تفسير سورة الفاتحة

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة الفاتحة

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٢١

وهل صحيح ما يقولونه : من أن الحمد لا بد أن يكون على فعل اختياري؟!.

إننا في مقام الإجابة على هذه الأسئلة نقول : إن صفات الألوهية ؛ تقتضي نفي كل نقص عن الذات ، وعن الأفعال ، والمدخل لنا إلى هذه الصفات هو الرحمة الإلهية. والحمد إنما يأتي كنتيجة للاستفادة من هذه الصفات.

فنستفيد منها في الخلق (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ..) (٥٠).

وفي الهداية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا) (٥١).

وفي التفضيل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) (٥٢).

وفي العلم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) (٥٣).

وفي النجاة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا) (٥٤).

__________________

(٥٠) سورة فاطر ، الآية ١.

(٥١) سورة الأعراف ، الآية ٤٣.

(٥٢) سورة النمل ، الآية ١٥.

(٥٣) سورة الكهف ، الآية ١.

(٥٤) سورة المؤمنون ، الآية ٢٨.

٦١

وفي العافية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (٥٥).

وفي الملك (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٥٦).

بل وقبل كل شئ في التوحيد ونفي الشريك (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) (٥٧).

فالحمد في الآية الأخيرة ليس على أمر اختياري لأن عدم الشريك ليس فعلا له تعالى. فتخصيص الحمد بالفعل الاختياري يصبح غير دقيق.

ومن جهة أخرى ، فإن الحمد بعد كل هذا يصبح بمثابة الدليل القاطع على تحقق ذلك كله من موقع الفيض الإلهي ، وهو أيضا تتويج لكل مسيرة التكامل الإنساني الكادح إلى الله سبحانه. فالحمد هو البداية ، التي تفتتح بالفيوضات الإلهية لأصل الخلق والوجود ، وكل النعم في الحياة الأولى التي هي الدنيا. وتستمر هذه الألطاف والفيوضات إلى الآخرة أيضا ، التي هي الحياة

__________________

(٥٥) سورة فاطر الآية ٣٤.

(٥٦) سورة الإنعام ، الآية ١.

(٥٧) سورة الإسراء ، الآية ١١١.

٦٢

الحقيقية. كما قال تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٥٨).

فيصل الإنسان إلى الله ويعرفه ، من خلال إحساسه بنعمه وتفضلاته عليه وفيوضاته المتلاحقة والغامرة. فيبحث عنه ، ويعرفه ليقف موقف العرفان ، لأن معرفته تعالى عن طريق الإحساس بالنعمة ، تكون أعمق وأدق وأكثر تأثيرا من معرفته عن طريق الاستدلال الفلسفي ، العقلي ، النظري ، لأن هذه المعرفة حسية ، ثم تترقى لتصبح وجدانية ، ثم فطرية ، يتفاعل معها بأعماقه ، وبكل أحاسيسه ومشاعره وبفطرته. ثم هو يبادر إلى الثناء على هذا المنعم ، وبعد ذلك يبادر إلى شكره ، والوقوف في موقع الطاعة والانقياد.

وهذا هو معنى وجوب شكر المنعم الذي دل عليه القرآن :

(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (٥٩) ، (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٦٠).

__________________

(٥٨) سورة العنكبوت ، الآية ٦٤.

(٥٩) سورة لقمان ، الآية ١٤.

(٦٠) سورة سبأ ، الآية ١٣.

٦٣

وتستمر المسيرة في هذا الحمد إلى الحياة الأخرى لتكون : (آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) لما شهدوه ويشهدونه من تربية ورعاية إلهية مستمرة ومتلاحقة.

وكل ذلك يفسر لنا أيضا : السبب في كون كلمة الحمد هي أول كلمة بعد البسملة في سورة الحمد ، والسبع المثاني. ويتضح من ثم أن الآية منسجمة تمام الانسجام ، ولا مجال لأي توهم أو اعتراض.

لماذا لم يقل الحمد لرب العالمين :

وأما لماذا لم يقل : الحمد لرب العالمين. بل قال : الحمد لله رب العالمين. فلعله لأنه يريد منا أن نتعامل معه ، وأن نرتبط به سبحانه بما هو مستجمع لصفات الجمال والجلال ، صفات الفعل ، وصفات الذات ، ثم يتبع ذلك بالتنصيص على صفة المربي لتكون هذه التربية هي المبرر لمبادرتنا إلى حمده بما له من صفات الألوهية الكاملة والمطلقة.

