شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

الشبهة السابعة :

شبهة النصارى : وتتمثل شبهتهم في أن شريعة عيسى مؤبدة ، ولم تنسخ ؛ ويستندون إلى نصوص في الإنجيل منها : «أنّ المسيح (عليه‌السلام) قال : السماء ، والأرض تزولان ، وكلامي لا يزول» وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا. أي شرعا.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إن ما يستندون إليه في الإنجيل لا يدل على امتناع النسخ مطلقا ، وإنّما يدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح (عليه‌السلام) فقط.

ثانيا : إن قول المسيح ذلك ، والذي ورد في الإنجيل لا علاقة له بالنسخ نفيا أو إثباتا ؛ وإنّما يدل على أنّ تنبؤاته ستقع لا محالة ليس إلا. وذلك أن المسيح حدّث أصحابه بأمور مستقبلية ، وبعد أن انتهى من حديثه قال هذه الجملة : «السماء ، والأرض تزولان ، وكلامي لا يزول».

ثالثا : لقد ورد في الإنجيل لنصوص منها : ما ورد في إنجيل «متّى» : «إلى طريق أمم لا تمضوا ، ومدينة للسامريين لا تدخلوا ؛ بل اذهبوا بالجري إلى خراف بني إسرائيل الضّالة». وهذا اعتراف بخصوصية رسالة المسيح (عليه‌السلام) لبني إسرائيل. وقد ورد ما ينسخ مثل هذه النصوص كما في إنجيل مرقص : «اذهبوا إلى العالم أجمع ، واكرزوا بالإنجيل للخليقة». فالقول الثاني هذا ناسخ للقول الأوّل.

رابعا : إنّ جمهور المسلمين قاطبة ينكرون أنّ إنجيل عيسى الأصيل هو الذي بين أيدي النصارى اليوم ، بل إن النصارى أنفسهم لم يستطيعوا إقامة الدليل على صحة ادعائهم بأنّ الذي بين أيديهم هو إنجيل عيسى ؛ حيث ثبت بطلان السند ، وروايته شذوذا ، وانقطاعا ، وخرافة فيما يتعلق بعقيدة الصلب ، والأقانيم الثلاثة ؛ وبالتالي فإنّه ينكر الاستناد على ما

١٦١

ورد في أناجيلهم من أقوال نسبوها إلى المسيح (عليه‌السلام) زورا وبهتانا ، ومنها عالمية رسالته ، وعدم نسخها ، وتأبيدها.

الشبهة الثامنة :

شبهة أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين : وتتمثل شبهته في عدم وقوع النسخ في القرآن استنادا إلى قوله تعالى :

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). سورة فصلت آية ٤٢. وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أنّ أحكام القرآن لا تبطل أبدا ، والنسخ فيه يعني إبطالا لحكم سابق. وهو يسمى النسخ تخصيصا.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّ تفسير أبي مسلم الأصفهاني للآية خاطئ. وإنّه من الخطأ الفادح تفسير الباطل بالنسخ ؛ فهذا من قبيل تحميل النص فوق ما يحتمل لتأييد ادعاء تشبث به صاحبه ، وهو أبو مسلم ؛ ومخالفا به تفسير جمهور المسلمين. فمعنى الآية هو : أنّ عقائد القرآن موافقة للعقل ، وأحكامه مسايرة للحكمة ؛ وأخباره مطابقة للواقع ؛ وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل ، والخطأ لا يمكن أن يتطرق إلى ساحته مصداق قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) سورة الحجرات آية ٩. يعني الباطل في الآية ما خالف الحق. والنسخ حق.

ثانيا : إنّ إطلاق التخصيص على النسخ هو من قبيل تسمية الشيء بغير مسماه. فالتخصيص شيء ، والنسخ شيء آخر ، والفرق بين النسخ والتخصيص كبير.

١٦٢

الباب التاسع

شبهات حول ترجمة القرآن ، وتفنيدها

الشبهة الأولى :

إنّ ترجمة القرآن ترجمة حرفية ومن لغته العربية إلى لغة أخرى جائزة ، وغير متعذرة. وهم يقصدون بترجمة القرآن التعبير عن معاني ألفاظه العربية ، ومقاصدها بألفاظ غير عربية مع الوفاء بجميع هذه المعاني والمقاصد.

ودليلهم : أنّ القرآن الكريم لم ينزل للعرب وحدهم فقط ؛ ولذا يجب تبليغه للأمم الأخرى الإسلامية عن طريق ترجمته إلى لغاتهم. وتبليغ الإسلام واجب ، وما لا يتم الواجب إلّا به ، فهو واجب.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّ ترجمة القرآن ترجمة حرفية مستحيلة. فإنّه يستحيل أن يترجم القرآن بألفاظ أخرى غير عربية تقوم مقام ألفاظه ، وتعبر عن نفس

١٦٣

معانيه ومقاصده. وبذلك فكلّ ترجمة من هذا القبيل لا تسمى قرآنا ، وإلا كان محرفا ، ولا يستقيم التعبد به ، والصلاة به ويكون في هذه الحالة ترجمة تفسير أو معاني ، ولا يكون بل لا يسمى قرآنا.

ثانيا : إنّ تبليغ القرآن يمكن أن يتم من خلال ترجمة معانيه ، وهو تفسيره بغير لغته. فينقل إلى الشعوب الإسلامية غير العربية ، وبلغاتهم ، فيفهمون علومه ، وتكاليفه ، وأحكامه ، وعقائده ، وشرائعه .. إلخ.

ثالثا : إنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يترجم القرآن ، ولم يأمر بترجمته إلى لغة أخرى حتى وفي دعوته للأمراء ، والملوك ، والشعوب غير العربية ؛ وإنّما كان يدعوهم إلى اعتناق الإسلام بتوضيحه لهم عقائده ، وعلومه وأحكامه.

