مقامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الكتاب والسنّة

السيد محمد علي الحلو

مقامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها في الكتاب والسنّة

المؤلف:

السيد محمد علي الحلو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

وحججه، لقوله تعالى (آمَنَ الرَّ‌سُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّ‌بِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُ‌سُلِهِ لَا نُفَرِّ‌قُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّ‌سُلِهِ)(١)، أي: إنّ مريم عليها‌السلام من الحجج الإلهية، كما سيأتي بيان الآيات الأخرى المفسرة لمعنى كونها آية.

كما أنها مقتضٍ لنبوّة عيسى عليه‌السلام لكونها قد حضيت بتكليم الله تعالى فضلاً عن تحديث الملائكة لها وتلقّيها البشارة، كما أنّ تبتّلها ومقامها وفضلها كان إحدى مرتكزات بني اسرائيل كما يشير إلى ذلك قوله تعالى (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْ‌يَمَ)(٢) وقوله (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِ‌يَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِ‌يَّا الْمِحْرَ‌ابَ وَجَدَ عِندَهَا رِ‌زْقًا)(٣) مما أكّد على مصداقيتها لديهم. فكان قبول معجزة عيسى ونبوّته بعد ذلك إحدى موجبات حجّيتها لديهم، لذا فإنّ أخيارهم وعقلائهم قبلوا المعجزة وسلّموا لها، وبقي جُهّالهم وطغاتهم يخوضون في بهتانها وايذاءها وهو شأنهم.

فأمرُ الله تعالى لها بتحمّل مسؤولية الإنجاب بطريقة المعجزة من دون

__________________

(١) البقرة /٢٨٥.

(٢) آل عمران / ٤٤.

(٣) آل عمران / ٣٧.

٦١

زوج، إحدى مقتضيات نبوّة عيسى وشريعته المباركة. فحجّيتها عليها‌السلام هي من حيث أنها المبلّغ الأول لبعثة النبيّ عيسى وشريعته المسيحية، حيث أنها أمرتْ من قبل الله تعالى بتحمل مسؤلية الإنجاب بطريقة المعجزة من دون فحل ليمهّد الطريق لبيان المعجزة لنبوّة عيسى وشريعته، ثم أمرت من قبله تعالى بحمله والمجيء به إلى بني اسرائيل وأن لا تكلّمهم وأن تشير إليه ليستنطقوه فيتكلّم في المهد، فهي قد قامت بكلّ هذه المسؤوليات الموظفة من قبله تعالى لها لتبليغ واظهار المعجزة الأولى على نبوّة عيسى عليه‌السلام.

وكان ذلك عن اعتقاد منها بنبوة عيسى بتوسط ما أوحِيَ لها من دون وساطة النبيّ زكريا أو غيره من الأنبياء في زمانه، فهي ابتدأت بإبلاغ شريعة جديدة من دون أخذ هذا الأمر الإلهي ذي الشأن العظيم الخطير من نبيّ ولا رسول ولا بوساطة النبيّ عيسى أيضاً، وهذا ما تعنيه الآية الكريمة (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً).

فلولا حجّية مريم وحجّية ما يوحي إليها لكان بإمكانها إبطال المعجزة الإلهية وهي ولادة عيسيى من دون أب، بأن تدّعي ـ والعياذ بالله ـ أنّه لقيط وجدتْه في الطريق أو أنها ولدتْه عن زوج غائب أو ما شابه ذلك، فانظر إلى مقام كمال حجّيتها ودورها في إبلاغ الرسالة في قوله تعالى (فَأَشَارَ‌تْ إِلَيْهِ

٦٢

قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)(١).

فهذا النمط من المجاهدة والمخاطرة بالعرض بأمر من الله تعالى وتعيين منه، فهو حكمة بالغة من الله تعالى في اختيار هذا النمط من الجهاد، بحيث لا يتأدّى إقامة الدين إلّا بذلك من دون تدنّس وابتذال في العِرضْ ولا زوال لطهارته وعصمة مناعته، وإنّما هي مخاطرة ظاهرية بالسمعة.

وهذا نظير ما وقع لعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد واقعة كربلاء المفجعة، حيث كان فَضْحُ بني أمية وزَيْغُهم عن الدين وعِداؤهُم لصاحب الرسالة لا يتمّ إلّا بالمخاطرة بعيالات النبوة وتعريضهم للسبي من قبل بني أمية، ووقوف عقيلة بني هاشم وخفِرة الطالبيين في مجلس الطاغية ابن زياد ومجلس يزيد وإلقاء خطبها لبيان حقانية سيد الشهداء عليه‌السلام وبطلان بني أمية وحزبهم.

