شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

الباب الثاني

شبهات حول جمع القرآن، وتفنيدها (١)

الشبهة الأولى :

إن في المصحف ما ليس بقرآن. ويمثلون على ذلك بفاتحة الكتاب والمعوذتين ؛ وحجتهم في ذلك أنّ الصحابي عبد الله بن مسعود أسقطها من مصحفه ، ومن ثم أنكرها كقرآن.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : عدم صحة النقل. فإن ما نسب إلى ابن مسعود غير صحيح ، بل ومخالف لإجماع الأمّة. ولا يعقل ، بل يستحيل أن يحصل إنكار مثل هذا من صحابي جليل كعبد الله بن مسعود صاحب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الذي كان لا يفارقه ، وشهد كثيرا من نزول الوحي ، وهو

__________________

(١) أنظر في مثل هذه الشبهة : دكتور غازي عناية ـ كتاب : هدى الفرقان في علوم القرآن. ج ا ـ ص ٢٩١ وما بعدها.

٤١

الذي عاصر نزول الوحي في معظمه ، وهو الأعلم من غيره بما هو قرآن ، وما هو ليس بقرآن. وهو الصحابي الجليل الذي عرف عنه تقواه ، وشدة غيرته على دينه ، وعلى قرآنه ؛ وبذلك فالعقلانية السليمة تقتضي بطلان ما نقل عن ابن مسعود في هذا الشأن.

قال الإمام النووي في «شرح المهذب» : «أجمع المسلمون على أنّ المعوذتين ، والفاتحة من القرآن ، وأنّ من جحد شيئا منها كفر ، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح».

وقال الإمام ابن حزم في كتاب «القدح المعلى» : «هذا كذب عن ابن مسعود ، وموضوع».

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر : «أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأهما في الصلاة».

وأخرج ابن حبّان من وجه آخر عن عقبة بن عامر أيضا : «فإن استطعت ألا تفوتك قراءتهما في صلاة ، فافعل».

وأخرج أحمد بن حنبل من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من الصحابة : «بأنّ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أقرأنا المعوذتين ، وقال له : إذا أنت صليت ، فأقرأ بهما».

وقد صح عند العلماء عن ابن مسعود نفسه قراءة عاصم ، وفيها المعوّذتان والفاتحة. وكذلك قرأ المعوّذتين حمزة ، والكسائي ، وجميع القراء السبعة والعشرة ، وغيرهم.

ثانيا : احتمال أن إنكار ابن مسعود كان قبل علمه بأنهما من القرآن. وبعد أن علم أنهما من القرآن آمن بهما ، وأخذ بهما ، وتمسك بهما. قال بعض العلماء : «يحتمل أن ابن مسعود لم يسمع المعوّذتين من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». ولم تتواتر عنده ، فتوقف في أمرهما ، وإنما لم ينكر ذلك عليه ؛ لأنّه بصدد البحث ، والنظر ، والواجب عليه التثبت في هذا الأمر».

٤٢

ثالثا : عدم صحة النقل عن ابن مسعود بأنّه أنكر قرآنية الفاتحة. وحاشا أن تكون الفاتحة قد خفيت عليه ، وهي أم القرآن ، والسبع المثاني ، ومثلها مستحيل أن يخفى على ابن مسعود. وكذلك لو صح أنّه أسقطها من مصحفه ، فلا يعني هذا أنّه ينكرها.

قال ابن قتيبة ما نصه : «وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه ، فليس لظنه أنّها ليست من القرآن (معاذ الله) ، ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب ، وجمع بين اللوحين ، مخافة الشك ، والنسيان ، والزيادة ، والنقصان».

رابعا : إن إنكار ابن مسعود لقرآنية الفاتحة ، والمعوّذتين ، لو صح ، فإنّ هذا لا ينقض قرآنيتهما ، وتواترهما ، ولا يرفع العلم اليقيني بقرآنية ما صح قرآنيته ؛ وليس من شروط تواتر القرآن ، والعلم اليقيني بثبوته ألا يخالفه مخالف حتى ولو كان من الصحابة ، وإلّا لأمكن هدم كل تواتر ، وإبطال كل علم يقيني قام عليه.

قال ابن قتيبة في «مشكل القرآن» : «ظن ابن مسعود أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن ؛ لأنّه رأى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» يعوذ بهما الحسن ، والحسين ، فأقام على ظنه ، ولا نقول إنّه أصاب في ذلك ، وأخطأ المهاجرون ، والأنصار».

