شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

ونقل ابن عطية أنّ حروف التهجي هي الاسم الأعظم (١).

وعن السديّ قال : «فواتح السور أسماء من أسماء الرب جلّ جلاله فرقت في القرآن» (٢).

٣ ـ إنّها حروف تهجي مقطعه كلّ حرف مأخوذ من اسم لله تعالى.

أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله : (الم) ، و (حم) ، واسم مقطع» (٣).

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قوله : «ءايت» ، (حم) ، و (ن) ، حروف الرحمن مفرقة» (٤).

وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قوله. (المص) الألف من الله ، والميم من الرحمن ، والصاد من الصمد» (٥).

وأخرج الحاكم وغيره من طريق سعيد بن جبير عن عباس قوله : «في (كهيعص) الكاف من كريم ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق» (٦).

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدّي عن أبي مالك ، وأبي صالح عن ابن عباس وابن مسعود في قوله : (كهيعص) : «قال هو هجاء مقطع : الكاف من الملك ، والهاء من الله ، والياء والعين من العزيز ، والصاد من المصور» (٧).

__________________

(١) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٢) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٣) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٤) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٥) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٦) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٧) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

١٢١

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (طسم) قال : «الطاء من ذي الطول ، والسين من القدوس ، والميم من الرحمن» (١).

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (حم) قال : «حاء اشتقت من الرحمن ، وميم اشتقت من الرحيم» (٢).

وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله : (حم (١) عسق) قال : «الحاء ، والميم من الرحمن ، والعين من العليم ، والسين من القدوس ، والقاف من القاهر» (٣).

وأخرج ابن أبي حاتم عن طريق أبي الضحى عن ابن عباس في قوله (الم) قال : «أنا الله أعلم ، وفي قوله : (المص) قال : أنا الله أفصل ، وفي قوله : (الر) قال : أنا الله أرى» (٤).

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (كهيعص) قال : «أنا الكبير أنا الهادي ، علي أمين صادق» (٥).

وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن سعيد عن ابن عباس في قوله (كهيعص) قال «كبير ، هاد ، أمين صادق» (٦). وحكى الكرماني في قوله : (ق) إنّه حرف من اسمه قادر ، وقاهر (٧).

«وحكى الكرماني في قوله : (ن) أنّه مفتاح اسم الله تعالى نور ، وناصر» (٨).

__________________

(١) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٢) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٣) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٤) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٥) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٦) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٧) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

(٨) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ص ٩.

١٢٢

٤ ـ إنّها قسم أقسم الله به ـ حيث إنّ كلّ فاتحة منها اسم لله تعالى :

أخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن عباس قال : «(الم) ، و (طسم) ، و (ص) وأشباهها قسم أقسم الله به» (١).

٥ ـ إنّها أسماء للقرآن ـ كالفرقان ، والذكر ـ وقيل إنّها أسماء للسور القرآنية.

أخرج ابن أبي حاتم : «أنّ كلّ هجاء في القرآن هو اسم من أسماء القرآن» (٢). وقيل هي أسماء للسور أيضا.

يذكر ابن جرير الطبري في تفسيره ، وابن كثير في تفسيره أيضا أنّ هذه الحروف أسماء علمية للقرآن بوجه عام ، أو لبعض سور القرآن المفتتحة بها بوجه خاص.

ونقل الماوردي عن زيد بن اسلم أنّها أسماء للسور (٣).

٦ ـ إنّها للحساب.

يقول السهيلي : «لعل عدد هذه الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى بقاء الأمة» (٤).

ويقول الخويّيّ : «وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ) أنّ البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، ووقع كما قال» (٥).

__________________

(١) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ـ ص ١٠.

(٢) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ـ ص ١٠.

(٣) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ـ ص ١٠.

(٤) السهيلي هو أبو القاسم بن عبد الله السهيل توفي بمراكش سنة ٥٨١ له كتاب مبهمات القرآن.

(٥) الخويّيّ هو الفقيه أحمد بن خليل بن سعادة صاحب الإمام فخر الرازي توفي سنة ٦٣٧ ه‍.