إذَنْ فما جرى للسيّدة مريم عليها‌السلام من المخاطرة بحرمتها وقدسيّتها قد جرى على حرمة وقدسيّة فاطمة عليها‌السلام؛ إذ خاطرت بحرمتها وقدسها في الذب عن إمامة علي عليه‌السلام وذلك بالتصدي للمهاجمين على بيته عليه‌السلام، فكان في ذلك فَضْحٌ لكلّ سِتار يتخفى من ورائه أصحاب السقيفة لغصب الخلافة وتحريف مسيرتها في الأمّة، ومن ثَم أحسّ الخليفة

__________________

(١) مريم / ٢٩.

٦٣

الأول بانتصار قضية علي عليه‌السلام في الإمامة، وإدحاض دعواه وصحبه فلم يمسك غيضه حتّى تكلّم بهجين الكلام وهو على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما نقل ذلك ابن أبي الحديد (١).

فبلوغ مريم إلى مراتب الحجّية كان سبباً في تأسيس الشريعة العيسوية واكتمالها.

كما أنّ حمل المولود المعجزة والمجيء به إلى قومها تُعدّ إحدى أخطر مهامّها وأصعبها تحمّلاً فهي مجاهدة ومخاطرة بالعِرض وهو أشدّ للغيارى من قتل النفس؛ اذ لم يكن من اليسير أن تتحمل أقدس عفيفة في زمانها مسؤولية التهمة والبهتان ومحاولة تحدّي أمّة لم تصل إلى مستوى الرشد، بل لازالت في حضيض الجهل والسوء فكانت معاناتها النفسية مما هي فيه من الإستحياء ومخافة اللوم ما ادّى بها الى تمني الموت (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا).(٢)

قال أبو عبداللّه الصادق عليه‌السلام: «لأنها لم ترَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزّهها من السوء»(٣) مما يكشف شدة معاناتها ووطأة المهمّة الملقاة على

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٦/٢١٥.

(٢) مريم / ٢٣.

(٣) كنز الدقائق ٨/٢١٠.

٦٤

عاتقها، إلّا أنّ ذلك لم يفتَّ في عضدها، ولم يحبط همّتها، ولم يزعزع تسليمها وانصياعها وطاعتها لله تعالى ولأمره شعرة، بل ذهبت مع ما فيها من آلام التوجسات والخواطر، تحمل ولدها المعجزة لتثبت بكلّ تسليم واقتدار تحمّل المسؤولية المباركة.

ويكشف في الوقت نفسه ما وصلت إليه من الإكتمال في التسليم والإنصياع وتحمل المسؤولية من حين تحديثها الملائكة وقبولها لذلك، ولم يصدر منها أدنى تردد أو اعتذار لقبول المهمة، مما يعني بكل تأكيد كونها طرفاً مهماً في بلوغ الرسالة العيسوية هذا المبلغ من الإقتدار على تحدي طغام بني اسرائيل ولئامهم وزحفها مخترقة كلّ حواجز اليهودية المتربصة لرسالات السماء.

فتلخّص:

أولاً: إنّ الذي بدأ بإبلاغ بعثة النبيّ عيسى هي مريم عليها‌السلام وهو نمط فريد في بعثة الرسالات الإلهية أن يكون الحامل الأول للبعثة هي إمرأة.

ثانياً: إنّه يدلّل على كمال ايمان مريم بما أوحى لها من الأوامر الإلهيّة من دون توسط نبيّ فيما بينها وبين الله تعالى.

ثالثاً: إنّه يدلّ على حجّية الوحي للمرأة المصطفاة المطهَّرة، ولو قدّر ـ

٦٥

العياذ بالله ـ أنّ مريم لم تؤمن بما أوحي إليها ولم تمتثل ما أمرت به مباشرة لكان في ذلك إخفاق للمعجزة الإلهيّة على نبوّة عيسى وبعثته بديانة ناسخة لشريعة موسى عليه‌السلام، أي ولادته من غير أب.

