تفسير سورة الفاتحة

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة الفاتحة

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٢١

الأصنام عند العرب :

وواضح : أن العرب كانوا يستعملون لفظ الجلالة في معناه. أما الأصنام فكانوا يعتقدون : أنها تقربهم إلى الله تعالى زلفى ، وأن لها نوعا من التأثير في حياتهم : في الشفاء ، والرزق ، وحل المشاكل ، وما إلى ذلك. فيعطونها نوعا من الشراكة مع الله سبحانه بهذا المعنى. وقد كانوا يعظمونها ـ في الأساس ـ لأنها تمثل بعض الصلحاء ، أو غير ذلك. ثم تطور هذا التعظيم ليصبح تقديسا ، ثم تطور ليصبح اعتقادا ببعض التأثير ، وتعاظم ونما حتى بلغ درجة الشرك الذي هو ظلم عظيم. فجاء الانحراف عن مقتضيات الفطرة تدريجيا ، كما ترى.

٤١

الرحمن الرحيم

إننا قبل أن نتكلم عن المقصود من هاتين الكلمتين ، نشير إلى أمر هام يرتبط بمعناهما ، بل هو يرتبط بسائر صفاته وأسمائه تعالى ، وهو : أن الرحمة لدى بني الإنسان عبارة عن انفعال نفساني ذي طابع خاص ، يحصل بسبب رؤية العجز أو الضعف أو النقص لدى إنسان أو أي مخلوق آخر ذي روح. فإذا رأينا طفلا عمره شهر تحت أشعة الشمس ، أو جريحا ، أو رجلا تحت الأنقاض يحصل في داخلنا انفعال معيّن بطريقة عفوية وفطرية ، يدفعنا إلى العمل ومديد المساعدة لذلك العاجز والمنكوب.

لكن حينما نصف الذات الإلهية المقدّسة المنزّهة بصفة الرحمانية والرحيمية ، فإن نحو وكيفية تلبسها بصفة الرحمة ، أو انتساب الرحمة إليها يختلف عن نحو وكيفية تلبسها بالإنسان وانتسابها إليه. ونحن نجهل تماما حقيقة الرحمة التي ننسبها إليه تعالى ، ولا نستطيع حتى أن نتصوّر حقيقتها ، ونجهل أيضا كيفيتها لديه تعالى.

٤٢

وقد ورد النهي عن المعصومين عليهم‌السلام عن التعمق في التفكير في حقيقة الذات الإلهية (٣٨).

غاية الأمر أننا حينما نلاحظ كثرة صدور الرحمات ، أو فقل : الأمور التي هي من لوازم الرحمة بزعمنا ، أو بحسب تصورنا ، منه تعالى ؛ فإن ذلك يجعلنا ننسب إليه تعالى صفة : رحمان ، أو رحيم.

تحديد معنى الرحمان الرحيم :

وأما بالنسبة لمعنى هذين اللفظين ، فإننا نقول :

قالوا : إن كلمة الرحمان ، تفيد المبالغة ، أي الذي يفيض الرحمة وتصدر عنه كثيرا ، ومن كل جهة. ومعنى ذلك :

أنها وصف لا يختص بالمؤمن ، بل يعم الكافر أيضا.

أنها ـ والحالة هذه ـ إنما تناسب الحياة الدنيا ، إذ ليس للكافر منها في الآخرة من نصيب.

وقالوا : إن كلمة" الرحيم" صفة مشبهة ، أي أنها تدل على وجود الصفة في الموصوف بصورة ثابتة ودائمة ، ومعنى ذلك :

أن هذا إنما يناسب المؤمن دون الكافر ، لأن المؤمن هو الذي يستحق الرحمة الدائمة.

__________________

(٣٨) راجع : البحار ج ٣ ص ٢٥٩ فما بعدها.

٤٣

إن هذا الوصف يمتد إلى الآخرة أيضا ، ليكون المؤمن مرحوما فيها. وليناسب ذلك معنى الثبات والدوام فيها.

ولأجل ما تقدم نجدهم يقولون : رحمان الدنيا ورحيم الآخرة.