الشبهة الثانية :

إنّ في المصحف آية هي من تأليف ، وكلام أبي بكر ، وهي قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) سورة آل عمران آية ١٤٤. وحجتهم في ذلك : أنّه عند ما توفي الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قال عمر بن الخطاب : «إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» توفي ،

٤٣

وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه ، كما ذهب موسى بن عمران ؛ فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل : مات. والله ليرجعن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال ، وأرجلهم ، زعموا أنّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» مات». قالوا : فقام أبو بكر ، ورد على عمر. فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت. فحمد الله ، وأثنى عليه ثم قال : «أيّها الناس» من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت ، ثم تلا الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) سورة آل عمران آية ١٤٤ وزعموا أنّها من كلام أبي بكر رد بها على عمر عند ما أنكر وفاة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

تفنيد هذه الشبهة :

إن مجرد تلاوة أبي بكر لهذه الآية في رده على عمر ، وتهدئة الناس لا يعني مطلقا ، وبهذه السذاجة ، أنّها من كلام أبي بكر تفوّه بها ، أو قالها ، وذلك من جهتين :

الأولى : إنّ جميع الصحابة ، ومنهم أبو بكر يحفظونها ، ويعلمون أنّها من القرآن ، وأنّها كلام الله تعالى ، وترتيبها في سورة آل عمران ، ونزلت قبل وفاة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ببضع سنين.

الثانية : أنّ الكثير الكثير من الصحابة يعلمون سبب نزولها ، ومكان ، وتاريخ نزولها. وقد ورد في الروايات الصحيحة أن الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) قد نزلت في غزوة أحد ، عتابا من الله تعالى على الصحابة ، لفرارهم من القتال. حيث إنّه عند ما أصيب المسلمون في غزوة أحد ، وكسرت رباعية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وشج وجهه ، وجحشت ركبته ، وشاع بين المقاتلة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قتل ؛ هنالك قال بعض المسلمين : ليت لنا رسول إلى عبد الله بن أبي بن سلول ، فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وبعضهم جلسوا. وألقوا بأيديهم ، وقال أناس من

٤٤

المنافقين : إن كان محمد قد قتل ، فالحقوا بدينكم الأوّل. فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : إن كان محمد قتل ، فإن رب محمد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ؛ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : «اللهم إنّي أعتذر إليك مما قال هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما قال هؤلاء ـ يعني المنافقين ـ ثم شد بسيفه ، فقاتل حتى قتل. وروي أنّ أوّل من عرف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» هو : كعب بن مالك فقد ورد أنّه قال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه ينافحون عنه. ثم لام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أصحابه على الفرار ، فقالوا : يا رسول الله ، فديناك بآبائنا ، وأبنائنا ، أتانا الخبر أنّك قتلت ، فرعبت قلوبنا ، فولّينا مدبرين. فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) إلى آخر الآية.

الشبهة الثالثة :

إن في المصحف آية هي من تأليف وكلام عمر بن الخطاب ، وهذه الآية (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). وحجتهم في ذلك : أن هذه من كلام عمر بن الخطاب خاطب بها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وعرض عليه أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.

تفنيد هذه الشبهة :

إن هذه الشبهة لا دليل لها ، ولا سند إليها. ويرد عليهما ما رد على شبهة أبي بكر. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فالمسلمون ، وخاصة الصحابة يعلمون أنّها من كلام الله ، ويعرفون سبب نزولها ، ومكان ، وتاريخ نزولها ، حيث قال عمر للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى» فنزلت الآية ، قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ

٤٥

إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) سورة البقرة آية ١٢٥. والفرق واضح بين لفظ عمر ، ولفظ الآية. فالآية الكريمة جاءت بلفظ الأمر ، وعلى سبيل الوجوب ، أما كلام عمر فجاء بصيغة الماضي مقرونا بالتمني ، والذي عبّر عنه بالحرف لو.

الشبهة الرابعة :

إنّ الخلفاء الراشدين الثلاثة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان حرّفوا القرآن وغيروا ، وبدلوا فيه ، وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره ، وزعم بهذه الشبهة غلاة الشيعة ، وقد استشهدوا في تأييد اتهاماتهم بأمور كثيرة منها :

١ ـ ما رووه عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله : «إنّ القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كان سبع عشرة ألف آية».

٢ ـ ما رووه ، وما رواه محمد بن نصر عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله : «أنّه كان في سورة «لم يكن» اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم ، وأسماء آبائهم».

٣ ـ ما رواه محمد بن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أن لفظ : «أمّة هي أربى من أمة» في سورة النحل ليس كلام الله ، بل هو محرف عن موضعه ، وحقيقة المنزل : «أئمة هي أزكى من أئمتكم».

