٦.

٢٩

الواحد أو وجوه أخرى لا تخفى على القارئ بعد ملاحظة مجموع الكلام في هذا المقام.

ويدلّ على ظاهرها ومفادها من اشتمال مصحفها على كلّ صغيرة وكبيرة ورطب ويابس وجميع ما خلق مما كان وما يكون وما هو كائن، وعلوم الكتب السماوية وكما سيأتي في المقامات اللاحقة من كونها مطهّرة كما في صورة الأحزاب، والمطهّر كما في سورة الواقعة يمسّ حقيقة القرآن العِلْوية المكنونة في الكتاب واللوح المحفوظ الموصوف بأنّه تبيان لكلّ شيء كما في سورة النحل، وهو الكتاب المبين كما في سورة الدخان، والكتاب المبين وهو الذي يستطر فيه كلّ غائبة في السماوات والأرض كما في سورة النمل، وكلّ ما في البرّ والبحر وكلّ رطب ويابس كما في سورة الأنعام، فمضمون هذه الرواية مما دلّت عليه تلك الآيات مضافاً إلى كون القرآن هو الكتاب المهيمن على بقية الكتب السماوية، فهو يحيط بها، فالذي يمسُّ حقيقته العِلْوية تتنزل عليه مثل تلك الحقائق.

وفي رواية ثالثة، قال أبو عبدالله عليه‌السلام:

«.. وليخرجوا مصحف فاطمة فإنّ فيه وصيّة فاطمة»(١).

__________________

(١) الكافي ١/٢٤١ (كتاب الحجّة، الباب ٤٠: فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها‌السلام، الحديث ٤).

٣٠

فلم يكن مصحف فاطمة عليها‌السلام مصدراً لجانب علمي معيّن، بل يعمّ علوماً عدّة أشار إلى الإمام عليه‌السلام؛ كالحوادث الواقعة إلى يوم القيامة، أي ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، فضلاً عن الأحكام التي يتضمّنه مصحفها ليشمل حتى أرش الخدش.

على أنّا لا نغفل عن قول الإمام عليه‌السلام من أنّ مصحف فاطمة فيه وصيّتها عليها‌السلام، ووصيّتها هذه تتضمن أمراً خطيراً هاماً لم يصرّح به الإمام إلّا أنّه يُشعر من كلامه مدى خطورة وصيّتها هذه، إذ قوله عليه‌السلام «وليخرجوا مصحف فاطمة» نوع تهديد وتحدّي لبعض الجهات يكمن من خلاله أنّ في وصيّتها عليها‌السلام توصيات إلهيّة تعيّن الإمام الذي إمامته من عند الله تعالى.

فالإيصاء بإمامة الأئمة عليهم‌السلام، ممّا يدلّ على أنّ العهد بإمامة الأئمة عليهم‌السلام من ذرّيتها هو من شؤونها عليها‌السلام؛ إذ متعلّق الوصية لابدّ أن يكون ممّا يشمله ولاية الموصي، ومن ثم كان الإمام السابق يوصي بإمامة اللاحق، وكوصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإمامة علي عليه‌السلام والأئمة من ولده عليهم‌السلام.

ويصرّح بهذا المقام لها عليها‌السلام النص الوارد في نزول اللوح الأخضر عليها المتضمن لتعيين أسماء الأئمة عليهم‌السلام، ومن ثمّ يصح أنّ الأئمة

٣١

من ذرّيتها أوصياء لها كما هو الحال في كون الإمام اللاحق وصيّ الإمام السابق.

وكما ورد في زيارة الحسين عليه‌السلام وزيارة الرضا عليه‌السلام «السلام عليك يا وارث فاطمة ...» الدالّ على وراثة إلهية بينها وبين الأئمة.

وعلى الإجمال: فإنّ مقام الوصاية بالإمامة مقام خطير إلهي نظير ما كان لمريم بنت عمران من مقام حيث ألقِيَ إليها كلمة الله عيسى، وكان لها مسؤولية البشارة بنبوّة عيسى للناس، ممّا يعني أنّ لمصحف فاطمة عليها‌السلام شأناً في تحديد منصب الإمامة الإلهية.