ونحن بدورنا نقول :

إن ما ذكروه مشكوك فيه ، بل الله سبحانه رحمان في الدنيا والآخرة ، ورحيم فيهما معا أيضا. وقد ورد في الحديث الشريف : " رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما" (٣٩) وقال تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (٤٠) وقال سبحانه : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) (٤١) واستعملت" الرحيم" للحديث عن رحمته تعالى في الدنيا ، قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٤٢).

وهذا هو السر في التركيز على هاتين الصفتين في أعظم آية في القرآن الكريم ، وذلك لأن كلمة رحمان تساوي كلمة غضبان

__________________

(٣٩) امالي الشيخ الطوسي ص ٥٢٣ ط سنة ١٤٠١ ه‍ مؤسسة الوفاء ـ بيروت.

(٤٠) سورة مريم الآية ٨٥.

(٤١) سورة الفرقان الآية ٢٦.

(٤٢) سورة النساء الآية ٢٩.

٤٤

أو شبعان أو نعسان أو يقظان. وهذه الصفات بهذه الصيغة ليست من صيغ المبالغة ، وإنما هي تدل على وجود الصفة في موصوفها على نحو التمام والكمال ، فكلمة" غضبان" مثلا كما يقول أهل اللغة معناها الشخص الممتلئ غضبا (٤٣) أو" الذي يغضب سريعا. وقيل : شديد الغضب" (٤٤).

فإذا كان المراد بالرحمن هو أنه عزوجل ممتلئ رحمة ، فلازم ذلك أن تصدر عنه الرحمات بكثرة ، فيرحم سبحانه المؤمن والكافر ، والعالم والجاهل ، والكبير والصغير ، والغني والفقير ، وما إلى ذلك.

فما قاله الطبرسي وغيره : " الرحمان الرحيم : اسمان وضعا للمبالغة ، واشتقا من الرحمة وهي النعمة إلا أن فعلان أشد مبالغة

من فعيل" (٤٥).

وقال ابن منظور عن كلمة رحمان : " معناه الكثرة". وقال : فعلان من أبنية ما يبالغ في وصفه (٤٦).

__________________

(٤٣) التبيان ج ١ ص ٢٨ و ٢٩ والكشاف ج ١ ص ٤١.

(٤٤) لسان العرب ج ١٠ ص ٤٤٩.

(٤٥) مجمع البيان ج ١ ص ٢٠ ط دار احياء التراث العربي سنة ١٣٧٩ ه‍ ولسان العرب ج ١٢ ص ٢٣١.

(٤٦) لسان العرب ج ١٢ ص ٢٣٠ و ٢١٣ وراجع كلمة : كريم في ص ٥١٠ و ٥١١.

٤٥

هذا القول فيه نوع من التوسع ، فلعل الطبرسي وغيره من المفسرين وأهل اللغة ، ذكروا لازم المعنى ، فصوروه لنا على أنه هو المعنى نفسه ، بنوع من التوسع أو التسامح.

أما بالنسبة لكلمة : " الرحيم" فيمكن أن تكون للمبالغة مثل عليم ، بمعنى كثير العلم. وقد تكون صفة مشبهة لمجرد إفادة ثبوت الوصف من دون أي مبالغة أو تكثير ، مثل مريض ، وقديم وكبير وصغير.

ولكننا إذا رجعنا إلى الآيات القرآنية ، فإننا نجد أنها في الأكثر قد وردت وإلى جانبها كلمات هي : غفور ، تواب ، رؤوف ، ودود ، بر عزيز.

وهذه الصيغ إما هي للمبالغة ، كالأربعة الأول ، وهي واقعة في عشرات الآيات ، أو أنها صفة مشبهة كالكلمتين الأخيرتين ، اللتين وردتا في موارد قليلة جدا ، والصفة المشبهة تدل على نسبة الصفة للموصوف ، وقيامها فيه فعلا ، من دون إشارة إلى معنى الحدوث .. فاقتران كلمة الرحيم بصيغ المبالغة يشير إلى أنها صيغة مبالغة مثلها ككلمة : عليم .. إذ المفروض وجود تجانس فيما بين الصفتين سوّغ للذوق أن يعقب إحداهما بالأخرى. إذ لو كانت إحداهما للمبالغة دون الأخرى ، فإن مستوى الانسجام والتجانس سوف يضعف ، وسيشعر القارئ بوجود نقلة غير طبيعية ، بعيدة عن السهولة بصورة عامة.

