شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

إلى لغة غير عربية ، وبصورة مطلقة ، وسواء أكان المصلي يتقن اللغة العربية أم لا. ودليلهم : أنّ ترجمة القرآن إلى غير العربية ليست قرآنا. فالقرآن الذي تصح الصلاة به هو كلام الله العربي المعجز الموحى به من عند الله تعالى باللفظ ، والمعنى. وترجمة القرآن ليست كلام الله كما أنّها ليست معجزة ، وليست عربية ، بذلك لا تصح الصلاة بها. وبالمقابل فإن للمذهب الحنفي رأيا يجيز فيه قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة ، وذلك في حالة العجز ، وعدم القدرة على الصلاة بالعربية. ويمكننا حصر موقف العلماء إزاء حكم الصلاة بغير العربية في اثنين :

الأول : عدم جواز الصلاة بغير العربية إطلاقا.

الثاني : جواز الصلاة بغير العربية في حالة العجز.

الموقف الأول :

عدم جواز الصلاة بغير اللغة العربية إطلاقا. ويأخذ بهذا الرأي علماء ، ومذاهب جمهور السنة الثلاثة : المالكية ، والشافعية ، والحنابلة.

المذهب المالكي :

أولا : ورد في حاشية الدسوقي على شرح الدردير (١) ما يفيد منع جواز قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة حيث ورد فيها : «لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية. بل لا يجوز التكبير في الصلاة بغيرها ، ولا بمرادفه من العربية ، فإن عجز عن النطق بالفاتحة بالعربية وجب عليه أن يأتم بمن يحسنها ؛ فإن أمكنه الائتمام ، ولم يأتم ، بطلت صلاته. وإن لم يجد إماما سقطت عنه الفاتحة ، وذكر الله ، وسبحه بالعربية. وقالوا على كل مكلف أن يتعلم الفاتحة بالعربية ، وأن يبذل وسعه في ذلك ، ويجهد نفسه في

__________________

(١) حاشية الدسوقي على شرح الدردير ـ ج ٢ ص ٢٣٢ ـ ٢٣٦.

١٨١

تعلمها ، وما زاد عليها إلا أن يحول الموت دون ذلك ، وهو بحال الاجتهاد ، فيعذر».

ثانيا : ورد في المدونة ما نصه (١) : «سألت ابن القاسم عمن افتتح الصلاة بالأعجمية ، وهو لا يعرف العربية. ما قول مالك فيه؟! : سئل مالك عن الرجل يحلف بالعجمية ، فكره ذلك ، وقال : أما يقرأ؟! أما يصلي؟! إنكارا لذلك. أي ليتكلم بالعربية لا بالعجمية قال : وما يدريه الذي قال أهو كما قال؟! أي الذي حلف به أنّه هو الله!! ما يدريه أنّه هو أم لا!! قال مالك : «أكره أن يدعو الرجل بالعجمية في الصلاة ، ولقد رأيت مالكا يكره العجمي أن يحلف ، ويستثقله. قال ابن القاسم : وأخبرني مالك : أن عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» نهى عن رطانة الأعاجم ، وقال : إنّها خب. أي خبث ، وغش» (٢).

ثالثا : ورد عن القاضي أبي بكر بن العربي ، وهو من فقهاء المالكية ، قوله في التفسير ، أي في تفسير قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) سورة فصلت آية ٤٤. قال علماؤنا : هذا يبطل قول أبي حنيفة : «رضي الله عنه» : إنّ ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية منه بالفارسية جائز ؛ لأنّ الله تعالى قال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ). نفى أن يكون للعجمية إليه طريق ، فكيف يصرف إلى ما نفى الله عنه؟!! ثم قال : إنّ التبيان والإعجاز إنّما يكون بلغة العرب ، فلو قلب إلى غير هذا لما كان قرآنا ، ولا بيانا ، ولا اقتضى إعجازا (٣).

المذهب الشافعي :

أولا : قال في المجموع : «مذهبنا ـ أي الشافعية ـ أنّه لا تجوز

__________________

(١) المدونة ـ ج ١ ص ٦٢. والزرقاني ـ مناهل العرفان. ج ٢ ص ١٦١.

(٢) محمد الخضر حسين ـ كتاب : بلاغة القرآن ـ ص ١٥.

(٣) المجموع. ج ٣. ص ٣٧٩.

١٨٢

قراءة القرآن بغير لسان العرب ، وسواء أمكنته العربية أم عجز عنها ، وسواء أكانت في الصلاة أم في غيرها. فإن أتى بترجمة في صلاة بدلا عنها لم تصح صلاته ، سواء أحسن القراءة أم لا. وبه قال جماهير العلماء ، منهم : مالك ، وأحمد ، وأبو داود» (١).

ثانيا : وجاء في حاشية ترشيح المستفيدين : «من جهل الفاتحة لا تجوز له أن يترجم عنها ، لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، والعجمي ليس كذلك ، وللتعبد بألفاظ القرآن» (٢).

ثالثا : وقال الإمام السيوطي في الإتقان : «لا تجوز قراءة القرآن بالمعنى ؛ لأنّ جبريل أدّاه باللفظ ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى» (٣).

رابعا : وقال الحافظ ابن حجر ، وهو من فقهاء الشافعية في فتح الباري : إن كان القارئ قادرا على تلاوته باللسان العربي فلا يجوز له العدول عنه ، ولا تجزئ صلاته (أي بقراءة ترجمته) ، وإن كان عاجزا. ثمّ ذكر : أن الشارع قد جعل للعاجز عن القراءة بالعربية بدلا ، وهو الذكر (٤).

