تفسير سورة الفاتحة

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة الفاتحة

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٢١

محفوفا بالإرادة الإلهية من الناحيتين. لكن هذه الإرادة لا تصادم اختيار الإنسان ولا تتعرض له بشيء.

١٤١
١٤٢

تفسير قوله تعالى :

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)

١٤٣
١٤٤

اهدنا الصراط المستقيم :

هناك عدة أمور لا بد من الحديث عنها في هذا المقام ، وهي التالية :

ارتباط الآية بما قبلها :

لكي نفهم بصورة اعمق مدى ارتباط هذه الآية بما سبقها ، فعلينا أن نشير إلى التسلسل الطبيعي لما تحدثت عنه الآيات السابقة ، فنقول :

إنه بعد أن تأكد الاعتقاد بالله سبحانه ، وبصفاته ـ الجمالية والجلالية ـ ثم بيوم الدين ، فلابد أن تترك هذه الاعتقادات آثارها على العقل ، والمشاعر ، والمفاهيم والعواطف ، وغير ذلك. ثم هي قد أنتجت عقائد تفصيلية أثارت حركة ، وسلوكا ، وموقفا هو عبادة توحيدية خالصة له تعالى.

١٤٥

وكان لا بد أن يكون ذلك السلوك والعمل ، وتلك العبادة منسجمة مع طبيعة الهدف الذي يسعى إليه الإنسان ، وهو أن يحقق هذا الإنسان ذاته ، ويستجمع خصائصه ومزاياه الإنسانية ، ويقيم حالة من التوازن فيما بين تلك الخصائص والمزايا ، ليحقق من خلال ذلك انسجامها مع ذلك الهدف ، وتناغمها معه بصورة إيجابية وبنّاءة ودافعة للحركة الصحيحة باتجاهه ، ومن ثم باتجاه مواقع الزلفى والقرب من الله سبحانه وتعالى.

وبعبارة أخرى : إن الإنسان إنما يسعد بإنسانيته ، وباقامة حالة من التوازن بين كل خصائصه ومزاياه وطاقاته بجميع تنوعاتها ، لأن حالة التوازن هذه هي التي تعطيه السّلام والطمأنينة في ظل الرضى ، والرعاية الإلهية. وأي خلل واهتزاز في حالة التوازن هذه ـ بسبب اقتراف معصية ، أو بسبب تربية خاطئة ـ سيؤدي إلى اهتزاز هذا السّلام النفسي وتقويضه ، وسينعكس سلبا على درجة القرب من الله سبحانه. قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١٢٠).

ومن الواضح : أن إقامة حالة التوازن هذه ، وسعادة الإنسان بإنسانيته ، ثم السعي نحو الله سبحانه لنيل درجات القرب

__________________

(١٢٠) سورة الرعد الآية ٢٨.

١٤٦

والرضى منه تعالى ، أن ذلك ـ إنما يتم بالعمل ، والممارسة ، فلا بد من أطروحة عملية تقدم لهذا الإنسان نهجا يساعد على تحقيق ذلك ، وتقدم له أيضا قوانين وأحكاما سلوكية تحمي خطواته على هذا الطريق من أن تزل وتنحرف. وهو أيضا بحاجة إلى العون والرعاية والهداية.

ولا بد أن نتلمس هذا النهج ، وتلك النظم والقوانين والأحكام ونطلبها منه تعالى لأنه سبحانه ـ بصفته رب العالمين ـ هو وحده العارف بما خلق ، وهو وحده المطلع على كل الغيب وعلى جميع الأسرار ، وهو المربي ، والعالم بطبيعة المربوب ، والعالم بسبل الوصول إليه ، والاتصال به.

فقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) يأتي كنتيجة طبيعية لقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). فهو الجهة التي نلجأ إليها بصورة عفوية وطبيعية.

فإذا كان لا بد من عبادة توصل إليه تعالى ، ولا بد من كدح وعمل ومواجهة مصاعب ومتاعب ، فإن طلب المعونة ، وطلب الهداية إلى الضوابط والأحكام التي تضمن سلامة الحركة يصبح أمرا ضروريا.