٤٦

كما أنها حين جعلت إلى جانب الصفة المشبهة ، مثل كلمة عزيز ، فإنها قد استعملت صفة مشبهة يقصد بها تمامية الصفة في موصوفها على سبيل الثبات والدوام ، من دون إلماح إلى معنى الحدوث. فهي إلى جانب الصفة المشبهة تكون صفة مشبهة مثل كريم ، وسقيم ، وحكيم ، وإلى جانب صيغة المبالغة تكون مثلها صيغة مبالغة تدل على الامتلاء بالرحمة ، ويلزم من ذلك كثرة صدورها منه تعالى لمن يستحقها. أو لعلها هي بنفسها أيضا من صيغ المبالغة أيضا كما ذكره الطبرسي وغيره.

ولا نستبعد أنه تعالى قد جاء بكلمة" رحيم" التي هي صيغة مبالغة على شكل الصفة المشبهة ليفيد المعنيين معا. أي ليفيد المبالغة وتمامية الصفة في موصوفها لأنها على شكل صيغ المبالغة ، وليفيد الدوام والثبات لأنها على شكل الصفة المشبهة.

وقد اتضح مما تقدم : أن ما قالوه من أنه تعالى : رحمان في الدنيا رحيم في الآخرة ، لأن الكافر لا يستحق ثبات ودوام الرحمة لتصل إلى الآخرة. فتكون كلمة رحيم خاصة بالمؤمن. وكلمة رحمن تشمل المؤمن والكافر.

هذا القول غير دقيق : بل هو استنبطوه من شؤون العقيدة ، لا من الدلالات اللغوية لهاتين الكلمتين ، فقيدوا المعنى اللغوي بالدليل العقائدي.

٤٧

وإنما قلنا : إنه غير دقيق ، لأن المعنى اللغوي على النحو الذي ذكرناه ليس ناظرا إلى تلبس الرحمة بهذا الشخص أو ذاك ، بل هو ناظر إلى كيفية قيام الصفة بموصوفها. وأن كلمة الرحمان لا تدل على كثرة الرحمة دلالة مطابقية. بل المدلول المطابقي الأول لكلمة الرحمان هو الامتلاء بالرحمة. فيلزم من ذلك كثرة صدور الرحمة عنه للمستحق لها. فالفيض والصدور من لوازم المعنى ، خارج عنه عارض له. وكلمة الرحيم ، تدل على الثبات والدوام والرسوخ ، فالرحمان ناظرة للكم ، والرحيم ناظرة للكيف. بالإضافة إلى المبالغة في ذلك مثل كلمة عليم.

سبب اختيار هاتين الصفتين :

وهنا سؤال يقول :

لماذا اختار الله سبحانه هذين الوصفين في هذه الآية الكريمة ـ البسملة ـ التي يفترض أن يرددها الإنسان في مختلف شؤونه وحالاته ، وربما يرددها عشرات المرات في كل يوم ، ثم اعتبرت هذه الآية أعظم آية في القرآن الكريم؟ ولم لم تذكر في البسملة صفات أخرى ، مثل : التواب ، الغفور ، الشافي ، الكريم ، الخالق ، الرازق ، العليم ، القوي ، الرؤوف ، الخ؟!.

والجواب ـ باختصار شديد ـ : إن المطلوب للإنسان في سير حياته أن تشمله العناية الإلهية ، فيستفيد من خالقيته تعالى

٤٨

خلقا ، ومن رازقيته رزقا ، ومن حكمته تدبيرا ، ومن قوته وانتقامه وجبروته حماية ورعاية ، ومن عزته عزا ، ومن كل صفاته الجمالية كمالا وجمالا ، وقوة ، وصحة ، وشفاء ، وتوبة ومغفرة ، الخ ..

