تفسير سورة الفاتحة

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة الفاتحة

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٢١

ثانيا : العالمون خاص بالبشر :

إننا إذا تتبعنا الآيات القرآنية نجد : أن كلمة العالمين تستعمل غالبا في خصوص البشر العقلاء ، كقوله تعالى :

(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٧٥).

(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٧٦).

(صُدُورِ الْعالَمِينَ) (٧٧).

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً ، وَآلَ إِبْراهِيمَ ، وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٧٨).

(وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (٧٩).

(ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٨٠).

(أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) (٨١).

__________________

(٧٥) سورة آل عمران ، الآية ٤٢.

(٧٦) سورة البقرة ، الآية ٤٧.

(٧٧) سورة العنكبوت ، الآية ١٠.

(٧٨) سورة آل عمران ، الآية ٣٣.

(٧٩) سورة آل عمران ، الآية ١٠٨.

(٨٠) سورة الأنعام ، الآية ٩٠.

(٨١) سورة الحجر ، الآية ٧٠.

٨١

(آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٨٢)

(ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٨٣).

(لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٨٤).

وموارد كثيرة أخرى ظاهرة في ان المقصود بالعالمين هم البشر ، لقرائن فيها ، مثل كونها مجتمعات فيها نساء ، أو ظلم ، أو تعذيب ، أو ذكر ، أو نحو ذلك.

استدلال لا يصح :

أما قوله تعالى ؛ حكاية لقول فرعون وموسى عليه‌السلام (قالَ فِرْعَوْنُ : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَما بَيْنَهُمَا) (٨٥). وكذا قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٦). فقد تخيّل بعضهم : أن المقصود بالعالمين في هذه الآية هو ما يشمل السماء والأرض ، فتكون لغير العاقل. ولعله لأنه رأى أنها بدل مما قبلها.

__________________

(٨٢) سورة الأنبياء ، الآية ٩١.

(٨٣) سورة المائدة ، الآية ٢٠.

(٨٤) سورة المائدة ، الآية ١١٥.

(٨٥) سورة الشعراء ، الآية ٢٣.

(٨٦) سورة الجاثية ، الآية ٣٦.

٨٢

وقد أكد هذا الأمر فرعون باستعماله كلمة" ما" التي تستعمل بالأصل في غير العاقل.

ونقول : إنه تخيّل باطل ، فأما بالنسبة لكلام فرعون ، فهو يريد أن يوهّن ويحقّر مقام الربوبية الذي يتحدّث عنه موسى ، ويظهر للناس أنه رب غير عاقل ، ولا يصلح لأجل ذلك للربوبية ، ليثبت للناس : أنه هو ربهم الأعلى.

وأما كون كلمة : " رب العالمين" بدلا مما قبلها ، فذلك لا يضر ، ما دام انه يمكن أن يكون موسى عليه‌السلام قد أراد التعبير عن هذا الرب بذكر ميزات عديدة له ليدفع أي لبس أو اشتباه ، فذكر ربوبيته للسماء والأرض ، وللعقلاء أيضا ـ وهم العالمون ـ فليست الآية بصدد إجمال ما تقدم بجميع خصوصياته.

ربي أم رب العالمين :

وأما لماذا لم يقل : الحمد لله ربي ، أو ربنا. بل قال : رب العالمين ، فلأنه تعالى يريد منا : أن نحيا حياة اجتماعية ويعين بعضنا في مسيرتنا نحو الكمال ، إذ لا يكفي التكامل الفردي والشخصي ، فيكون الناس أفرادا ، يحيون حياتهم الخاصة منفصلين تمام الانفصال بعضهم عن بعض.

فالله يتعامل معنا من موقع المربي للعالمين جميعا ، وعلينا أن نتعامل معه من موقع الاستجابة لهذه التربية وبمرونة اجتماعية عامة

٨٣

وإن كانت محدودة وفق ما يتوافر من إمكانات وطاقات ، لا من موقع فرديتنا ، ولأجل ذلك نجده تعالى يركز على هذه الناحية ، فهو (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ*) (٨٧) وهو (رَبِّ الْعالَمِينَ*) (٨٨) و (هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (٨٩).