خامسا : وقال الإمام الشافعي : ـ رحمه‌الله ـ في كتاب الأم : «وإذا ائتموا به ، فإن أقاما معا أمّ القرآن ، ولحن ، أو نطق أحدهما بالأعجمية ، أو لسان أعجمي في شيء من القرآن غيرها ، أجزأته ، ومن خلفه صلاتهم إذا كان أراد القراءة لما نطق به من عجمة ولحن ، فإن أراد به كلاما غير القراءات ، فسدت صلاته» (٥).

قالوا في مراد الشافعي من كلمته هذه : «ومراده أنّ الإمام ، والمؤتم

__________________

(١) حاشية ترشيح المستفيدين ج ١ ص ٥٢.

(٢) الإمام السيوطي ـ الإتقان.

(٣) الإمام السيوطي ـ الإتقان.

(٤) الحافظ ابن حجر. فتح الباري ـ ومحمد الخضر حسين. بلاغة القرآن. ص ١٥.

(٥) الإمام الشافعي. كتاب الأم. ج ١ ص ١٤٧.

١٨٣

إذا أحسنا قراءة الفاتحة ثمّ لحن ، أو نطق أحدهما بلهجة أعجمية في شيء من القرآن غير الفاتحة لا تبطل صلاتهما. والمراد من الأعجمية : اللهجة ، ومن اللسان : اللغة. كما هو استعماله في هذه المواطن. فهذا النص يدل على أنّ اللسان الأعجمي بعد قراءة المفروض عدده ، وهو الفاتحة ، لا يبطل الصلاة ، وهو موافق للحنفية في هذا».

ويذكر الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان» تعليقا على تفسير مراد الإمام الشافعي بقوله : «أمّا الذي ذكروه من أن هذا هو مراد الشافعي ـ رحمه‌الله ـ فسلم به ، بيد أنّه يحتاج إلى تكملة لا بد منها ، وهي : أنّ عدم بطلان الصلاة في هذه الصورة مشروط بأن تقصد القراءة. أمّا إذا كان المقصود كلاما غير القراءة ، فإنّها تبطل. ثمّ إنّ منشأ عدم البطلان ليس هو جواز قراءة غير الفاتحة بالأعجمية كما فهموا ، إنّما منشؤه أنّ هذه القراءة بالأعجمية وقعت في غير ركن ، وفي غير واجب للصلاة لما هو مقرر في مذهب الشافعية من أن ما زاد على الفاتحة ليس واجبا في الصلاة بحال. وهذا لا ينافي أن القراءة بالأعجمية محرمة كما سبق في نصوص الشافعية ، وكما عرف من كلام الشافعي نفسه ، ولهذه المسألة نظائر منها : الصلاة في الأرض المغصوبة. فإنّها محرّمة ، ومع حرمتها ، فإنّها صحيحة. ويؤيد حرمة القراءة بالأعجمية أنّ الشافعي في كلامه هنا قد سوى بين اللحن ، والقراءة بالأعجمية ، ونظمها في سلك واحد مع ما هو معلوم من أنّ اللحن في القرآن حرام بإجماع المسلمين» (١).

المذهب الحنبلي :

أولا : قال شيخ الإسلام ابن تيمية : «وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا. ولهذا كان أئمة الدين

__________________

(١) محمد عبد العظيم الزرقاني. مناهل العرفان. ج ٢. ص ١٦٥.

١٨٤

على أنّه لا يجوز أن يقرأ بغير العربية لا مع القدرة عليه ، ولا مع العجز عنها ؛ لأنّ ذلك يخرجه أن يكون هو القرآن المنزل» (١).

ثانيا : قال ابن قدامة في المعنى : «ولا تجزئة القراءة بغير العربية ، ولا إبدال لفظ عربي سواء أحسن القراءة بالعربية أم لم يحسن. ثم قال : فإن لم يحسن القراءة بالعربية ، لزمه التعلم ، فإن لم يفعل مع القدرة عليه ، لم تصح صلاته» (٢).

ثالثا : قال الإمام ابن حزم الحنبلي في كتابه المحلى : «من قرأ أم القرآن أو شيئا منها ، أو شيئا من القرآن في صلاته مترجما بغير العربية ، أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التي أنزل الله تعالى ، عامدا لذلك ، أو قدّم كلمة ، أو أخرها عامدا لذلك ، بطلت صلاته ، وهو فاسق ، لأنّ الله تعالى قال : (قُرْآناً عَرَبِيًّا). وغير العربي ليس عربيا ، فليس قرآنا. وإحالة عربية القرآن تحريف لكلام الله. وقد ذم الله تعالى من فعلوا ذلك ، فقال : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ). ومن كان لا يحسن العربية ، فليذكر الله تعالى بلغته ، لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). ولا يحل له أن يقرأ أم القرآن ، ولا شيئا من القرآن مترجما على أنّه الذي افترض عليه أن يقرأه ؛ لأنّه غير الذي افترض عليه كما ذكرنا ، فيكون مفتريا على الله» (٣).

الموقف الثاني :

جواز الصلاة بغير العربية في حالة العجز : ويأخذ بهذا الرأي علماء المذهب الحنفي ، وعلى رأسهم : الإمام أبو حنيفة ، وصاحباه : أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن الشيباني. وقد أجازوا جميعا قراءة القرآن

__________________

(١) محمد الخضر حسين ـ كتاب : بلاغة القرآن. ص ١٥.

(٢) ابن قدامة ـ المغني ـ ج ١ ص ٥٢٦.

(٣) الإمام ابن حزم الظاهري الحنبلي. كتاب : المحلى. ج ١. ص ٢٥٤. والزرقاني مناهل العرفان ج ٢ ص ١٦٢.

١٨٥

بغير العربية في الصلاة في حالة العجز عن قراءتها بالعربية. ودليلهم في ذلك هو : أنّ القرآن اسم للمعاني الذي تدلّ عليها ألفاظه العربية ، والمعاني واحدة في جميع اللغات ، ولا تختلف باختلاف الألفاظ الدالة عليها. المهم ألّا يختل المعنى.