١٢٣

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (الم) قال : هذه الأحرف الثلاثة من الأحرف التسعة والعشرين دارت بها الألسن ليس منها حرف إلّا وهو مفتاح اسم من أسمائه تعالى ، وليس منها حرف إلّا وهو من آلائه ، وليس منها حرف إلّا وهو في مدة أقوامهم وآجالهم : فالألف مفتاح اسم الله ، واللّام مفتاح اسمه لطيف ، والميم مفتاح اسمه مجيد ، فالألف آلاء الله ، واللّام لطف الله ، والميم مجد الله ، فالألف سنة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون».

ويروي العز بن عبد السلام أنّ عليا «كرم الله وجهه» استخرج واقعة معاوية من (حم (١) عسق).

ويذكر الألوسي (١) في تفسيره أنّ بعض الشيعة يفسرون مجموعة هذه الفواتح إذا حذف فيها ما يفيد أنّ «صراط علي حق تمسكه» ، فيرد عليهم بعض السنيين بخطاب مستنبط من الفواتح نفسها بحروف ذاتها غير المكررة «صحح طريقك مع السّنة».

ولقد أنكر جمهور علماء السّنة معنى الحساب لفواتح السور ، ونسبوه إلى ما يعرف بعدّ أبي جاد. حيث قال ابن حجر العسقلاني (٢) : «إنّ هذا باطل لا يجوز الاعتماد عليه ، فقد ثبت عن ابن عباس «رضي الله عنه» الزجر عن عدّ أبي جاد ، والإشارة إلى أنّ ذلك من جملة السحر ، وليس ذلك ببعيد ، فإنّه لا أصل له في الشريعة» (٣).

٧ ـ إنّها أدوات تنبيه.

يقول الخويّيّ : «القول بأنّها تنبيهات جيد ؛ لأنّ القرآن كلام عزيز ،

__________________

(١) الألوسي هو ابن عربي محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي الملقب بالشيخ الأكبر له أربعمائة كتاب ـ توفي سنة ٦٣٨ ه‍.

(٢) ابن حجر العسقلاني هو أحمد بن علي بن محمد شهاب الدين أبو الفضل من أئمة الحديث وحفاظه.

(٣) السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ـ ص ١١.

١٢٤

وفوائده عزيزة ، فينبغي أن يرد على سمع متنبه ؛ فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في عالم البشر مشغولا ، فأمر جبريل بأنّ يقول عند نزوله : (الم) ، (الر) ، (حم) ؛ ليسمع النبي صوت جبريل ، فيقبل عليه ، ويصغي إليه. قال : وإنّما لم يستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا ، وأما ، لأنّها من الألفاظ التي يتعارفها النّاس في كلامهم ، والقرآن كلام لا يشبه الكلام ، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ؛ لتكون أبلغ في قرع سمعه» (١).

ولكن الإمام رشيد رضا صاحب تفسير المنار يستبعد هذا التأويل ، وجعل التنبيه للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فهو يقول : «كان يتنبه ، وتغلب الروحانية على طبعه الشريف بمجرد نزول الروح الأمين عليه ، ودنوه منه. كما يعلم ممّا ورد في نزول الوحي من الأحاديث الصحيحة ، ولا يظهر فيه وجه تخصيص بعض السور بالتنبيه».

ويذكر رشيد رضا بعد ذلك : «أنّ التنبيه إنّما كان أولا وبالذات للمشركين في مكة ، ثمّ لأهل الكتاب في المدينة» (٢). وقد قال بعض العلماء : إنّه تنبيه للعرب حيث كانوا يلغون بالقرآن ، فإذا سمعوا هذه الأحرف ، استمعوا له تعجبا.

٨ ـ إنّها الحروف التي يتكون منها القرآن ـ فتدل على أنّ القرآن يتكون ، ويتألف من هذه الحروف التي جاء بعضها مقطعا ، منفردا ، وجاء تمامها مؤلفا مجتمعا ؛ وذلك إعجازا للعرب بأنّه نزل بالحروف التي يعرفونها ، والتي تتكون منها لغتهم ، ويتخاطبون بها ، ويظهر بها بيانهم ، وتتجلى بها فصاحتهم ، ومع ذلك أعجزهم ، وأقرعهم ، وأفحمهم.