الكون المتوازن :

ونحن إذا دققنا النظر في هذا الكون الفسيح ، فإننا لا نجد سوى التوازن الدقيق والانسجام والتناسق الظاهر في كل مزاياه وزواياه ، والكل يسير باتجاه الهدف المحدد ـ كل ميسر لما خلق له ـ ولا يتخلف عن هذا الأمر إلا هذا الإنسان الذي يتعامل الكثيرون من أفراده بخصوصيتهم الفردية والشخصية ، ومن منطلق الأنا.

ولنضرب مثالا توضيحيا لما نريد تقريره هنا :

لنفترض شجرة تنمو وسط مجموعة من مثيلاتها في حديقة أو بستان.

__________________

(٨٧) سورة الشعراء ، الآية ٢٦. والصافات ١٢٦.

(٨٨) الآيات القرآنية المتضمنه لهذه العبارة كثيرة جدا.

(٨٩) سورة الأنعام ، الآية ١٦٤.

٨٤

فلهذه الشجرة ـ من جهة ـ خصوصيتها الفردية ، وإيحاؤها الشخصي كشجرة. فيمكن أن نفترضها والحالة هذه تنمو بصورة عشوائية تضرب بجذورها وفروعها في كل اتجاه باحثة عن كمالاتها الفردية هنا وهناك. بحيث قد تصل في امتداداتها وتشعباتها إلى حدود ومستويات تحجب معها عن مثيلاتها التي بالقرب منها نور الشمس ، والغذاء والماء ، وتنشر الضعف والشلل في ما يحيط بها ، وتزرع وتثير الفوضى ، والتشويه الجمالي ، والعشوائية في الإيحاء العام للبستان كله.

ولها خصوصية من حيث كونها جزءا من التركيبة الجمالية ، والإيحاء العام للحديقة أو البستان. وهذه الناحية تفرض درجة من التهذيب والتشذيب ، وصياغة غصونها وسائر عناصر شخصيتها بطريقة لها إيحاءاتها الجمالية التي تتناغم مع إيحاءات مثيلاتها ، التي تشاركها في صياغة حالة جمالية جديدة وعامة. وحينئذ لا بد أن نطلب من البستاني أن يتدخل ليتدارك أي خلل قد يطرأ على الناحية الجمالية العامة ، فيبدأ عملية التشذيب بل والاستئصال أحيانا لشجرة تمثل حالة فردية شاذة لا تنسجم مع المحيط العام. وتؤدي إلى اختلال التوازن ، والفوضى ، والتشويش في ملامح الصورة البستانية ، وأهدافها ومعطياتها.

ونتيجة لذلك التشذيب والتهذيب ، تعود للحديقة جماليتها ، وللبستان رونقه ، وتسهم تلك الشجرة ـ إذا استطاعت

٨٥

المشاركة ـ في صنع ملامح تلك الصورة. وتسهم في الإيحاء المطلوب في مسيرة تكاملية ، ومشاركة جماعية في صنع وضع جماعي سليم ، وطبيعي وقويم.

وكذلك الحال بالنسبة للحياة الإنسانية أيضا. وقد جاءت هذه الآية الشريفة : " رب العالمين" لتوحي بذلك كله في عملية توجيه عفوي لهذا الإنسان نحو المشاركة في صنع هذا الواقع الاجتماعي للإنسان في حياته العامة. وهي بمثابة دعوة له لصنع التوازن والانسجام في محيطه العام خلال مسيرته الإنسانية التكاملية ؛ فيصوغ حياته وإنسانيته وخصائصه بطريقة تحتفظ معها بفرديتها ، ولكنها تنسجم وتتوازن وتتكامل مع كل ما يحيط بها ، ولا تصطدم معه ، بل تشكل هي وإياه رافدا للخير والعطاء ، والسمو والتكامل والنمو.