كل هذه الأمور وسواها مآلها إلى صفة الرحمانية والرحيمية فيه تعالى. فمن خلال الرحمة يصدر ذلك كله عن الذات الإلهية ، فيرزق تعالى ويشفي ، ويدبر ، ويقوي ، ويتوب ، ويغفر ، الخ .. لكونه رحيما ورحمانا. ولا توجد أية صفة أخرى تستبطن هذه الصفات وسواها. فكلمة التواب ، أو الغفور ، أو الشافي ، أو الرازق ، الخ .. لا تقوم مقام رحمان ورحيم. أي إن كلمة التواب مثلا لا تقوم مقام الرازق أو الخالق ، لأنها لا علاقة لها بالرزق ، والشفاء. وكذلك كلمة الرزاق لا تقوم مقام غيرها من الصفات ، وهكذا ..

أما كلمة الرحمان الرحيم ، فإنها تستدعي أن يشفيك الله لكونه إلهك الراحم ، وأن يقويك لأنه أيضا إلهك الراحم ، وأن يتوب عليك ويرزقك لكونه كذلك إلهك الراحم ، وهكذا ..

فإذا دخلت من باب الرحمة ، فإنه يوصلك إلى مضمون سائر الصفات ، ويمكنك منها جميعا.

٤٩

كما أنك ـ من جهة أخرى ـ لا تريد هذه الرحمة لمرة واحدة ، بل تريد دوامها ، واستمرارها في الدنيا والآخرة ، وفي كل حال ومجال.

وخلاصة الأمر : إننا ندخل من باب الرحمة إلى عالم الفيوضات الإلهية اللامحدود والذي لا ينضب. ونحصل على كل مقتضيات سائر صفات الذات الإلهية المقدسة وعلى كل شيء ، ونحل بذلك كافة مشاكلنا ، وفي كل حين فنحصل على الرزق ، والشفاء ، والغفران ، والتوبة ، الخ ..

ولا توجد أية صفة أخرى سوى الرحمانية والرحيمية قادرة على تلبية حاجات الإنسان ، وتحقيق طموحاته ، وتحصينه من اليأس ، الخ ..

كلمة" الرحمان" علم أم صفة؟

وآخر ما نلفت النظر إليه هنا هو : أنه تعالى ، قد جعل كلمة الرحمان صفة للفظ الجلالة. مع أن البعض يدعي : أنها قد أصبحت علما بالغلبة ، فكيف يصح وصف العلم بالعلم؟

ونقول :

إن صيرورتها علما بالغلبة غير ظاهر ، ووصف لفظ الجلالة بها دليل على أنها لا تزال صفة. وقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ

٥٠

أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) (٤٧) لا يدل على علميتها ، لا مكان أن يدعو الإنسان الله وأن يدعو التواب ، والكريم ، والشافي ، الخ .. ولا تجعل الدعوة هذه الأمور علما.

ويمكن أن يقال : إنك إذا سميت رجلا بكلمة" عادل" أو كريم : فإن لاحظت العلمية فيها ، فلا يصح الوصف بها ، وإذا لاحظت الوصفية ، وأنه يملك صفة العدل صح الوصف بها. والحال بالنسبة لكلمة الرحمان من هذا القبيل.

__________________

(٤٧) سورة الإسراء ، الآية ١١٠.

٥١
٥٢

تفسير قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

٥٣
٥٤

الحمد لله :

قد دلت الآية على أن الحمد كله متمحض لله تعالى. وقبل بيان ذلك نشير إلى الفرق بين الحمد والمدح فنقول :

قالوا : إن المدح هو الثناء سواء أكان على شيء اختياري ، أو غير اختياري ، فقد تمدح الإنسان على إنقاذه الغريق ، وقد تمدحه أيضا على جماله ، وعلى طوله ، مع أن الجمال والطول هما خلقة الله ، وليس للإنسان فيهما أي اختيار.

وتذم بعض المخلوقات على أفعالها السيئة وعلى شكلها الذي تراه قبيحا أو غير متناسق ، مع أن القبح ليس من اختيار الإنسان.