رابعا : وكذلك الصحابة (رضوان الله عليهم) لم يقوموا بترجمة القرآن حرفيا ، وهم الحريصون على تبليغ الإسلام ، والقرآن ، والسنة النبوية للآخرين ؛ وهم الذين قال فيهم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «أيهم اقتديتم ، اهتديتم».

الشبهة الثانية :

إنّ ترجمة القرآن حرفيا واجبة ، وأمر مفروض. ودليلهم : أنّ حماية القرآن من التحريف تقتضي ذلك ؛ وأنّ الواجب يقتضي ألّا تترك ترجمة القرآن إلى غير العرب حتى تبقى ترجمتنا هي الأصل الصحيح ، والمعتمد عليه كقرآن مترجم.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّ القضية بالنسبة لموضوع الترجمة لا تكمن في من هو الذي يقوم بالترجمة. فالقضية هنا : أن الترجمة مستحيلة سواء قمنا نحن

١٦٤

بها ، أو قام غيرنا ؛ لأنّه يستحيل أن يعبر عن معاني القرآن بألفاظ غير عربية ، وغير ألفاظه. فلا توجد هناك بين لغات العالم لغة تشبه مفرداتها وألفاظها ، وتراكيبها نظيرتها في اللغة العربية ، أو يمكن أن تعبر عن معاني ومقاصد القرآن الكريم نفسها. ولتكن الترجمة إذن ترجمة تفسير للمعاني القرآنية ، وهذه لا تسمى قرآنا. ولذلك فمهما أوتينا من حرص في ترجمة القرآن ، والتعبير عن معانيه بألفاظ ، ومفردات ، وتراكيب تأتي بها لغات أخرى ، فإننا لا نستطيع أن نحقق المراد المقصود من الترجمة ، وأن نأتي بقرآن ألفاظه ، ومفرداته ، وتراكيبه غير عربية.

ثانيا : إنّ العناية الإلهية اقتضت أن يكون هذا القرآن ، وأن يبقى عربيا لحكمة عدم إمكانية ترجمته أو لحكم أخرى لا يعلمها إلا الله. فقد تظهر لنا بعض حكم القرآن ، وقد يخفى علينا الكثير منها. حتى الذي يظهر لنا من الحكم قد لا يكون هو المقصود. وكما قال الإمام السيوطي في الإتقان : «إنّ تحت كل حرف من حروف القرآن الكريم معان لا يعلمها إلا الله تعالى».

وغني عن البيان القول : إنّ الله تعالى لم ينزل القرآن ، ولم يجعله عربيا إلّا لحكمة هو ارتضاها ، وإذا قال هو عربي ، سيظل عربيا ، وعلينا ، ولعلنا نعقل ما فيه ، ولما نزل لأجله. قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) سورة يوسف آية ٢.

وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). سورة الزخرف آية ٣.

الشبهة الثالثة :

إنّ ترجمة القرآن حرفيا إلى لغة أخرى اقتضتها السّنّة النبوية. ودليلهم : قال «الشربنلالي» في كتابه : «النفحة القدسية» : «روي أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية ، فكتب

١٦٥

لهم : «بسم الله الرحمن الرحيم ـ به نام يزدان بخشايند) فكانوا يقرءون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم. وبعد ما كتب عرضه على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كذا في المبسوط. قاله في النهاية ، والدراية».

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّ هذا الحديث خبر مجهول الأصل ، وفي متنه ، وسنده ، ولذا لا يجوز الاعتداد به. ولو كان صحيحا لتواتر ، لأهميته.

ثانيا : إنّ هذا الخبر يحمل في طياته علامات نقضه. لأنّه لو صح ، فإنّ المعلوم أن سلمان الفارسي لم يجبهم إلى طلبهم ، وأنّه لم يترجم لهم الفاتحة ، وإنّما ترجم البسملة فقط كما هو مستفاد من الحديث نفسه. زد على ذلك أن ترجمة البسملة أيضا لم تأت كاملة. وإنّما نقصت ترجمة «الرحمن».

ثالثا : إنّ الاختلاف في روايات هذا الحديث بالزيادة ، والنقصان في لفظه يقتضي الحكم برده ، وعدم الأخذ به. فالإمام النووي مثلا نقله في المجموع شرح المهذب بلفظ آخر نصه : «إنّ قوما من أهل فارس طلبوا من سلمان أن يكتب لهم شيئا من القرآن ، فكتب لهم الفاتحة بالفارسية». فهذه الرواية تذكر الفاتحة ، والأولى تذكر البسملة ، وهذا اضطراب يوهن الحديث ويضعفه.

رابعا : يترتب على ما سبق عدم ثبوت صحة هذا الحديث. وكذلك تناقضه. وحتى على فرض صحته ، فالظاهر ، بل والثابت أنّه يعارض الأدلة الأكيدة ، والمتفق عليها من قبل العلماء على عدم جواز وصحة ترجمة القرآن ترجمة حرفية ؛ وأنّه قد يكون المقصود في حديث سلمان الفارسي هو الترجمة اللغوية التفسيرية ليس إلّا. والله أعلى ، وأعلم.

١٦٦

تعليلات العلماء

في عدم جواز الترجمة الحرفية للقرآن الكريم.

والمقصود بها نقل القرآن من لغته العربية إلى لغة أخرى ، أي التعبير عن معاني ألفاظ القرآن العربية ، ومقاصدها بألفاظ غير عربية مع الوفاء بجميع هذه المعاني ، والمقاصد. وبعبارة أخرى يقصد بالترجمة الحرفية للقرآن الكريم النقل الحرفي لألفاظه ، ومفرداته ، وتراكيبه العربية إلى أخرى مشابهة لها في اللغات الأخرى. بحيث يكون النظم موافقا للنظم ، والترتيب موافقا للترتيب. أمّا إذا لم يلاحظ النقل الحرفي ، ولم يكن النظم موافقا للنظم ، والترتيب موافقا للترتيب ، وكان هناك نقل لمعاني القرآن بألفاظ يختارها المترجم من لغة أخرى ، فهذه هي الترجمة التفسيرية غير العربية للقرآن ، وليس الترجمة الحرفية له.

