تفسير سورة الفاتحة

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة الفاتحة

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٢١

كما أن اعتقادهم بنبوة النبي لم يكن يمثل لهم مشكلة كبيرة أيضا. وما اسهل عليهم أن يعتقدوا أن محمدا يكلّم من السماء لو كان الأمر يقتصر على ذلك. بل لقد عرضوا على النبي (ص) أن يملكوه عليهم ، ويعطوه الأموال ، ويزوجوه من شاء. فالقضية إذن بالنسبة إليهم ليست قضية الجاه والمقام النبوي للنبي (ص) ، وحسب.

ولكن المشكلة كل المشكلة ، والكارثة الحقيقية بالنسبة إليهم ، وعلة العلل في رفضهم الانقياد للنبي (ص) هي الاعتقاد بالمعاد ، وبيوم الدين ، والجزاء والحساب ، والثواب والعقاب ، وهي المشكلة التي تحدث عنها الله هنا بقوله" مالك يوم الدين".

ولا يقتصر ذلك على المشركين بل يشاركهم اليهود في هذا الأمر أيضا. فإن حاكمية الله ليوم الدين هو الموضوع الأكثر حساسية ، والأكثر إثارة لهذين الفريقين من الناس ، لأنه هو الموضوع الأكثر حيوية ، وملامسة لحياة الإنسان ، بكل تفاصيلها حتى أخص الخاص منها.

لأن الاعتقاد بالحساب وبالدينونة يقتضي منهم أن يرتبوا حياتهم من جديد ، بطريقة تؤدي إلى السلامة الحقيقية في يوم الدين. ويخرج القرار من يدهم في كبير الأمور وصغيرها ، ويجعلهم ملزمين بامتثال أوامر الله ، الذي عرفوا بعضا من صفات ألوهيته وربوبيته ، ككونه حيا قيوما ، عالما ، قادرا ، رازقا الخ ..

١٠١

إن هذا الاعتقاد يخلق لدى الإنسان شعورا مختلفا (لا يخلقه الاعتقاد بالتوحيد ، أو بالنبوة ، أو بغير ذلك) وهو اعتقاد له آثار عملية ، لأنه يجعل الإنسان يشعر بأنه مطالب ومحاسب ومسؤول عن كل ما يصدر منه ، وليس حرا في أن يفعل كل ما يحلو له ، بل عليه أن يعيد النظر في كل كبيرة وصغيرة في حياته ، حتى في أموره الاعتقادية في أدق تفاصيلها ، وفي سلوكياته ، في صغيرها وكبيرها على حد سواء ، وفي مشاعره ، وعلاقاته ، وارتباطاته العاطفية ، وفي كل شأن ، وفي كل شيء يمكن أن يطالب به في يوم الحساب.

ومن خلال الاعتقاد بيوم الدين ينفتح هذا الإنسان على الله ، وعلى صفاته. خصوصا : عليم ، جبار ، منتقم ، عزيز .. لمن يكون طاغيا مستكبرا ، متمردا وقاسيا. فيتراجع : ليدخل من باب الرحمان الرحيم إلى : التواب الغفور ، الودود وينتهي إلى الحمد على تربيته ورعايته له ، وينال الشعور بالأمن مع الله ، ومع صفة المؤمن ، والبر ، والسّلام.

وإن لم يتراجع هذا الإنسان. فلسوف يعيش حالة الإحباط ، واليأس ، والخسران أمام صفات المنتقم ، الجبار ، العزيز الخ ..

فالاعتقاد بيوم الدين هو الأساس ، في شعور الإنسان بالمسؤولية عن التغيير في كل حياته ، وليدخل في دائرة التعبد والانقياد الحقيقي لله ، والانصياع لكل أمر ونهي ونفي أي عبودية

١٠٢

لغيره تعالى : من شخص أو مقام ، أو مال ، أو هوى ، أو صنم ، أو أي شيء له تأثير بدرجة ما على سلوك ومواقف الإنسان ، حيث لا بد أن يكون التأثير لله وحده ، والعبودية الخالصة له تعالى دون غيره. ثم يطلب الاستعانة المطلقة به ، والهداية منه كما سنوضحه.