وقد تفرض هذه المشاركة الإيجابية الواعية والمسؤولة قدرا من التضحية من بعض الناس ، فيتخلون عن خصائص وامتيازات شخصية وفردية لهم غالية وحبيبة ، تكون هي الثمن لما تنعم به المجتمعات من سعادة ورخاء ، ووئام وصفاء.

الألوهية والربوبية معا :

وحين يستقر في وعي الإنسان : أن ثمة خالقا مدبرا لهذا الكون فإنه يدرك : أن هذا الخالق قوي ، وغني وعظيم ، وقهار وما

٨٦

إلى ذلك من صفات ألوهية ، تعني مزيدا من الإحساس بالبون الشاسع ، فيما بين هذا الإنسان الضعيف ، العاجز ، المحتاج ، الخ .. وبين ذلك الإله الخالق العظيم ، وقد يتحول هذا الإحساس بالبون ـ بصورة لا شعورية ـ إلى إحساس بالبعد عنه ، وبانقطاع العلاقات والروابط معه أيا كانت (٩٠).

ولأجل ذلك نلمح مزيدا من الإصرار في الآيات القرآنية على تجسيد العلاقة بين الله وبين العباد ، كواقع حي ، يتلمسه هذا الإنسان بأحاسيسه الظاهرة قبل الباطنة. في كل حين ، وفي كل مجال.

كما أن ثمة تركيزا واضحا على تكوين شعور قوي وعميق بربوبيته سبحانه لهذا الإنسان ، ورفقه به ، ورعايته له من موقع

__________________

(٩٠) وقد تجلت سلبيات هذا الشعور حين تحول إلى انحراف فكري خطير جدا حين قالت بعض الفرق : إن الله قد كتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، ولم يعد قادرا على أي عمل ، ولا يستطيع التدخل لتغيير أي شيء بل هو محكوم بقدره مغلول اليد ، كما قالت اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا).

فهو تعالى قد أوجد الخلق وانته دوره ، وبطل تأثيره. فلم تعد النظرة إليه من المخلوقين ـ على أساس هذه النظرة المنحرفة ـ من موقع الحاجة. ولم يعد لصفاته تأثير. فتعطلت وانتهت وبطل مفعولها. ولم يعد الكريم ، والرحيم ، والعطوف ، ووالخ ..

٨٧

المحبة ، والرعاية والتدبير لكل شؤونه على أساس الحكمة والإشراف والهيمنة.

فالله أوجدك ، ولا يزال يرعاك ، ويهتم بك ، ويدبر شؤونك ، وأنت لا تزال بحاجة إليه ، وتتعامل معه من موقع حاجتك وغناه ، وضعفك وقوته ، فهو يعينك شخصيا في كل آن ، وفي كل مكان. إنه هو الذي يحميك ، وهو الذي يحضنك ، ويرشدك ، ويهديك ، وهو الذي يرزقك ، ويشفيك وهو الذي يرعاك ويربيك.

ومن باب ربوبيته لك تنفتح على كثير من صفات الجمال فيه ، فهو الراحم والعطوف ، والحكيم ، والحنان ، والمنان.

وهذا كله سيجعلك تتعامل معه بروح الود والمحبة ، والحميمية والصفاء ، والامتنان والوفاء.

نتائج ثلاثة :

ونستنتج من ذلك الأمور التالية :

إن التعامل الصحيح مع الله ليس على أنه موجد وحسب ، بل على أساس أنه موجد ، ومرب ، لا يزال يرعى ، ويحفظ ، ولسوف نبقى بحاجة إلي ذلك.

إن إحساسنا بالحاجة إليه وإلى رعايته وتربيته لنا يتطلب منا أن نؤهل أنفسنا لهذه التربية ، ونستعد لها ، ونتجاوب معها. فلا

٨٨

نشعر بالامتلاء والشبع ، وعدم الحاجة إلى المزيد من الكمال والسمو. لأن شعورا كهذا معناه منع تلك الرعاية ، والهداية الإلهية من التأثير ، وبالتالي الإحتجاب عن الفيوضات الإلهية الضرورية لذلك.