فمن ثم كانت عصمةُ مريم وأنّها من الصفوة المنتجبة للحجّية على العباد آيةٌ إلهيةٌ مع إبنها على حقانية بعثة ونبوّة وشريعة النبيّ عيسى عليه‌السلام في زمانه. فمن ثَم جُعلت من أصول الديانة والشريعة العيسوية كما قال تعالى (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) بل هذه الآية الإلهيّة واجبة الإعتقاد في الشريعة الإسلامية؛ لوجوب الإعتقاد بكلّ آيات الله وكلماته وكتبه ورسله.

وسيأتي نظير هذا المقام للزهراء عليها‌السلام حيث احتجّ الله تعالى بها على حقانية نبوّة سيّد المرسلين وبعثته وشريعته كما في آية المباهلة، وأعطاها الله تعالى مقام ودور صاحب الدعوة للدين من قبله تعالى، وأنّ الخمسة أصحابَ الكساء صادقون فيما يبلّغونه عن الله تعالى من شريعة الإسلام ونبوّة سيّد الرسل.

كما أنّ حجّية مريم عليها‌السلام أصل من أصول الديانة المسيحية، إذ كونها هي وابنها آيةً، أي حجّةً، يجب على معتنقي المسيحية التسليم لها وقبولها والإعتقاد بها فهي المتمم لحجّية عيسى ورسالته.

فنرى أنّ القرآن الكريم في السور العديدة لا يدحض اعتقاد المسيحيين

٦٦

والنصارى في جعلهم مريم وعيسى كليهما من أصول الإعتقاد والديانة بل يدحض تأليههم لهما، فلا يخطّئهم في كونهما من أصول الدين بل غاية الأمر أنه يحدّد غلوهم الذي هو في تأليههم في مريم وعيسى، فيؤكّد القرآن على بشريتهما مع تصريحه بكونهما معاً آية وحجّة.

قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ)(١) وقوله تعالى: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْ‌يَمَ إِلَّا رَ‌سُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّ‌سُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ)(٢).

مراحل الإعداد والإصطفاء

ولم تزل مريم ابنة عمران تحضى برعاية الربّ ورضوانه طالما نذرتْ نفسها لطاعته وعبادته وانقطاعها إليه، فيغدقها بالرحمة ويحبوها بالكرامة ومن ثم يصطفيها لحجّيته ويطهّرها ويفضّلها على نساء العالمين.

ولم يكن الإصطفاء إلّا بعد مراحل تتدرج فيها مريم بنت عمران ثمّ الله يتقبّلها قبولاً حسناً ويُنْبِها إنباتاً حسناً. فهي تحت قيمومة النبوّة ورعاية الرسالة، أمر موجب لخصائص الإصطفاء والتطهير لتلك المرأة التي سلّمت إرادتها للمرأة الصالحة ـ امرأة عمران أمّها التقيّة ـ حين نَذَرتْ ما

__________________

(١) المائدة /١١٦.

(٢) المائدة /٧٥.

٦٧

في بطنها محرراً لله تعالى، وبالفعل تستجيب تلك الطاهرة لإرادة الله فتنقاد مسلّمة لطاعته وعبادته، وهي أول مرحلة تظهر فيها مريم قابليتها الإصطفاء وقدرتها على تلقّي إرادات الله تعالى، وإلّا فمن غير اليسير أن تستجيب فتاة في الإنقطاع عن الدنيا وملذّاتها لتبتّلها للوفاء بنذر أمّها حتّى كانت تحت إرادتها طيّعة بارّة مطمئنة بقضاء الله تعالى عابدة متبتّلة بكلّ ايمان وشوق وانقياد مما يكشف عن مكنون الايمان الذي أودع في مطاوي تلك النفس الكريمة واستحقاقها بكلّ جدارة تحمّل المسؤولية الإلهية في الحجّية والإصطفاء.

قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَ‌أَتُ عِمْرَ‌انَ رَ‌بِّ إِنِّي نَذَرْ‌تُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّ‌رً‌ا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَ‌بِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ‌ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْ‌يَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّ‌يَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّ‌جِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَ‌بُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِ‌يَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِ‌يَّا الْمِحْرَ‌ابَ وَجَدَ عِندَهَا رِ‌زْقًا قَالَ يَا مَرْ‌يَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَرْ‌زُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ‌ حِسَابٍ)(١).

فالإعداد لتكون مريم صالحةً للحجّية يجري تحت رعاية الله تعالى وبقيمومة زكريا نبيّ الله الذي أوكل بتلك المهمّة.