ولهذا نجد أنهم حينما ظهر الإسلام في مكة ، كانت ثورتهم الحقيقية والعارمة ضد الإيمان بالمعاد والجزاء والقيامة. لأنها تستهدف التغيير الكامل والشامل في كل شيء في حياتهم. ومما زاد في حنقهم أنهم رأوها تجد آذانا صاغية لدى الكثيرين ، فزاد خوفهم ورعبهم. ولذلك نجد أن القرآن الكريم لم يزل يؤكد على البحث والجزاء والقيامة. ويضرب لهم الأمثال الإقناعية لذلك ولا يزيدهم ذلك إلا إصرارا وجحودا وعنادا.

قال تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٩٤).

وقال سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٩٥).

__________________

(٩٤) سورة المؤمنون ، الآية ٣٧.

(٩٥) سورة يس ، الآية ٧٩ و ٧٨.

١٠٣

وقال عزوجل : (أَوَلَمْ يَرَوْا : أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٩٦).

وقال عز شأنه : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ، وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (٩٧).

ثم بيّن سبحانه سبب إنكارهم ليوم القيامة ، فقال : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ. فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ..) (٩٨).

إذن ، فهم ينكرون يوم القيامة ؛ لأنهم يريدون أن يبرروا فجورهم وانحرافهم ، وكل تصرفاتهم. وأن يبرروا إصرارهم على مواصلة هذا الفجور في المستقبل.

وبعد كل ما تقدم فإننا نعرف سبب شدة اليهود والمشركين في عداوتهم لأهل الإيمان. قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ

__________________

(٩٦) سورة الأحقاف ، الآية ٣٣.

(٩٧) سورة يس ، الآية ١٢.

(٩٨) سورة القيامة ، الآيات ١ ـ ٧.

١٠٤

عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (٩٩). فإن توراتهم تلك المحرّفة لم تتعرض ليوم القيامة أبدا. نعم قد تحدثت في مورد عن وادي الهلاك. ولذلك نجد أن اليهود عموما لا يعتقدون بيوم القيامة ، والذين يعتقدون به منهم فإنهم ليس لديهم بالأمر الواضح في مغزاه ومرماه وفي تفاصيله. ولذا فإن اليهود يرون أن خسارتهم للدنيا لا يعوضها شيء ، فكانت الدنيا كل همهم ، وكانوا : (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) (١٠٠) مهما كانت تافهة وحقيرة.

ثم جاءت تعاليمهم لتزيد من غرورهم ، ومن إحساسهم بفرديتهم التي عبّر عنها القرآن بقوله : (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (١٠١). فزاد ذلك من حبهم للدنيا ، وزاد من كرههم لأهل الإيمان ؛ لأنهم هم الذين تخلوا عن خصوصياتهم الفردية ليذوبوا في المجتمع ، وليكونوا قوة حقيقية يخشاها اليهود أشد الخشية ، ولذلك عادوها أشد العداء حتى أكثر من عداء المشركين. ولذلك ذكرهم الله قبل أن يذكر المشركين : اليهود والذين أشركوا.

__________________

(٩٩) سورة المائدة ، الآية ٨٢.

(١٠٠) سورة البقرة ، الآية ٩٦.

(١٠١) سورة الحشر ، الآية ١٤.

١٠٥

ويلاحظ أنه لم يقل : اليهود ، والمشركون. وذلك ليشير إلى أن الشرك قد جاء على خلاف الفطرة ، وقد خرجوا بشركهم عن فطرة الله باختيارهم.

أي أنواع المالكيات لله تعالى؟

وأما لماذا قال تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). ولم يقل : المحاسب أو المجازي يوم الدين.

فالجواب هو : أننا نجد أن المالكية على أنواع :

المالكية الاعتبارية : وهي التي تنشأ من تصميم العقلاء الذي لهم صلاحية إنشاء اعتبار كهذا ، فوجود هذا النوع من المالكية قائم بوجود الاعتبار والقرار. وينشأ عنه إطلاق التصرف للمالك في مورد اعتبار الملكية ، وهذه التصرفات يمكن تحديدها بحدود وتقييدها بقيود ، كمنع الإسراف ، أو الإتلاف ، أو التعذيب لذي الروح من دابة أو عبد مملوك.

ويمكن سلب الاعتبار عن أنواع بخصوصها ، كالميتة ، والخمر وغير ذلك.