فالعبادة ليست هدفا ، وإنما هي وسيلة تستبطن العمل الذي يحقق الهدف ولكي يكون العمل مؤثرا لأثره دون أية

١٤٧

سلبيات ، فلابد من نهج وخطة وضوابط تمنع من الخطأ ، وتجعل الحركة بالاتجاه الصحيح.

الطلب الجازم :

وقد جاء طلب الهداية هذا بتّيا وجازما ، فلم يقل : اهدني إن شئت ، أو إن أحببت ، لأن المطلوب في كل دعاء وطلب من الله هو ذلك. فقد أمرنا بالإلحاح في الطلب ، وبالجزم والبت فيه. فإنه تعالى يحب إلحاح الملحين من عباده المؤمنين (١٢١).

الإسلام لا يغني عن طلب الهداية :

وقد يخطر ببال البعض أن يقول : ما دمنا قد أسلمنا وآمنا ، فقد حصلت الهداية ، فلماذا نطلبها وهي موجودة لدينا؟ وهل هذا إلا طلب الحاصل؟ ولماذا كلفنا الله سبحانه بطلبها في صلواتنا كل يوم عشر مرات على الأقل؟

ونقول في الجواب.

أولا : صحيح : أن الله سبحانه قد رسم لنا بالإسلام طريق الهداية. ولكن مجرد العمل بأحكامه لا يكفي لتحقيق الهدف

__________________

(١٢١) راجع البحار ، ج ٩٢ ص ١٥٥ وقرب الإسناد ، ص ٥.

١٤٨

المطلوب ، وهو أن يحقق الإنسان إنسانيته ويستكمل مزاياها ليصل من خلال ذلك إلى الله سبحانه ، وينال درجات القرب منه.

فالكل يصلي ، لكن صلاتهم لا تنهاهم عن المنكر ، بل بعضهم ينتهي عنه ، وبعضهم لا ينتهي ، والذين ينتهون عن المنكر ، بعضهم أرسخ امتناعا وانتهاء من بعض.

وعدا عن ذلك فإن الصلاة هي معراج المؤمن ، وقربان كل تقي ، لكن الكثيرين ـ وإن كانت صلاتهم تنهاهم عن الفحشاء ـ لا يكون لهم عروج بها ، ولا تكون قربانا لهم ، إلا بمقدار ضئيل وضعيف.

إذ كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ. وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء (١٢٢).

وهذا الحد الأدنى من العمل قد يسقط التكليف ، ويمنع من العقاب. ولكن قد لا يثاب المرء عليه ، ولا يفيده شيئا في إيصاله إلى هدفه الأسمى.

وقد صرح أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بأن العبادة درجات ومراتب ، فقال : (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار.

__________________

(١٢٢) نهج البلاغة ج ٣ ص ١٨٥ (بشرح عبده) الحكمة رقم ١٤٥ ، والبحار ج ٩٣ ص ٢٩٤ وراجع ص ٢٩٣.

١٤٩

وأن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد. وأن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار) (١٢٣)

وهو الذي يقول : (ما عبدتك خوفا من عقابك ، ولا طمعا في ثوابك ، ولكني وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) (١٢٤).

فالعمل الذي يسقط التكليف هو الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل ، ثم بقدر إخلاص الإنسان في عبادته ، وبقدر ما يبذله من جهد ، بقدر ما يكون القرب والرضى.

فإذا كان الإنسان في درجة ومرتبة ، فإنه يحتاج إلى الهداية وإلى المعونة لينتقل منها إلى درجة أعلى ، ثم إلى الاعلى منها ، وهكذا ..

ووسائل ذلك هو الصبر ، والإخلاص والجهد ، وجهاد النفس.