__________________

(١) السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ـ ص ١١.

(٢) محمد رشيد رضا ـ تفسير المنار ـ ج ٨ ـ ص ٣٠٣.

١٢٥

وقد قال بهذا الرأي الزمخشري (١) والبيضاوي (٢) ، وابن تيمية (٣) ، والحافظ المزي (٤).

٩ ـ إنّها الحروف التي يتكون منها الكلام ـ حيث ذكر منها أربعة عشر حرفا هي نصف جميع الحروف في اللغة العربية. حيث ذكرها الله حروفا مفردة ، وحرفين حرفين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة ، وخمسة ، لأنّ تراكيب الكلام على هذا النمط ، ولا زيادة (٥).

١٠ ـ إنّها أمارة لأهل الكتاب بأنّه سينزل كتاب على محمد أول سور منه حروف مقطعة (٦).

الترجيح بين معاني حروف التهجي :

لنا القول : بالجمع بين المعنى الأول ، والسابع حيث لا تناقض بينهما.

فبالنسبة للمعنى الأول : فلا يزال القرآن ، وسيظل معجزا بفواتح بعض سوره ، حيث إنّها سرّ من أسرار القرآن اختص الله بها علما وحكمة. وهذا ما أخذ به الخلفاء الراشدون استنادا إلى أزلية القرآن

__________________

(١) الزمخشري هو محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري ولد في زمخشر ٤٦٠ ه‍ وتوفي في خوارزم عام ٥٣٨ ه‍.

(٢) البيضاوي هو ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي صاحب تفسير البيضاوي توفي سنة ٦٨٥ ه‍.

(٣) ابن تيمية هو الإمام المصلح المجدد تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي توفي سنة ٧٢٨ ه‍.

(٤) الحافظ المزي هو يوسف بن عبد الرحمن أبو الحجاج المزي نسبة إلى المزة بدمشق وهو تلميذ ابن تيمية توفي سنة ٧٤٢ ه‍.

(٥) السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ـ ص ١١.

(٦) السيوطي ـ الإتقان ـ ج ٢ ـ ص ١١.

١٢٦

بحروفه ، وحيث يقول الخليفة الصديق : «في كلّ كتاب سرّ ، وسرّه في القرآن أوائل السور» (١).

وحيث يقول الإمام علي بن أبي طالب «كرم الله وجهه» : «إنّ لكلّ كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» (٢).

وحيث نقل عن ابن مسعود ، والخلفاء الراشدين : «إنّ هذه الحروف علم مستور ، وسرّ محجوب استأثر الله بها» (٣).

واستنادا بالأخذ بهذا المعنى فله دلالته السليمة ، والممتدة وإلى قيام الساعة ، حيث ومهما تعددت التفاسير للحروف فهي على ضعف سندها لا تقوى على مناقشة أو الحط من قوة معنى الاستدلال بالحروف على أنّها سرّ هذا القرآن المعجز للبشرية دوما.

وأمّا بالنسبة للمعنى السابع : فلا يزال القرآن ، وسيظل الكتاب المعجز بتنبيهاته للنّاس إلى قيام الساعة ، فهو في كلّ لحظة ، وفي كلّ آية ، وفي كل سورة ، بل وفي كل تلاوة منبّه ، ومؤثر ، وحافز ، تزداد تنبيهاته حدّة ، وأثرا ، وتأثيرا ، بسماع أو بتلاوة حروف التهجي التي تفتتح بها بعض السور ناقلا المرء إلى ملكوت الروحانية مفكرا ، ومتأملا ، ومتّعظا ، وثمّ واعيا لما يسمع ، أو يتلو.

ولعل قول الإمام المفسر رشيد رضا في هذا المعنى ما يعطي المقصود حقه حيث يقول : «من حسن البيان ، وبلاغة التعبير ، التي غايتها إفهام المراد مع الإقناع ، والتأثير أن ينبه المتكلم المخاطب إلى مهمات كلامه والمقاصد الأولى بها ، ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها ، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها ، ومن ذلك التنبيه

__________________

(١) محمد رشيد رضا ـ تفسير المنار ـ ج ٨ ـ ص ٣٠٢.