ويقرر العلماء : أنّ حكم الترجمة النقلية الحرفية للقرآن الكريم غير جائز شرعا ، بل ومستحيل ، بل وحرام شرعا.

فالقرآن الكريم إلهي ولو أنّه نزل بلغة عربية ، فهو ينفرد بمفرداته ، وألفاظه ، وتراكيبه ، وبلاغته ، وأسلوبه ، ولطائف معانيه. وهو جميعه متواتر متعبد بتلاوته أعجز العرب أن يحاكوه. وقد نزل بلغتهم ، فكيف يمكن ترجمة مثل هذا الكتاب ـ هذه خصائصه اللغوية ـ إلى لغة أخرى غير عربيّة. وتأصيلا لحكم تحريم ، واستحالة الترجمة الحرفية للقرآن الكريم نؤصل جملة تعليلات نستند إليها في توضيح ، وتأصيل حكم هذه الاستحالة ، وهي :

التعليل الأوّل : «إنّ الترجمة الحرفية للقرآن تستلزم وجود مفردات وتراكيب ، ونظم ، وتراتيب ، وروابط لغوية ، وضمائر في اللغة المترجم إليها مساوية لتلك التي في القرآن حتى تحل محلها ، ويحاط بها تماما بجميع معاني القرآن. وهذا مستحيل ، وغير ممكن. ومن ثم فليس هناك لغة على وجه هذه البسيطة تضاهي اللغة العربية في مفرداتها ، وتراكيبها ،

١٦٧

واشتقاقاتها ، وألفاظها حتى يمكن إحلالها محل اللغة العربية لغة القرآن. ومن المعروف بداهة ، وعند أهل اللغة قديما ، وحديثا ، وفي الشرق والغرب أنّ اللغة العربية لغة القرآن تنفرد بخصائصها اللغوية ، والنحوية ، والاشتقاقية ؛ ومع ما يحمله السياق اللفظي من بلاغة ، وفصاحة ، وتقديم وتأخير ، وتذكير ، وتأنيث ، وإفراد ، وتثنية ، وجمع ، واستعارة ، وكناية ، وتشبيه ، وتمثيل ، وتورية ، ووجوه إعراب ، ومجاز ، وترتيب مفردات الجملة : كتقديم الفعل على الفاعل ، والمضاف على المضاف عليه ، وشبه الجملة الخبر على المبتدأ ، وحذف جملة الابتداء ، أو حذف جملة الخبر ؛ وغيرها من الخصائص اللغوية الأخرى ، والتي تجعل لغة القرآن العربية لها استقلاليتها عن لغات العالم الأخرى. وبحيث يستحيل أن تضاهيها ، أو تحل محلها لغة أخرى تحافظ على الأصل اللغوي لألفاظ القرآن ، وتحيط بجميع معانيه. وذلك لأن الترجمة النقلية الحرفية تقتضي إحلال اللغة إليها بوجوه السياق اللفظي ، والنحوي ، والبلاغي محل لغة القرآن العربية ، وتحيط بجميع معانيه ، وهذا مستحيل مستحيل.

التعليل الثاني : إنّ الترجمة الحرفية للقرآن تستلزم الوفاء بجميع معاني القرآن الكريم الأصلية الأولية ، والثانوية التابعة ، وهذا مستحيل ، وغير ممكن.

أولا : فبالنسبة لمعاني القرآن الأصلية الأوليّة : فإنّ الترجمة الحرفية لها مستحيلة ، وممنوعة ، وذلك لأنّ ألفاظ ، ومفردات القرآن في دلالتها على معانيها الأصلية لها سماتها اللغوية ، وخصائصها النحوية بحيث تجعلها ذات سياق بلاغي ، ولغوي خاص بها تنفرد بها عن نظيراتها في اللغات الأخرى. وبحيث لا يمكن أن يكون لها شبيه في تلك اللغات الأخرى ، أو مضاه لها ، وبالتالي يستحيل إحلالها محلها ، والدلالة على نفس معاني ألفاظ ، ومفردات القرآن العربية. وكذلك : فإذا كان العلماء قد أجازوا الترجمة التفسيرية المعنوية بغير العربية للقرآن الكريم ، فإن تلك الإجازة أحاطوها بقيود ، ومستلزمات أساسية أهمها :

١٦٨

غير العربية للقرآن ليس أو ليست نقلا حرفيا له. ولم يقصد بها إحلال اللغة المترجم إليها محل لغة القرآن المترجمة ، وإنّما تتم بمفردات وألفاظ يختارها المترجم من اللغة المترجم إليها ، ويعبّر بها عن المعنى الذي فهمه من السياق اللفظي القرآني. وهي بالتالي ـ أي الترجمة التفسيرية ـ ليست ترجمة حرفية للقرآن ، وأيضا ، فإنه ، وحتى بالنسبة للترجمة التفسيرية بغير العربية لمعاني القرآن الأصلية قد تعوزها الدقة والوضوح في التعبير ، والدلالة على المعاني المقصودة في اللفظ القرآني. فعلى سبيل المثال : فإنّ اللفظ القرآني الواحد قد يحتمل معنيين أو أكثر تحتملها الآية الواحدة. فيأتي المترجم بلفظ من اللغة المترجم إليها ليدل على معنى واحد فقط ، وقد لا يكون هو المعنى المقصود في الآية. وكذلك فقد ترد الآية بمعنى مجازي ، فيأتي المترجم بلفظ آخر من اللغة المترجم إليها ، فيضعه في معناه الحقيقي. وبذلك فالعلماء أجازوا الترجمة التفسيرية المعنوية غير العربية لمعاني القرآن الأصلية تحت قيد الضرورة ، وبقدر الحاجة فقط. وأما الترجمة الحرفية لمعاني القرآن الأصلية ، فقد حرّمها العلماء.