ولكل منزلة ودرجة خصوصياتها وآفاقها ، ومسؤولياتها التي تختلف في حجمها وتفاصليها عن سابقتها. ولها كذلك واجباتها التي تنسجم معها ، ومع ما استجد لهذا الإنسان ، وما انفتح عليه من معارف وآفاق ، وأحوال وغيرها .. فهي إذن تحتاج إلى هدايات إلهية جديدة ، ليعرف كيف يتعامل مع هذا الواقع الجديد ،

__________________

(١٢٣) نهج البلاغة (بشرح عبده) مطبعة الاستقامة بمصر ج ٣ ص ٢٠٥ الحكمة رقم ٢٣٧.

(١٢٤) مستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ٥٥.

١٥٠

ليتفاعل ، ثم ليتأقلم معه ، وليتمكن من تهيئة الوسائل لاستمرار تحركه باتجاه مراحل أخرى أرحب وأوسع وأرقى. فلابد له من هداية في محيطه قبل الانتقال ، ثم هداية في حركته الانتقالية ، ثم هداية ثالثة حين بلوغه المرحلة الجديدة. فهو كالمسافر الذي يحتاج إلى هداية أولية ، ثم إلى هدايات في كل مرحلة يصل إليها ، ثم إلى هداية بعد الوصول ليكون على علم بتفاصيل وحالات ومناخ البلد الذي وصل إليه.

والعبادة والقرب من الله سبحانه لا ينحصر بالصلاة والصوم والحج .. بل إن كل عمل يمكن أن يكون عبادة. وقد يكون تفكرك بالله ، ومحاسبتك نفسك في آخر ساعة من نهار أفضل من عامة عباداتك ، الخاوية والخالية من الإخلاص والتفكر ، بل قد يصاحبها رياء وعجب ، يخرجها من دائرة كونها مظهرا من مظاهر التوحيد ، لتكون شركا موبقا ومهلكا.

وقد يكون نومك عبادة إذا كنت صائما. ولا تكون صلاتك عبادة ، كما أن كدك على عيالك ، وإحسانك لوالديك ومرابطتك على الثغور ، وسعيك في قضاء حاجات المؤمنين ، قد يوصلك إلى الدرجات العلى ، والمراتب السامية ، التي ترفعك إلى درجة عبادة الأحرار. وإذا كانت كل درجة تجعل الإنسان ينفتح على الله سبحانه ، بعقله ووعيه ، وفكره ومعرفته بصورة أتم وأكبر ، فإن صلاته ـ إذا بلغ بعض المراحل ـ ربما تصير أكثر معراجية ،

١٥١

وأشد نهيا له عن المنكر ، وأمرا له بالمزيد من المعروف. ثم يصبح دعاؤه مستجابا. بل قد يصبح المستحب عنده واجبا ، والمكروه حراما ، والصغيرة من الذنوب يراها كبيرة. ثم يزداد تكاملا ورقيا حتى يصبح يرى بعين الله ، وينطق بما يريده الله ، ويصير يومه أفضل من أمسه. ويفهم بعمق مغزى قول علي عليه‌السلام : من اعتدل يوماه فهو مغبون (١٢٥).

ويلحق من ثم بدرجات الأولياء والأصفياء.

وهذا هو السير الطبيعي الذي مر به الأنبياء والأوصياء ، فوصلوا إلى ما يريدون ، ونالوا ما يشتهون بعلمهم وبجهدهم وجهادهم. وإن علمهم بالحلال والحرام تفسير القرآن ، وإن كان واحدا ، ولكنهم يتفاوتون في علمهم بملكوت الله سبحانه ، وبأسرار الخليقة. ويزدادون في علمهم هذا ، كما جاء في بعض الروايات (١٢٦).

فالحاجة إلى هداية الله وتسديده ، ومعونته وتوفيقه ، وفتح آفاق المعرفة بالله ، والالتذاذ بقربه ، وإدراك ألطافه ، والتفاعل مع بركاته. هذه الحاجة مستمرة ومتجددة ، وتحتاج إلى هداية بعد

__________________

(١٢٥) البحار ج ٦٨ ص ١٨١. ومعاني الأخبار ص ١٩٨. وأمالي الصدوق ص ٣٥٢. وأمالي الشيخ الطوسي ص ٤٤٧ ط سنة ١٤٠١ ه‍. ق. وأعلام الدين ص ٣٠٣.