قال في «معراج الدراية» : «إنّما جوزنا القراءة بترجمة القرآن للعاجز إذا لم يخل بالمعنى ؛ لأنّه قرآن من وجه اعتبار اشتماله على المعنى. فالإتيان به أولى من الترك مطلقا ، إذ التكليف بحسب الوسع» (١).

وقد ورد : أن أبا حنيفة أجاز القراءة للقرآن في الصلاة بالفارسية. وأجاز بعض أصحابه قياسا على رأيه الصلاة باللغات الأخرى : كالترجمة ، والهندية ، وغيرها.

ونلخّص رأي المذهب الحنفي كما ورد في مجلة الأزهر الشريف بقلم أحد علمائهم الكبار : إنّ أئمة المذهب الحنفي أجمعوا على أنّه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة. ويمنع فاعل ذلك أشدّ المنع ؛ لأنّ قراءته بغيرها من قبيل التصرف في قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه ، بل بما يوجب الركاكة. وأما القراءة في الصلاة بغير العربية فتحرم إجماعا للمعنى المتقدم. لكن لو فرض ، وقرأ المصلي بغير العربية أتصح صلاته أم تفسد؟!!. ذكر الحنفية في كتبهم : «أنّ الإمام أبا حنيفة كان يقول أولا : «إذا قرأ المصلي بغير العربية مع قدرته عليها اكتفي بتلك القراءة». ثمّ رجع عن ذلك ، وقال : «متى كان قادرا على العربية ، ففرضه قراءة النظم العربي ، ولو قرأ بغيرها ، فسدت صلاته ، لخلوها من القراءة مع قدرته عليها ، والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا» (٢). ورواية رجوع الإمام هذه تعزى إلى الأقطاب في

__________________

(١) محمد الخضر حسين ، بلاغة القرآن. ومناع القطان مباحث في علوم القرآن. ص ٣١٨.

(٢) مجلة الأزهر الشريف ـ مجلد ٣ ـ ص ٣٢ ـ ٣٣ ـ ٦٦ ـ ٦٧. والزرقاني ـ مناهل العرفان. ج ٢ ص ١٦٣.

١٨٦

المذهب ، ومنهم : نوح بن مريم ، وهو من أصحاب أبي حنيفة ، وعلي بن الجعد ، وهو من أصحاب أبي يوسف ، وأبو بكر الرازي ، وهو شيخ علماء الحنفية في عصره في القرن الرابع الهجري.

وينوه محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه مناهل العرفان : بأنّه لا داعي أبدا للتمسك بالقول الأوّل للإمام أبي حنيفة ، فالمجتهد إذا رجع عن قوله ، فيعني هذا أنّه ظهر له أنّه ليس بصواب. ولذلك لا يكون في المذهب الحنفي إلّا الرأي القائل : إنّ القادر على قراءة القرآن في الصلاة لا يجوز له أن يؤديها بغير العربية. أمّا العاجز عن قراءة القرآن بالعربية فهو كالأمي في أنّه لا قراءة عليه. لكن إذا فرض أنّه خالف ، وأدى القرآن بلغة أخرى : فإن كان ما يؤديه قصة ، أو أمرا أو نهيا ، فسدت صلاته ؛ لأنّه متكلّم بكلام ، وليس ذكرا. وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها لا تفسد صلاته ؛ لأنّ الذكر بأي لسان لا يفسد الصلاة ؛ لا لأن القراءة بترجمة القرآن جائزة ، فقد أجمع على أنّها محظورة ، وممنوعة.

حكم الذكر بغير العربية في الصلاة

للعلماء رأيان مختلفان.

الرأي الأول :

إباحة الذكر بغير العربية في الصلاة. وهو رأي الشافعي ، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة. وسواء أكان الذكر واجبا كتكبيرة الإحرام ، أو غير واجب كسائر التكبيرات في الصلاة.

الرأي الثاني :

عدم إباحة الذكر بغير العربية في الصلاة. وهو رأي الإمام مالك ، وإسحاق ، والإمام أحمد بن حنبل ، وسواء أكان الذكر واجبا أو غير واجب.

١٨٧

ولنا القول : وبما أخذ به جمهور العلماء بعدم جواز الصلاة بغير العربية مطلقا. فالصلاة لا تجوز إلّا بالقرآن ، والكلام المترجم ليس قرآنا ، وقد خرج عن خصوصية الكلام الإلهي ، والنظم العربي ، يسعفنا في ذلك أقوال جمهور العلماء ، ومنها قول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب : «اقتضاء الصراط المستقيم» «أمّا القرآن فلا يقرؤه بغير العربية سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور». وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه. بل قد قال غير واحد إنّه يمتنع أن يترجم سوره ، أو مما يقوم به الإعجاز. ويقول أيضا : «فإنّ نفس اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب. فإن فهم الكتاب ، والسنة فرض ، ولا يفهمان إلّا بفهم اللغة العربية ، وما لا يتم الواجب إلّا به ، فهو واجب».

ولنا القول أيضا : إنّ إباحة المذهب الحنفي للصلاة بغير العربية على الغالب ليس مطلقا ، وقيدوه بالعجز عن الصلاة بالعربية ، واعتبروه رخصة عند الحاجة فقط.

والأحناف يتفقون مع الجمهور على أنّ الترجمة ليست قرآنا. وإنّما هي رخصة لغير القادر تجزئة عن قراءة العربية في الصلاة كذكر الله في الصلاة عند غير الأحناف.

وهناك قول : إنّ الإمام أبا حنيفة رجع عن إباحته بالصلاة بغير العربية بصفة مطلقة.