وذلك لأنه تعالى إنما تعامل مع هذا الوجود كله من موقع ألوهيته له ولكل المخلوقات. وقد جاءت صفات الفعل ، مثل : المربي ، والخالق ، والرازق ، والرؤوف ، والرحيم ، والقوي ، .. الخ ، لتجسد هذا التعامل.

٦٤

لماذا الحمد؟! :

ونحن إنما نحمده من موقع العرفان بالفضل ، الذي يقتضي الشكر للمنعم ، لأن الإنسان حين يريد أن يتعامل مع الله سبحانه لا بد أن يعرفه أولا. وأعمق درجات المعرفة هي المعرفة الوجدانية. وأعمقها وأشدها تأثيرا هي تلك الناشئة من إحساس الإنسان بالنعمة التي تستلزم معرفة المنعم والمحسن ، بدرجة من درجات المعرفة.

وهذا هو الشيء الذي يتعاطى معه الإنسان بوجدانية وواقعية أكثر وأعمق. حيث تتناغم المعرفة الحسية في مستواها الداني مع ما هو أرقى وأسمى منها وهي المعرفة الوجدانية والضميرية والفطرية ، التي هي أبعد أثرا من المعرفة التصورية الفكرية ، التي هي على حد المعادلات الرياضية ، أو العقلية الفلسفية ، أو حتى الأمور الغيبية الصرف.

إذ أن الغيب هذا إنما يدخل إليه الإنسان من خلال الحس الوجداني ، من حيث ملامسته ومساسه بوجوده ، وبحياته ومستقبله.

لغة القرآن في التربية العقائدية :

ولأجل هذه الحقيقة الآنفة الذكر نلاحظ : أن الله سبحانه في قرآنه الكريم لم يتكلم عن التوحيد ، وعن الله ، وعن الآخرة ،

٦٥

وعن سائر الاعتقادات بمصطلحات فلسفية أو مقتبسة من علم المنطق أو غيره. وإنما دخل إلى الأمور الاعتقادية من باب لغة الحياة ، حيث ربطها بصورة مباشرة بالشأن الحياتي العملي المتجسد والملموس. لتستقر هذه الاعتقادات في القلب من خلال الإحساس ، والشعور المباشر والعميق. ولتتخذ موقعها القيادي والمحرك في هذا القلب.

فمثلا ، تحدث الله عن التوحيد وربطه بالليل ، من موقع كونه سكنا لهم ، ثم ربطه بالنهار ، من موقع كونه مناسبا للابتغاء من فضل الله سبحانه ثم ربط كلا الأمرين بالرحمة الغامرة ، التي تعمل على توفير الأجواء الحياتية الملائمة للسعي نحو التكامل باستمرار.

قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ، أَفَلا تُبْصِرُونَ).

٦٦

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦١).

فالله سبحانه قد تحدث إذن عن التوحيد بما له مساس بواقع الإنسان الذي يعيشه ويحس به ، ويتفاعل معه بمشاعره وأحاسيسه لا بطريقة تجريدية ونظرية أو بصورة طرح معادلات فكرية جافة.

وفي سورة الحمد يريد تعالى أن يطرح قضية التوحيد من موقع التعريف بصفاته تعالى ، والإحساس المباشر بآثار تلك الصفات ، ثم سوق هذا الإنسان للإحساس بمدى تأثيره تعالى في كل جهات الحياة ، وفي جميع مفرداتها ، وفي كل الموجودات في هذا الكون الرحيب ، مع الحرص الأكيد على أن يخرجه عن أن يبقى مجرد أمر تصوري ، تجريدي ونظري ؛ ليصبح شأنا حياتيا حيا مؤثرا ، يفهمه الإنسان ، ويتلمسه بوجدانه ، ويتحسسه بمشاعره ، من خلال إحساسه بالنعمة الغامرة ، وبالعطاء ، وبآثار الرحمة ، والعلم والغفران ، والحكمة الإلهية ، وغير ذلك من صفاته تعالى. التي يتلمس الإنسان آثارها في كل آن على مدار اللحظات ، فضلا عن الساعات ، في نفسه ، وفي كل ما يحيط به ، وفي كل الموجودات.

__________________

(٦١) سورة القصص ، الآيات ٧١ و ٧٢ و ٧٣.