أما بالنسبة لمورد الاعتبار فهو من حيث القيمة :

قد يكون غير ذي قيمة بنظر العرف. وليس ملكا ، كحبة تراب في صحراء ، حيث لا يملكها أحد ، أو كقطرة من ماء البحر.

١٠٦

قد يكون ملكا ومالا ، ولكنه لا قيمة له ، كحبة تراب أو حبة قمح في أرض زيد من الناس ، فإنها ملك له ، ولكنها لا قيمة لها بنظر الناس.

قد يكون له قيمة ، وهو ملك ، ومال ..

ومن جهة أخرى ، فإن منشأ القيمة يختلف أيضا :

حيث إن قيمته قد تكون ناشئة من محض اعتبار العقلاء ، لأغراض خارجة عن حقيقته وذاته. كغرض التسهيل في المعاملات أو لغير ذلك. فيعطونه القيمة أو ينزعونها لأجل ذلك. وذلك مثل الأوراق النقدية ، فإن ماليتها وملكيتها متقومان باعتبار من لهم صلاحية إنشاء اعتبار كهذا. وهم الذين يتحكمون في مستوى هذه القيمة ، التي قد تعلو في يوم ، وقد تنخفض في يوم بصورة كبيرة وخطيرة. وقد تزول بالكلية في يوم آخر ، مع أن الورقة النقدية لا تزال هي ذاتها لم تتبدل ، ولم تتغيّر.

قد تكون قيمة المورد كامنة في داخل ذاته وحقيقته ، بسبب ما له بنفسه من دور حقيقي في حياة الإنسان ، وبسبب الحاجة الواقعية إلى الاستفادة من الخصوصية القائمة في ذاته. فليست قيمته إذن ناشئة من مجرد الاعتبار والجعل. وذلك مثل البيت للإنسان ، ومثل الغذاء والدواء ، واللباس له. فالحاجة الواقعية إليه وخصوصيته الكامنة فيه ، والتي يتطلبها الإنسان هي التي أعطته القيمة ، ثم اعتبر من له حق الاعتبار والجعل هذا الشيء ذا القيمة

١٠٧

ملكا لهذا الإنسان. وأطلق له التصرف فيه في الحدود والقيود المعقولة ، والمقبولة. التي لا توجب حيفا على الآخرين. ولا توجب إحداث أي خلل في مسار الحياة ، في مختلف جوانبها وحالاتها.

وهذا القسم هو الأهم من الأقسام التي سبقته.

المالكية الطبيعية : هذا النوع من الملكية أعمق ، وأقوى من سابقه ، بجميع أقسامه. وذلك لما فيه من شدة الاختصاص ، وقوة العلاقة ، وعمق الحاجة. مع التذكير بأن هذه العلاقة والاختصاص ، لا تنشأ من الاعتبار ، ولا من الحاجة أيضا. بل هي حالة واقعية ذاتية يبررها الحاجة إلى الكمال ، وإلى فيض الوجود وتطلّب الكمال فيه. وذلك مثل ملكيتك ليدك ، ولرجلك ، ولعينك ، ولغير ذلك من جوارحك. وهذه الملكية قد تخضع لبعض الحدود والقيود ، وقد تتوقف وتلغى من الجهة الأقوى ، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

المالكية الحقيقية : التي تحدثت عنها الآية الشريفة : " مالك يوم الدين" وهي المالكية الثابتة والراسخة ، التي لا ينالها ضعف ، ولا وهن ، ولا تقبل الانتزاع ، ولا الاعتبار ولا التصرف أو التحديد ، والتقييد فيها.

وهي المالكية المنبثقة عن ألوهيته تعالى ، وربوبيته وخالقيته لكل ما في هذا الوجود ، وإحاطته به وهيمنته الحقيقية وسلطته

١٠٨

عليه الدائمة والثابتة ، وهي ألوهية وربوبية ثابتة ، ورعاية دائمة ، وفيض مستمر ، يكون به قوام الوجود واستمراره. وهذا ما يفسر عمق هذا المالكية وثباتها ودوامها ورسوخها ، ويشير إلى حقيقتها وكنهها.

وهو أيضا يجعلنا نفهم بعمق حقيقة : أنه تعالى مصدر كل المالكيات الأخرى. فهو يعطيها ، وهو يلغيها ، متى شاء وكيف شاء. قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٠٢).

وقال سبحانه : (مالِكَ الْمُلْكِ ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) (١٠٣).