٤ ـ روى بعض غلاة الشيعة أنّ هناك سورة تسمى سورة الولاية كانت في القرآن ثم أسقطت بتمامها.

٥ ـ روى بعضهم : أنّ سورة الأحزاب كانت أكثر ، ومعظمها سقط إذ كانت طويلة على مثل سورة الأنعام ، وأسقطوا منها فضائل أهل البيت.

٦ ـ ادعى بعضهم أيضا : أن الصحابة أسقطوا لفظ «ويلك» من قبل ، وأول آية : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا).

٤٦

٧ ـ ادعى بعضهم أيضا أن الصحابة أسقطوا لفظ «عن ولاية علي» من بعد الآية : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ).

٨ ـ ادعى بعضهم أيضا أنّ الصحابة أسقطوا لفظ «بعلي بن أبي طالب» من بعد (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ).

٩ ـ ادعى بعضهم أيضا : أنّ الصحابة أسقطوا لفظ آل محمد من بعد : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا).

تفنيد هذه الشبهة :

يمكننا نقض هذه الشبهة من خمسة وجوه :

الأول : إن هذه اتهامات لا دليل لها ، ولا سند إليها ، اتهم بها الصحابة «رضوان الله عليهم» زورا وبهتانا ، وما تنمّ عنه إلّا أن تكون مجرد حقد ، وضغينة ، ودسائس ، قصدوا بها تشويه أخلاقية ، وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم ، وسنتهم ، والتي قال فيها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «عضّوا عليها بالنّواجذ».

الثاني : إن بعض علماء الشيعة أنفسهم تبرءوا من هذه الاتهامات.

قال الطبرسي ، وهو من علماء الشيعة المفسرين ، والمرموقين في كتابه «مجمع البيان» ما نصه : «أما الزيادة فيه ـ أي في القرآن ـ فجمع على بطلانها ، وأما النقصان فقد روي عن قوم من أصحابنا ، وقوم من الحشوية ، والصحيح خلافه. وهو الذي نصره المرتضى ، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء».

وقال الطبرسي أيضا في تفسيره «مجمع البيان» : «أما زيادة في القرآن ، فمجمع على بطلانها ، وأما النقصان فهو أشد استحالة. وإن العلم بصحة نقل القرآن ، كالعلم بالبلدان ، والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة. فإن العناية اشتدت ،

٤٧

والدواعي توفرت على نقله ، وحراسته ، وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء فيما ذكرناه ؛ لأن القرآن مفخرة النبوة ، ومأخذ العلوم الشرعية ، والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه ، وحمايته الغاية ، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه ، وقراءته ، وحروفه ، وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيرا ، أو منقوصا مع العناية الصادقة ، والضبط الشديد».

الثالث : إنّ التواتر قد قام ، والإجماع قد انعقد على أن الموجود بين دفتي المصحف هو كلام الله ، هو القرآن من غير زيادة ، ولا نقصان ، ولا تغيير ، ولا تبديل. والإجماع سبيل من سبل الحق قويم : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ).

الرابع : إنّ الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ وهو الذي يزعمون أنّهم يتشيعون له صح النقل عنه أنّه حبذ جمع القرآن ، بل وأثنى على جامعيه : أبي بكر ، وعثمان ، فقد قال علي عن أبي بكر : «أعظم النّاس أجرا في المصاحف أبو بكر ، رحمة الله على أبي بكر هو أوّل من جمع كتاب الله». وقال عن عثمان ما نصه : «يا معشر الناس ، اتقوا الله ، وإياكم والغلو في عثمان ، وقولكم : حرّاق المصاحف ، فو الله ، ما حرّقها إلّا عن ملأ منا أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»». وقوله أيضا : «لو كنت الوالي وقت عثمان ، لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان».

الخامس : لو كانت ادعاءاتهم صحيحة ، لقام علي بن أبي طالب بعد أن استلم الخلافة ، وصحح ما حرفه الخلفاء من قبله ، ولكن هل فعل شيئا من هذا؟ هل اتهم أحدا منهم أنّه حرف ، أو غير ، أو أسقط شيئا من القرآن؟ أبدا أبدا.

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) سورة الصافات آيات ١٨٠ ـ ١٨٢.

٤٨

الشبهة الخامسة :

إنّ هناك قرآنا سقط من المصحف. ويمثلون على ذلك بكلمة «متتابعات» الواردة في مصحفي عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب «رضوان الله عليهما».

أ ـ ففي مصحف ابن مسعود وردت كلمة متتابعات في آخر آية اليمين ، وهي قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) سورة المائدة آية ٨٩. وفي مصحف ابن مسعود بزيادة. «متتابعات».