بما إن الإنسان يحب نفسه ، ويحب الكمال لها ، فهو يحب الجهة التي تساعدها وترعاها ، وتسعى لرفع نقائصها لتنال ذلك الكمال المنشود. فإذا عرف وشعر ـ عمليا ـ أن الله سبحانه هو الذي يتولى ذلك من موقع المعرفة ، والحكمة ، والرحيمية ، والقدرة ، فلسوف يتجه إليه سبحانه ، ويرتبط به ، على أساس الاعتراف بالنقص ، وبالحاجة ، والعرفان بالفضل ، ثم هو يتعامل معه من خلال صفات الألوهية والربوبية التي يجد فيها ما يغنيه.

٨٩
٩٠

تفسير قوله تعالى :

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

٩١
٩٢

الرحمن الرحيم : مرة اخرى :

وقد اتضح مما تقدم : أن قوله : " الرحمان الرحيم" بعد قوله : الحمد لله رب العالمين. قد جاء في موقعه الطبيعي. فإنه تعالى إنما يرعى الإنسان ويربيه بصورة متوازنة ، لا يهمل جهة فيه على حساب أخرى. فيرزقه حيث يحتاج إلى الرزق ، ويشفيه حيث يحتاج إلى الشفاء ، ويعمل قدرته في موضع القدرة ورحمته في موضع الرحمة والعلم والحكمة ، ووالخ .. كل في موقعه.

وهذه هي أفضل رعاية ، وأمثل تربية. يصل الإنسان من باب الرحمة إلى الربوبية ، ومن الربوبية إلى صفات الألوهية.

وإنما دخلنا إلى الربوبية من باب الرحمة ، لأن الرحمة ـ كما قلنا سابقا ـ إنما هي نتيجة ملاحظة نقص أو ضعف ، أو عجز لدى الآخرين ، يدفع إلى التحرك باتجاه رفع هذا النقص ، أو العجز أو الضعف. وهذا بالذات هو مورد التربية ، التي هي الانتقال التدريجي لنا من حالة نقص أو ضعف أو عجز إلى حالة كمال وقوة

٩٣

أعلى منها وأتم. ويكون ذلك بدافع من رحمة وعطف تشأ عن مشاهدة ذلك الضعف والعجز.

فيصبح قوله تعالى : الرحمان الرحيم ، نتيجة طبيعية لقوله : رب العالمين.

أليست المرأة تهتم ـ عادة ـ بتربية طفلها ، وتلبية حاجاته ، والحفاظ عليه ، وتتحمل الأذى الكثير والكبير في سبيل ذلك؟!

إن ذلك ليس نتيجة شعورها بالواجب الشرعي أو القانوني الملح. بل لأنها تلاحظ عجزه عن الأكل والشرب ، وعن الحركة ، وعن دفع الحر والبرد وسائر الأخطار عن نفسه ، فتندفع بدافع من الشعور بالرحمة والعطف لرفع هذا النقص فتحميه وترعاه وتسهر عليه.

إذن ، فمجرد الشعور بالنقص لدى الآخرين لا يكفي للتحريك باتجاه رفعه ، إذ قد يلتذ البعض برؤية آلام الآخرين. بل لا بد من الانفعال الإيجابي تجاهه ، وهو ما نسميه بالرحمة.

النقص حقيقي وأساسي :

فتشير كلمة" الرحمان الرحيم" إلى أن هذا النقص ليس بعد تحقق أصل الكمال ، ليكون نقصا لما هو زائد عن حد الكمال ، كان ينبغي أن يضاف إليه. وإنما هو حاجة وضعف ونقص عن حد الكمال نفسه. وإلا ، فلو كان الكمال حاصلا ، والنقص

٩٤

والضعف إنما هو في عدم نيل الزائد عنه فلا يبقى هذا المورد مصداقا ومحلا للرحمانية الشاملة ، ولا للرحيمية الثابتة والراسخة والدائمة.