(١٢٦) تفسير البرهان ج ١ ص ١٧.

١٥٢

هداية. ولا بد من طلبها منه تعالى. ولا بد من الإلحاح والإصرار على هذا الطلب." اهدنا الصراط المستقيم".

وثانيا : إن المراد هو استمرار الهداية الإلهية ، لأنه إذا وكلنا إلى أنفسنا فإن أهواءنا وشهواتنا ، والمغريات والضغوطات تتسلط علينا فتزين لنا الانحراف والخطأ. حتى لنرى الحق باطلا ، والباطل حقا ، ونقع في المآثم والمظالم ، ونصبح في ظلمات بعضها فوق بعض.

(كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٢٧).

(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١٢٨).

وفي ناحية الهداية أيضا يكون الأمر كذلك. قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٢٩).

وقال سبحانه : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٠).

فالحاجة إلى المعونة والهداية قائمة ودائمة. فطلبها لا بد أن يستمر ، ليشملك اللطف الإلهي الغامر. أما إذا انقطعت عن طلب الهداية ، وأحسست بعدم الحاجة إليها ، فقد قطعت صلتك

__________________

(١٢٧) سورة المطففين ، الآية ١٤.

(١٢٨) سورة الصف ، الآية ٥.

(١٢٩) سورة محمد ، الآية ١٧.

(١٣٠) سورة البقرة ، الآية ٢.

١٥٣

بالله ، واستوجبت قطع اللطف الإلهي عنك ، وأصبحت عرضة للأهواء والشهوات ، لتتلاعب بك ، وللشياطين لتغويك وتطغيك. وهذا ما لا يرغب به عاقل ، ولا يرضى به حتى جاهل.

ونجد في اللغة العربية ما يشهد لكون اهدنا بمعنى ثبتنا.

وذلك فيما لو قلت لأحدهم : قف حتى أعود إليك. فكلمة : قف ، يطلب بها الثبات على حالة الوقوف. وليس المطلوب ، أن يقف بعد أن يكون قاعدا. وكلمة اهدنا هي الأخرى من هذا القبيل.

أنواع الهداية وأقسامها :

وقد قسم بعضهم الهداية إلى أربعة أقسام هي :

هداية الإلهام : وهي نوع من الهدايات التي تدفع الطفل لتناول ثدي أمه ، والارتضاع منه بمجرد أن ينفصل عن رحم أمه ؛ فالحواس وحدها لا يمكن أن تدفعه إلى ممارسة هذا الفن الرفيع. وكذلك ليس لديه من الإدراك في تلك الفترة ما يمكنه من ذلك ، فضلا عن أن يتعلم ذلك من معلم أو أن يقرأه في كتاب ، أو غيره.

الهداية الحسية : فإن الحواس لها دور في الهداية ، فالبصر يهدي إلى الأشكال والأحجام والألوان. وبالسمع تهتدي

١٥٤

إلى الأصوات ، وتميز بينها ، وتعرف الشجي من النشاز. والقوي من الضعيف ، وما إلى ذلك.

وبواسطة اللمس تعرف الحار والبارد ، واللين والقاسي ، والخشن والأملس الخ ..

وكذلك بالنسبة إلى حاسة الشم في المشمومات ، وحاسة الذوق في المطعوم والمشروب.

الهداية العقلية : التي ندرك بها ما لا يقع تحت قدرة الحواس ، ولا ينال بالإلهام ، وذلك مثل الحسن ، والقبح ، والعدل والظلم ، والتوافق والتضاد ، والتناقض وعدمه وما إلى ذلك.