١٨٨

الباب العاشر

شبهات حول إعجاز القرآن ، وأسلوبه ، وتفنيدها.

الشبهة الأولى :

إنّ إعجاز القرآن لا يكمن في سر بلاغته ، وبيانه ، وفصاحته ، أو في عدم قدرة العرب على معارضته ، فهو لم يتجاوز في بلاغته ، وفصاحته حدود طاقاتهم اللغوية ، والبلاغية ، وإنّما يكمن إعجازه في عدم توفر الأسباب الداعية لمعارضته ، ولو توفرت لاستطاع العرب معارضته ؛ ولو فعلوا ، لأعجزوا ، وأفحموا ، وعارضوا ، وأتوا بمثله ؛ فليس كل ما لم يفعله الإنسان يكون خارجا عن حدود قدرته. ولذلك فقد زعموا أن القرآن لم يصل في بلاغته بعد الإعجاز الذي لا تسمو إليه قدرة البشر عادة ، وإنّما انصرف العرب عن معارضته ، فيخيل للناس أنّه أعجزهم ، أو أنّه معجز لأنّه الباقي وحده في الميدان ميدان التحدي ، والإعجاز. وقد أرجعوا أسباب عدم معارضة العرب للقرآن لأمور عدة أهمها ثلاثة :

الأمر الأول : عدم توفر أسباب ، وبواعث المعارضة.

١٨٩

الأمر الثاني : حدوث عارض فجائي عاق قدراتهم البلاغية ، وعطل مواهبهم البيانية ، وطمس فصاحتهم اللغوية ، وأقعدهم عن تعاطي أسباب المعارضة رغم توافر الدوافع ، والبواعث لها.

الأمر الثالث : وجود مانع إلهي ، وقدرة إلهية صرفت العرب عن معارضته ، وسلبتهم القدرة على المعارضة ، وهم قادرون عليها ؛ ولو لا هذه الصرفة الإلهية لعارضوه ، ولجئوا بمثله. وهذا الأخير هو المعبر عنه بالقول بالصرفة ، والذي اشتهر عن النظّام من المعتزلة. ولم يتابعه عليه تلميذه الجاحظ ، وحتى أي أحد من علماء العربية. ويعزى أيضا القول بالصرفة إلى أبي إسحاق الأسفراييني من السنة ، وإلى المرتضى من الشيعة.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : بالنسبة للأمر الأول ـ وهو حجة عدم توفر أسباب ، وبواعث المعارضة ـ فهذه الحجة مردودة على أصحاب هذه الشبهة. فيقينا ، وبالدليل التاريخي ، والعلمي ، واللغوي ، أنّ أسباب ، وبواعث المعارضة كانت موجودة ، وموفورة ، ومتضافرة ، ودوافعها كانت قائمة. وقد حفز القرآن بواعث المعارضة فيهم ، وأكثر من مرة ، وفي أكثر من مناسبة ، وفي أكبر زمن ؛ ولما لم يستطيعوا ، تذرعوا بعدم توافر دواعي ، وبواعث المعارضة في زمنهم. وتفنيدا لهذه الشبهة ، وتأكيدا على تفاهتها ، فقد تحدّاهم القرآن بالنسبة لأهم ، وأعظم مجالات المعارضة ، وهي الأسلوب ، والعقيدة.

أ ـ فبالنسبة للأسلوب في البلاغة ، والبيان ، والفصاحة ، فقد تحدّاهم أكثر من مرة أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، فعجزوا مصداق قوله تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) سورة الطور آية ٣٤. أليس في هذا تقريع مثير لهم في المعارضة ، وهم أهل الحديث والبلاغة كما يدعون. وردا على تخرصاتهم ، وإمعانهم في التذرع

١٩٠

بالأسباب والأعذار قطع عليهم آمالهم في تخرصاتهم واحتجاجاتهم ، وشتى ما يتذرعون به في عدم قدرتهم على المعارضة ؛ وطمأنهم إفحاما لهم أنّهم لم ، ولن يستطيعوا أن يعارضوا القرآن حتى ولو توفرت دواعي معارضته لديهم. أفليس في هذا استثارة لحمية أذهانهم ، ودافعا ومحركا لمشاعرهم وألسنتهم ، وهم أهل صناعة تحدّاهم القرآن بها!! فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) سورة الإسراء آية ٨٨.

وقد أكمل القرآن إعجازه البياني بتحديه لهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه كسورة الكوثر ، فعجزوا. قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة البقرة آية ٢٣.

وبذلك فقد أحالهم القرآن ، وأحاط شبهتهم بكل تفنيد ، وكل زعزعة وخلخلة لكل ما يدعون. فهم سيظلون عاجزين عن معارضة القرآن حتى ولو توافرت لهم دوافع ذلك. ومن هنا ، وقطعا لدابرهم ، وعنادهم ، فقد حذرهم من تماديهم في افتراءاتهم ومعاذيرهم ، فيبقون بلا حجة ، وينتهون إلى غير مبرر ؛ فأصبحوا بلا عذر لهم على كذبهم ، وادعاءاتهم ، وإلّا وإن لم يتقوا الله ويكفوا ، فالنار مثواهم. فالله تعالى يقول لهم : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) سورة البقرة آية ٢٤.