ثانيا : وأمّا بالنسبة لمعاني القرآن الثانوية التابعة : فإنّ الترجمة الحرفية لها مستحيلة ، وممنوعة أيضا ؛ وذلك لأنّ المعاني الثانوية هي من خواص نظم القرآن ، والتي ينفرد بها كلام الله القرآني ، وبها يكون معجزا. فهي دلالات خصائصه السامية في البلاغة ، والإعجاز ، والتي يستحيل أن يحاكيها أي كلام بشري ، وإلا لا يتحقق ذلك الإعجاز. وبالتالي لا ترتقي إلى لغة القرآن في دلالة ألفاظها على معانيها الثانوية أيّة لغة من لغات العالم ، وكلها بشرية. ومن هنا فإن العلماء لم يمنعوا الترجمة الحرفية لمعاني القرآن الثانوية فقط ، وإنّما منعوا الترجمة التفسيرية غير العربية لها أيضا.

التعليل الثالث : إنّ الترجمة الحرفية للقرآن تستلزم الوفاء بمقاصد القرآن الكريم الرئيسية ، وهذا مستحيل ، وغير ممكن ، وهي : كونه هداية للجن والإنس ، وكونه آية للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وكونه متعبدا بتلاوته.

١٦٩

أولا : فكونه هداية للجن ، والإنس : فإنّه يستحيل تحقيق هذا المقصد القرآني عن طريق الترجمة الحرفية للقرآن ؛ وذلك لأنّ الكلام الرباني في مفرداته ، وتراكيبه ، وتناسقه ، وتعبيراته ، واستعاراته ، وكناياته ، ومجازه ، وتوريته ، وسياقه اللفظي يحمل في طياته أسس ، ومعالم وحوافز تقريب شواهد الهداية لخلق الله من الجن ، والإنس. ومن ثمّ فليس هناك كلام بشري له نفس تلك الخصائص اللغوية ، ويمكن ترجمة القرآن إليه ؛ ومن ثم يمكن إحلاله محل الكلام الرباني ، وفي الوقت نفسه يحمل في طياته شواهد الهداية للخلق من الجن ، والإنس. وأيضا : إذا افترض أن هذا المقصد ـ وهو الهداية ـ يمكن تحقيقه بالترجمة لمعاني القرآن الأصلية ، فإنّه يستحيل تحقيقه بالنسبة لترجمة معاني القرآن الثانوية. وبعبارة أخرى : فإنّ ما يمكن تحقيقه في الترجمة بالنسبة إلى كل ما يفهم من معاني القرآن الأصلية ، فهو لا يمكن تحقيقه إلى كل ما يفهم من معاني القرآن الثانوية التابعة ؛ لأنها كما قلنا مدلولة لخصائص القرآن العليا التي هي مناط إعجاز البلاغي.

ثانيا : وكونه آية : فإنّه يستحيل تحقيق هذا المقصد القرآني عن طريق الترجمة الحرفية للقرآن. فبالكلام البشري المترجم إليه القرآن عربيا كان أو أعجميا ، يستحيل أن تتحقق به معجزة القرآن الخالدة ، وهي كونه آية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» سمت بدلالاتها ، ومفاهيمها ، وهدايتها ، وأحكامها ، ومناهجها عن غيرها من آيات الأنبياء الحسية الوقتية. فمقصد كون القرآن آية يخرج أن مقدور البشر تحقيقه حتى وإن سما كلام البشر في بيانه وفصاحته ، وبلاغته ؛ لأنّه سيبقى بخصائصه هذه عاجزا تماما أن تتحقق به معجزة انفرد بتحقيقها الكلام الرباني القرآني ، بل ولا يقدر عليها إلا الله وحده.

ثالثا : وكونه متعبدا بتلاوته : فإنّه يستحيل تحقيق هذا المقصد القرآني عن طريق الترجمة الحرفية للقرآن. فأي ترجمة للقرآن إلى لغة أخرى غير لغته ليست قرآنا ، وبالتالي لا تحمل خصائصه في ألفاظه ،

١٧٠

وأساليبه ، ومفرداته ، وتراكيبه ، وتناسقه ، وانسجام آياته ، وبالتالي لا يمكن أن تحل محل القرآن ، وبالتالي لا يتعبد بتلاوتها.

ولنا أن نزيد هذا الأمر وضوحا فنقول : إنّ مقصد التعبد بتلاوة القرآن لا يتحقق حتى بالنسبة لكلام الله الآخر ، وهو الحديث القدسي ، والقرآن المنسوخ تلاوة ، فبالله كيف يمكن تحقيقه بالكلام البشري المترجم إليه القرآن؟!! فالشرعية اللغوية ، والدينية تأبى ذلك ، وتنأى بمدلولاتها السليمة أن يترجم كلام الله حرفيا إلى لغة أخرى ، وفي نفس الوقت يتحقق بتلك الترجمة مقصد التعبد بالتلاوة. ولذا يبقى تحققه بالقرآن ، بالكلام الرباني ، بالوحي النازل على خاتم الأنبياء المصطفى «صلوات الله عليه».