٦٧

التسبيح بحمد الله تعالى :

وفي سياق آخر نقول : إننا نجد الله سبحانه يقول : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) (٦٢). ونحن مأمورون بأن نقول في صلواتنا في كل ركوع : سبحان ربي العظيم وبحمده ، وفي كل سجود : سبحان ربي الأعلى وبحمده. وقد اعتبر الشارع هذه الصيغة : تسبيحة كبيرة. فإذا أردنا أن نتجاوزها ، فلا يعوض عنها إلا ثلاث تسبيحات : سبحان الله ، سبحان الله ، سبحان الله. واعتبر كلمة سبحان الله تسبيحة صغيرة بالنسبة لتلك التسبيحة الكبيرة.

وهنا العديد من الأسئلة :

ما معنى هذا التسبيح؟!

وما هو الرابط بين التسبيح والحمد؟!

ولماذا كانت تلك تسبيحة كبيرة ، والأخرى صغيرة؟!

ولماذا لا يقوم إلا ثلاث تسبيحات صغار مقام تلك الكبيرة فلا يكفي تسبيحتان مثلا؟!

__________________

(٦٢) سورة النصر الآية ٣. وسورة الحجر الآية ٩٨.

٦٨

ونقول في الجواب :

التسبيح هو تنزيه الله تعالى عن كل شائبة : سواء أكانت من الأفعال الاختيارية : كتنزيهه عن البخل ، وعن الظلم ، وعن القسوة. أو كانت غير اختيارية كتنزيهه عن الضعف ، والحاجة ، والغفلة ، والنسيان ، وغير ذلك من أمور تعود إلى الذات. وكتنزيهه عن أمور خارجة عن ذاته سبحانه ، مثل الشريك ، والولد ، والصاحبة ، وما إلى ذلك.

وتقدم أن الرحمة هي المدخل إلى الاستفادة من الفيوضات التي تقتضيها كل صفات الذات الإلهية ، ليسعد هذا الإنسان بإنسانيته ، وسيره التكاملي نحو الله تعالى. وبسبب شمولية هذه الفيوضات واستيعابها لكل الحياة وللكون بأسره ، فقد استحق الله دون غيره حقيقة الحمد (إن كانت أل هي الجنسية) أو جميع أفراد الحمد ، إن كانت أل للاستغراق.

وسوف نرى : أنه تعالى إذا كان يحمد من حيث ربوبيته الملازمة للرعاية والتربية ، فمعنى ذلك هو شمولية الحمد واستغراقه ، وذلك لأن شمولية آثار الصفات سوف تتسع لتستوعب كل ما له تأثير في هذه الرعاية ؛ فالحكمة ، والعطف ، والعلم الدقيق بخصائص الكون والإنسان ، وبما يصلح وبما يفسد ، والرحمة ، والغنى ، والكرم ، والقدرة ، والقيومية الدائمة ، ووالخ .. كل ذلك دخيل في هذه الرعاية والتربية ، ومؤثر فيها.

٦٩

فالفيض الإلهي لكل ما تقتضيه التربية لهذا الإنسان ، والشعور بهذا الفيض يستدعي الحمد ، والثناء. ثم الشكر ، لهذا المنعم ، والتزام كل ما يرضيه.

ومن الواضح : أننا حين نريد تنزيهه تعالى : نقول : سبحان الله. أي أنزه الله وأبعده عن كل شائبة ، فقد يقال : هذا مجرد كلام ليس له ما يثبته.

فإذا سبحت الله بواسطة الحمد ، ونسبت التسبيح لك شخصيا ، وقررت أن هذا التسبيح والتنزيه إنما هو لله بعنوان كونه ربا أي راعيا ومربيا ، فإن الأمر يصبح مختلفا تماما عن قولك : سبحان الله فقط ، ويكون هذا هو الإثبات المطلوب.

وذلك لأن الحمد يكشف عن : أن الله سبحانه قد اتصف بصفة حسن ثابتة فيه استحق الحمد لأجلها ، ككونه ليس له شريك ، ولا ولد ولا صاحبة ، ولا مكان ، لا ينسى ، ولا يسهو ، ولأنه عالم حي قيوم قادر غني ، الخ .. كما انه يعني أنه تعالى قد صدرت عنه أفعال اختيارية استحق لأجلها الثناء والحمد ، هي كل ما في هذا الكون من نعم نستفيد منها مباشرة أو بالواسطة (٦٣) كالخلق ، والرزق ، والرحمة والرأفة ، والشفاء ،

__________________

(٦٣) حتى في مثل الطبيب الذي يشفيك بقدرة الله ، والكريم والهادي الذي يعطيك ويهديك مما أنعم الله به عليه ، وبهداية الله وتوفيقه ، وإذنه وإرادته.