ب ـ وبالنسبة للعقيدة ـ فقد تحدّاهم أكثر من مرة ، وفي أكثر من مناسبة أن يثبتوا صدق عقائدهم في الوثنية ، والكفر ، والشرك ، بل وسفه أحلامهم ، وأحط من عقائدهم ، ودياناتهم ، وعقائد آبائهم وأجدادهم. وكل ذلك بأساليب الترغيب ، والترهيب. أو ليس فيها دافع يثير حماسهم ، ويوقظ عصبياتهم ، ويستفزّ حميتهم حمية

١٩١

الجاهلية ، وهم أهل الحمية ، والأنفة ، وإباء الضيم. أو ليس فيها ، وقد نعى عليهم جهلهم ، وشركهم بواعث تحرك هممهم ، فيتحركوا ، ويعارضوا ، ويحاولوا أن يأتوا بمثل ما تحدّاهم به. ولكن هل فعلوا ، وهل استطاعوا ، وأسباب المعارضة موفورة قائمة؟!! لا ، ولن حتى ولو تذرعوا بعدم توافرها ، فهم كاذبون.

ثانيا : أما بالنسبة للأمر الثاني : وهو حجة تعطل مواهبهم ، فالواقع التاريخي ، وأخبار التواتر ، أنّهم ، وحين تحداهم القرآن كانوا متمتعين بمواهبهم البيانية ، وقدراتهم البلاغية ، وعنفوان أدبياتهم ؛ ولم يعرض لهم عارض ، ولم يفاجئهم حابس حبس مواهبهم ، أو سلب قدراتهم ، أو طمس على بيانهم. وبالأدلة التاريخية ، والعقلانية السليمة ، والبراهين المنطقية أنّهم كانوا على ما هم عليه من قدرة في التفكير ، وسلامة في التعبير ، وسلاطة في المجادلة ، وبلاغة في المخاطبة ؛ ولكنهم عند ما خوطبوا بالقرآن ، اقتنعوا بعجزهم ، وقعدوا عن تحدياتهم ، ويئسوا من معارضاتهم ؛ وهم لم يمنعهم مانع من ترهاتهم في المعارضة ، والتحدي ، اللهم إلّا العجز ، فقالوا ، وادعوا أن عارضا ألمّ بهم ، وأفقدهم بلاغتهم ، وإن هم إلّا يخرصون. فهم لم يتركوا وسيلة إلّا استخدموها ؛ وهم لم يتركوا بابا إلّا سلكوه ؛ وهم لم يتركوا منهجا إلّا اتّبعوه ، ولا ذريعة إلّا تذرعوا بها ؛ ليردوه عن دينه ، ويسلبوا منه قرآنه ، ويعطلوا دليله. فهم ساوموه بالمال ، وهم ساوموه بالملك ؛ وهم ساوموه بالعزة الدنيوية ؛ وهم ساوموه بالسلطان ، وحبسوا عنه الزاد ، والطعام ، فقاطعوه ، وعشيرته في شعب بني هاشم. حيث تحالفت قريش ، وكنانة على مقاطعة بني هاشم وعبد المطلب بألّا يناكحوهم ، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كما روى الشيخان عن الزهري. وحيث يرويان أيضا أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قال بشأن هذا التحالف في غزوة الفتح ، وفي حجة الوداع : «منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر». فأي عارض هذا الذي عطل مواهبهم ، وسلبهم قدراتهم في التحدي ، وهم الذين ساوموا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» حتى في عقيدته ، حيث روى ابن مردويه

١٩٢

بسند جيد : «جاء رجال من قريش إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» فقالوا له : يا محمد ، تعال تمسح بآلهتنا ، أو ألمّ بآلهتنا ، وندخل معك في دينك ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) سورة الإسراء آية ٧٣.

وقوله تعالى في السورة نفسها : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) آية ٧٤. وأي سبب هذا الذي ألمّ بقدراتهم في التحدي ، وهم الذين ألصقوا به كل صفات الطعن ، وخصال الشبهات ، فوصفوه مرة بالساحر ، ومرة بالكاهن ، ومرة بالشاعر ، ومرة بالمجنون. مصداق قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) سورة الصافات آية ٣٦. ورد عليهم شبهتهم ، وفنّد مطعنهم : فقال : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) سورة الصافات آية ٣٧.

وقد قادهم مطعنهم ، وأوصلهم حقدهم ، وسار بهم عجزهم ، وألّبهم مكرهم في محاربة القرآن إلى أن جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم ، وغشّوها على أعين فتيانهم ، فمنعوهم حتى من سماعه حتى لا ترق لحلاوة طلائه. ولم يطق أشراف قريش أن يستعلن أبو بكر بقراءة القرآن في فناء داره ، إذ كانت تهوي إليه أفئدة من أبنائهم ، ونسائهم وعبيدهم ، يستمعون لقراءته ، فخشي المشركون أن يفتتنوا. وإن ابن الدّغنة قد أجاب أبا بكر ، فأمروه أن يسترد جواره منه إذا أصر على الإعلان بقراءته. وقد فعل ـ وهذا ما رواه البخاري.

ثمّ ألم يمكروا ، ويطعنوا ، ويكيدوا ، ليثبتوه ، أو يقتلوه ، أو يخرجوه. وفي هذا صدق قول ربنا فيهم إذ يقول : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) سورة الأنفال آية ٣٠.