__________________

(١) آل عمران/ ٣٥ ـ ٣٧.

٦٨

ومن هنا فالإعداد لفاطمة الزهراء عليها‌السلام تشمل مرحلتين:

الأولي: إعداد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لتلقّي هذه الكرامة وقبولها.

والثانية: إعدادها عليها‌السلام تحت رعاية الرسالة وقيمومة النبوّة، وقد قال تعالى في مناقب مريم (وَكَفَّلَهَا زَكَرِ‌يَّا)، وفاطمة عليها‌السلام قد كفّلها سيّد الأنبياء فضلاً عن سيّد الأوصياء، فتلك المنقبة لها بنحو أرفع وأعظم.

إذن فبعدما بلغت مريم مراتب الكمال لقابلية الإصطفاء نادتْها الملائكة ببشارة الإصطفاء (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْ‌يَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَ‌كِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)(١) والآية معطوفة على قوله تعالى (إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَ‌اهِيمَ وَآلَ عِمْرَ‌انَ عَلَى الْعَالَمِينَ)(٢) مما يعني أنّ اصطفاء مريم كان بمستوى إصطفاء الأنبياء من آدم ونوح وآل إبراهيم، أي إصطفاءً نبوياً تختلف ماهيته بحسب حيثيات النبوّة والإمامة التي لا تكون إلّا في سنخ الرجال بخصوصيات ليس هنا محلّ بحثها.

فاصطفاؤها الأول هو قبولها لعبادة الله ومن ثم تطهيرها بعصمة الله وبالتالي اصطفاؤها لحجّيته، فمراحل الإصطفاء تتدرج من نشأتها وتترقّى بتطهيرها وتكتمل بحجّيتها.

__________________

(١) آل عمران / ٤٢.

(٢) آل عمران / ٣٣.

٦٩

التشريك في النعمة ... تشريك في الحجّية

وإذا خصّ الله عيسى برسالته وهو نبيّه، فإنّ مريم بنت عمران اشتركت في نعم الله السابغة مع نبيّه، أي تكون الإشتراك في النعمة دالّة على القرب إلى الله ورفيع المنزلة والكرامة لديه، مما يعني وجود اشتراك في سنخية المهمة بين عيسى ومريم بنت عمران، قال تعالى (إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ اذْكُرْ‌ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُ‌وحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَ‌اةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ‌ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرً‌ا بِإِذْنِي وَتُبْرِ‌ئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَ‌صَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِ‌جُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ‌ مُّبِينٌ)(١).

وهذه النعمة نعمة لدنيّة إلهية خاصة بالمصطفين من أوليائه، نظير قول سليمان (رَ‌بِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ‌ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ)(٢) وهي النعمة التي أشار إليها تعالى عندما أدرج مريم في مصاف الأنبياء والرسل في سورة مريم حيث قال تعالى (ذِكْرُ‌ رَ‌حْمَتِ رَ‌بِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِ‌يَّا)(٣) وقال:

__________________

(١) المائدة / ١١٠.

(٢) النمل / ١٩.

(٣) مريم / ٢.

٧٠

(وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ مَرْ‌يَمَ)(١) بعد ذكر يحيى ثم ذكر عيسى فقال: (وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ إِبْرَ‌اهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا)(٢) ثم ذكر اسحاق ويعقوب ثم قال: (وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَ‌سُولًا نَّبِيًّا)(٣) ثم قال: (وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَ‌سُولًا نَّبِيًّا)(٤) ثم قال: (وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ إِدْرِ‌يسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا)(٥).

وكان قد ذكر لكلّ واحد منهم ما وهب الله له، فوهب لزكريا يحيى ووهب لمريم عيسى، ووهب لإبراهيم اسحاق ويعقوب، ووهب لهم من رحمته وجعل لهم لسان صدق ووهب لموسى أخاه هارون نبياً، ثم قال تعالى في نهاية المطاف: (أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّ‌يَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّ‌يَّةِ إِبْرَ‌اهِيمَ وَإِسْرَ‌ائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّ‌حْمَـٰنِ خَرُّ‌وا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)(٦) فأدرج مريم في من هدى واجتبى في مصاف الأنبياء، وأنّ نعمة الإجتباء والإصطفاء في مضاهاة نعمة النبوّة

__________________

(١) مريم / ١٦.