ب ـ وفي مصحف أبي بن كعب وردت هذه الكلمة متتابعات في آية الصوم ، وهي قوله تعالى. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) سورة البقرة آية ١٨٤. وفي مصحف أبي بن كعب بزيادة : «متتابعات».

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّ هذا مخالف لما ثبت نقله بالتواتر من القرآن. فإن ورود كلمة متتابعات في مصحف ابن مسعود غير متواتر ، ومنقول بالشهرة. وإن ما نقل عن مصحف أبي بن كعب منقول بخبر الآحاد ، وليس بالتواتر.

ثانيا : إن ورود كلمة متتابعات في مصحفي ابن مسعود ، وأبي بن كعب هي من قبيل التفسير ، والإيضاح ، والشرح ، والتفصيل للجمل باتفاق جميع العلماء.

ثالثا : عدم صحة الروايات المنسوبة إلى الصحابيين الجليلين.

٤٩

فلم يرد أبدا أنهما ادعيا أن كلمة متتابعات الموجودة في مصحفيهما هي قرآن ، ولم يثبت أنهما قصدا بنيتهما أن هذه الكلمة من القرآن.

رابعا : إنّ الادعاء بأن كلمة متتابعات من القرآن هو في حد ذاته مخالف لإجماع الأمة. ولا يعقل أبدا أن ينفرد هذان الصحابيان بقرآن مثل هذا يدعيانه خروجا على إجماع الأمة والصحابة.

الشبهة السادسة :

إن الصحابي أبي بن كعب أسقط من المصحف دعاء كان يتلى. وكان يتلوه ، وكان يسميه سورة الخلع والحفد ، وهو : «اللهم إنّا نستعينك ، ونستهديك ، ونستغفرك ، ونتوب إليك ، ونؤمن بك ، ونتوكل عليك ، ونثني عليك الخير كله ، نشكرك ، ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إيّاك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ، ونخشى عذابك ، إنّ عذابك الجد بالكفار ملحق».

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : عدم صحة ما نقل عن أبي بن كعب أنّه أثبت هذا الدعاء في مصحفه على أنّه قرآن. وكونه أنّه أثبته في مصحفه لا يعني أنّه اعتبره قرآنا ، ولم تقم الحجة عليه أنّه قرآن ، ولو كان ذلك لكان أبي بن كعب أعلم به من غيره.

قال صاحب «الانتصار» ما نصه : «إن كلام القنوت المروي عن أبي بن كعب أثبته في مصحفه ، ولم تقم الحجة بأنّه قرآن منزل ، بل هو ضرب من الدعاء ، وأنّه لو كان قرآنا لنقل إلينا نقل القرآن ، وحصل العلم بصحته».

٥٠

ثانيا : من المحتمل أن يكون دعاء القنوت كلاما من القرآن منزلا ، ثم نسخ ، وأبيح الدعاء به ، وخلط بما ليس بقرآن. أما ما روي أنّه أثبته في مصحفه كقرآن ، فهذا لا دليل له.

قال صاحب «الانتصار» ما نصه : «ويمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزلا ، ثم نسخ ، وأبيح الدعاء به ، وخلط بما ليس بقرآن ، ولم يصح ذلك عنه ، إنّ ما روي عنه أنّه أثبته في مصحفه».

ثالثا : إن الادعاء بأن أبي بن كعب أثبت دعاء القنوت في مصحفه على أنه قرآن ادعاء باطل يعوزه الدليل ، وتنقصه الحجة ، ويفتقد إلى السند ، فالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أعلم من غيرهم بالقرآن ، وما أثبتوه أجمعوا عليه حفظا ، وتلاوة ، وكتابة ، وتواترا فليس من العقلانية السليمة بشيء الاعتقاد أنّ صحابيا مثل أبي بن كعب قد خرج عن هذا ، وانفرد دون الصحابة بالادعاء بأن دعاء القنوت قرآن ، وحاشا أن يفعل ذلك صحابي جليل هو أبي بن كعب.

الشبهة السابعة :

إن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قد أسقط عمدا ، أو أنسي آيات من القرآن الكريم. وحجتهم في ذلك حديث شريف ، وآية قرآنية. أمّا الحديث الشريف فهو ما رواه الشيخان في صحيحيهما.

أ ـ روى البخاري في صحيحه عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : «سمع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» رجلا يقرأ في المسجد ، فقال : «يرحمه‌الله ، لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا» ، وزاد في رواية أخرى ، وقال : «أسقطتهن من سورة كذا وكذا».

