تفسير سورة الفاتحة

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة الفاتحة

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٢١

وعنه عليه‌السلام : لو شئت لأوقرت بعيرا من تفسير (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١٢).

وفي حديث آخر عنه : لو شئت لأوقرت أربعين بعيرا من شرح : (بِسْمِ اللهِ) (١٣)

وفي نص ثالث عنه عليه‌السلام : (لو شئت لأوقرت ثمانين بعيرا من معنى الباء (١٤).

__________________

ج ٧ ص ٥٩٤ كلاهما عن : اسرار الصلاة ص ١٣٨ وعن شرح ديوان أمير المؤمنين ص ١٥ مخطوط. وشرح عين العلم وزين الحلم ص ٩١ والروض الازهر ص ٣٣ وجالية الكدر ص ٤٠ وتاريخ آل محمد ص ١٥٠.

(١٢) احقاق الحق (الملحقات) ج ٧ ص ٥٩٥ عن ابن طلحة في مطالب السؤل ص ٢٦. وراجع : كشف الغمة ج ١ ص ١٣٠ والتفسير الكبير للرازي ج ١ ص ١٠٦ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ٢٣١ و ٣١٦.

(١٣) بحار الانوار ج ٤٠ ص ١٨٦ عن مشارق أنوار اليقين

(١٤) مستدرك سفينة البحار : ج ١ ص ٢٣١ واحقاق الحق : ج ٧ ص ٥٩٥ عن الشعراني في لطائف المنن ج ١ ص ١٧١. وراجع : جامع الاخبار والآثار للأبطحي ج ٢ ص ٤٨.

٢١

وعن ابن عباس قال : (يشرح لنا علي (ع) نقطة الباء من (" بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ") ليلة ؛ فانفلق عمود الصبح ، وهو بعد لم يفرغ) (١٥).

ونقول :

١ ـ انه قد لا يكون ثمة منافاة بين البعير الواحد ، والأربعين والثمانين بعيرا ؛ إذا كان (ع) قد قال ذلك في مجالس ومناسبات مختلفة ، اقتضت كل مناسبة منها أن يشير الى مستوى معين من المعاني والمعارف بل وحتى في مجلس واحد ، فإن ذكر الأقل لا ينلفي ذكر الأكثر ولا يناقضه. فهو لو شاء لأوقر بعيرا ، ولو شاء لأوقر أكثر من ذلك الى أربعين. بل لو شاء لأوقر ثمانين أيضا.

٢ ـ إن سعة علم علي عليه‌السلام وغزارته مما لا يختلف فيه اثنان. وقد أثبت عليه‌السلام عملا ما يقرب إلى الأذهان معقولية تلك الأقوال وواقعيتها.

٣ ـ إنه عليه‌السلام بقوله هذا يريد أن يفتح الآفاق الرحبة أمام فكر الإنسان لينطلق فيها ، ويكتشف أسرار الكون والحياة ، ويتعامل معها من موقع العلم والمعرفة ويقود مسيرة الحياة فيها من موقع الطموح والهيمنة الواعية والمسؤولة.

٤ ـ إن هذه الأرقام ليست خيالية بالنسبة لسورة الفاتحة ، التي هي أم القرآن ، وهي السبع المثاني التي جعلت عدلا للقرآن

__________________

(١٥) مستدرك سفينة البحار ج ١ ص ٢٣١.

٢٢

العظيم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (١٦) كما روي (١٧).

كما أن ذلك ليس بعيدا عن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ،) أعظم آية في كتاب الله العزيز. كما روي عن الإمامين الصادق وأبي الحسن الكاظم عليهما‌السلام (١٨).

٥ ـ أما بالنسبة لحديث نقطة الباء فلا ندري مدى صحته ، بعد أن كان المؤرخون يذكرون أن تنقيط الحروف قد تأخر عن عهد علي عليه‌السلام بعدة عقود من الزمن. إلا أن يكون ثمة نقط لبعض الحروف في أول الأمر ، ثم استوفي النقط لسائرها بعد ذلك.

__________________

(١٦) سورة الحجر آية ٨٧.