٧٠

والقيومية ، الخ .. فانتزعنا من هذه الأفعال الاختيارية صفات جمال وأضفناها إلى ذاته المقدسة : كالخالق والشافي والعالم ، والقادر الخ .. فالحمد إذن ينتهي إليه. قال تعالى : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٦٤).

فإذا سبحت الله بالحمد فإنك لم تنف النقص بالقول وحسب ، بل جئت بما يدل على انتفاء ذلك النقص عمليا. لأن حمدك هذا يدل على صدور فعل اختياري عنه تعالى قد تجسد في الخارج ، بل إن ذلك يدل على أزيد من نفي النقص ، وأزيد من الكمال.

وتوضيح ذلك : أنه قد يكون شخص مستجمعا لكل الصفات البشرية كالعينين والأذنين واليدين والرجلين والعقل الخ .. فهو إذن كامل لا نقص فيه. وقد يكون شخص فيه مما يزيد على هذا الكمال ، ككونه جميل الصورة ، أو أنه عالم. أو قوي ، أو كريم ، أو نحو ذلك.

والأمر بالنسبة للذات الإلهية من هذا القبيل ، فإن نفي النقص يستبطن إثبات الكمال ، وهذا مرتبة أولى ، ثم يكون إثبات صفات زائدة على الكمال مرتبة ثانية ، فإذا حمدته تعالى فإنك تكون أثبت له الكمال بنزاهته عن النقص بالدليل وتكون أيضا

__________________

(٦٤) سورة القصص ، الآية ٧٠.

٧١

قد أثبت صفة إضافية بالدليل أيضا. من حيث أن حمدك يستبطن تأثير تلك الصفة وتجسد أثرها على صفحة الواقع. فإذا أثبت الربوبية فقد جئت بدليل آخر يفيد انبساط تلك الآثار على كل وجود ، وكل ما في هذا الكون الفسيح. مما يعني تنوع تلك الصفات التي أثرت هذه الآثار المتنوعة والمستوعبة لكل جهات وجودك.

ثم نسبت المربوبية إلى نفسك كفرد (ربي) ، لتؤكد على أن هذا التنزيه والحمد هو منك على الحقيقة ، لأن التربية كانت تتوخّى شخصك مباشرة ، وليست أمرا بعيدا عنك قد استهدف الحياة في مجالها العام.

وخلاصة الأمر : إن التسبيح بالحمد يكون تنزيها مستدلا عليه بالدليل الحسي ، لأن الحمد يدل التزاما على أن صفات الله سبحانه قد تجسدت بآثارها ، وأصبحت واقعا حيا ، وفعلا اختياريا يستحق الحمد والثناء. فالدليل على نزاهة الله من النقص هو هذا الكمال المتجسد ، وهو الرازقية والخالقية ، والشفاء والعطاء والرأفة الفعلية.

فلم يعد الكمال مجرد دعوى ، وإنشاء كلامي.

٧٢

وقد تكرر التسبيح بالحمد في كثير من الآيات : مثل قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) (٦٥) ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٦٦) ، وغير ذلك.

وذلك كله يفسر لنا سرّ ترديدنا في صلاتنا : سبحان ربي العظيم وبحمده.

لماذا تسبيحة كبيرة :

أما لماذا كانت هذه تسبيحة كبيرة تعادلها ثلاث تسبيحات صغار هي : سبحان الله ـ ثلاثا ـ فلعله لأجل : أن التسبيحة الكبيرة تضمنت ثلاثة تنزيهات لله تعالى :

التنزيه الأول : هو ما تضمنته كلمة" سبحانه" من إنشاء للتنزيه وتفوه به.

التنزيه الثاني : أنها نسبت التنزيه لكلمة" رب" التي تلمح إلى دليل ذلك التنزيه وهو التربية والرعاية الإلهية ، التي تحتاج في تحققها إلى العديد من الفيوضات والعنايات المستندة إلى صفات إلهية جمالية وجلالية متنوعة وكثيرة ، كالعلم ، والحكمة ، والرحمة ، والقوة والغنى ، والحياة ، والقيومية وغير ذلك. وهذا

__________________

(٦٥) سورة النصر ، الآية ٣.

(٦٦) سورة الإسراء ، الآية ٤٤.

٧٣

التنزيه أشد من التنزيه بمجرد نفي النقص ، لأن إثبات تلك الصفات معناه إثبات شيء زائد على الكمال أيضا.

ثم نسبت هذه التربية إلى نفسك" ربي" لتؤكد على أن شخصك هو المعني بهذا التنزيه ، لأنه كان المعني مباشرة بالتربية.