ولقد مكروا ، وكادوا ، وقاتلوا ، وأخرجوا المسلمين من ديارهم ونفوهم من مهجة حبه مكة أحب البقاع إلى الله ، ورسوله ، ومن ثم ، وبعد هذا يدعون ، ويزعمون أن شاغلا شغلهم عن معارضة القرآن ، وما

١٩٣

قتلوا ، وما أخرجوا إلا بعد أن أفحموا ، فعجزوا عن المعارضة للقرآن. ولعل مكرهم ، وكفرهم ، وعنادهم ، لم يكن موجها إلى القرآن في الصدور كما يقول شيخنا محمد عبد الله دراز ، وإنّما إلى هدف واحد هو إعلان هذا القرآن ، ونشره بين العرب. وفي ذلك يروي أبو داود والترمذي : أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» حينما كان يعرض نفسه على الناس في الموقف يقول : «ألا رجل يحملني إلى قومه؟!! فإنّ قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي» فهو لم يقل : منعوني أن أتلو كلام ربي ، أو أن أحفظه ، وإنّما قال : منعوني أن أبلغ كلام ربي ، فهو في إعلانه ، وتبليغه للناس ، ونشره بينهم ، أشد وطئا ، وأكبر حملا عليهم. فمانعوا ، وعاندوا ، وكادوا ، وقتلوا ، وبعد أن عجزوا ، قالوا : شغلنا شاغل عنه ، وعرض لنا عارض ، فمنعنا أن نعارضه ، وأن نفحم معلنه ، وأن نمنع رسوله ، وأن نحاربه بسلاحنا. وإنه ، ولو لا هذا لقلنا مثله إن هذا إلّا أساطير الأوّلين. قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) سورة الأنفال آية ٣١.

وقالوا : فهذا القرآن ليس بحق ، وإن ما جاء به من فصاحة أسلوبه ، أو بلاغة بيان ، وإن ما جاء فيه من ألوهية توحيد ، أو ربوبية تأليه ، أو نورانيّة هداية ، أو موعظة ، أو رحمة ، أو شفاء إن هذا إلّا اختلاق ، ويا عجبا لهذا!! فناشره ساحر كذاب. مصداق قوله تعالى : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) سورة «ص» الآيات ٤ ـ ٧.

وقادهم كفرهم إلى أن أعمى الله بصيرتهم ، فدعوا على أنفسهم بالعذاب إن كان هذا الذي يدعيه محمد حقا مصداق قوله تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) سورة الأنفال آية ٣٢. أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : قتل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ـ وكان المقداد أسر النضر ـ فلما أمر بقتله ،

١٩٤

قال المقداد : يا رسول الله ، أسيري! فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «إنّه كان يقول في كتاب الله ما يقول» قال : وفيه نزلت هذه الآية : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا) الآية.

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية. قال : نزلت في النضر بن الحارث.

وروى الواحدي : «قال أهل التفسير : نزلت في النضر بن الحارث. وهو الذي قال : إن كان ما يقوله محمد حقا ، فأمطر علينا حجارة من السماء».

وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال : «قال أبو جهل : اللهم ، إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم. فنزل : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) سورة الأنفال آية ٣٣. فهذه أحوالهم ، وهذه مكابراتهم ، وهذه عنجهيتهم ؛ وهذا هو ضلالهم ، وهذا هو جهلهم. ولو كانوا أصحاب عقول نيّرة لما دعوا على أنفسهم بالعذاب الأليم أو إسقاط الحجارة عليهم من السّماء ، ولدعوا لأنفسهم بالعذاب الأليم أو إسقاط الحجارة عليهم من السّماء ، ولدعوا لأنفسهم بالهداية ، والرحمة عند ما تفوهوا بقولهم : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك. وبعد هذا كله يدّعون ، ويزعمون أن عارضا ألمّ بهم ، وصرفهم عن معارضة القرآن. صرف الله قلوبهم عما يزعمون ، وعما يدّعون. فسقطت شبهتهم كما سقطت عقولهم في غياب الكفر ، والضلال.

ثالثا : وأمّا بالنسبة للأمر الثالث : وهو حجة وجود مانع إلهي منع العرب من معارضته. أي صرفهم عن معارضته ، وهم قادرون على ذلك ، وهذا هو القول بالصّرفة. ولو لا الصرفة الإلهية لاستطاع العرب أن يأتوا بمثل القرآن. فسبحان الله!! ألم يحاولوا مرات أن يعارضوه ، فامتنع عليهم؟!! ثمّ والواقع البياني يكذب ذلك. فالقول بالصّرفة ، أو الادعاء بالصّرفة ـ وهم يعلمون ـ يحمل في ثناياه المحاولة بالمعارضة. وإلّا كيف يستسيغ الادعاء بالصّرفة ، والصرفة لا تأتي إلّا بعد المحاولة. فهم لم

١٩٥

يحسوا بزوال القدرة على المعارضة إلّا بعد أن حاولوا وجربوا. ولذا لم تكن هناك صرفة قبلية ، ولكن الصرفة بعدية ، طمس الله على قلوبهم ، وأخرس ألسنتهم بعد أن عاندوا ، وادعوا ، وحاولوا فلم يستطيعوا. وبعد أن فشلوا ، ادعوا أن الله صرفهم عن معارضة القرآن مسبقا ، وقبل أن يحاولوا ، وقبل أن يجربوا. وفي هذا تستبين شواهد الكذب على القول بالصّرفة المسبقة ، وفي هذا تستبين شواهد الصدق على القول بالصرفة البعدية. وفي هذا تستبين شواهد الصحة على العجز بعد المحاولة. ويا ليتهم ادعوا الصرفة البعدية ، وبأنّهم بعد أن حاولوا ، وجربوا ، فشلوا. ومن ثمّ فالقول بالصّرفة يوقعهم في شر أعمالهم ، ويوقعهم في أحط تناقضاتهم ، وأقصى افتراءاتهم. فكيف يدّعون أن الله صرفهم عن المعارضة ، أو أن العناية الإلهية سلبتهم قدرتهم على المعارضة ، وفي الوقت نفسه تتحداهم الإرادة الإلهية أن يعارضوا القرآن؟!! فإذا كانت الإرادة الإلهية وقفت منهم موقف التحدي ، ووضعتهم في موضع الابتلاء والامتحان في المعارضة للقرآن ، ثم تأتي هذه الإرادة ، وتسلبهم أسباب التحدي ، وتعريهم من عوامل الابتلاء ، والامتحان ، وتفقدهم قدرتهم على المحاولة ، وتصرفهم عن تجربة الابتلاء ، وتحرمهم من دخول الامتحان ؛ أو ليس هذا يوقعهم في أشد مغالطاتهم ، وأقبح تناقضاتهم؟ أو ليس في هذا ـ لو صدقوا ـ تفريغا لمعاني التحدي ، من كل معنى ، أو اعتبار ، أو قيمة ، أو فائدة؟!! وما قيمة الامتحان ، وما قيمة الابتلاء دون المحاولة للتقدم لهذا الامتحان ، أو تجاوز هذا الابتلاء؟! وهل يبقى للتحدي أية قيمة ، وهل يظل للمعارضة أية فائدة إذا منع المرء المتحدّى من التحدي ، أو الأخذ بأسباب المعارضة؟! تالله إن هذا لهو التناقض بعينه ، وإن هذا لهو التبجح ذاته ، وإن هذا لهو العجز بشواهده ودلائله ، وإن هذا هو العبث بأتم معانيه!! فالتحدي الإلهي قائم ، وسيظل قائما ، وإلى قيام الساعة ، وليس لقريش فقط ، وليس للعرب فقط ، وفي عصر من العصور ، وإنّما إلى قيام الساعة ، وللبشرية جمعاء. فليس هناك صارف ، وليس هناك مانع يمنع من المحاولة للتحدي ، وإلّا كان هذا عبثا. والتحدي قائم ،