(١٧) تفسير البرهان ج ١ ص ٤٠ و ٤١ و ٤٢ وغرائب القرآن (بهلمش جامع البيان) ج ١ ص ٢٨ وتفسير العياشي ج ١ ص ٢١.

(١٨) راجع : البحار ج ٨٢ ص ٢١ وج ٨٩ ص ٢٣٨ عن العياشي ج ١ ص ٢٢ و ٢١ ومجمع البيان ج ١ ص ١٩. وتفسير البرهان ج ١ ص ٤٢ والتفسير الكبير ج ١ ص ٢٠٤ ومستدرك الوسائل ج ٤ ص ١٦٦ و ١٦٧ وجامع الاخبار والآثار ج ٢ ص ٦٢ و ٦١ و ٦٣ عن من تقدم وعن مواهب الرحمان ص ٢١.

٢٣

مناوئوا علي عليه‌السلام وحساده :

وحين رأى حساد علي عليه‌السلام ومناوئوه المتسترون : أن عليا عليه‌السلام قد ذهب بها فخرا ومجدا وسؤددا في جميع المواقع ، وفي مختلف الجهات انبروا ليدعوا لأنفسهم ما هو أعظم من علي ومن علم علي عليه‌السلام. رغم أن كل أحد يعرف مبلغهم من العلم. ويعرف نوع ومستوى ما يتداولونه من أمور عادية ومبتذلة ، أطلقوا عليها اسم العلم ، وهي أبعد ما يكون عنه. وذلك بسبب ما فيها من شوائب ، وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.

فلنقرأ ما يقوله هؤلاء عن أنفسهم في انتفاخات وادعاءات استعراضية خاوية.

فقد ادعى أعظم مفسريهم الفخر الرازي : أنه يمكن أن يستنبط من فوائد سورة الفاتحة عشرة آلاف مسألة (١٩).

كما ويدعون أن أبا بكر ابن العربي قد استنبط من القرآن بضعا وسبعين ألف علم (٢٠).

__________________

(١٩) التفسير الكبير ج ١ ص ٥ والتراتيب الادارية ج ٢ ص ١٨٣ عنه.

(٢٠) التراتيب الادارية ج ٢ ص ١٨٣.

٢٤

أما البكري ، فقد تكلم عن بعض علوم البسملة في سنين بكرة كل يوم في الأشهر الثلاثة منها. وقال في بعض مجالسه : لو أردت التكلم على ذلك العمر كله لم يف ، أو كما قال (٢١).

بل إن البكري قد تكلم في نقطة البسملة في ألفي مجلس ومائتي مجلس (٢٢).

ونقول :

حدث العاقل بما لا يليق له ، فإن لاق له فلا عقل له :

ونحن لا ندري كيف لم تظهر فرق ومذاهب من الغلاة في البكري يقدسونه ، بل ويؤلهونه ، كما غلا بعض الناس في علي عليه‌السلام حتى ألهوه؟!!

ولا ندري أيضا كيف ضاعت تلك العلوم التي نشرها البكري في محاضراته تلك؟! وكيف لم يحفظها تلاميذه وينشروها في سائر الأقطار والأمصار ، ليستفيد منها الناس ، في أمور معاشهم ومعادهم؟!!

وليت الناس قد نقلوا لنا ولو أسماء وهمية للعلوم التي استنبطها أبوبكر ابن العربي من القرآن. وتلك هي مؤلفات هذا الرجل متداولة بين الناس ، ولا نجد فيها أي رائحة لهذه العلوم. بل

__________________

(٢١) المصدر السابق.

(٢٢) التراتيب الادارية ج ٢ ص ١٨٤.

٢٥

لا نجد فيها أي تميز لها عما سواها من مؤلفات أقرانه ، ومن هم على شاكلته ، إن لم نقل : إن الآخرين أكثر براعة منه ، وأدق نظرا.

٢٦

تفسير قوله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢٧
٢٨

بداية وتمهيد :

قد عرفنا : أن البسملة هي أعظم آية في القرآن الكريم ، وعرفنا ما نقل عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام حول تفسيرها ، وما يمكن أن يقدمه للأمة من شرح قد تنامى واتسع حتى يمكن كتابة الأسفار التي تنوء بحملها العشرات من وسائل الحمل التي كانت متوفرة آنئذ.