التعليل الرابع : إنّ الترجمة الحرفية للقرآن تستلزم أن يكون هناك مثل القرآن الكريم ، وهذا مستحيل ، وغير ممكن ؛ وذلك لأن الترجمة الحرفية للقرآن تقتضي التعبير عن معالجة ألفاظه العربية ، ومقاصدها بألفاظ غير عربية مع الوفاء بجميع هذه المعاني ، والمقاصد ، وبحيث تصبح الترجمة صورة مطابقة للأصل القرآني تحل محله ، وتتمتع باستقلالية يستغنى بها من أصلها ، وقد تحمل اسمه ، وفي نفس الوقت تتضمن الترجمة عرفا دعوى الاطمئنان إلى أنّ جميع المعاني الأصلية ، والثانوية للقرآن قد ترجمت ، وتم نقلها بذاتها. وأنّها هي نفسها المرادة ، والمقصودة في أصلها القرآني ، وهذا مستحيل ، ولا يمكن تحققه ، ولا يمكن قبوله ، بل ولا يمكن تصديقه ، ولم تمكن القدرة عليه سواء على الواقع النظري ، أو الواقع العملي.

أولا : فبالنسبة للواقع النظري : فيكفينا القول : إنّه لا توجد لغة بشرية تماثل ، وتشابه لغة القرآن العربية في مفرداتها ، وتعبيراتها ، وتراكيبها ، واشتقاقاتها ، وضمائرها ، وروابطها ، وخصائصها اللغوية الأخرى ، حتى يمكن أن تساويها ، أو تحل محلها ، أو يستغنى بها عنها. ونزيد الأمر وضوحا بالقول : بأنّ لغات البشر الوضعية ، وإن تحققت وحدة عناصر

١٧١

التشابه ، والتماثل فيما بينها إلى حد بعيد إلّا أنّ هذا التشابه ، والتماثل نسبي ، وليس على إطلاقه ؛ وبحيث تبقى هذه اللغات دوما على درجة من الاستقلالية ، والاختلاف عن بعضها ؛ نظرا لاختلاف خصائصها اللغوية. ومن ثم يبقى التماثل ، والتشابه فيما بينها نسبيا ، ولا يمكن تحققه على الواقع النظري. ولذلك يصرح الكثير من المتمكنين في اللغات البشرية أنّ ترجمة النصوص الأدبية من لغة إلى أخرى بصورة دقيقة أمر مستحيل ، وما يتداوله النّاس من ترجمات النصوص أدبية أو وثائقية ، هي في حدّ ذاتها ليست دقيقة ، وليست ترجمة بالمعنى الدقيق ؛ وإنّما يسمونها ترجمة من قبيل التسامح في ميدان نقل المعاني من الأصل المترجم إلى الفرع المترجم إليه. نقول : إذا كان ذلك التشابه ، وإذا كان التماثل متعذرا بين لغات البشر الوضعية ، والتي تجمعها شواهد وحدة عناصر التماثل والمتشابه إلى حدّ بعيد فما بالك بالنسبة للغة القرآن العربية ، والتي نرى ، وباعتراف الجميع من اللغويين ، والعلماء ، تمايزها ، وانفرادها اللغوي تماما ، بحيث يبقيها في منأى عن وحدة عناصر ، وشواهد التماثل والتشابه مع اللغات البشرية ، الوضعية ، حتى العربية منها. وبالتالي تتعذر الترجمة الحرفية لها ، والتي يشترط فيها وجود مثل هذا التشابه ، والتماثل بين اللغات ، وإلى أي من تلك اللغات البشرية في الواقع النظري.

ثانيا : وبالنسبة للواقع العملي : فيكفينا القول : إنّ القرآن ، وللآن ، لم يحصل أن ترجم ترجمة حرفية. بل لم يستطع ، ولم تكن القدرة على ترجمته حرفيا رغم المحاولات العديدة ، ورغم الترجمات الكثيرة التي تمت ، وحصلت للقرآن الكريم. فجلّ هذه الترجمات هي من قبيل التفاسير لمعاني القرآن بلغات أخرى غير عربية ، وهي ليست بقرآن ، وليست ترجمة حرفية له. ونزيد الأمر وضوحا بالقول : إنّ استحالة ، وعدم حصول ترجمات حرفية ، إلى لغات أخرى للقرآن الكريم في الواقع العملي لا تتعلق باللّغات غير العربية ، أو الشعوب غير العربية فقط ؛ وإنّما تكرّست ، وتأكدت شواهد تلك الاستحالة بالنسبة للعرب أنفسهم ،

١٧٢

وهم أهل لغتهم العربية ، فقد أثبت هؤلاء عجزهم عن محاكاة القرآن والإتيان بمثله حتى وبمثل أقصر سورة منه ، وتكون من ثلاث آيات ، وكل ذلك لأنّ معارضة القرآن ، ومحاكاته تقتضي الإحاطة بجميع معانيه ومقاصده ، ويعني هذا الإتيان بمثله ، أي الإتيان بقرآن بشري وضعي أرضي. وهذا ما لم يحصل ، ولن يحصل حتى بالنسبة للعرب الفصحاء البلغاء والّذين لغتهم هي نفسها لغة القرآن العربية. نقول : إن كان هذا لم تحصل القدرة عليه من قبل أهل لغة القرآن ، فيكف يتسنى أو يعقل أن يحصل من أو يقدر عليه غير العرب من أصحاب اللغات الأعجمية الأخرى؟!!. فقد تحدّى القرآن العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ولم يستطيعوا ، مصداق قوله تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) الطور آية ٣٤.

وقد تحدّاهم أن يأتوا بعشر سور مثله ، فعجزوا ، ولم يستطيعوا ، مصداق قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة هود آية ١٣. وقد تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة مثله فعجزوا أيضا ، ولم يستطيعوا ، مصداق قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة يونس آية ٣٨.