وقال جل شأنه : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٠٤).

وقال تعالى : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) (١٠٥).

نعم ، إن كل المالكيات الأخرى تزول وتتلاشى ، حتى ملكيتنا ليدنا ولسائر جوارحنا. فلا يملك أحد لأحد ضرا ولا

__________________

(١٠٢) سورة غافر ، الآية ١٦.

(١٠٣) سورة آل عمران ، الآية ٢٦.

(١٠٤) سورة الانفطار ، الآية ١٩.

(١٠٥) سورة يونس ، الآية ٣١.

١٠٩

نفعا ، ولا يملك أن يدفع عن نفسه ، ولا عن غيره بيد ، ولا بلسان ولا بموقف ، ولا برأي ولا بغير ذلك ويكون الله سبحانه فقط هو المتصرف والمهيمن ، والمحاسب ، والمجازي .. الخ ..

إن أحدا يوم القيامة لن يكون قادرا على التصرف بماله ، ولا بقوته ، ولا بمنصبه ، ولا بموقعه الاجتماعي ، أو السياسي ، ولا بلسانه ، ولا بيده ، ولا بغير ذلك.

فلله إذن حق التصرف في كل شيء كيفما شاء وحسبما يريد ، ومن هنا يتضح أن كلمة" المجازي" أو" المحاسب يوم الدين" ليست هي الاختيار الأصلح ولا الأنسب في الآية الكريمة.

يَوْمِ الدِّينِ

وأما بالنسبة لكلمة" يوم الدين" فإننا نقول : إنها تشير إلى الجزاء ، وإلى الهيمنة الجزائية العادلة. لأنها فرضت وجود دين وجزاء مقابل عمل فهي إذن ليست هيمنة عشوائية ظالمة ومعتدية ، ومتسلطة بلا مبرر.

وهي كذلك توحي بوجود عمل صحيح تارة وعمل فاسد تارة أخرى ، لا بد أن يستتبع في كل حالة ما يناسبها ؛ وهذا إيحاء بالعدل ؛ فلا يريد الله أن يظلم أو يعتدي على أحد. بل يريد أن يجازيك بحسب عملك ؛ فأنت السبب في كل ما يجري لك وعليك ، إذ كما تدين تدان. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً

١١٠

يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١٠٦) و (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (١٠٧).

إذن فكلمة" الدين" تشير ولو بطرف خفي إلى هذا العدل. فهي إذن هنا أنسب من كلمة" القيامة" أو" يوم الحساب" ونحو هما لا سيما بعد تلك المسيرة الطويلة عبر النعم والألطاف الإلهية ، بدء من بسم الله الرحمن الرحيم ، وانتهاء بصفتي الرحمانية والرحيمية.

لأن هذا" الدين" قد استبطن العدل من موقع كونه تعالى ، حكيما. فإذا دخلت إلى محكمة يوم الدين من باب الرحمانية والرحيمية ، فإن باستطاعتك أن تجعل نتيجة هذه المحكمة لصالحك. إذا كنت ممن يستحق الرحمة.

مالكية الله سبحانه للدنيا :

وأما لماذا لم يشر الله سبحانه هنا إلى مالكيته للدنيا أيضا ؛ فقد تقدم : أنه تعالى بعد أن أشار إلى رعايته وتربيته للعالمين من موقع الربوبية ، قد أراد أن ينقل هذا الإنسان إلى يوم الجزاء ، حيث يجد نفسه فاقدا لأي لون من ألوان المالكية. ولا يمكنه إلا أن ينقاد لإرادة الله سبحانه ، حيث تجري عليه أحكامه.

__________________

(١٠٦) سورة الزلزال ، الآيتان ٧ و ٨.

(١٠٧) سورة الرحمن ، الآية ٦٠.

١١١

أضف إلى ذلك : إن الله سبحانه قد جعل للإنسان حرية واختيارا في الحياة الدنيا ، فلو أنه تعالى تحدث عن مالكيته فيما يرتبط بهذه الحياة فلربما توهم بعضهم من ذلك : إن ثمة نوعا من الجبرية الإلهية ، وإن الإنسان حين يستخدم إرادته واختياره يكون قد تمرد على الله ، واجترأ عليه. إذن فالتجلي للمالكية الإلهية يكون في يوم القيامة ، حيث لا يملك الإنسان لنفسه نفعا ولا ضرا (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

الدين هو الجزاء :

أما ما ورد عن الأئمة عليهم‌السلام من : أن الدين هو الحساب. فمن الواضح : أنه من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم ، فإن الدين هو الجزاء ، ثوابا على الإحسان ، وعقابا على الإساءة ، والجزاء إنما يكون بعد الحساب.