وقد تحدث المفسرون عن أمور كثيرة ومتنوعة حول الآية الكريمة التي نرددها عشرات المرات يوميا ، وفقا لما ورد عن الشرع الشريف في ذلك ، وأكثر ما ذكروه يدخل في السياق اللغوي والتركيبي وطبيعته ومناشئه وغير ذلك.

ونحن هنا نحيل القارئ على ما كتبوه ، إن أحب الإطلاع عليه ، أما نحن فنتجه إلى منحى آخر فيما نريد أن نثيره من دلالات وإيماءات هذه الآية المباركة.

فنقول :

٢٩

البدء باسم الله :

لقد ورد في الحديث الشريف ، عن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال : كل أمر ذي بال لم يذكر فيه «اسم الله» أو «بسم الله» فهو أبتر (٢٣).

وفي حديث آخر : كل امر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر (٢٤).

وعن أبي هريرة عنه (ص) : كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عزوجل فهو أبتر. أو قال : أقطع (٢٥).

والسؤال هنا هو : لماذا يطلب منا أن ننظر إلى البسملة ، أو فقل : أن نتعامل مع بسم الله الرّحمن الرّحيم ، على أنها جزء من كل أمر ذي بال (أي شأن)؟.

ثم ما هي المعاني التي يريد الله أن يلقننا إياها من خلال التركيز على البسملة ، ويطلب منا أن نعيشها الى درجة أن تصبح جزءا من حياتنا وممارساتنا؟

__________________

(٢٣) التفسير المنسوب للعسكري (ع) ص ٢٥ والبحار ج ٨٩ ص ٢٤٢ وج ٧٣ ص ٣٠٥ وتفسير البرهان ج ١ ص ٤٦.

(٢٤) التفسير الكبير للرازي ج ١ ص ٢١٣ وجامع الأخبار والآثار ج ٢ ص ٦٦ عنه.

(٢٥) مسند أحمد بن حنبل ج ٢ ص ٣٥٩.

٣٠

إن مما لا شك فيه أن ثمة معان جميلة ومميزة ولطائف ومعارف في بسم الله الرّحمن الرّحيم ، يريد تعالى منا أن ندركها بعمق ، وأن نتفاعل معها بوعي ومسؤولية ، فما هي تلك المعاني؟ ، وهل يمكننا نيلها أو نيل بعضها ولو بدرجة متواضعة؟.

إننا قبل كل شئ نشير الى ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه‌الله من أن الناس ربما يبدءون في عمل ، أو يحققون إنجازا فيقرنونه باسم عزيز على قلوبهم ، أو كبير من كبرائهم ، ليكتسب عملهم بذلك شرفا ، أو بركة ، أو ليخلدوا اسم ذلك العزيز ، أو الكبير ويبقى ببقاء ذلك العمل. ومن هنا نجدهم يسمون انسانا أو مؤسسة ، أو غير ذلك بإسم من يحبونه ، أو يعظمونه ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد. لأن بقاء المسمى ـ والحالة هذه ـ نوع بقاء للاسم ثم لصاحب الإسم الحقيقي ، ومن هذا القبيل من يسمي ولده باسم والده تكريما لذلك الوالد (٢٦).

ونقول :

إننا لا ننكر : أن الأمر ينتهي إلى التشريف ، والتكريم والبركة. ولكن الأمر بالنسبة لإعتبار البسملة جزءا من كل أمر لا يقتصر على هذه الاعتبارات التي يتعامل معها الناس بالطريقة

__________________

(٢٦) تفسير الميزان ج ١ تفسير البسملة.

٣١

العامية والسطحية ، بل هو يتجاوزه ليكون على مستوى الطريقة الإلهية ، التي تمثل العمق والأصالة والدقة.

وذلك لأن كلامنا يريد البركة ويتطلبها. وهي تعني الزيادة والنمو والتكامل المعنوي والمادي. ولكننا حين نجد أنهم عليهم‌السلام قد طلبوا منا أن لا ندع البسملة في أي شيء صغيرا كان أو كبيرا (٢٧) ، وبدونها سيكون مبتورا وناقصا. فإن ذلك يعني أن الأمر ليس مجد بركة وشرف وتكريم ، بل هو أكبر من ذلك وأهم.