(٢) مريم /٤١.

(٣) مريم / ٥١.

(٤) مريم / ٥٤.

(٥) مريم / ٥٦.

(٦) مريم / ٥٨.

٧١

لكونهما من النعم اللدنّية من نعم الله تعالى.

فتماثل النعمة دالّ عليه الذكر المشترك الذي عنى بهما القرآن لقوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ اذْكُرْ‌ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ) فعدم اختصاصه بالنعمة واشتراك والدته بالذكر دليل على النعم المشتركة التي فضل الله بهما حجّية عيسى ومريم، فالإمتنان الإلهي على كلا المذكورين يستوجب اشتراكهما بجميع ما أوردته الآية الكريمة.

الإعتقاد بحجّية مريم ومقامها من خصوصيات الدين الإسلامي

على أننا نؤكّد في الوقت نفسه أنّ هذا الإعتقاد بحجّية مريم ومقامها إحدى خصوصيات دين الإسلام الحنيف، الذي تؤكّد تعظيم مقام المرأة وامكانها بلوغ الكمال والرشد، وذلك بفضل الطاعة لله تعالى والتقوى والعفّة، ولا يكتفي الإسلام بالشعارات التافهة التي ترفعها الحضارة الغربية والتي لم ترَ أدنى قابلية الرشد والكمال للمرأة كما تراه الإسلام في نماذجه الطاهرة العفيفة، كمريم بنت عمران وفاطمة الزهراء عليهما السلام.

إذ دعوى الحضارة الغربية بالدفاع عن حقوق المرأة وتكريمها تتكاذب مع ممارساتها اللاإنسانية في إضعاف مقام المرأة وتسقيطه إلى مستوى العبث والمتعة، فضلاً عن إلغاء اعتقادها بمقام مريم وعظمتها وشرف مسؤوليتها

٧٢

في انبثاق الديانة المسيحية لكمال حجّيتها التي من المفترض أن تكون من دواعي الديانة المسيحية، إلّا أن الحضارة الغربية المطالبة بحقوق المرأة تغفل عما حظيت به المرأة من المقام السامي والشأن الكريم لدى الدين الإسلامي.

فالعقيدة الإسلامية بمقام السيّدة مريم وجهدها في نشوء الرسالة العيسوية وحجّيتها الإلهية، فضلاً عن المسؤولية العظمى والحجّية الكبرى التي تختص بها فاطمة الزهراء عليها‌السلام إحدى دواعي الإعتزاز بهذين المقامين الشامخين اللذين كرّمهما الله تعالى بحجّيته.

فالمطالبة بحقوق المرأة تكمن حقيقته في تحديد رسالتها السامية بتربيتها للأمة تربية صالحة، وباستطاعتها كذلك هدايتها للأمّة هداية تتناسب وتوجهات سعادتها وكمالها كما هو الحال في شأن مريم بنت عمران عليها‌السلام وهدايتها للأمّة من خلال حجّيتها التي منحها الله تعالى تكريماً لها، وكما في سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام التي أثبتت لياقتها التامّة في تحمّلها مسؤولية تشخيص الإنحرافات العقائدية والسياسية بُعيد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مستخدمة حجّيتها التي منحها الله تعالى، وهذا مالم تجده في أية حضارة أخرى تدّعي المطالبة بحقوق المرأة حتّى تجعلها وسيلة لَهْوِ ومتعة تتداعى من خلالها كلّ شعارات الحرّية الوضعية البعيدة

٧٣

عن النهج الرسالي القويم.

الوسط الاسلامي ... والتطرف المسيحي

ولم تهتدِ المسيحية لابتعادها عن الحق في تشخصيص مقام مريم وابنها المسيح، فتطرّفتْ في ذلك حتّى جعلت المسيح ثالث ثلاثة، وألّهتْ المسيح وأمّه، وقد عالج الإسلام هذه المشكلة الفكرية التي وقعت بها المسيحية لابتعادها عن حقيقة تعاليمها السماوية، وأبطل أول الأمر الألوهية لهذين العبدين القانتين لله تعالى، وأكّد خضوع المسيح وعبوديته لله سبحانه (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَ‌بِّي وَرَ‌بَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِ‌كْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّ‌مَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ‌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ‌)(١) إذ حدّد مهمّة عيسى أولاً وهي العبودية المحضة والطاعة الخالصة لله الواحد الأحد، ودون ذلك شرك وظلم يستحقّ معتقده النار.