ويدلل في الوقت نفسه ما لفاطمة عليها‌السلام من صلاحية خاصة في تحديد معالم القيادة الإسلامية المتمثلة زعامتها الحقّة في إمامة المعصومين عليهم‌السلام ويؤكّد كذلك عِظم حجّيتها عليها‌السلام في أخطر شأن من شؤون الدين والأُمّة وهو تحديد مناصب الإمامة الإلهية، علماً أنّ هذا التحديد سيكون على مستوى الوصية الإلهية التي تلقى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليحمّلها فاطمة عليها‌السلام.

ومن هنا سنرى مدى خطورة مسؤوليات فاطمة عليها‌السلام في رسم مبدأ مسار الأُمّة ومنتهاه إلى يوم القيامة، وسيتّضح أنّ من هذا القبيل أمراً خطيراً ومهماً، وهو مدى أهمية موقف فاطمة عليها‌السلام إبّان أحداث البيعة

٣٢

وتوجهات السقيفة، وإعلان استنكارها لما أقدمت عليه جماعة السقيفة وقتذاك، إذ يعني استنكار فاطمة عليها‌السلام على ما أقدم عليه القوم مخالفتهم للمسار الذي جعله الله تعالى ورسمه لهذه الأُمّة ما تعاقبت أجيالها بحسب ما عهد إليها عليها‌السلام من وصيّة في تعيين الإمام وهو ما تكفّله مصحف فاطمة عليه‌السلام وستؤكّد الرواية التالية ما نذهب إليه من أنّ هذه الوصيّة هي وحي إلهي ألقي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وألقاه إليها عليها‌السلام.

قال أبو عبدالله عليه‌السلام في حديث:

«... وخلّفتْ فاطمةُ مصحفاً ما هو قرآن ولكنه كلام من كلام الله أُنزل عليها، إملاء رسول الله وخطّ عليّ عليه‌السلام»(١).

مضمون هذه الرواية أنّ بعض مصحفها هو من إملاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته على فاطمة عليها‌السلام لا من نزول جبرئيل عليها نظير الرواية المتقدّمة في أصول الكافي من أنّ ما ينزل من العلم المتجدّد من الله تعالى على الإمام الحيّ القائم بالأمر يتنزل أولاً على رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) بصائر الدرجات، الباب (١٤) من الجزء الثالث: باب في الأئمّة عليهم‌السلام أنّهم أعطوا الجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها‌السلام، الحديث ١٤. (ص ١٥٦ من الطبعة القديمة وص ٢١٣ من الطبعة الحديثة).

٣٣

وآله في نشأته الأخروية ثم على أمير المؤمنين عليه‌السلام ثم على الإمام اللاحق فاللاحق إلى أن يصل في تنزله على الإمام الحيّ القائم بالأمر، مما يدلل على وساطة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في علوم المعصومين عليهم‌السلام اللدنيّة منه تعالى.

وفي الرواية إشارة إلى أنّ علياً عليه‌السلام كان يخطّ ما يمليه ويلقيه له بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك النشأة على فاطمة عليها‌السلام، وهذا نظير ما كان من شأن عليّ عليها‌السلام من أنّه كان يسمع مايسمعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الوحي ويرى ما يراه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، كما ورد ذلك في روايات عديدة وكما نقل عليه‌السلام ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّا أنّك لستَ بنبيّ» في آخر الخطبة القاصعة من نهج البلاغة.

ويقتضيه مفاد حديث المنزلة «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» إذ كان ما يتنزّل على موسى يسمعه ويراه هارون كما هو مفاد الآيات الكريمة المشتركة بينهما فيما ينزل.

فالذي يتنزّل هو على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يراه ويسمعه عليّ عليه‌السلام.

