تفسير سورة الفاتحة

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة الفاتحة

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٢١

أولا : هذا صحيح في هذا المثال ، ولكنه ليس صحيحا في سائر الموارد ، والسبب في ذلك هو أن مادة : (دخل) تختلف عن مادة (هدى). فإن (دخل) لا تقبل إلا نوعا واحدا من المعنى ، وهو الولوج في الشيء.

أما كلمة (هدى) فهي قابلة لأكثر من نوع من المعنى ، فهناك هداية حسية ، وهناك هداية إرشادية الخ .. فهدى الصراط تشير إلى الحسية ، وإلى الصراط تشير إلى الإرشادية ، فلا يصح قياس الثانية على الأولى.

ثانيا : إننا بالرغم مما ذكرناه أنفا ـ نشعر بوجود فرق بين قولنا : دخلت الدار ، ودخلت إلى الدار.

فإن قلت : (إلى الدار) فإنك تكون قد لاحظت كيفية الدخول ، وآليته ، والطريق إليه ، ولم تلحظ في قولك : (دخلت الدار) شيئا من ذلك.

الصراط المستقيم :

وقد ورد في العديد من الروايات : أن المقصود بالصراط المستقيم : الإسلام.

وفي بعضها : علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وفي بعضها : الأئمة عليهم‌السلام.

فلماذا اختلفت الروايات؟! وهل هي متضادة فيما بينها؟.

١٦١

الجواب :

إنها غير متضادة ، لأننا إذا اهتدينا إلى علي عليه‌السلام ، وإلى الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين ، فإننا نهتدي إلى الإسلام. وإذا اهتدينا إلى الإسلام ، فإنه يهدينا إلى علي عليه‌السلام والأئمة عليهم‌السلام ، لأن المقصود بعلي هو علي المعصوم والهادي إلى الحق ، وليس المقصود هو الرجل المكون من لحم ودم

وينشأ من هذا البيان سؤال.

وهو أنه لماذا عدل سبحانه عن كلمة الإسلام ، أو علي ، أو الأئمة إلى كلمة الصراط .. أي لماذا لم يقل : إهدنا إلى الإسلام ، مثلا؟.

ونجيب :

أولا : إن الهدف هو الوصول إلى الله سبحانه ، ونيل درجات الزلفى لديه. والإسلام وسيلة للوصول إلى الهدف ، وعلي والأئمة عليهم‌السلام هم الإدلاء والهداة ، إلى تلك الوسيلة ، والمعينون على الوصول.

وقد أراد الله سبحانه من عدوله عن التصريح بذلك أن يشعر هذا الإنسان بأن ثمة غاية سامية ، وهدفا مقدسا ، لا بد أن يسعى إليه ، ويسلك السبل الموصلة ، ويتطلب الهداية من الإدلاء عليه.

١٦٢

فإذا تحدث عن صراط وطريق ، علم أن للطريق نهاية ، وللصراط غاية. وعلى الإنسان أن يتساءل عنها ، ويبحث ويستدل. فإذا عرف أنها رضا الله سبحانه. فإنه سوف لن يتساهل في جعلها نصب عينيه في كل موقف ، وحركة وسلوك.

أما كلمة : (الإسلام) أو (الأئمة) أو (علي) فهي لا تدل على ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، بل لا بد من التماس البيان من جهات أخرى ، وقد لا يخطر على البال طلب بيان من هذا القبيل.

ثانيا : إن الله سبحانه أراد أن يشير إلى القيمة السامية لأحكام الإسلام ، فإذا شعر الإنسان بأن الإسلام هو الصراط المستقيم ، الموصل إلى الله سبحانه ، فإن الشعور يعطي المضمون الإسلامي في مجال الممارسة قيمة روحية وإيمانية. ويدفع إلى المزيد من الارتباط الروحي والمعنوي بالإسلام ، وإلى المزيد من الإخلاص ، والتقدير ، والتقديس.

إذن ، فلا مجال لأن تكون صلاة هذا الإنسان كنقر الغراب ، ولا لأن تكون عباداته مجرد طقوس ، وحركات خاوية. بل عليه أن يدرك أن الإسلام ، والإمام ، والأئمة ليسوا هم الهدف المقصود لذاته. وإنما هم وسائل ووسائط عليه أن يستفيد منهم للدلالة والهداية ، والمعونة في الوصول إلى الهدف والحصول عليه.

١٦٣

إنهم هم الأكثر قدرة على المساعدة في الوصول إلى الأهداف العليا ، والغايات السامية. وذلك بما لديهم من معرفة دقيقة وعميقة ، ثم بما لهم من قيمة روحية ومعنوية ، وبموقعهم المتميز في التكوين الإيماني والعقيدي للإنسان المسلم.