يوم :

ويبقى هنا سؤال :

إنه إذا كان اليوم هو مجموع الليل والنهار ، وإذا كانت الشمس في يوم القيامة سوف تكور (أي يذهب ضوؤها) ولا يبقى ليل ولا نهار ، فأي معنى يبقى لكلمة" يوم" في قوله : يوم الدين؟!

والجواب عن ذلك : أن كل حادث زماني يبقى زمانيا. سواء في الدنيا أو في الآخرة. والمراد باليوم هو القطعة من الزمان

١١٢

(ولا يجب أن يشتمل الزمان على ليل ونهار) وقد تكون القطعة طويلة وقصيرة. قال تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (١٠٨). وقال : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١٠٩).

واليوم الذي فيه الليل والنهار هو اليوم الدنيوي. بل إننا حتى في اليوم الدنيوي نجد أماكن يكون فيها الليل بمقدار ستة أشهر. بل قد يقال : إن بعض الأماكن لا تغيب عنها الشمس أبدا ، أو تغيب عنها بمقدار ساعة واحدة مثلا. فإذا أراد سكان تلك البلاد أن يمارسوا عباداتهم من صوم وصلاة مثلا ، فإن عليهم أن يراقبوا حالة أقرب البلاد إليهم ويعملوا على هذا الأساس.

ومن جهة أخرى فإن لغة القرآن هي العربية ، وهي اللغة التي وضع الناس مفرداتها للدلالة على أمور حسية في بداية الأمر ، ثم وضعوا ألفاظا للدلالة على المعاني القريبة من الحس. وهي التي يتلمسون آثارها ، ويحسون بها. ثم بدأوا يتوسعون في استعمالاتهم لها إلى ما هو أبعد وأدق ، وذلك بواسطة المجازات والكنايات والجري والانطباق ، والاستعارات ، وبواسطة تركيب الألفاظ بطريقة معينة ، لتدل على المعاني المطلوبة. فاستعمال كلمة يوم في

__________________

(١٠٨) سورة المعارج ، الآية ٤.

(١٠٩) سورة الحج ، الآية ٤٧.

١١٣

القطعة من الزمن الممتد ، الذي لا يشتمل على ليل ولا على نهار لا غضاضة فيه. وهو اللغة التي يمكن أن تستخدم لتعريف الناس بحقيقة ما يجري في تلك البرهة الحاسمة من تاريخ الإنسان الذي يقدم عليه.

مالك أو ملك :

وأخيرا : فإننا نلفت إلى ما يقوله بعضهم : من وجود قراءة أخرى لكلمة مالك ، فيقرؤونها" ملك يوم الدين". فقد ذكرنا في كتابنا" حقائق هامة حول القرآن" ما يفيد : أن القراءات إن كانت بمعنى اختلاف لهجات القبائل في كيفية التلفظ بالحروف ، مثل : حتى حين ، وعتى حين. دون أن تختلف الصورة ، وبلا تبديل للكلمات بغيرها ، ودون زيادة ولا نقيصة. فهذه القراءات تكون مقبولة إن كانت قد أمضيت من قبل النبي (ص) والأئمة عليهم‌السلام.

أما القراءات بمعنى التصرف بالصيغ ، أو بمعنى تبديل الكلمات بغيرها ، أو بالزيادة والنقيصة ، فهي مرفوضة. وغير صحيحة. وهي إحدى مظاهر القول بتحريف كتاب الله سبحانه الذي لا يصح بأي وجه من الوجوه.

وقراءة ملك في هذه الآية توجب اختلافا بل اختلالا أساسيا في المعنى ، فلا مجال لقبول ذلك ولا للسكوت عنه ، حيث

١١٤

إنه ينتهي إلى ذلك المحذور الكبير والخطير ، الذي دل الدليل القاطع على بطلانه وزيفه.