ونظير ما سيأتي من نزول الملائكة على مريم بل والوحي المباشر من الله تعالى لها، مع أنّها لم تكن نبياً ولكن كانت آيةً من حجج الله تعالي.

٣٤

ثمّ إنّ في التصريح بأنّ ما نزل عليها كلام من كلام الله تعالى القدسي غير القرآني، تبيان لمقام حجيّتها الإلهية، على أن مصحف فاطمة هو أحد دلائل إمامة الإمام عند حيازته له. عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول:

«ما مات أبو جعفر عليه‌السلام حتّى قبض مصحف فاطمة عليها‌السلام»(١).

فمصحف فاطمة أحد المنابع العلمية التي يتزوّد منها الإمام إبّان مهمّته الإلهية، فضلاً عن كونه أحدى دلائل إمامته الحقّة.

من هنا تبيّن أنّ حجّية فاطمة عليها‌السلام على أبنائها الحجج المعصومين عليهم‌السلام، فهي الواسطة العلمية بين الله تعالى وبين الأئمة عليهم‌السلام ومن خلال العلم المحفوظ في مصحفها المتعلّق بما يكون إلى يوم القيامة، فحجّيتها نظير حجّية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن القرآن المجيد الذي هو مصدر علوم الأئمة عليهم‌السلام كما هو المقرّر.

كما تؤكّد أنّ العلم الذي يتلقونه عليهم‌السلام عن مصحف فاطمة غير مقتصر على ما نقش من وجود كتبي في ذلك المصحف، بل هذا الوجود

__________________

(١) بصائر الدرجات، الباب (١٤) من الجزء الثالث: باب في الأئمّة عليهم‌السلام أنّهم أعطوا الجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها‌السلام، الحديث ٢٣. (ص ١٥٨ من الطبعة القديمة وص ٢١٦ من الطبعة الحديثة).

٣٥

الكتبي تنزّلي تنزيلي لحقائق ذلك العلم الذي أُلقي عليها كما تقدم، فوساطتها إذن بلحاظ عالم الأنوار لهم عليهم‌السلام.

ويشهد لوساطتها لعلومهم وحجّيتها روايات بدء الخلقة وخلقة أنوارهم واشتقاقها على الترتيب من نور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونور عليّ، ثم اشتقاق نور الحسنين من نورهم مما يدلّ على كون رتبتها بعد عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام، وأنّ بقية أنوار الأئمّة عليهم‌السلام أُشتقّت منها فهي واسطة فيض تكوينية لوجودهم وكمالاتهم وهو مقام رفيع وسرّ عظيم.

ففي حديث عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مسنداً عن سلمان قال:

«دخلتُ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا نظر إليّ قال: يا سلمان، إنّ الله عزّوجلّ لم يبعث نبياً ولا رسولاً إلّا جعل له اثني عشر نقيباً.

قال: قلت: يا رسول الله، قد عرفت هذا من الكتابين. (١)

قال: يا سلمان، فهل علمت نقبائي الإثني عشر الذين اختارهم الله للإمامة من بعدي؟

فقلت: الله ورسوله أعلم.

قال: يا سلمان، خلقني الله من صفاء نوره فدعاني فأطَعْتُه وخلق من نوري علياً فدعاه إلى طاعته فأطاعه، وخلق من نوري ونور علي عليه‌السلام فاطمةَ فدعاها

__________________

(١) أي: التوراة والانجيل.

٣٦

فأطاعَتْهُ، وخلق منّي ومن عليّ ومن فاطمة، الحسنَ والحسينَ، فدعاهما فأطاعاه.

فسمّانا الله عزّوجلّ بخمسة أسماء من أسمائه: فالله المحمود وأنا محمد، والله العلي وهذا عليّ، والله فاطر وهذه فاطمة، والله الإحسان وهذا الحسن، والله المحسن وهذا الحسين.