ثالثا : إن ذلك يبعد الإنسان عن ان يتعصب لغير جهة تبرر التعصب المعقول والمقبول. حيث يفهمه أن المطلوب ليس هو التعصب للإسلام ، لأنه دين موروث ، فإن التعصب للإسلام أي بما هو موروث يكون جريمة كبيرة وعظيمة ، وإنما المطلوب هو التعصب للإسلام ، لأنه الصراط المستقيم ، ولأنه الحق والصدق. وما سواه باطل ومزيف ، أو مشوه ومحرف.

(ال) في الصراط للجنس أو للعهد :

وقد يسأل البعض عن كلمة (ال) في الصراط هل هي للجنس ، أو للعهد؟!

ونقول :

إنه لا مبرر لكونها عهدية ، لأن العهد إما ذكرى ، أو ذهني أو خارجي. ولم يتضح توفر أي من هذه الأمور الثلاثة في هذا المورد.

وحتى لو كانت عهدية ، فإنه العهد ، إنما هو للإسلام ، أو الدين الحق.

١٦٤

وحين تكون جنسية فذلك أقوى في الدلالة على المقصود ، حيث تشير إلى أن طبيعة الصراط المستقيم هي الإيصال إلى الهدف.

فيكون المراد : أن الصراط جنس منحصر في فرد ، كالشمس ، التي هي معنى عام وكلي منحصر في هذا الجرم السماوي المضيء بالنهار وإذا أنحصر الجنس في فرد ، فإن كل القلوب والعقول ، والأبصار ، وحركة اليد في إشاراتها تتوجه إليه مباشرة وإلى خصوصيته ، بسبب تفرده وتعينه.

وصف الصِّراطَ بالمستقيم : لماذا؟!

قالوا : إن كلمة (الصِّراطَ) تعني الخط الأقرب بين نقطتين. فهو إذن يستبطن الاستقامة. لأن أقرب خط بين نقطتين هو الخط المستقيم وهذا الخط واحد ، ولا يمكن التعدد فيه.

وهو أيضا يصلك بالهدف بصورة مباشرة.

ولذا ، لو افترضنا خطين متوازيين يسيران ، فإنهما لن يلتقيا في نقطة وهدف واحد ، بل يصل إليه أحدهما دون الآخر. اما في صورة التعرج فقد يصل الخطان إلى الهدف ، وقد يكون التخلف عنه منهما معا ، أو من أحدهما.

١٦٥

والخطوط المتعرجة تكون :

أطول.

وتتعدد.

وقد لا توصلك إلى الهدف.

وقد أشار سبحانه إلى ذلك حين قال : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١٣٢).

والخط المستقيم باتجاه هدف إذا انحرف عن الاستقامة ، فإنه لن يصل إلى الهدف قطعا. نعم لو انحرف مرة أخرى فإن كان الانحراف الثاني باتجاه الهدف ، فإنه يصل إليه ، وإن لم يكن باتجاهه فإنه يحتاج إلى انحراف آخر ، وهكذا.

فإن كان الصراط يستبطن معنى الاستقامة حقا ، فإن المقصود هنا من كلمة : (الْمُسْتَقِيمَ) هو التأكيد على خصوصية الصراط هذه ، وذلك من أجل :

التصريح والتأكيد على أقربيته إلى الهدف بالنسبة لسائر الطرق ، بدلا من الاعتماد على الانتقال من المعنى التركيبي إلى المعنى التجزيئي ، الذي يفصل الصفة عن موصوفها ذهنا.

__________________

(١٣٢) سورة الأنعام الآية ١٥٣.

١٦٦

الإشارة إلى قصره ، وسرعة الوصول من خلاله إلى درجات القرب والفوز بها.

الإشارة إلى أنه الطريق الواحد ، الذي لا ثاني له.

الإشارة إلى إيصاله الأكيد ، في مقابل غيره مما قد لا يوصل أصلا.

١٦٧
١٦٨

تفسير قوله تعالى :

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)

١٦٩
١٧٠

نسبة الصراط إلى غير الله سبحانه :

إن من يراجع الآيات القرآنية يجد : أنها جميعا باستثناء آيتين قد نسبت الصراط إلى الله سبحانه. فاقرأ الآيات التالية ، وقس عليها غيرها

(صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ*) (١٣٣).

(صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) (١٣٤).

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (١٣٥).

(صِراطِ اللهِ) (١٣٦).