وقد حذّر الله العرب ، وفي تحذيره لهم تحذير لغيرهم من الأعاجم أو كلّ من تسوّل له نفسه الافتراء على هذا القرآن ، أو الادعاء أنّ في مقدوره الإتيان بمثله ، قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) سورة البقرة آية ٢٤. وفي هذا التحذير الرباني نفي ، وأي نفي للإتيان بمثل هذا القرآن. وفيه نفي ، وأي نفي لاستطاعة الإتيان بأية ترجمة للقرآن إلى لغة أخرى يدّعى أنّها ترجمة حرفية له ، تقوم مقامه ، أو تحل محله ، وفي الواقعين النظري ، والعملي معا.

التعليل الخامس : إنّ الترجمة الحرفية للقرآن تستلزم طلب المستحيل العادي ، وهو حرام. فطلب الاستحالة العادية حتى ولو بطريق

١٧٣

الدعاء حرام شرعا ، وأيّا كان هذا المستحيل ترجمة ، أو غير ترجمة ؛ لأنّه ضرب من العبث ، ونوع من اللهو الممقوت ، وهلاك للنفس أي هلاك ، والله تعالى يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) سورة البقرة آية ١٩٥. وطلب المستحيل هو في حد ذاته غفلة ، وجهل بسنن الله الكونية ، وبحكمته في ربط الأسباب بمسبباتها العادية ؛ تطمينا لخلقه ، ورحمة بعباده. ومن ثمّ فإنّ ترجمة القرآن حرفيا هو ضرب من الجهل ، والعبث لا عذر لفاعله ، والله تعالى أخبر أن ذلك مستحيل على الجن ، والإنس جميعا ، فهو يقول : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) سورة الإسراء آية ٨٨. والله تعالى أنذر بعد أن أخبر بالعذاب بالنّار لمن افترى ، وادعى الترجمة الحرفية للقرآن ، أو أنّها قرآن ، يقول : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) سورة البقرة آية ٢٤. وتتأصل حرمة الترجمة الحرفية للقرآن الكريم وضوحا في مخالفة ، وتكذيب القرآن ذاته ، فادعاء الإتيان بمثل للقرآن فيه للآية السابقة ، ولقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) سورة يونس آية ١٥.

ففي الآية السابقة أمر إلهي للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بأن ينفي قدرته على تبديل هذا القرآن. وهو أمر إلهي لكل إنسان ألّا يحاول تبديل هذا القرآن بترجمة أو غير ترجمة ؛ لأنّ ذلك هوى شيطاني ، وعصيان للرّب ، فهو حرام ، وعاقبته العذاب العظيم.

ونزيد الأمر وضوحا بالقول : بأنّه إذا كان النص القرآني ينفي عن الرسول قدرته على تبديل القرآن ، والرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» حبيب الرحمن ، وعليه أنزل القرآن ، وهو أعلم الناس بأسراره ، ولغته ، وهو أفصح العرب لسانا ، وأعلمهم بمعاني القرآن ، ومقاصده ، نقول : فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فما بالك بالنسبة لتجار اللّغات من البشر ، وهم أقل

١٧٤

الناس شأنا بالنسبة للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وفي ميدان العلم ، واللغة ، فهل يستطيعون أن يصدقوا في افتراءاتهم ، وفي أن يأتوا بمثل لهذا القرآن؟!! فلعمرك ، إنّ هذا لهو المستحيل ، وطلب المستحيل حرام ، ومن ثم فطلب الترجمة الحرفية للقرآن ، وإلى لغة أخرى ، لهو الحرام بعينه.

التعليل السادس : إنّ الترجمة الحرفية للقرآن تستلزم رواية القرآن بالمعنى ، وهو حرام ، بل ، ولا يجوز. فترجمة القرآن بالمعنى الحرفي العرفي تساوي روايته بالمعنى تماما ، فكلتاهما صيغة مستقلة وافية بجميع معاني الأصل ، ومقاصده لا فرق بينهما إلّا في القشرة اللفظية. فالرواية بالمعنى لغتها لغة الأصل ، والترجمة الحرفية للقرآن لغتها غير لغة الأصل ، وهي مساوية للرواية بالمعنى ، فإن جاز ترجمة القرآن حرفيا ، فمعنى ذلك يجوز روايته بالمعنى ، وهذا باطل ، وغير ممكن. وبذلك إذا كانت رواية القرآن بالمعنى ممنوعة ، وغير جائزة ، فيجب أن تكون ترجمته الحرفية ممنوعة ، وغير جائزة. بل ، والأحرى ، والأولى أن تكون كذلك ، وأن تكون أحرى بالمنع ؛ نظرا للاختلاف بينها وبين لغة الأصل ، وهي لغة القرآن العربية.

التعليل السابع : إن الترجمة الحرفية للقرآن تستلزم ضياع الأصل العربي القرآني ، وهذا ممنوع ، وغير ممكن ، وحرام. فإنّ ترجمة القرآن الحرفية إلى غير لغته لو جازت ، وصحت ، فمعنى ذلك أنّ هذه الترجمة غير العربية يمكن أن تحل محل الأصل العربي للقرآن ، بل ، وتنتحل اسمه ، وذلك لأنّ مستلزمات الترجمة الحرفية الحلول محل الأصل ، والاستغناء عنه ، ومن ثم انتحال اسمه ، وبالتالي تصبح الترجمة غير العربية للقرآن قرآنا بديلا يفترض أنّه يفي بجميع معاني ، ومقاصد القرآن الأصيل ؛ وهذا يعني بالتالي ضياع القرآن الإلهي العربي كما ضاع الأصل العبري للتوراة ، والأصل السرياني أو الآرامي للإنجيل. وهذا كلّه حرام ، وخيانة لكتاب الرب العزيز ، وإهمال لقرآن الإله الكريم ، ورفض لهدايته ، ونوره ، وهداه ، وشفائه. ونزيد الأمر وضوحا ، فنقول : لو جازت الترجمة الحرفية للقرآن إلى غير لغته العربية ، فإنّ ذلك يؤدي لا محالة