ب ـ روى مسلم في صحيحه عن هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» سمع رجلا يقرأ من الليل ، فقال : «يرحمه‌الله ، لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطها من سورة كذا وكذا».

٥١

ج ـ قال النووي في كتابه «التبيان في آداب حملة القرآن» ما نصه «وثبت في الصحيحين أيضا عن عائشة «رضي الله عنها» أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» سمع رجلا يقرأ ، فقال : «رحمه‌الله ، لقد أذكرني آية كنت أسقطتها». وفي رواية في الصحيح : «كنت أنسيتها».

وأمّا الآية القرآنية فهي قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلَّا ما شاءَ اللهُ) سورة الأعلى الآيات ٦ ـ ٧. فالاستثناء الواقع فيه يدل على أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قد أسقط عمدا ، أو أنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها.

تفنيد هذه الشبهة :

يمكننا معالجة هذه الشبهة من حيث تفسير الحديث والآية.

أولا : من حيث الحديث :

أ ـ إنّ هذا الحديث لا يصلح حجة ، ولا يستقيم سندا في تأييد هذه الشبهة ، وإنّما هو حجة عليها. فإن كلمة «أسقطتهن» التي وردت في الحديث معناها الإسقاط نسيانا ، وليس عمدا. وما يقوي معنى النسيان ، ويؤكده هو مرادفها في نفس الحديث ، وهي كلمة : «أنسيتها».

ب ـ إن العقلانية السليمة ، وشواهد الإيمان الحقة تقتضي استحالة أن يغير الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أو يبدل في القرآن شيئا إلّا إذا أمره الله بذلك ، أو كان بإيحاء من الله تعالى كالنسخ ، وغيره وإلا لما بلغ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الرسالة ، ولما أدى الأمانة ، والله تعالى يشهد على أمانة رسوله ، إذ يقول على لسانه : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) يونس آية ١٥.

ج ـ إنّ نسيان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الوارد في الحديث ليس نسيان تبليغ ، وإنما

٥٢

هو نسيان غفلة ، وغيبة ، وتذكر. وهذا ما يتعرض إليه البشر عادة ، والرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» من البشر ينسى ، ويغفل ، ويغيب عليه الأمر أحيانا. فروايات الحديث لا تعني أبدا أن الآيات القرآنية التي سمعها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» من الرجل الذي كان يقرأها ، وهو عباد بن بشار لا تعني أنّها قد انمحت من ذهن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وإنما غاية ما عنته : أن تلك الآيات كانت غائبة عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وكان لا يتذكرها في تلك اللحظة ، ثم ذكرها ، وافتكرها بقراءة عباد بن بشار. ومن المعلوم أنّ غيبة الشيء ، وغفلة الذهن غير محوه. والدليل على ذلك أنّ الإنسان بطبعه ـ والرسول إنسان ـ قد يغيب عنه النص أحيانا إذا اشتغل الذهن بغيره ، وهو يدرك في نفس الوقت أن النص مخزون في ذهنه سيستحضره إذا ما نبه إليه ، وسيفتكره ، وسيتذكره إذا ما ذكر إليه. أمّا النسيان التام المرادف لإيحاء الشيء من الذاكرة ، فهذا مستحيل على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وخاصة فيما يتعلق بمهام التبليغ للرسالة ، والبيان للقرآن. فنسيان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يكن نسيان تبليغ ، أو نسيان بيان للقرآن أبدا ، فهو قد أبلغ ما نزل عليه من قرآن ، وأطاع أمر الله في التبليغ ، والله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) سورة المائدة آية ٦٧.

والله تعالى قد تكفل ببيانه وتبليغه للناس على لسان رسوله. فهو يقول : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) سورة القيامة الآيات ١٦ ـ ١٩.

وما دامت العناية الإلهية قد تكفلت ببيان القرآن ، وتبليغه للناس على لسان نبيه ، فكيف يعقل أن يكون الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قد نسي شيئا من القرآن ، أو أسقطه ، ولم يبلغه للناس!!. ولا شك أنّ نسيان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، والذي ورد في الحديث لم يك نسيان تبليغ ، أو بيان ، أو تعليم ، وإنما كان نسيان غفلة ، وغيابا ذهنيا ، وعدم تذكّر ليس إلّا.

٥٣

وقد ذكر الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان» : «وقال الجمهور : جاز النسيان عليه فيما ليس طريقة البلاغ ، والتعليم ، بشرط ألا يقر عليه ، لا بد أن يذكره ، وأما غيره فلا يجوز قبل التبليغ ، وأما نسيان ما بلغه كما في الحديث فهو جائز بلا خلاف» (١).