والآيتان اللتان نسب فيهما الصراط لغير الله هما :

__________________

(١٣٣) سورة سبأ ، الآية ٦. وسورة إبراهيم ، الآية ١.

(١٣٤) سورة الأنعام ، الآية ١٢٦.

(١٣٥) سورة الأنعام ، الآية ١٥٣.

(١٣٦) سورة الشورى ، الآية ٥٣.

١٧١

قوله تعالى : (قُلْ : إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، دِيناً قِيَماً) (١٣٧).

فإنه اعتبر في هذه الآية : أن (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) هو الدين القيم ، أي هو صراط موصوف بأنه دين قيم ..

ولكنه تعالى أيضا لم ينسب في هذه الآية (الصِّراطَ) إلى أحد. بل تركه عرضة للاحتمالات ، مع العلم أن الدين القيم هو صراط الله سبحانه أيضا.

فينحصر نسبة (الصِّراطَ) لغير الله سبحانه في خصوص :

آية سورة الفاتحة : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.).

فهنا أسئلة ثلاثة :

الأول : لماذا اختصت سورة الفاتحة بهذا الأمر؟

الثاني : ما هو السبب في نسبة الصراط هنا فقط لغير الله سبحانه؟

الثالث : لماذا احتاج إلى هذا التفصيل بعد قوله : الصراط المستقيم؟

__________________

(١٣٧) سورة الأنعام ، الآية ١٦١.

١٧٢

ونقول في الجواب عن هذه الأسئلة :

أولا : إن نسبة الصراط في سورة الفاتحة إلى الذين أنعم الله عليهم ليس معناها أنه لم ينسبه فيها إلى نفسه ، وذلك لأن صراطهم هو في النتيجة والمآل صراط الله سبحانه. فهو ينسبه إليهم ، لأنه صراطهم الذي اختاروه ومشوا فيه وقطعوه .. وإن كان الله سبحانه هو الذي سنّه وشرعه لهم.

ثانيا : إن الله تعالى حين نسب الصراط ، للذين أنعم عليهم ، فقد أراد أن يقول : إن الذي اهتدى إلى صراطه المستقيم ، فإنما اهتدى إليه بنعمة منه تعالى وبفضله وهدايته ؛ فيكون ذلك أدعى للإخلاص له ، والارتباط به سبحانه وتعالى.

وليس هذا الاهتداء نتيجة لقدرات ذاتية بشرية كامنة ، ومن خلال جهد شخصي ، بعيد عن تسديد الله سبحانه ، وهدايته ، وأفضاله.

وثالثا : إنه إذا ظهر لنا أن الآخرين قد اهتدوا إلى هذا الصراط ، فإن ذلك يجعلنا نطمئن إلى إمكانية تحقق ذلك بالنسبة إلينا أيضا ، فهو إذن ليس أمرا نظريا تجريديا لا واقعية له ، أو ليس فوق طاقة البشر ، أو غير قابل للتطبيق ، بسبب ظروف موضوعية ذات طابع معين.

١٧٣

ورابعا : إنه تعالى في خصوص هذه السورة التي لا بد أن نقرأها في صلاتنا عشر مرات على الأقل يوميا ، يريد أن يجسد لنا الأسوة والقدوة واقعا حيا يمكن أن نترسم خطاه ، ونهتدي بهديه.

وذلك لأن الإنسان ـ بطبيعته ـ يتعامل مع الأمور من خلال حواسه الظاهرية بالدرجة الأولى ، ثم ينتزع من القضايا المحسوسة قضايا تصورية ، ثم يبحث عن قواسمها المشتركة ويسقط خصوصياتها ، ليكتشف المبدأ والنظرية ، والقاسم المشترك ، والقاعدة.

وقد أراد سبحانه لنا هنا : أن يجسد لنا هديه وتعاليمه لننتقل من المضمون الواقعي والحسي ، الغني بالقيم والجمالات ، ليمثل لنا إغراء يدعونا إلى الاندفاع إليه ، والالتزام به ، والتعاطي معه ، من موقع الوعي ، والمشاعر المرتكزة إلى مناشئها ، فنكون أكثر اقتناعا ، وأعمق إيمانا ، وأشد تمسكا والتزاما به. حتى إننا لنضحي من أجله بالغالي والنفيس حين يقتضي الأمر ذلك.

أما إذا اقتصر على المضمون التصوري ، والتخيلي التجريدي ، فإن الاندفاع لن يكون بالمستوى المطلوب ، بل سوف يعاني من حالات التردد والخوف من جدوى أو من إمكانية وواقعية ما يطلب منه. ولن يكون في موقع الرضى والثبات والطمأنينة في الممارسة وفي الموقف.