ويلفت نظرنا هنا قوله (ص): " لا يبدأ فيه" ولم يقل : ليس معه ، أو : لم يسبقه.

النقص في البداية وفي النهاية :

ولا بد أيضا من التوقف والتأمل في هذا التقابل الذي يقرره هذا الحديث ؛ حيث فرض أن البدء من جهة هو نفسه الذي يوجب النقص أو الكمال في الجهة المقابلة.

مع أنك إذا قلت : إذا لم تفعل الأمر الفلاني ، فان عملك سيكون ناقصا ، فان نقصه إنما يكون من جهة نفس عدم فعلك للأمر الفلاني المشار إليه آنفا. ولكن الأمر هنا ليس كذلك ، فإن النقص للبسملة إنما جاء في جهة أول الفعل ، والبتر والنقص قد

__________________

(٢٧) راجع : البرهان في تفسير القرآن ج ١ ص ٤٥ ـ ٤٦ وتفسير الإمام العسكري (ع) ص ٢٢ والبحار ج ٨٩ ص ٢٤٠.

٣٢

جاء في آخره ؛ لأن المبتور هو مقطوع الآخر أو الذنب ، والأقطع هو مبتور اليد.

ونقول :

إن نقصان آخره إنما هو من حيث إنقطاعه عن البقاء والدوام ، فهو أبتر لانقطاع آخره.

ولعلنا نستطيع أن نفهم مبرر هذا الأمر في ذكر مثال تقريبي هو : إن الله تعالى يقول : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٨). وقال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٢٩).

فقد يقول قائل : ان المراد بوجه الله هو الله تعالى نفسه ، فكأنه قال : ويبقى الله ذو الجلال والإكرام. وكأنه قال : أينما تولوا فثم الله تعالى نفسه.

ولكن هذا التفسير يبقى غير كاف ولا واف بالمقصود. وذلك للأمور التالية :

__________________

(٢٨) سورة الرحمن الآيتان ٢٦ و ٢٧.

(٢٩) سورة البقرة آية ١١٥.

٣٣

١ ـ إنه لا مجال لأن يضاف الشيء إلى نفسه. فالإضافة والنسبة دليل المغايرة بين المضاف والمنسوب وهو" وجه" وبين المنسوب والمضاف إليه ، وهو" الله".

٢ ـ هذا ، بالإضافة إلى ما ورد من أن أهل البيت عليهم‌السلام هم وجه الله ، فهل يعني ذلك أنهم عليهم‌السلام هم الذات الإلهية نفسها؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

٣ ـ وإذا كان كل شيء هالك إلا نفس الذات الإلهية ، فعلى الإسلام ، وكل أعمال الخير والبر والصلاح السّلام ، لأنها كلها أيضا أشياء ، فهل هي هالكة أيضا؟

٤ ـ قال تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ، وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (٣٠) ولا معنى لفناء كل شيء مع بقاء الأشياء التي عند الله أيضا.

والتفسير الصحيح لهذه الآية ، ولآيتي سورة الرحمان والبقرة هو أن كل شيء من حيث الوجود المادي يفنى ، ولكنه من حيث الوجود المعنوي باق ، إذا كانت وجهته إلى الله سبحانه ، لأن نسبته إليه ، وكونه باتجاهه تعالى تكسبه حالة من نوع ما تجعله يبقى ويستمر بسببها ، ويشهد لذلك آيات وأحاديث كثيرة. فلنقرأ قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً

__________________

(٣٠) سورة النحل الآية ٩٦.

٣٤

مَنْثُوراً) (٣١). إذ لو كان لوجه الله لما جعله كذلك. وقوله تعالى : (أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ ، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) (٣٢).

إذن ، فكل شيء وجهته إلى الله سبحانه يكون فيه جهة بقاء ، ودوام ، وخلود. والذي لا يكون كذلك فهو هباء منثور ، كسراب بقيعة ، أبتر.