ثم أشار إلى بشرية عيسى وأمّه وأكّد أنهما بشران وأنهما نالا مقام الحجّية لله تعالى بطاعتهما وعبادتهما له، فأشار لأحدهما بالرسالة وللآخر بالحجّية بقوله: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْ‌يَمَ إِلَّا رَ‌سُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّ‌سُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ‌ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ‌ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ)(٢).

__________________

(١) المائدة / ٧٢.

(٢) المائدة / ٧٥.

٧٤

فالإسلام أكّد حدود بشريتهما أولاً، ثم أشار إلى حجّيتهما ثانياً بطاعتهما وعبوديتهما لله تعالى، ومع ذلك كلّه لم ما وُجِدَ من الكافرين غير التكذيب والإفك؛ إمّا معاداة أو علواً على الله تعالى بادعائهم ألوهيتهما، فلذا يصرّح القرآن بكلّ شدة على كفر من قال إنّ المسيح هو الله، (لَقَدْ كَفَرَ‌ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْ‌يَمَ)(١) ولم يكتفوا هؤلاء بِغَيِّهم وكفرهم حتّى جعلوا الله ثالث ثلاثة وأشار إلى كفرهم (لَّقَدْ كَفَرَ‌ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ)(٢).

فقد دأب القرآن الكريم إلى كشف هذه الإعتقادات المزيّفة وفضحها لغرض تقنين المعتقد وعدم تسيّب الفكر بسبب الدوافع العاطفية والتي تؤول إلى فوضى فكرية حقيقية، فحدّد القرآن معالم هذا المعتقد وأطّره ضمن مبادىء ومسلّمات عقائدية والخروج عن هذه الدائرة الفكرية سيؤول إلى الغلو والضلال (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ رَ‌سُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْ‌يَمَ وَرُ‌وحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرُ‌سُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرً‌ا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّـهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ

__________________

(١) المائدة / ٧٢.

(٢) المائدة / ٧٣.

٧٥

سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْ‌ضِ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ وَكِيلًا)(١).

فالقرآن كما استنكر على النصارى غلوهم في المسيح وأمّه، كذلك استنكر على اليهود تقصيرهم في الإقرار بمقامهما والعداء لهما والخصومة، فهو كما ينفي الغلو ينفي التقصير في التسليم لهما في الحجّية، فلا تستدعي حجّيتُهما الألوهيةَ ولا تستدعي بشريتهما عدمَ الحجّية.

وهذا ما يركّز عليه القرآن الكريم في كثير من الأنبياء والرسل كما في قوله تعالى تعليماً لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ‌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ)(٢) فالوحي لا ينفي البشرية ولا البشرية تنفي تميزه واختصاصه بالوحي، وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَ‌اطًا سَوِيًّا)(٣). وكذا بقية الأنبياء حسبما يذكره القرآن الكريم مع أقوامهم، فإنهم في الغالب يقعون في أحد الطرفين؛ إمّا التقصير وظنّ أنّ البشرية تنفي الحجّية والإرتباط بالغيب، أو الغلو وأنّ الإرتباط بالغيب ينفي البشرية، كما حصل لليهود في عُزير.

فالطريقة الوسطى والمحجّة الواضحة نفي كلّ منهما، والتسليم بالحجّية

__________________

(١) النساء / ١٧١.

(٢) الكهف / ١١٠.

(٣) مريم / ٤٣.

٧٦

وأنهم بشر، هذا المسلك ينفي الإفراط والتفريط، كما ينفي المعاداة لأولياء الله. فالوظيفة اتجاه حجج الله هي أن لا يكون الفرد من الغالين المفوّضين، ولا من الناصبين المعاديين ولا من المقصرّين المرتابين، كما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: «فالراغب عنكم مارق واللازم لكم لاحق والمقصّر في حقّكم زاهق».

فبعد أن حدّد ماهية المسيح البشرية وأشار إلى رسالته، نهي الخروج عن دائرة هذا التشخيص والقول بخلاف هذه الحدود البشرية لرسول الله المسيح وأمّه الصدّيقة.

أما ما يشهد للتشريك بالحجّية، فضلاً عن اشتراكهما في ذكر النعم والمنن عليهما من قبل الله تعالى فلقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)(١) و«الآية» هي الحجّة كما هو معلوم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) قال: «أي حجّة»(٢)، فاقترانهما في ذكر كونهما آية دليل على تقارب حجّيتهما واشتراكهما كذلك.