د ـ إن نسيان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الوارد في الحديث ليس نسيان ضياع ، أو فقد ، وليس إسقاطا للقرآن الكريم. والدليل على ذلك : أنّ ما نسيه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» من آيات قرآنية كان قد حفظها ، وبلغها لأصحابه ، وبينها لهم ، فحفظوها ووعوها ، وحفظوها في صدورهم ، وعقولهم ، وقلوبهم ؛ وكتبوها في سطورهم ، وفي كتبهم ، وفي مصاحفهم. وليس هناك ما يدل على أنّهم لم يبلغوها ، أو لم يحفظوها ، أو نسوها حتى يخاف عليها من الضياع ، والفقدان. والقرآن كله بآياته ، والتي بلغت حوالي ستة آلاف ومائتي آية وأكثر ، تعهدته العناية الإلهية بالحفظ من الضياع مصداق قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) سورة الحجر آية ٩.

ه ـ إن نسيان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الوارد في الحديث إنّما هو بمعنى غياب التذكر ، والذي ينتاب الإنسان من بعد غفلة ، ولكن سرعان ما يضمحل الغياب ، ويصفو التذكر. فقد روى أبو منصور الأرجاني في كتاب «فضائل القرآن» أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كان يقول عند ختم القرآن : «اللهم ذكرني منه ما نسيت ، وعلمني منه ما جهلت ، وارزقني تلاوته أناء الليل والنهار ، واجعله حجة لي يا رب العالمين».

ولنا القول : بأن النسيان الوارد في الحديث لا يعني الإسقاط ، كما لا يعني نسيان التبليغ. وإنما هو نسيان غفلة ، وغيبة ، وعدم تذكر من

__________________

(١) محمد عبد العظيم الزرقاني : مناهل العرفان. ص ٢٦٧.

٥٤

بعد حفظ ، ومن بعد وعي ، ومن بعد تبليغ. وهذه صفات بشرية ، والرسول بشر ، يصح منه النسيان ، ويصح أن يغفل عما حفظ من القرآن سيتذكره فيما بعد ؛ ولو حصل منه شيء من ذلك النسيان ، أو الغفلة ، فهذا لا يعني إسقاطا ، ولا امحاء ، لأن القرآن سبق أن حفظ ، ودون ، وجمع من قبل الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وصحابته.

ثانيا : وأما بالنسبة للآية القرآنية التي استندوا إليها في تأييد شبهتهم : بأن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أسقط عمدا ، أو أنسي شيئا من القرآن ، فهي قوله تعالى في سورة الأعلى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلَّا ما شاءَ اللهُ) سورة الأعلى آية ٦ ـ ٧.

وأصحاب هذه الشبهة يرون أن ما جاء في الآية يدل بطريق الاستثناء الواقع فيه على أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قد أسقط عمدا ، أو أنسي آيات لم يتوفر له من يذكره إياها.

ويرد عليهم : بأن الاستثناء الوارد في الآية بجملة : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) معناه : أن عدم نسيان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» هو بفضل من الله تعالى ، ومشيئته ، ولا يعني النسيان بذاته ، قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) يعلق وقوع النسيان على مشيئة الله إياه ، والمشيئة لم تقع ، والنسيان لم يقع ، وبالقاعدة : فإن عدم حصول المعلق عليه ، «وهو مشيئة الله» يستلزم عدم حصول المعلق ، وهو النسيان. ودليل ذلك أن العناية الإلهية ، والمشيئة الربانية ، اقتضتا جمع القرآن ، ومن ثم بيانه ، وتبليغه على لسان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وهذا يتنافى مع وقوع النسيان مصداق قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ). ومن هنا يبقى الاستثناء الوارد في الآية استثناء صوريا ، وليس حقيقيا ، فالله تعالى وعد رسوله أن يقرئه القرآن فلا ينساه ، وعلى وجه التأييد.

قال الإمام محمد عبده في تفسيره للاستثناء الوارد في الآية ما نصه : «ولما كان الوعد على وجه التأييد ، واللزوم ، ربما يوهم أن قدرة الله

٥٥

لا تسع غيره ، وأنّ ذلك خارج عن إرادته «جل شأنه» جاء بالاستثناء في قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ، فإنّه إذا أراد أن ينسيك شيئا ، لم يعجزه ذلك ، فالقصد هو نفي النسيان رأسا. وقالوا : إن ذلك كما يقول الرجل لصاحبه : «أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله» لا يقصد استثناء شيء وهو من استعمال القلة في معنى النفي. وعلى ذلك جاء الاستثناء في قوله تعالى في سورة هود : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع ، فالاستثناء في مثل هذا المتنبية على أنّ ذلك التأييد والتخليد إنّما هو بكرم من الله وفضل منه لا بإيجاب وإلزام عليه ، ولو أراد عكس ذلك ، أي أن يأخذ ما وهب ، لم يمنعه من ذلك مانع» (١).