وكمثال على ما نقول : إذا تبرع أحدهم بمبلغ من المال لغير وجه الله. فمن جهة الحدوث لا شك في أن ذلك قد حدث. ولكن من جهة البقاء فليس ثمة ما يوجب بقاءه ؛ لأنه يفقد عنصر البقاء. وذلك مثل العدالة التي هي شرط في إمام الجماعة. ولكن مجرد حدوثها فيه لا يكفي بل لا بد من بقاء تلك العدالة واستمرارها ، بحيث لو فسق في آخر جزء من الصلاة ، فان الصلاة تبطل بجميع أجزائها.

الباء للاستعانة أم للملابسة :

وعن سؤال : هل الباء للمصاحبة؟ أم للاستعانة ، أم للتعدية ، أم لمجرد الملابسة؟ أم لغير ذلك؟

__________________

(٣١) سورة الفرقان آية ٢٣.

(٣٢) سورة النور آية ٣٩.

٣٥

نجيب : أن بعض المفسرين رجحوا أنها للاستعانة ، وذلك لأن الإنسان مفتقر بذاته ، محتاج إلى الغني بذاته. ونحن نرجح أنها للملابسة ، وذلك لأننا إذا رجعنا إلى حديث : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر ، فإننا ندرك : أن الباء ليست للمصاحبة ، أو الاستعانة ، أو لغير ذلك وإنما هي لمجرد الملابسة ، لأن قوله : لا يبدأ فيه ، إنما يعني أن البسملة جزء من الأمر الذي نعمله ، وإلا لكان اللازم أن يقال : كل أمر ذي بال لا يستعان فيه أو لا تصاحبه. وجزئية البسملة هذه لا تتلاءم إلا مع كون الباء لمجرد الملابسة.

لماذا التركيز على الاسم؟

ومن الملاحظ : أن الحديث هنا قد جاء عن الاسم.

وأيضا : ان الآيات القرآنية ، تهتم بالاسم وتسلط الضوء على الأسماء ، باستثناء البعض من تلك الآيات التي تعدت ذلك إلى الحديث عن الذات الإلهية المقدسة.

فاقرأ مثلا قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (٣٣) و (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٣٤)

__________________

(٣٣) سورة العلق الآية ١.

(٣٤) سورة الواقعة الآية ٧٤.

٣٦

و (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٣٥).

فلماذا هذا التركيز والاهتمام بالاسم والأسماء؟

ونجيب بسؤال : هل نحن قادرون ـ بالنسبة للذات الإلهية ـ على استكناه حقيقة المسمى وتصوره؟

بل هل نستطيع : أن نتصور كنه أسمائه تعالى ، فضلا عن المسمى؟

الجواب : طبعا ، لا.

ان غاية ما نتصوره هو الحد الأدنى والجانب الميسور والقريب من الاسم والقادر على أن يشير إلى المسمى إشارة خفيفة وبسيطة تكفي لأن تجعلنا نتضرع إلى الله به ، لأنه يعطينا هذا المستوى من الإدراك. وهو سبحانه يقبل ذلك منا : لأننا غير قادرين على أكثر منه. وقد أمرنا بالابتعاد عن التعمق في التفكير في ذات الله سبحانه (٣٦) لأنه أمر فوق العقل.

وهكذا يتضح : أنه لا مبرر لما يقوله بعضهم من أن الاسم هو عين المسمى ، وكذلك العكس .. ويزيد من وضوح عدم صحة ذلك أنه لا ينسجم مع قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى

__________________

(٣٥) سورة الأعراف الآية ١٨٠.

(٣٦) راجع البحار ج ٢ ص ٢٥٩.

٣٧

فَادْعُوهُ بِها) (٣٧) حيث جعل الله الأسماء الحسنى وسيلة إلى ندائه تعالى ـ ان كان المعنى : نادوه بها ـ أو وسيلة للتوصل إلى نيل رضاه سبحانه ، فلو كان الاسم عين المسمى لم يصح الأمر بدعاء الله بها ، ولم يصح إضافتها ونسبتها إليه تعالى.