__________________

(١) المؤمنون / ٥٠.

(٢) البرهان ٣/١١٣.

٧٧

التشابه بين مقامي مريم وفاطمة عليهما السلام

وغرضنا من الإسهاب في مقام مريم عليها‌السلام سيتضح إذا ما عرفنا أنّ وحدة المناط بين مقامي مريم وفاطمة عليهما السلام سيكون بالأولوية القطعية المسلّمة لدى الفريقين.

فإذا كانت مريم سيّدة نساء زمانها قد حازت على تلك المقامات السامية التي شهد بها القرآن الكريم من الإصطفاء والعصمة، فإنّ فاطمة سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين (١) ستكون لها تلك المقامات التي تثبت حجّيتها كذلك، بل إنّ تصريح القرآن بمقامات فاطمة الزهراء عليها‌السلام

__________________

(١) البخاري ٤/ ٢٤٨، وفي مناقب فاطمة عليها‌السلام نفس الحديث وكذلك في مجلد ٨/ ٧٩ * وصحيح مسلم ٤/١٩٠٤، حديث ٩٧، والحديث بلفظ سيدة نساء أهل الجنة ومعلوم أن ذلك يؤول إلى أنّها سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين * وجامع الأـصول ٩/ ١٢٩ ـ ١٣١، حديث ٦٦٧٧ وطبعة دار احياء التراث ح ٦٦٦٥ * والترمذي ٥/ ٧٠١، حديث ٣٨٧٢ ـ ٣٨٧٨ * وسنن أبي داود ٤/ ٣٥٥، حديث ٩٨ و ٩٩.

٧٨

يضاهي ويعظم عمّا صرّح به في مقامات مريم فيغنينا في الإستدلال عن الأولوية وإن كانت هي حقيقة ثابتة في روايات الفريقين فليس بدعاً إذَنْ أن تعتقد الإمامية ما تعتقده في فاطمة الزهراء عليها‌السلام.

فإنّ صريح القرآن يثبت حجّية مريم بما لها من المقامات الإلهية الثابتة وهي حجّة لإحدى الشرائع السماوية فكيف بفاطمة الزهراء عليها‌السلام وقد أثبت لها صريح القرآن دخولها تحت عنوان أهل البيت الذي شمل نبيّ الشريعة الخاتمة! مما يعني أنّ هناك مقاماتٍ يشترك بها أهل البيت تخصصها بعد ذلك رتبهم الإلهية.

قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِ‌يدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّ‌جْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَ‌كُمْ تَطْهِيرً‌ا)(١).

اتفق الفريقان على نزولها في أهل البيت، محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام.

أخرج السيوطي عن ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أمّ سلمة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله:

«إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ببيتها على منامة له، عليه كساء خيبري، فجاءت فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله:

__________________

(١) الأحزاب/ ٣٣.

٧٩

أُدْعي زوجَكِ وابنيكِ حسناً وحسيناً. فدعَتْهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنَّمَا يُرِ‌يدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّ‌جْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَ‌كُمْ تَطْهِيرً‌ا) فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بفضلة إزاره فغشّاهم إيّاها، ثم أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قالها ثلاث مرّات.

قالت أمّ سلمة رضي الله عنها: فأدخلتُ رأسي في الستر، فقلت: يا رسول الله، وأنا معكم؟ فقال: إنكِ إلى خير، مرّتين.» (١)

هذا ما أخرجه أهل السنّة في شأن نزولها ولعلّ طرقها بلغت العشرات لتصل إلى حدّ التواتر دون أدنى ريب.

وما رواه الإمامية من طرقهم كثير إلّا أننا سنختصر على ما أورده صاحب البرهان في تفسيره من رواية عن أبي عبدالله عليه‌السلام عن أبي بصير قال:

«سألت أبا عبدالله عن قول الله عزّوجلّ: (أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ‌سُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ‌ مِنكُمْ)(٢)

قال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم‌السلام.

فقلت له: إنّ الناس يقولون فما له لم يسمّ علياً وأهل بيته عليهم‌السلام في كتاب

__________________

(١) الدر المنثور ٦/ ٥٣١ ـ ٥٣٢ (ذيل آية ٣٣ من سورة الأحزاب)

(٢) النساء/ ٥٩.

٨٠