١٧٤

ولا أقل من أن ذلك لن يكون قادرا على الإثارة والإغراء بمستوى ما لو كان المضمون حسيا ومتجسدا.

أضف إلى ما تقدم : أن من مصلحة الإنسان أن يتطلب أقصى درجات الهداية وأجداها وأوضحها ، وأشدها تأثيرا ، والهداية الحسية هي الأقوى والأجدى حيث تريك القيم ، والجمالات متجسدة أمامك ، وتدفع بك ، وتشدك إليها.

فإذا صاحب ذلك تنفير ، وتخويف من صراط الضالين والمغضوب عليهم. فإن كل المقومات المطلوبة للاندفاع بقوة تصبح جاهزة ومستعدة للتأثير وللتحريك باتجاه الهدف الأقصى والأسمى.

وبعبارة أوضح : إن النعمة والاستزادة هي هدف الطالب في جامعته ، وهدف المزارع في حقله ، وهدف العابد في محرابه ، و.. ويتحرك الإنسان من أجل الحصول عليها بصورة عفوية فيسلك إليها أقرب السبل وأكثرها أمنا. وهو الصراط المستقيم.

فإحساسه بأن ثمة نعمة وثمة استزادة ، يمثل دافعا له إلى التحرك نحوها. وإن الغضب الإلهي ـ والله سبحانه هو أعظم قوة تملك التصرف في حياة وشؤون الإنسان وغير الإنسان. ثم الضلال عن الهدف ، وعن طريق الوصول إليه ، نعم ، إن هذا الغضب وذلك الضلال لما كان الإنسان ينفر منه ويبتعد عنه

١٧٥

بصورة عفوية أيضا .. لأن الغضب والضلال يوحيان بزوال النعمة ، أو بعدم الحصول عليها ، فلا بد له إذن من الابتعاد عن سبل المغضوب عليهم والضالين لتفادي أية سلبية تنشأ من اتباع سبيلهما.

ويلاحظ أخيرا : أنه تعالى قد عبّر بكلمة" أنعمت" التي تفيد معنى ينطبق على جميع الأمور التي تعني الإنسان من صحة أو مال أو قدرة ، أو جاه أو هداية أو علم ، أو أمن أو أي شيء آخر يسهم في إسعاد الإنسان ، ويمكن له أن يحصل عليه. وهذا نوع آخر من الترغيب والتحفيز للسير على ذلك الصراط.

وكل ذلك يفسر لنا السبب في أن ذلك قد ورد في سورة الفاتحة التي تتكرر في كل يوم عشر مرات على الأقل. فقد أريد منه أن يصبح خلقا ، وطريقة ، وحركة عفوية ، من خلال ارتكلز ذلك في نفس الإنسان وروحه وكل وجوده.

النعمة والنقمة :

وقد يتخيل البعض : أن الذين أنعم الله عليهم. قد تسببت لهم نفس تلك النعمة بالنقمات ، فقد أوذي الأنبياء ، وقتل الحسين بن علي عليه‌السلام في كربلاء بصورة مفجعة. وقال علي عليه‌السلام لأهل العراق : " لقد ملأتم قلبي قيحا" (١٣٨).

__________________

(١٣٨) نهج البلاغة ـ بشرح عبده ـ الخطبة رقم ٢٦ ج ١ ص ٦٦.

١٧٦

ومع هذا ، فكيف نفسر قوله تعالى :

(فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ، وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) (١٣٩)؟.

حيث عد سبحانه الشهداء أيضا في جملة من أنعم عليه ، مع أنهم يواجهون الحتوف ، بشفار السيوف ، مع ما يصاحب ذلك من آلام ومشقات وأهوال ، ومحن.

هذا بالإضافة إلى الأنبياء الذين يواجهون المصائب والبلايد ، والعظائم والرزايا.

وخلاصة الأمر : إن هذا ـ وفق تصورهم ـ لا يتناسب مع نسبة النعمة لهم ، بل ذلك نقمة ، لأنه ليس إحسانا وتكريما إلهيا. فكان المناسب أن يقول : صراط الذين أتعبتهم وأشقيتهم بالمصائب في سبيل هذا الدين.

ونقول في الجواب :

صحيح أن النعمة هي الشيء الحاصل للإنسان على سبيل الإفضال والتكريم منه تعالى. ولكن المهم هو أن ندرك نحن هذه النعمة ، ونعرف كيف نتلمسها ، وما هي المفردات التي تتجسد

__________________

(١٣٩) سورة النساء ، الآية ٦٩.