الشبهة الثامنة : (٢)

يقولون : روي عن هشام بن عروة عن أبيه أنّه قال : سألت عائشة عن لحن القرآن ، عن قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) وعن قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وعن قوله تعالى : «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنّصارى والصّابئون». فقالت : يا بن أخي ، هذا من عمل الكتّاب ، قد أخطئوا في الكتاب.

قال السيوطي في هذا الخبر : إسناده صحيح على شرط الشيخين. ويقولون أيضا : روي عن أبي خلف مولى بني جمح أنّه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة فقال : جئت أسألك عن آية في كتاب الله ؛ كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤها؟ قالت : أيّة آية؟ قال : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أو

__________________

(١) لقد أفاض وأجاد شيخنا محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان» مناقشة مثل هذه الشبه ، وتفنيدها.

(٢) محمد عبد العظيم الزرقاني ـ مناهل العرفان في علوم القرآن. الجزء الأول ـ ص ٣٩٣ ـ ٣٩٨ فيقول حرفيا.

٥٦

(الذين يأتون ما آتوا). قالت : أيّهما أحبّ إليك؟ قالت : والذي نفسي بيده ، لإحداهما أحبّ إليّ من الدّنيا جميعا. قالت : أيّهما؟ قلت : (والذين يأتون ما آتوا) فقالت : أشهد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك كان يقرؤها ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرف.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : بأن هذه الروايات مهما يكن سندها صحيحا ، فإنّها مخالفة للمتواتر القاطع ، ومعارض القاطع ساقط مردود ، فلا يلتفت إليها ، ولا يعمل بها.

ثانيا : أنّه قد نص في كتاب «إتحاف فضلاء البشر» ، على أن لفظ «هذن» قد رسم في المصحف من غير ألف ولا ياء ، ليحتمل وجوه القراءات الأربع فيها ، كما شرحنا ذلك سابقا في فوائد رسم المصحف. وإذن فلا يعقل أن يقال أخطأ الكاتب ، فإن الكاتب لم يكتب ألفا ، ولا ياء. ولو كان هناك خطأ تعتقده عائشة ما كانت تنسبه للكاتب ، بل كانت تنسبه لمن يقرأ بتشديد (إن) ، وبالألف لفظا في (هذان). ولم ينقل عن عائشة ، ولا عن غيرها تخطئة من قرأ بما ذكر ؛ وكيف تنكر هذه القراءة وهي متواترة مجمع عليها؟ ، بل هي قراءة الأكثر ، ولها وجه فصيح في العربية لا يخفى على مثل عائشة. ذلك هو إلزام المثنى الألف في جميع حالاته. وجاء منه قول الشاعر العربي :

«واها لسلمى ثم واها واها

يا ليت عيناها لنا وفاها

وموضع الخلخال من رجلاها

بثمن يرضى به أباها

إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها»

فبعيد عن عائشة أن تنكر تلك القراءة ، ولو جاء بها وحدها رسم المصحف.

ثالثا : إن ما نسب إلى عائشة «رضي الله عنها» من تخطئة رسم

٥٧

المصحف في قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) بالياء ، مردود بما ذكره أبو حيان في البحر إذ يقول ما نصه : «وذكر عن عائشة رضي الله عنها ، عن أبان بن عثمان أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف. ولا يصح ذلك عنهما ؛ لأنها عربيان فصيحان ، وقطع النعوت مشهور في لسان العرب. وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه ، وغيره. وقال الزمخشري : «لا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه خطأ في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب «يريد كتاب سيبويه» ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ؛ وخفي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل ، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام ، وذبّ المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحقهم».

رابعا : أنّ قراءة «الصابئون» بالواو ، لم ينقل عن عائشة أنّها خطأت من يقرأ بها ، ولم ينقل أنها كانت تقرأ بالياء دون الواو. فلا يعقل أن تكون خطأت من كتب بالواو.

خامسا : أنّ كلام عائشة في قوله تعالى : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) لا يفيد إنكار هذه القراءة المتواترة المجمع عليها. بل قالت للسائل : أيهما أحبّ إليك؟ ولا تحصر المسموع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما قرأت هي به. بل قالت : إنّه مسموع ومنزل فقط.