١٧٥

إلى وجود ترجمات عديدة للقرآن الكريم ، ومع مرور الوقت سيذهب عنها اسم الترجمة ، وتبقى كلمة أو اسم القرآن وحده علما عليها ؛ فيصبح عند النّاس اعتقاد على مدى الأزمان ، والأجيال أنّ هذا هو القرآن الأصيل ، وليس المترجم ، وبالتالي تصبح عند الناس كتب قرآن عديدة ، فيكون هناك قرآن بالإنجليزية ، وآخر بالفرنسية ، وآخر بالألمانية ، وآخر بالروسية ... الخ وبالتالي يتعدد القرآن بتعدد اللغات ، والشعوب ، وينتهي مصيره إلى ما آلت إليه الكتب السماوية الأخرى من حيث التعدد : كالتوراة ، والإنجيل. وهذا يعني في نهاية الأمر ضياع القرآن الإلهي العربي ، وبانصراف النّاس إلى الترجمات الحرفية له اعتقادا منهم أنّها قرآن رباني ، وكتاب سماوي.

التعليل الثامن : إنّ الترجمة الحرفية للقرآن تستلزم تفكك ، وانهيار وحدة المجتمع الإسلامي ، وهذا ممنوع شرعا ، وغير جائز تحققه ، وحرام وقوعه ، وذلك لأنّ وجود ترجمات متعددة للقرآن الكريم يؤدي بلا شك إلى ضياع الأصل أولا ، ومن ثم إلى اختلاف المسلمين ، وتخطئة بعضهم البعض ثانيا كلّ يتعصب إلى قرآنه ، فتتفكك أواصر وحدة الأمة الإسلامية ، ويدب الشقاق ، والخلاف بينهم ، ويتفرقون كما تفرق اليهود ، والنصارى ، كلّ ذلك لأنّهم فقدوا أهم عناصر الوحدة بينهم ، الجامع لهم في لغتهم ، ودينهم ، ومبدأهم ، ومنهجهم ، ألا وهو القرآن الكريم. ونزيد الأمر وضوحا فنقول : ولنا في قرآننا ، العظة والعبرة ، وفي سنتنا الهداية الحقة ، وفي تاريخنا التذكر ، والشهادة ، ويوم أن كان القرآن دستورنا ، والسّنة النبوية طريقنا ، واللغة العربية علمنا ، وأدبنا ، أكرمنا الله بعزته ، ونصره ، وهدانا إلى صراطه ، وحقه ، ووازرنا بنصره ، وعونه ؛ فسدنا العالم ، وغمرناه هداية ، ونورا ، وعلما.

ويوم أن تخلينا عن قرآننا ، وسنتنا ، ولغتنا ، ساءت أحوالنا ، وتفككت أواصر وحدتنا ، وضعفت هيبتنا ، فما بالك لو اقتنعنا باستبدال قرآننا العربي الأصيل بترجمة حرفية دخيلة ، ولو باركنا ترك كلام ربنا العربي المعجز المتعبد بتلاوته بكلام بشري وضعي فاقد لكلّ أسس

١٧٦

الإعجاز ؛ سندها التقليد الأعمى ، والاقتداء الضال بمفاهيم ، ولغات الكفر من إلحاد ، ووجودية ، ويهوديه ، ونصرانية ، وبوذية ، فانظر كيف سيصبح حالنا!! وكيف أنّه لا سبيل لنا إلا بالتمسك ، والمحافظة على جامع وحدتنا ، وعلم لغتنا ، وشاهد نهضتنا ؛ ألا ، وهو قرآننا ، كتاب ربنا. وصدق نبينا إذ يقول : «لقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي».

قال الإمام الشافعي في كتابه الرسالة ما خلاصته : «إنّه يجب على غير العرب أن يكونوا تابعين للسان العرب. وهو لسان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» جميعا ـ كما يجب أن يكونوا تابعين له دينا ؛ وإنّ الله قضى أن ينذروا بلسان العرب خاصة» ... ثم قال : «فعلى كلّ مسلم أن يتعلّم من لسان العرب ما بلغه جهده ، حتى يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمدا عبده ، ورسوله ؛ ويتلو به كتاب الله ، وينطق بالذكر فيما افترض عليه عن التكبير ، وأمر به من التسبيح ، والتشهد ، وغير ذلك. وكلما ازداد من العلم باللّسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوّته ، وأنزل به آخر كتبه ، كان خيرا له».

وجاء في كتابه الرسالة للشافعي أيضا : «أنّ المسور بن مخرمة رأى رجلا أعجمي اللسان أراد أن يتقدّم للصلاة ، فمنعه المسور بن مخرمة ، وقدم غيره ، ولما سأله عمر «رضي الله عنه» في ذلك قال له : إنّ الرجل كان أعجمي اللسان ، وكان في الحج ، فخشيت أن يسمع بعض الحجاج قراءته ، فيأخذ بعجمته ، فقال له عمر : أصبت. وقال الإمام الشافعي : لقد أحببت ذلك» (١).

وقال الإمام الشاطبي من علماء المالكية في كتابه الموافقات في الصفحة الثانية والأربعين ما نصه : «إنّ القرآن أنزل بلسان العرب ، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة. ثم قال : فمن أراد تفهمه ، فمن جهة لسان العرب يفهمه ، لا سبيل إلى تفهمه من غير هذه الجهة».

__________________

(١) محمد عبد العظيم الزرقاني ـ مناهل العرفان ـ ج ٢ ص ١٥٢.