الهداية الشرعية : وهي تكون فيما يعجز العقل عن درك كنهه ، ويقف حائرا أمامه. وقد تحول الأهواء ، والغرائز والشهوات دون وصول العقل إليه ، حينما تهيمن عليه تلك الأهواء والشهوات ، وتفقده القدرة على التمييز ، فتشتبه عليه الأمور ، ويخلط الحق بالباطل.

فيأتي دور الشرع ليحل محل العقل في الهداية والبيان.

وبعد هذا البيان نقول : كأنهم يريدون أن يقولوا : إن معنى الآية الشريفة هو : اهدنا إلى شريعتك ، وبها ، في المواقع التي يعجز العقل ، والإلهام ، والحواس عن إدراك وجه الصواب فيها.

١٥٥

ونقول :

إن هذا البيان غير مقبول.

أولا : لأنه كلام غائم ، ولا سيما فيما يرتبط بقدرات العقل على الإدراك ، وحدوده ومجالاته.

ثانيا : إن الهداية على تفسيرهم هذا تنتهي بمجرد تعليم الشريعة ، فإذا عرفت أحكامها فلا حاجة لقوله اهدنا كل يوم عشر مرات أو أكثر ، لأن أمور الشريعة والدين محددة ولا زيادة فيها ، والزيادة إنما هي فيما هو خارج عنها.

ثالثا : قد ذكرنا فيما تقدم : أن الهداية ليست مجرد تلقين ودلالة ، ثم تقبل أو لا تقبل ، على حد قوله تعالى : (هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ، (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً). بل الهداية إلى النجدين هي إحدى مراتبها.

وتوضيح ذلك :

هذه الهداية ليست هي ـ كما يقول بعضهم ـ التوفيق الإلهي. ليردّ عليه بعض آخر : بأن الهدايات التوفيقية خاصة بالأنبياء (١٣١).

__________________

(١٣١) هذا إذا أريد بالتوفيق الإلهي ، الوحي. أما لو الأعم منه ، فلا يختص التوفيق بالأنبياء حسبما أوضحناه.

١٥٦

بل هي هداية بعد هداية تزيد وتتسع باستمرار ، تبعا لما يستجد للإنسان من معارف ، وتنفتح أمامه من آفاق. ويواجهه من أمور جديدة تحتاج إلى حل ، وإلى استكناه حقيقتها ، والانسياب في آفاقها.

وذلك على حد قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). فإن المعرفة كلما اتسعت ، كلما زادت معرفة الإنسان بحجم المجهولات التي يحتاج إلى كشفها. وكثرت الألغاز التي تحتاج منه إلى حل ، فإن الخير يوصل بعضه إلى بعض ، ويهدي بعضه إلى بعض ، كما ويشد بعضه أزر بعض.

ولا يختص ذلك بالأنبياء ، ما دام أن عبادات الإنسان ، والتزامه بأحكام الله من الأوامر والزواجر له آثاره عليه ، فتصقل روحه ، وفكره وعقله وتجربته ؛ وتزيد من طاقاته ، وتهيؤه لنيل مراتب أعلى وأرقى.

وبالوصول إليها ، والحصول عليها يكتسب المزيد ، فيوظفه لنيل موقع جديد من مواقع القرب والزلفى له تعالى ، ويصبح أقدر على مواجهة نفسه ، وصدها عن شهواتها ، ثم مواجهة المغريات والمشكلات بعزم أشد ، وقدرات أعظم.

١٥٧

الهداية والجبر الإلهي :

وقد ادعى بعض المفسرين : أن قوله تعالى : (" اهْدِنَا الصِّراطَ) الخ .." يدل على صحة قول الأشاعرة : إنه تعالى هو فاعل الخير والشر. أما العبد فلا يوجد فعله ولا يخلقه. ولذا نسبت الهداية هنا لله تعالى ؛ فهو الذي يفعل ويوجد.

ولكنه نسب الضلال للعبد في قوله : " ولا الضالين" ، مع أن الله سبحانه هو الذي يضلهم ـ تأدبا معه تعالى ..

إذن فقوله تعالى : " اهدنا" يمثل ردا على المعتزلة والرافضة.