الخلود في العذاب ، والعدل :

وعن سؤال : إنه كيف يمكن فهم قضية العدل في الجزاء ، ونحن نرى : أن الكافر إنما عاش كافرا في الدنيا لمدة محدودة ، وهي مئة سنة مثلا ، فكيف يعاقب على كفر مئة سنة ، بخلود دائم في العذاب الأليم؟!

نجيب :

صحيح : أن الكفر والقتل وغيرها قد حصل في زمن محدود ، لكن ذلك الكفر والقتل قد أوجد ثغرة في سلامة المجتمع ، وسلامة الحياة سوف تبقى إلى الأبد ، فالقتل مثلا قد حرم المقتول من بقية حياته إلى الأبد ، والجاني حرم المجني عليه من يده أو من عينه إلى الأبد أيضا.

وهكذا سائر الجنايات والسيئات. فإنها تتسبب بعدم سوف يستمر ويبقى.

وقد كان بإمكان المجني عليه أن يتوب من ذنوب أو أن يعمل في بقية حياته ، أو بيده التي ذهبت ، أو بواسطة عينه خيرات ومبرات توجب النعيم الأبدي له ، أو النجاة من عذاب أبدي.

١١٥

فالجزاء إذن ، قد جاء على قدر جناية الجاني ، وبمقدار ما أحدثه من ثغرة في جدار سلامة الحياة. وبدون هذه الملاحظة لا يكون جزاء عادلا ، ولا هو وفق الحكمة.

١١٦

تفسير قوله تعالى :

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)

١١٧
١١٨

بداية :

قد ظهر من كل ما تقدم ، ابتداء من بسم الله ، وإلى قوله : يوم الدين : أن الله سبحانه قد أسس أساسا عقائديا متينا ، يتلمسه الإنسان في واقعه ، ويحس به بفطرته ويقضي به ضميره ووجدانه ، ويحكم به عقله ، وليس نتيجة اندفاع عاطفي أو غريزي ، ولا انقيادا لهوى ، ولا استجابة لشهوات ، أو لطموحات غير مسؤولة ، ولا هو حركة عشوائية غير منضبطة.

إنها عقيدة تستند إلى رؤية واضحة ، ونظرة عميقة وشاملة عن الكون وعن الحياة ، وعن الخلق ، وأهدافه ، وعن الخالق وصفاته وألطافه. تؤهل هذا الإنسان لأن يتحرك وينطلق مصعدا ليقوم بدور بنّاء وإيجابي وسليم مرتكزا على هذه الثوابت العقيدية الأم ، ليتلمس تفصيلات عقيدية أخرى منبثقة عنها هي الأقرب إلى التأثير بالواقع السلوك إلى درجة المباشرة أحيانا ، فيتعامل

١١٩

ويتفاعل مع كل شيء من خلالها وعلى أساسها ؛ إذن فليست هي مجرد مفاهيم عقائدية تلقينية خاوية ، لا دور فيها للعقل ، ولا للمنطق ، ولا للفطرة ولا للشعور ، ولا للوجدان ، بل هي من صميم ذلك كله ، هي حياة العقل ، وانطلاقة الروح ، ووهج الشعور ، إنها الحياة الحقيقية ، وسر الوجود.

إياك نعبد :

ولكي نقترب قليلا إلى واقع قوله تعالى : (" إِيَّاكَ نَعْبُدُ") فإننا نعود ونذكّر بالعقائد الأم ، كعقيدة التوحيد الكامل مثلا ، التي تنبثق عنها تفصيلات تقول : إنه تعالى هو وحده المؤثر ، وهو مصدر الفيض للعنايات والألطاف ، وهو وحده المستحق للعبادة.

وهذا الاعتقاد التفصيلي هو الذي يترك آثارا مباشرة ومهمة في التكوين الفكري للإنسان ، ثم في صياغة مفاهيمه. ثم هو ينعكس على الواقع المعاش سلوكا وموقفا ، له خصوصياته ومميزاته عما عداه. هذا عدا عن تأثيراته الحقيقية في تكوين الشخصية الفردية والاجتماعية للإنسان.

ويكفي أن نشير هنا : إلى أن هذا الاعتقاد هو الرافد الشعوري ، والفكري لانطلاقة الصراع مع النفس الأمارة بالسوء ، واستمرار هذا الصراع لتطويعها على ممارسة التوحيد في العبادة وفي السلوك ، لتنتج هذه العبادة أخلاقا تتناسب معها ، وإخلاصا

١٢٠