١٩٦

وأسباب التحدي قائمة وإلّا كان التحدي عبثا ، والإرادة الإلهية منزهة عن العبث ، سبحانك هذا بهتان عظيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وما يحير العقول أنّهم يقولون بالصّرفة ، وهم يعترفون بعجزهم عن معارضة القرآن. وهل يأتي العجز أو الاعتراف به قبل المحاولة؟! إلّا أن العجز جاء بعد أن حاولوا ، وجرّبوا ؛ فكان القرآن مثار إعجابهم ، وسرّ دهشتهم ، وشهادة اعترافهم ، وعلى ألسنتهم ، ولسان أحد صناديدهم الوليد بن المغيرة حيث يشهد ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ : ما هذا بقول بشر. ولكن ـ والكفر عناد ـ فبدلا من أن يحكّموا عقولهم ، ويؤمنوا ، قالوا : إن هذا إلّا سحر يؤثر إن هذا إلّا قول البشر. وعند ما حاولوا معارضته وفشلوا ـ وهم بشر ـ ناقضوا أنفسهم ، فقالوا : صرفنا الله عن ذلك ـ صرف الله قلوبهم ، وأخرس ألسنتهم. روى الحاكم ، والواحدي عن ابن عباس : «أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فقرأ عليه القرآن ـ وكأنّه رق له ـ فبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه ؛ فإنّك أتيت محمدا تتعرض لما قاله. فقال : قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالا. قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنّك منكر له وكاره. فقال : وما ذا أقول؟! فو الله ، ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزها ، وبقصيدتها مني ، والله ، ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا. والله ، إنّ لقوله الذي يقول حلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ؛ وإنّه لمثمر أعلاه ، معذق أسفله ؛ وإنّه ليعلو ، وما يعلى. قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال : فدعني حتى أفكر فيه ، فقال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره ، فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) سورة المدّثر الآيات ١١ ـ ٢٥.

وهكذا حال صناديد قريش ، وهكذا حال فصحائهم ، وبلغائهم ، وخطبائهم ، وشعرائهم. وهكذا حال قس بن ساعدة ، وأميّة بن أبي الصلت ،

١٩٧

وغيرهم كثير خروا لبلاغة القرآن سجدا ، وركعوا لفصاحة القرآن ركعا. وهم أخطب النّاس ، وأشعرهم ، وأكثرهم فصاحة ، وبيانا ، أحسوا ببيان القرآن أكثر من غيرهم ، وأعجبوا ببلاغته أكثر من عوامهم ، وقد وجدوا فيه قوة بيانية لا تجابه ، وتيارا بلاغيا لا يقاوم ؛ فبسطوا ألسنتهم فأخرسها ، وفتحوا أفواههم ، فأغلقها ، وحاولوا معارضته فأفحمهم ، وأعجزهم. ولما لم يجدوا سبيلا آخر ، وسدت عليهم منافذ التحدي في المعارضة ، قالوا بالصّرفة ، قالوا : إنّ الله صرفهم عن المعارضة ، فأصبحوا غير قادرين ، ولو لا الصرفة لكانوا قادرين. ألا بئس الذّنب الكفر بعد الإيمان. ألا بئس الذنب الكفر بعد الإفحام. ألا بئس صارف صرفهم عن إيمانهم ، فعطل عقولهم ، وأعمى أبصارهم ، وضرب على آذانهم ، وطمس على قلوبهم.

الشبهة الثانية :

إنّ تحدي القرآن للعرب أن يأتوا بمثله لا يدل على أنّه معجز ، أو أنّه كلام الله. ودليل ذلك : أنّ الصنعة البيانية ليست في النّاس بدرجة واحدة. وأنّ لكل قائل أو كاتب أو متأدب أسلوبا خاصا به يتبع استعداده الأدبيّ ، وما تهديه إليه فطرته الأدبية ، ومواهبه البيانية. وبذلك لا يستطيع أن يأتي اثنان بأسلوب واحد ، وبخصائص متشابهة ، وصفاته ، وشواهده ونكاته البلاغية واحدة. ولذلك فكل أسلوب يعتبر معجزا بالنسبة للآخر ، أو الأساليب الأخرى. ولذلك فالإعجاز الأسلوبي أمر مشاع في كلام البشر. وهو إعجاز نسبي ، وليس مطلقا ، وكذلك فإنّ هذا الإعجاز لم يضف على الأساليب البشرية شيئا من القدسية ، ولم يجعلها قرآنا. وما القرآن إلّا كلام عبر عنه أساليب بلاغية ، وبيانية بشرية. وما القرآن إلّا كلام بشر ، وهو محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». ويتساءل أصحاب هذه الشبهة : إذا كان اختلاف الأساليب البشرية أمرا يعترف به الجميع ، وأنّه يستحيل أن يأتي أديب بأسلوب ، أو يكتب كاتب بمنهج يشبه تماما أساليب غيره ، فكيف يتحدى القرآن الناس أن يأتوا بمثله ، أو بمثل أسلوبه ؛ وصاحبه يعلم أن