ونقول :

إن هذا التأدب ـ لو صح ـ فهو دليل على قبح صدور ذلك منه تعالى. وإذا لم يجز نسبة القبح إليه تعالى لفظا ، فما بالك بنسبته إليه وصدورها منه خارجا؟!

إن المراد من ـ اهدنا ـ ليس هو إيجاد الهداية بطريق جبري وقسري وتكويني ، بل المراد : هو المساعدة في الهداية ، فإذا قلت لإنسان : ساعدنا على هذا الأمر ، فإنك أنت الذي تبذل الجهد ، وتعمل ، وتؤثر فيه بصورة مباشرة ثم يساعدك الآخرون.

وإذا كانت الهداية بمعنى الدلالة ، والتوفيق والتسديد ، فالأمر يصير أوضح ؛ فإنك إذا قلت لرجل : اهدني ودلني ، فإن دلالته لك لا تعني أنه قد خلق المعرفة فيك وأجبرك عليها. بل هو يدلك ، وأنت تختار أن تعمل بهذه الدلالة ، أو لا تعمل.

١٥٨

إنه سبحانه في نفس سورة الحمد ، قد نسب الفعل إلى العبد. وذلك في قوله : نعبد. نستعين. فأنت الذي تعبد. وأنت الذي تفعل ، وتريد منه أن يعينك ، ويقويك ، وينشطك ، ويشجعك لتحقق المزيد من النجاح والفلاح ، ثم تطلب المزيد من الهداية والدلالة إلى كل ما يوجب القرب ، والمزيد من المحفزات والمشجعات ، والتوفيقات والبركات.

ولو صح ما ذكروه في" اهدنا" للزم التناقض بينه وبين" نعبد. نستعين. الضالين. حيث جعل الله فيها معينا هنا. ومجبرا على الهداية خالقا لها هناك.

وإذا صح : أنه نسب الضلال إلينا تأدبا.

فلماذا نسب إلينا الفعل في نعبد ونستعين ، إذ لا معنى للتأدب فيهما لننسبهما إلى غيره تعالى. إذ لا قبح في نسبتهما إليه سبحانه.

إهدنا الصراط أو إلى الصراط :

وقد يدور بخلد البعض هنا سؤال ، وهو : لماذا قال سبحانه هنا : اهدنا الصراط المستقيم ، ولم يقل اهدنا إلى الصراط؟! فما هو الفرق بين التعدية المباشرة ، وتسلط الفعل على المفعول مباشرة وبين التعدية بواسطة حرف الجر.

١٥٩

والجواب :

إن التعدية المباشرة تشير إلى الهداية الحسية ، أما التعدية بإلى. فتشير إلى الهداية الإرشادية. أي أن الأولى تصلك بالصراط المستقيم ، فتلمسه بيدك. والثانية ترشدك إلى الصراط ، وتدلك عليه ولو من بعيد.

ومن الواضح : أن الهداية الحسية التي يتجسد الواقع فيها أمامك أشد إغراء ودعوة. وهي التي يحصل فيها الإنسان على السكون واليقين ، بصورة اعمق وأشد. وهي الأقوى والأجلى والأوضح. ثم هي الأضمن للوصول. من أية هداية أخرى. وهي أقصى درجات الهداية ، وأشدها قطعية.

ونحن بحاجة ماسة إلى هذا الضمان ، وإلى السكون والاطمئنان ، لخطورة الأمر ، من حيث كونه يتعلق بمصير الإنسان ، وبكل حياته ووجوده وحركته.

فكأنه قال : اجعلنا نتحسس الصراط بصورة مباشرة ، ولا تكتف بمجرد الدلالة الإرشادية إليه ، لأننا نريد أن نسلكه ، لنصل منه إلى الهدف الأسمى ، والغاية الفضلى.

مناقشة وردّها :

وقد يقال : إننا لا نجد فرقا بين قولنا دخلت الدار ، ودخلت إلى الدار ونقول :

١٦٠