ثم جاء وصف الله بالعظيم ليؤكد على ثبوت تلك الصفات له تعالى بصورة أتم وأعلى ، أوجبت وصفه بالعظمة.

التنزيه الثالث : قوله : وبحمده. أي وأسبح بواسطة الحمد. حيث إنها تماما مثل كلمة" رب" قد أظهرت : أنه تعالى قد فعل تجاهك باختياره ما هو جميل وحسن ، صادر عن صفة جمال أو كمال ثابتة فيه تعالى. مما دعاك إلى إنشاء هذا الحمد والثناء. فإثبات صفة الكمال أيضا بالحمد قد نزه الله عن النقص ، وأثبت أمرا زائدا على الكمال وهو ما يوجب جمالا أيضا.

فهذه التنزيهات الثلاثة تصبح أقوى في الدلالة على التنزيه من كلمة سبحان الله ، مجردة ، فكانت تلك تسبيحة كبيرة ، تعادل ثلاثة تسبيحات صغيرة ، بل وتزيد عليها. لأنها دعوى للشيء مع دليله ، وتثبت ما هو فوق التنزيه عن الشريك وعن النقص وغير ذلك ، ولا سيما بملاحظة ما توحي به كلمة" العظيم".

٧٤

شمولية كلمة : رب

وأخيرا ، فإن" رب" : كلمة تستبطن جميع أسماء الفعل للذات الإلهية المقدسة ، لأن ربوبيته تعالى من موقع تدبيره. وهو يقتضي أن يكون حكيما ، عليما ، قادرا ، خالقا ، شافيا ، الخ ..

العالمين :

العالمون : جمع لا واحد له من لفظه وليس جمع عالم ، كما زعم بعضهم. بدليل : أنهم قالوا : إن جمع المذكر السالم هو ما كان جمعا لمذكر عاقل. والعالم ليس مذكرا ولا عاقلا ، فليس العالمون جمعا له ، وإن كان قد جاء على صورة الجمع فألحقوه به في الإعراب إلحاقا. قال ابن مالك في ألفيته ، عن جمع المذكر السالم وإلحاق بعض الألفاظ به:

وارفع بواو وبيا اجرر وانصب

سالم جمع عامر ومذنب

وشبه ذين وبه عشرونا

وبابه الحق والأهلونا

أولوا وعالمون عليونا

وأرضون شذ والسنونا

أضف إلى ما تقدم : أن كلمة" عالم" يراد بها كل هذا الوجود بما فيه ، فإذا أردت أن تجمعها ، فلا بد من تقسيمها إلى أشياء صغيرة ، كعالم النبات وعالم الجماد ، وعالم الحيوانات وعالم .. ثم تجمع هذه الأشياء ، ومع ذلك فإن الجمع لن يتجاوز مفرده في شموليته ، لأن المفرد يشمل كل شيء في الوجود ، والجمع ـ

٧٥

والحالة هذه ـ قد لا يشمل كل شيء. فيكون الجمع أخص من المفرد أحيانا ، أو مساويا له على أبعد تقدير ، وكلاهما لا يصح.

ما المقصود بالعالمين :

وهنا سؤال ؛ وهو :

هل المقصود بالعالمين هو كل الموجودات والمخلوقات؟ أم المقصود نوع خاص منها؟

وهل تشمل الجن والملائكة. بل وحتى سائر الموجودات الأخرى ، على فرض أن لها درجة من الشعور والإدراك؟ أم لا تشمل شيئا من ذلك؟

ونقول :

هنا جوابان ، الأول منهما يصلح مقدمة للجواب الثاني ، وهما :

أولا : التربية للعالمين :

إن المقصود بالعالمين معنى يتناسب مع أمر التربية ، والانتقال من حالة النقص إلى حالة الكمال ، إذ لا يمكن تربية ما يفقد القابلية للتحول والرقي والانتقال. وقد دلت الآيات على أن الجمادات ، بل جميع الموجودات أيضا ، لها درجة من الشعور ،

٧٦

والإدراك ، بحيث تستطيع تسبيح الله ؛ قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (٦٧).

وقال : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ، وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) (٦٨).

ولم يقل : يسبح من. فإن" ما" تستعمل لغير العاقل. وكلمة" من" للعاقل.

وقال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٦٩).

وثمة آيات عن سجود الموجودات. وهي كثيرة (٧٠).