وهذا لا ينافي أن القراءة الأخرى مسموعة ، ومنزلة كتلك. خصوصا أنها متواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أما قولها : ولكن الهجاء حرف : فكلمة حرف مأخوذة من الحرف بمعنى القراءة ، واللغة ، والمعنى أن هذه القراءة المتواترة التي رسم بها المصحف ، لغة ، ووجه من وجوه الأداء في القرآن الكريم. ولا يصح أن تكون كلمة حرف في حديث عائشة مأخوذة من التحريف الذي هو الخطأ ؛ وإلا كان حديثا معارضا للمتواتر ، ومعارض القاطع ساقط.

٥٨

الشبهة التاسعة :

يقولون : روي عن خارجة بن زيد بن ثابت أنه قال : «قالوا لزيد يا أبا سعيد «أو همت»! إنما هي «ثمانية أزواج من الضأن اثنين (١) اثنين ، ومن المعز اثنين اثنين ، ومن الإبل اثنين اثنين ، ومن البقر اثنين اثنين». فقال : لا. إن الله تعالى يقول : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) فهما زوجان ، كل واحد منهما زوج. الذكر زوج ، والأنثى زوج» ا ه. قال أعداء الإسلام : فهذه الرواية تدل على تصرّف نسّاخ المصحف ، واختيارهم ما شاءوا في كتابة القرآن ، ورسمه.

تفنيد هذه الشبهة :

والجواب : أن كلام زيد هذا لا يدل على ما زعموا. إنما يدل على أنّه بيان لوجه ما كتبه وقرأه سماعا ، وأخذا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تصرّفا ، وتشهيا من تلقاء نفسه.

وكيف يتصور هذا من الصحابة في القرآن وهم مضرب الأمثال في كمال ضبطهم وتثبتهم في الكتاب والسنة ، لا سيما زيد بن ثابت ؛ وقد عرفت فيما سبق من هو زيد في حفظه وأمانته ، ودينه ، وورعه؟! وعرفت دستوره الدقيق الحكيم في كتابة الصحف والمصاحف! «فأنّى يؤفكون»؟

الشبهة العاشرة :

يقولون : إن مروان هو الذي قرأ «ملك يوم الدين» من سورة الفاتحة بحذف الألف من لفظ «مالك». ويقولون : إنّه حذفها من تلقاء نفسه دون أن يرد ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلا عن أن يتواتر عنه قراءة ، ولفظا ، أو يصح كتابة ، ورسما.

__________________

(١) يريدون آية سورة الأنعام ونصها : «ثمانية أزواج من الضّأن اثنين ومن المعز اثنين قل» الخ.

٥٩

تفنيد هذه الشبهة :

والجواب أن هذا كذب فاضح.

أولا : لأنه ليس لهم عليه حجة ، ولا سند.

ثانيا : إن الدليل قام ، والتواتر تم ، والإجماع انعقد ، على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ لفظ «ملك يوم الدين» بإثبات الألف وحذفها ، وأخذ أصحابه عنه ذلك. فممّن قرأ بهما عليّ ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب. وممن قرأ بالقصر ـ أي حذف الألف ـ أبو الدرداء ، وابن عباس ، وابن عمر. وممن قرأ بالمد ـ أي إثبات الألف ـ أبو بكر ، وعثمان «رضي الله عنهم أجمعين». وهؤلاء كلهم كانوا قبل أن يكون مروان ، وقبل أن يولد مروان ، وقبل أن يقرأ مروان. وقصارى ما في الأمر : أن مروان اتفق أن روايته كانت القصر فقط. وذلك لا يضرنا في شيء. كما اتفق أن رواية عمر بن عبد العزيز كانت المد فقط.

ثالثا : أن كلمة «مالك» رسمت في المصحف العثماني هكذا «ملك» كما سبق.

خلاصة الدفاع :

والخلاصة أن تلك الشبهة وما ماثلها ، مدفوعة بالنصوص القاطعة ، والأدلة الناصعة ، على أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثباته ورسمه ؛ ولم ينسخه ناسخ في تلاوته ، وهو هذا الذي حواه مصحف عثمان بين الدفتين ، لم ينقص منه شيء ، ولم يزد فيه شيء ، بل إن ترتيبه ونظمه كلاهما ثابت على ما نظمه الله سبحانه وتعالى ، ورتبه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آي وسور. لم يقدم من ذلك مؤخر ، ولم يؤخر منه مقدم. وقد ضبطت الأمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترتيب آي كل سورة ، ومواقعها ، كما ضبطت منه نفس القراءات ، وذات التلاوة على ما سبق وما سيجيء في الكلام على القراءات إن شاء الله.

٦٠