١٧٧

وقد ذكر حجة الإسلام الإمام الغزالي من علماء الشافعية في كتابه المستصفى في الصفحة ١٦٩ ما نثبته بتصرف : أنّ ما تعبدنا الله فيه باللفظ لا تجوز روايته بالمعنى. وعلى هذا لا يجوز أن يترجم إلى لغة أخرى غير عربية بالأولى.

والقرآن الكريم معروف أنّه متعبد بتلاوته ، ولفظه ، فلا تجوز روايته بالمعنى ، وبالتالي لا تجوز ترجمته.

وقال الإمام الزركشي في البحر المحيط : «لا يجوز ترجمة القرآن بالفارسية ، وغيرها بل تجب قراءته على الهيئة التي يتعلق بها الإعجاز ؛ لتقصير الترجمة عنه ، ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذي خص به دون سائر الألسن» (١).

موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم

أجاز جامع الأزهر الشريف ترجمة تفسير القرآن الكريم إلى اللغات غير العربية الأخرى. وقد تألفت لجنة خاصة من كبار العلماء ، وأساتذة وزارة المعارف المصرية ، وبرئاسة مفتي مصر الأكبر ، وعلى اجتماعات عديدة ، أقرت هذه اللجنة ضرورة وضع تفسير عربي دقيق للقرآن الكريم تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بواسطة لجنة فنية مختارة ، وقد وضعت هذه اللّجنة أيضا دستورا تلتزم به في ترجمتها للقرآن ، ثمّ بعثت نسخة من هذا الدستور إلى كبار العلماء ، والجماعات الإسلامية في الأقطار العربية والإسلامية الأخرى ، لاستجلاء رأيها. وهذه هي أهم قواعد ذلك الدستور (٢) :

__________________

(١) محمد عبد العظيم الزرقاني ـ مناهل العرفان ـ ج ٢ ص ١٦١.

(٢) مجلة الأزهر ـ مجلد ٧ ـ ٦٤٨ ـ ٦٤٩. والزرقاني ، مناهل العرفان ، ج ٢ ص ١٧٠.

١٧٨

أولا : أن يكون التفسير خاليا ما أمكن من المصطلحات ، والمباحث العلمية إلا ما استدعاه فهم الآية.

ثانيا : ألّا يتعرض فيه للنظريات العلمية. فلا يذكر مثلا التفسير العلمي للرعد ، والبرق عند ذكر آية فيها رعد ، وبرق. ولا يذكر أيضا رأي الفلكيين في السماء ، والنجوم عند آية فيها سماء ، ونجوم ، إنّما تفسر الآية بما يدل عليه اللفظ العربي ، ويوضح موضع العبرة ، والهداية فيها.

ثالثا : إذا اقتضت الضرورة التوسع في تحقيق بعض المسائل ، وضعته اللجنة في حاشية التفسير.

رابعا : عدم التقيد بمذهب من المذاهب في التفسير سواء أكانت مذاهب فقهية ، أو مذاهب كلامية.

خامسا : تدوين ، وتفسير ما تدل عليه الآية فقط ، وعدم المبالغة ، والتعسف في تأويل المعجزات ، وأمور الآخرة ، ونحو ذلك.

سادسا : أن يفسر القرآن برواية حفص ، وعدم التعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة إليها.

سابعا : تجنب التكلف في ربط الآيات ، والسور بعضها ببعض.

ثامنا : أن يذكر من أسباب النزول ما ثبت ، وصح بعد البحث ، وأعان على فهم الآية.

تاسعا : يوضع في أوائل كلّ سورة ما تقتنع به اللّجنة مكيّة أم مدنية ، والآيات المكية في السور المدنية ، والآيات المدنية في السور المكية.

عاشرا : عند التفسير تذكر الآية كاملة ، أو الآيات إذا كانت كلّها مرتبطة بموضوع واحد. ثمّ تحرّر معاني الكلمات بدقة. ثمّ تفسر معاني الآية ، أو الآيات مسلسلة في عبارة واضحة قوية ، ويوضع سبب النزول ، والربط ، وما يؤخذ من الآيات في الوضع المناسب.

١٧٩

أحد عشر : ألا يصار إلى النسخ ، ولا يؤخذ به إلّا عند تعذر الجمع بين الآيات.

اثنا عشر : توضع للتفسير مقدمة في التعريف بالقرآن ، وبيان مسلكه في كلّ ما يحتويه من فنونه : كالدعوة إلى الله ، والتشريع ، والقصص ، والجدل .... ونحو ذلك.

ثالث عشر : توضع في مقدمة التفسير المنهج الذي سارت عليه اللجنة في تفسيرها.

رابع عشر : وضع قواعد واضحة تتبعها اللجنة في طريقتها في تفسير معاني القرآن الكريم ، وهذه القواعد هي :

أ ـ تبحث أسباب النزول ، والتفسير بالمأثور ، فتفحص مروياتها ، وتنقد ، وتدون الصحيح منها بالتفسير مع بيان وجه قوة القوي ، وضعف الضعيف من ذلك.

ب ـ تبحث مفردات القرآن الكريم بحثا لغويا ، وكذلك خصائصها للتراكيب القرآنية بحثا بلاغيا ثم تدوّن.

ج ـ تبحث آراء المفسرين بالرأي ، والتفسير بالمأثور ، ويختار ما تفسر الآية به مع بيان وجه المردود ، وقبول المقبول.

د ـ وبعد ذلك كلّه يصاغ التفسير مستوفيا ما نص على استيفائه في الفقرة الثانية من القواعد السابقة ، وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب حتى يفهمه جمهور المتعلّمين خال من الأعراب ، والصنعة.

حكم الصلاة بغير اللغة العربية

يتفق جمهور علماء السنّة أنّ قراءة القرآن بغير اللغة العربية في الصلاة أو خارجها لا تجوز. وبذلك فهم منعوا الصلاة بالقرآن المترجم

١٨٠