ثمّ خلق من نور الحسين تسعة أئمة فدعاهم فأطاعوه قبل أن يخلق الله سماء مبنية أو أرضاً مدحية، أو هواءً أو ماءً أو مَلَكاً أو بشراً، وكلنّا بعلمه أنواراً نسبحه ونسمع له ونطيع»(١).

فالخلقة والإصطفاء كما جرى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ عليه‌السلام، جرى مثله على فاطمة عليها‌السلام، وهذا لعمري مقام خطير وشأن رفيع.

كما أنّ في اشتقاق نور عليّ من نور محمد، ونور فاطمة من نور عليّ، ونور الحسن والحسين من نور فاطمة، وأنوار التسعة من ذريّة الحسين من نور الحسين، دلالةً على ترتيب النورانية وكون المتقدّم واسطةَ فيض للمتأخّر، لذا فإنّ فاطمة عليها‌السلام تُعدّ واسطة فيض نورانية للأئمّة عليهم‌السلام لتقدّمها عليهم بالنورانية، وهذا معني كونها واسطة إفاضة على أولادها

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٥/٦، الحديث ٩ (كتاب الإمامة، أبواب خلقهم وطينتهم وأرواحهم، الباب الأول: بدو أرواحهم وأنوارهم ...).

٣٧

المعصومين عليهم‌السلام فهي بالتالي حجّة عليهم.

ومما يؤكّد أنّهم من نور واحد ما روي عن الرضا صلوات الله عليه:

«... إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى عمران: أني واهب لك ذكراً، فوهب له مريم، ووهب لمريم عيسى، فعيسى من مريم ومريم من عيسى، ومريم وعيسى شيء واحد، وأنا من أبي، وأبي منّي، وأنا وأبي شيء واحد»(١).

فإذا كان عيسى من مريم ومريمُ من عيسى شيء واحد، فكيف بمن كانوا أنواراً يسبّحون الله قبل الخلق بألفي ألف عام؟

عنهم عليهم‌السلام:

«إنّ الله خلقنا قبل الخلق بألفي ألف عام، فَسبَّحْنا فسَبَّحَتِ الملائكةُ لتسبيحنا»(٢).

فهم عليهم‌السلام من فاطمة، وفاطمة منهم.

وهذا دليل قولنا: أنّها عليها‌السلام واسطة فيض تكوينية لوجودهم وكمالاتهم صلوات الله وسلامه عليهم وعلى أمّهم سيدة نساء العالمين.

فيتلخّص بذلك وجهان لمقام حجّيتها على الأئمّة عليهم‌السلام:

الأول: كون مصحفها مصدراً من مصادر علوم الأئمة عليهم‌السلام

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٥/٦، الحديث ١ (كتاب الإمامة، أبواب خلقهم وطينتهم وأرواحهم، الباب الأول: بدو أرواحهم وأنوارهم ...).

(٢) نفس المصدر، الحديث ٢.

٣٨

ومعنى ذلك وساطتها العلمية المنصوبة من قبله تعالى للأئمة.

الثاني: اشتقاق نورهم عليهم‌السلام من نورها في بدء الخلقة وهو يستلزم مقام الحجيّة لهيمنة المتقدّم على اللاحق.

٣٩

الجهة الثانية: حجّيتها على الأنبياء المرسلين

ويدلّ عليه من الكتاب وجهان:

الأول: كونها مطهّرة تمسُّ الحقيقة العِلْوية الملكوتية للقرآن الكريم في اللوح المحفوظ كما تقدّمت الإشارة إلى السور القرآنية الدالّة على ذلك، وكما سيأتي في مقامات أخرى لاحقة والذي يُحيط بعلم الكتاب المهيمن على بقية الكتب السماوية السابقة يفضل على أصحاب تلك الكتب، حيث وصفت توراة موسى بأنّ فيه تبياناً من كلّ شيء لا تبياناً لكلّ شيء، فضلاً عن بقية الكتب.

الثاني: قوله تعالي: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَ‌ضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ‌ وَكَانَ مِنَ

٤٠