ثبات واستمرار الرحمة :

ولا بد من هذا الدوام والاستمرار للرحيمية بالنسبة لهذا الإنسان ، لأن كل شيء إذا وصل إلى درجة كماله ؛ فإنه قد يبقى ثابتا عليها ، إلا الإنسان ، فإنه دائما في معرض النقص بسبب أنه يملك غرائز وشهوات وطموحات قد تزل قدمه ، وتجره إلى المخاطر بل المهالك. فهو بحاجة إلى استمرار هذه الرعاية ، ودوام إفاضة الألطاف عليه ، حتى وهو في أقصى حالات كماله.

دوافع التربية والرعاية :

ثم إن هناك رعاية وتربية من موقع الأنانية الشخصية للمربي ، حيث يرى أن ثمة نقصا يعود إليه. وذلك مثل تربية الأولاد ، فإنها قد تكون أحيانا بسبب أنانيتنا المهيمنة على مشاعرنا. ولكن رعاية الله سبحانه لنا ، هي محض التفضل ، ومحض الرحمة ، ومحض الخير.

٩٥

فاتضح من جميع ما تقدم أن" الرحمان الرحيم" كانت هنا هي النهاية ، كما كانت" الرحمان الرحيم" هي البداية في آية" بسم الله الرحمان الرحيم" وما أحوجنا لهذا الأمر ، وما أشد غفلتنا عنه.

٩٦

تفسير قوله تعالى :

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)

٩٧
٩٨

المعاد مشكلة حقيقية للمشركين :

وقوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قد أشار إلى أصل مهم جدا من أصول الدين. وهو المعاد ، والقيامة ، حيث الحساب والجزاء ، والثواب والعقاب.

وهذا هو الأصل الأكثر حساسية ، والذي كان يثير حفيظة المشركين ، ويحرجهم ، ويخرجهم عن أدنى حالات التوازن.

فلماذا هذه الحساسية المتناهية منهم تجاه هذا الأصل يا ترى؟!

للإجابة على هذا السؤال نقول :

إن المشركين وإن كانوا يتمسكون بعبادة الأصنام ، إلا أنهم ما كانوا حريصين على عبادتها وعلى رفض التوحيد إلى درجة أن يضحوا في سبيلها بالمال والرجال ، والأهل والولد ، وبكل شيء. ولم يكن الاعتقاد بالله عزوجل وبأنه خالق رازق ، رحيم ، عزيز الخ .. بالأمر البعيد عن أذهانهم ، وقد أشار تعالى إلى ذلك ، فقال :

٩٩

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ..) (٩١).

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ ..) (٩٢).

بل إن عبادتهم الأصنام لم تكن تعني لديهم رفض عبادة الله ، بل كانوا يرون أن عبادتها توصل إليه تعالى ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٩٣).

نعم ، هم كانوا يرون أن للأصنام نوعا من التأثير في أوضاعهم ، فهي تؤثر في سعة رزقهم ، وشفاء مرضاهم ، وفي دفع أعدائهم ، وفي حل مشاكلهم.

فلو أنهم عدلوا عنها إلى الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الذي يتولى هذه الأمور وغيرها لهم ، فهو الذي يرزقهم ويشفيهم ، ويدفع أعداءهم ويحل مشاكلهم. فإنهم سوف لن يرفضوا ذلك ولن يقاوموه بهذه الشراسة.

__________________

(٩١) سورة العنكبوت ، الآية ٦١. وراجع : سورة لقمان ، الآية ٢٥. وسورة الزمر ، الآية ٣٨. وسورة الزخرف ، الآيات ٩ و ٨٧.

(٩٢) سورة العنكبوت ، الآية ٦٣.

(٩٣) سورة الزمر ، الآية ٣.

١٠٠