وثمة آيات تحدثت عن دور عاقل للنملة ، وللهدهد ، وتجلي الله للجبل ، فجعله دكا. وخشوع الجبل وتصدعه من خشية الله وغير ذلك.

__________________

(٦٧) سورة الإسراء ، الآية ٤٤.

(٦٨) سورة التغابن ، الآية ١.

(٦٩) سورة الأحزاب الآية ٧٢.

(٧٠) سورة النحل ، الآية ٤٩. وسورة الرحمان ، الآية ٦.

٧٧

وقد نلمح في القرآن أن جميع الكائنات قابلة للتربية وللتكامل ، حيث أشار القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى ربوبية ورعاية الله تعالى للجمادات أيضا.

قال تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما*) (٧١) (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ*) (٧٢) و (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ*) (٧٣).

وغير ذلك من آيات كثيرة قررت هذه الربوبية.

إلا أن يقال : إن ربوبية كل شيء وتكامله إنما هو بحسبه ، ومن خلال ما يملك من معطيات.

أو يقال : المراد بالرب هنا الإله.

ونقول : إن هذا الاحتمال الأخير يحتاج إلى ما يثبته.

ونشير هنا إلى أمرين :

الأول : سجود المخلوقات وتسبيحها ليس تكوينيا.

وقد حاول البعض أن يقول : إن هذا التسبيح إنما هو من حيث أن وجودها وعجيب خلقتها فيه تنزيه لله سبحانه عن كل نقص ، وعن الشريك وغير ذلك ، فهي تسبحه تعالى بلسان التكوين. وتسجد له بمعنى تخضع له تكوينا أيضا .. وعرض

__________________

(٧١) سورة ص الآية ٦٦. وسورة الصافات الآية ٥.

(٧٢) سورة المزمل ، الآية ٩.

(٧٣) سورة المؤمنون ، الآية ٨٦.

٧٨

الأمانة إنما هو تصوير رمزي لعدم قدرة هذه الموجودات تكوينا أيضا.

ونقول :

إن هذا التوجيه غير صحيح ، فإن قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ،) يدفعه وينافيه ، إذ أن هذا التفسير معناه : أننا نفقه تسبيحهم؟!

وكون السجود بمعنى الخضوع التكويني فقط ، ينافيه قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ، إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٧٤).

فقوله : " وكثير من الناس" دليل على أن المراد بالسجود ليس هو الخضوع والانقياد التكويني. فإن الناس جميعهم يخضعون تكوينا له تعالى.

وآية الأمانة أيضا لا يصح تفسيرها بما ذكر ، لأنه تعالى يقول : " وأشفقن منها" والإشفاق ، إنما هو انفعال نفساني خاص ، وليس خضوعا تكوينيا.

__________________

(٧٤) سورة الحج ، الآية ١٨.

٧٩

إذن فنحن أمام حقيقة قرآنية هي : أن جميع المخلوقات لهد درجة من الشعور والإدراك ، بحيث تسبح الله ، وتسجد له ، وتشفق من بعض الأمور ، وتقبل وترد بالاختيار والإرادة. ولكن كيف يتم ذلك!! هذا ما لا نعلمه ، وقد لا يتسنى لنا العلم به وبحقيقته وكنهه ، ومستوياته.

الثاني : تكامل الإدراك والشعور ومستواه :

ويبقى أمامنا سؤالان : الأول : عن مستوى ودرجة شعور وإدراك الموجودات ، من الجماد والنبات ، وغيرهما.

الثاني : هل هذا الإدراك والشعور فيه قابلية النمو والتحول. أم أنه مقفل ومحدود في هذه الناحية؟

والجواب على كلا السؤالين هو : أننا لا نملك الكثير من المعطيات التي تجعلنا قادرين على إعطاء إجابة قاطعة في هذا المجال. بل إن أكثر ما نعرفه في هذا المجال ، هو نفس ما حدثنا عنه القرآن الكريم ، ونبي الإسلام العظيم. ولأجل ذلك فنحن لا نتشجع كثيرا للبحث في هذا الأمر ، لأننا غير قادرين على إغنائه بالشواهد والدلائل التي نتجاوز من خلالها حدود المعارف التي رآنا الله أهلا لأن يخاطبنا بها في آياته الكريمة ، وعلى لسان نبيه العظيم. ولم يذكر لنا أكثر من كونها لها درجة من الشعور ، وأنه تعالى رب لكل شيء أما كيف؟ وإلى أي مستوى؟ وأي حد؟ فذلك ما لم يفصح لنا عنه القرآن الكريم.

٨٠