أما الحمد ، فهو ـ كما يقولون ـ : الثناء على الفعل الجميل الاختياري.

ونحن لا نوافق على قولهم هذا ، ونقول : إن هذا الحمد الوارد في هذه السورة وغيرها قد يكون على فعل اختياري كفعل الخالقية ، والرازقية ، والمغفرة ، الخ ..

٥٥

وقد يكون ثناء عليه تعالى بأنه حي قيوم منزه عن الشريك ، وعن النقص ، وعن الصاحبة والولد ، مع أن عدم وجود شريك له تعالى ليس فعلا اختياريا له سبحانه ، بل هو ليس من مقولة الفعل أصلا.

وخلاصة الأمر : إن الأفعال المشيرة إلى صفات الفعل تصدر عنه تعالى باختياره. فالله قوي لأنه يصدر عنه باختياره ما يشير إلى القوة ، وهو رحيم ، خالق ، رازق ، حكيم ، لأنه يصدر عنه باختياره فعل يشير إلى الرحمة والرازقية والحكمة الخ. فيستحق الحمد لأجل ذلك ، كما يستحق الحمد لأجل أنه حي قيوم ، لا شريك له ، ولا نقص فيه.

اختصاص الحمد بالله سبحانه :

وعن سبب تخصيص الحمد كله بالله تعالى :

إن" أل" للجنس أو للاستغراق وعلى كلا الحالتين تفيد الاستغراق والشمول للأفراد. والفرق بينهما إنما هو بالاعتبار ، والإجمال والتفصيل.

أي أن حقيقة الحمد إنما يستحقها الله سبحانه ، أو أن الذي يستحق جميع أفراد ومراتب الحمد هو الله سبحانه. فعلى الأول : تكون للجنس وعلى الثاني : تكون للاستغراق.

٥٦

والسر في ذلك هو أن البسملة قد جعلتنا نعترف بأن الله الذي له صفة الألوهية متصف بجميع صفات الجمال والجلال والكمال. فإذا أردنا أن نطلب من الله سبحانه أن يفيض علينا من خلال هذه الصفات : الرزق ، والمغفرة ، والشفاء ، والخلق ، والقوة ، والصحة .. الخ ، فمفتاح ذلك كله هو الرحمة الإلهية ، فلا بد من الدخول من بابها فإنه تعالى ممتلئ رحمة ، وكثيرة هي رحماته بمقتضى" رحمان".

ثم لأجل استمرار الاستفادة من فيوضات الرحمة التي هي من مقتضيات صفات الألوهية لا بد من ثبات هذه الرحمة ودوامها مفيضة ومنيلة ، كما ألمحت إليه كلمة" الرحيم".

وبعد تقديم ذلك الاعتراف بأنه سبحانه قد أفاض علينا من كل ما تقتضيه تلك الصفات بجميع فروعها من جلالية وجمالية ، أو فقل : من صفات فعل أو صفات ذات ، يأتي الحمد والثناء بمثابة اعتراف بهذه الفيوضات ، لأنها هي التي دفعتنا لهذا الثناء ..

وإنما اعتبرنا أن المستحق لحقيقة الحمد ، أو لكل مرتبة من مراتب الحمد وكل فرد من أفراده هو الله سبحانه ، لأن كل ما يصل إلينا من خلال الإفاضة المباشرة مثل خلقنا. أو بالواسطة ، كإحسان الوالدين لنا. ومثل ما نستفيده من الطبيعة كالأرض ، والشجر ، والشمس والنجوم. إن كل ذلك إنما ينتهي إلى الله سبحانه بالمباشرة أو بالواسطة.

٥٧

وهذا يفسر لنا إضافة" أل" الاستغراقية أو الحقيقية إلى كلمة" حمد" ، فقال : " الحمد".