الأسماء الحسنى وسيلة الدعاء

أما لماذا طلب منا سبحانه أن نجعل أسماءه الحسنى وسيلة دعائنا له؟ أو لماذا طلب منا أن ننادي الله بواسطة أسمائه الحسنى؟ كقولك خاطب زيدا باسمه ، مقابل خطابه بلقبه مثلا.

فلأن الاسم قد وضع لمعان حسية ، أو قريبة من الحس. أريد منها هنا أن تعبر عن معان راقية وعالية ، وبمقدار ما تترقى مدارك واستعدادات البشر وتتنامى ، فان ذلك يؤثر على مستوى ودرجات فهمهم ونيلهم لتلك المعاني السامية ، وتتفاوت درجات انكشافها لهم. فإذا سمعنا كلمة رؤوف ، رحيم ، كريم ، قوي ، الخ .. مضافة إلى الذات الإلهية فإن كلامنا يفهم درجة من تلك الرأفة والرحمة و.. أما حقيقة رحمته تعالى وكرمه وقوته ، فلا يمكن لنا إدراكها ..

__________________

(٣٧) سورة الأعراف الآية ١٨٠.

٣٨

ومن جهة أخرى : إننا نتعامل مع هذه الأسماء من خلال مزيج من الإدراكات العقلية ، والفطرية ، مع الأحاسيس والمشاعر الفطرية والوجدانية. فهي ليست أسماء ذات طابع عقلي فلسفي محض ..

فصفات العزيز الجبار ، الرحيم الشافي ، التواب ، الحنان الخ .. هي أسماء تحاكي الفطرة وتناجيها ، وتناغيها ، وتلامس الضمير والوجدان ، وتثيره ، وتشعر من خلالها بأنك قريب من الله ، مع انك لا تستطيع أن تدرك نفس الذات.

ومن هنا نعرف السر في أنه تعالى قد أمرنا أن ندعوه بواسطة تلك الأسماء ، وأن نجعلها وسيلتنا في الدعاء ، لأننا حينما نتوجه إليه بالدعاء نكون بأمّس الحاجة إلى الإحساس والشعور به عزوجل .. لا أن ندركه ونتصوره ، فان ذلك ليس هو المهم. وتلك الأسماء توفر لنا ذلك الشعور العميق المفعم بالمعاني الحية ، والمثيرة لكوامن الإحساس به وبوجوده ، وبالحاجة إليه ، وبالضعف أمامه ، وغير ذلك من معان توحي لنا بها تلك الأسماء. انها تجعلنا نتفاعل معه ، ونعيش في رحابه ، وننطلق في آفاقه ، وتترك آثارها على كل وجداننا ، وعلى حياتنا العملية ، على حركتنا وموقفنا وسلوكنا مع الناس ، ومع أنفسنا ، انها تحل مشاكلنا النفسية ، والروحية ، من حيث انها توحي إلينا بالمعاني التي نشعر أننا بحاجة لأن نتلمسها ونعيشها ، ونشعر أنها أدواتنا التي توصلنا إلى ما نطمح

٣٩

إليه ، وتحقق لنا ما نريد من دون حاجة إلى دليل عقلي أو فلسفي ، أو منطقي برهاني.

ان كل ذلك لا يمكن أن تحققه لنا قناعات فكرية ، أو معادلات رياضية ، أو براهين فلسفية.

فهذه الأسماء إذن توصلنا في موضع الخوف ، والرجاء ، والضعف والحاجة إلى الله سبحانه ، وتصلنا به من أقرب طريق ، وأصفاه.

الله :

أما بالنسبة للفظ الجلالة" الله" فهو اسم علم للذات الإلهية المقدسة.

وقد أخطأ من قال : انه اسم لشيء عام كلي هو (واجب الوجود بالذات) ، أو اسم (للمعبود بالحق) أو ما إلى ذلك.

اذ لو كان كذلك لكان المراد من كلمة" لا اله إلا الله" لا واجب الوجود ، إلا واجب الوجود ، أو لا معبود بالحق إلا المعبود بالحق.

ويدل على ذلك أيضا ما أشار إليه السيد العلامة الطباطبائي رحمه‌الله تعالى ، من أن لفظ الجلالة يوصف بجميع الأسماء الحسنى ، ولا يصح أن يقع هو وصفا لأي واحدة منها.

٤٠