١٧٧

فيها. فهل تتجسد بالمال ، أو بالسلطة ، أو بالجاه ، أو بالمنصب ، أو بالقوة الجسدية ، أو بالجمال ، أو بالعرق ، أو ..

فقد يشعرك المال بالطمأنينة ، والسعادة ، والراحة النفسية ، ولكنها طمأنينة ، وراحة وسعادة تبقى محدودة بحدود ، ومقيدة بقيود لا تتجاوز قيمة المال نفسه. فإذا مرضت فقد تستفيد من مالك لدخول أرقى المستشفيات ، واستخدام أحدث الأجهزة ، والاستفادة من خبرات أمهر الأطباء ، وو .. ولكن هل هذا هو كل شيء. وهل حصلت على الطمأنينة وعلى السعادة بأعلى مراتبها؟ وهل زال هاجس الخوف على حياتك بصورة نهائية؟

إن المال يماشيك ويصل معك إلى حد معين ، ثم يقف عنده ، وكذلك الجاه ، والسلطة وو .. وبعد ذلك ـ وهذه هي المرحلة الأخطر والأهم ـ لا بد أن تبحث من جديد عن السعادة والطمأنينة الحقيقية في غير ذلك كله ، لتجدها متمثلة في رضي الله سبحانه ، وفي الإيمان والسكون بذكره كما قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (١٤٠) وقال سبحانه : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١٤١).

__________________

(١٤٠) سورة الفجر ، الآيتان ٢٨ و ٢٩.

(١٤١) سورة الرعد ، الآية ٢٨.

١٧٨

ولأجل ذلك يكون الشهداء سعداء ، والأنبياء والصالحون والأولياء سعداء ، وفي نعمة حقيقية. هم في نعمة وفي سعادة حتى وهم يتألمون ويواجهون المحن ، والبلايا ، ويستشهدون. وتأكل السيوف أجسادهم.

وهذا ما يفسر لنا : قول مسلم بن عوسجة ، أو سعيد بن عبد الله الحنفي للإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء : لو علمت أني أقتل فيك ثم أحيا ، ثم أحرق حيا ، ثم أذرى ، يفعل بي ذلك سبعين مرة ، ما فارقتك ، حتى ألقى حمامي دونك (١٤٢).

وقال علي عليه‌السلام : والله ، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه (١٤٣).

وحين ضرب عليه‌السلام بسيف ابن ملجم لعنه الله قال : فزت ورب الكعبة (١٤٤).

__________________

(١٤٢) نفس المهموم ص ٢٠٦ ط سنة ١٤١٢ ه‍ دار المحجة البيضاء واللهوف ص ٣٩. ومقتل الحسين للمقرم ص ٢٥٦ عن الإرشاد للمفيد وعن تاريخ الطبري ج ٦ ص ٢٣٩.

(١٤٣) نهج البلاغة ـ بشرح عبده ـ ج ١ ص ٤١ ط دار المعرفة ـ بيروت.

(١٤٤) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق (بتحقيق المحمودي) ج ٣ ص ٣٠٣. ومقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام لابن أبي الدنيا مطبوع في مجلة تراثنا سنة ٣ عدد ٣ صفحة ٩٦. وينابيع المودة ص ٦٥.

١٧٩

وحين قال ابن زياد لزينب رحمها الله : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟

قالت : ما رأيت إلا جميلا (١٤٥).

وسأل الحسين عليه‌السلام القاسم ابن الحسن عليه‌السلام : يا بني ، كيف الموت عندك؟

قال : يا عم ، أحلى من العسل. (١٤٦)

إلى نماذج كثيرة أخرى للرضى والتسليم والإيمان والاطمئنان ، والإحساس بالسعادة وبالفوز بلقاء الله سبحانه.

وهذه هي النعمة الحقيقية التي يختار الله الشهيد على أساسها ، ثم يمضي القرار الإلهي بها من خلال التكليف الإلهي ، ثم المبادرة العملية من هذا المكلف لإنجاز ذلك التكليف ، ويتوج ذلك بالاصطفاء ، الذي هو التعبير عن الرضى الإلهي الغامر.

أما المال والجمال والقوة وسوى ذلك فلن يستطيع أن يمنحك هذه السعادة ، التي قد يجدها الفقير المعدم ، ويفقدها الغني بماله ، الفقير بما سوى ذلك ـ بل إن أفقر الناس هم الأغنياء.

__________________

(١٤٥) نفس المهموم ص ٣٧١. واللهوف ص ٦٧.

(١٤٦) نفس المهموم ص ٢٠٨. عن اللهوف ص ٨٢ و ٨٣.

١٨٠