الحمد والرحمة بداية ونهاية :

والملفت للنظر هنا : أنه سبحانه تعالى قد أفهمنا أن" الرحمانية والرحيمية" كانت هي البداية كذلك كانت هي النهاية. حيث قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

أي أننا حين نجعل اسم الله ملابسا وليس ـ فقط ـ مصاحبا لكل شيء ، فإننا ندخل ونصل إليه من باب الرحمانية والرحيمية ، ونستمد منه كل خير. حتى إنه هو الذي يستحق الحمد الحقيقي ، أو يستحقه بجميع مراتبه وأفراده. ونبقى مع هذه الرحمة حتى نصل إلى النهاية. أي أننا مع الرحمة منذ بدء خلقنا مرورا بالرازق ، والمعافي ، والشافي ، والمربي ، وو .. وانتهاء بالتواب والغفور .. ثم تكون النهاية الرحمة أيضا. فلا بد أن يكون الحمد أيضا هو النهاية ، كما كانت البداية هي الحمد. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

إذن ، فالله سبحانه يريد أن يهيئ الإنسان لأن ينظر إلى كل حياته ، وكل آفاقها في بداياتها وفي سيرها التكاملي ، ثم في نهايتها ، نظرة شمولية ، مستوعبة ، وواعية وعميقة ، تربط الأمور بأسبابها ، ثم بنتائجها. إنه سبحانه يريد لهذا الإنسان أن يفتح عينيه على

٥٨

حقيقة الحياة ويسجل اعترافه المباشر بتاريخ ارتباطه بالله سبحانه ، وارتباط الكون كله به تعالى ، وبرعايته سبحانه له من قبل أن يخلق ، وإلى ما بعد أن يبعث ويحشر.

والاعتراف بهذا التاريخ ، والانصياع له ، والإيمان به يوصل إلى الحمد ، إذ لا يمكن أن تكون حامدا كل الحمد إذا لم تعرف وتعترف بكل ما صدر منه وعنه تعالى تجاهك ، وتجاه كل المخلوقات في هذا الكون الأرحب الذي بناه لتستفيد منه في تكاملك في إنسانيتك وفي مسيرتك نحو الله سبحانه.

وهكذا يتضح : كيف أن هذه الكلمة هي في الحقيقة المفتاح للمعارف الاعتقادية ، وهي الأساس القوي للنظرة إلى الكون وإلى الحياة ، نظرة عميقة وواعية ، من خلال التوحيد الخالص والصافي.

فمن الواضح : أن أحدا لا يستطيع أن يحمد الله بصدق ووعي من دون أن يملك هذه النظرة : بل إن فهم الحياة والتعاطي معها لا بد أن يكون أساسه هذه النظرة بالذات ، ومستندا إلى فهم الحمد بهذه الطريقة.

فكلمة الحمد إذن كبيرة جدا بحجم هذا الكون ، بل هي أكبر من الكون ومن الإنسان. إنها بحجم الفيوضات الإلهية على كل الموجودات والمخلوقات. ولا سيما الذي يعنيك منها ،

٥٩

وتستفيد منه ، وتتفاعل معه. إنها بحجم العقيدة التوحيدية ، بل بحجم كل الصفات الإلهية الجلالية منها أو الجمالية.

إذن فليس من قبيل الصدفة أن تكون أول كلمة ـ بعد البسملة ـ في السبع المثاني ، التي لا بد أن تقرأ مرات في الصلاة في كل يوم هي كلمة" الحمد" ؛ إنه أراد لنا أن ندخل من باب الحمد ، إلى كل الحقيقة المنبسطة على هذا الوجود. مدركين حجم الارتباط بالله ، ونوع ، وكيفية التعاطي معه سبحانه وتعالى.

له الحمد في الأولى والآخرة :

ومن أجل توضيح بعض ما ذكرناه آنفا نعود ، فنقول :

قد تكلم الله سبحانه عن الحمد في عدة آيات قرآنية ، منها قوله تعالى : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) (٤٨). فما هو المقصود بالأولى ، وما والمقصود بالآخرة؟!.

وهل هذا ينسجم مع ما ذكرناه من معنى الحمد؟! وارتباطه بآية البسملة؟! .. وكيف نربط أيضا بين ذلك وبين قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٩)؟!

__________________

(٤٨) سورة القصص ، الآية ٧٠.

(٤٩) سورة يونس ، الآية ١٠.

٦٠