١٩٨

هؤلاء الناس يعجزون أن يأتوا بمثل أساليب بعضهم البعض؟!! وعند ما يعجزون عن الإتيان بمثل القرآن يسميه إعجازا ، أو إفحاما؟!! ويتساءلون أيضا : إذا كان اختلاف الأساليب البشرية في نكاتها البلاغية ، وفصاحتها التعبيرية ، وألفاظها البيانية ، لا يدل أبدا على قدسيتها ، ولا يوصلها إلى المقامات الإعجازية ، أو أنّها من صنع إلهي أو أنّها أساليب إلهية؟ فلما ذا إذن ـ والتساؤل لهم ـ تعتبرون أسلوب القرآن إلهيا؟! وهو من جملة الأساليب البشرية الأخرى ، ويشترك معها في خصائصها ، وسماتها البيانية والبلاغية ، والتعبيرية؟!. وكذلك وكما أن عجز المرء عن أن يأتي بأسلوب يشبه أسلوب غيره لا يعتبر دليلا على قدسية هذا الأسلوب الأخير. فكذلك فإنّ عجز النّاس عن أن يأتوا بمثل أساليب القرآن يجب ألّا يعتبر هذا العجز دليلا على قدسية القرآن ، وبأساليبه!!! وأصحاب هذه الشبهة يريدون أن يصلوا إلى أمرين : الأوّل : أن القرآن ليس من عند الله ، وإنّما هو من صنع محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وهو إنسان بشري ـ الثاني ـ أن كلام القرآن ليس معجزا ، وأنّ تحديه للناس أن يأتوا بمثله ليس بدليل على إعجازه ، ولو فشلوا.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّ منطلق هذه الشبهة أساسه خاطئ. وما بني على خطأ فهو خطأ ، ويقود إلى الخطأ. فهم ـ أي أصحاب هذه الشبهة ـ ينطلقون من أمر خاطئ يسلمون به ، وهو أمر غير مسلّم به ، وهو أن القرآن ليس إليها ، وأنّه من تأليف بشر هو محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ودون أن يثبتوا ذلك ، ودون أن يقدموا ولو دليلا واحدا على صدق دعواهم والخطأ الثاني الذي ارتكبوه في تأييد شبهتهم أنّهم أجروا مقارنة بين القرآن الإلهي ، وبين الكلام البشري عند كلامهم عن أساليب التعبير ، والبلاغة ، والبيان. فكانت مقارناتهم ، وكانت مزاعمهم واهية لم تسعفهم البتة في تأييد شبهتهم ، وتأكيد صحتها. فقد انطلقوا من فرضيات خاطئة لا يوافقهم عليها أحد ثمّ أجروا مناقشاتهم بناء عليها.

١٩٩

ثانيا : إن تفنيد هذه الشبهة يكمن في أن القرآن الكريم تحدّاهم في مادتهم الكلامية ، وفي صنعتهم البيانية ، فلم يفلحوا. فالقرآن لم يتحداهم في لغة غير لغتهم ، أو في بيان غير بيانهم ، أو في كلام غير كلامهم ، أو مفردات غير مفردات لغتهم ، بل ذهب أبعد من ذلك ؛ فالقرآن في إعجازه ، وليثبت تحدّيه لم يكلفهم أن يأتوا حتى بنفس صورته الكلامية ، أو بنفس أسلوبه المتبع ، أو منهاجه المعين. وإنّما تحداهم أن يأتوا بكلام شبيه إلى حد ما بكلام القرآن ، أو أسلوب يقترب في خصائصه ، وسماته ، أو منهاج يقارب القرآن في بيانه حتى ولو كان على غير صورة القرآن البيانية. المهم بالنسبة لتحدي القرآن ألّا يأتوا بكلام يطيش في الميزان إذا قيس هو ، والقرآن بمقياس واحد من البيان كما يقول شيخنا الزرقاني. والمهم في تحدي القرآن لهم ، وكما يقول شيخنا دكتور دراز : «أنّنا حين نتحدى النّاس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية. كلا. ذلك ما لا نطمع فيه ، ولا ندعو المعارضين إليه. وإنّما نطلب كلاما أيّا كان نمطه ، ومنهاجه ، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيّا كانت فطرته ، ومزاجه ، وبحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية ، حاذاه ، أو قاربه في ذلك المقياس ، وإن كان على غير صورته الخاصة. فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء ، وفيه يتماثلون ، أو يتقاربون. وذلك غير المعارض ، والصور المعينة التي لا بدّ من الاختلاف فيها بين متكلم ، ومتكلم» (١).

وكما يمثل على ذلك علماؤنا ، فإنّ الحالة هذه : كقوم استبقوا إلى غاية محدودة أو هدف واحد ، وكل واحد سار في طريق رسم له وحده ، ولا يتعداه إلى طريق غيره من المتسابقين ، ويسير موازيا لخصومه في الممشى ، والاتجاه. ثم يتفاوتون في السباق ، والسرعة ؛ فتجد السابق

__________________

(١) الدكتور محمد عبد الله دراز ـ النبأ العظيم ـ ص ٩٥.

٢٠٠