(٢) محمد رشيد رضا ـ تفسير المنار ـ ج ٨ ـ ص ٣٠٢.

(٣) محمد رشيد رضا ـ تفسير المنار ـ ج ٨ ـ ص ٣٠٢.

١٢٧

لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها. وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه ، وأداة الاستفتاح ، فأي غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حدّ الإعجاز في البلاغة ، وحسن البيان. ويجب أن يكون الإمام المقتدى ، كما أنّه هو الإمام في الإصلاح والهدى؟! ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت ، وتكييفه بما تقتضيه الحال من صيحة التخويف والزجر ، أو غنّة الاسترحام والعطف ، أو رنة النعي وإثارة الحزن ، أو نغمة التشويق والشجو ، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع ، أو صخب التهويش وقت الجدل ، ومنه الاستعانة بالإشارات ، وتصوير المعاني بالحركات ، ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة ، أو وضع خط فوقها أو تحتها» (١).

ولنا القول : بالتوافق بين حكمة التنبيه ، وحكمة أسرار القرآن ؛ حيث إنّ التنبيه القرآني بمثل حروف التهجي هذه سرّ من أسرار إعجازه في مخاطبته لأهل مكّة من المشركين ، أو لأهل المدينة من أهل الكتاب.

__________________

(١) محمد رشيد رضا ـ تفسير المنار ـ ج ٨ ـ ص ٢٩٩.

١٢٨

الباب السادس

شبهات حول نزول القرآن

على سبعة أحرف ، وتفنيدها.

الشبهة الأولى :

إن في القرآن اختلافا ، وتناقضا تثبته أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف. ودليل ذلك أنّ هذه الأحاديث تفيد الاختلاف في القرآن. وهذا يتناقض مع نفي القرآن لأي اختلاف مصداق قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) سورة النساء آية ٨٢.

وسؤال أصحاب الشبهة يتمثل في : كيف توفق بين نفي القرآن لأي اختلاف فيه ، وبين تأكيد وتثبيت أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف لذلك الاختلاف؟ فهذا هو عين التناقض. فلو نزل القرآن على حرف واحد ، لما كان هناك اختلاف!!.

تفنيد هذه الشبهة :

في الحقيقة لا توجد شواهد تناقض أو معالم اختلاف. وما مصدر

١٢٩

هذه الشبهة إلا عدم الفهم لتلك الأحاديث ، ومعنى الآية القرآنية. فالاختلاف الذي تثبته الأحاديث تلك هو غير الاختلاف الذي ينفيه القرآن. فالاختلاف الذي تثبته أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف هو اختلاف تعددي ، وسردى ، وليس اختلاف تضاد ، وتناقض ، سواء بالنسبة للمراد من ، وما تعنيه الأحرف السبعة ، أو سواء بالنسبة لما يعنيه القرآن من عدم وجود الاختلاف فيه.

فالأحاديث تلك تثبت الاختلاف التعددي لمعاني الأحرف السبعة ، وما تدل عليه. أي الاختلاف في المعاني ، والتنويع في طرق أداء القرآن والنطق بألفاظه ، والتنويع في أوجه قراءاته ؛ وفي حدود السبعة معاني ، أو السبعة أوجه ، أو السبعة أحرف ، وبشرط الصحة لها ؛ وأنها منقولة كلها عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وبشكل متواتر. أمّا الاختلاف الذي ينفيه القرآن فهو بمعنى التناقض ، والتعارض ، والتدافع بين معاني القرآن الكريم ، وتعاليمه وأحكامه ، فليس في القرآن شيء من ذلك ، وإن اختلفت طرق أدائه ، وأوجه قراءته ، وهي التي تسمى بالأحرف السبعة ، فهذه الأحرف كلها صحيحة ، ولا تناقض بينها ، وبين القرآن الصحيح في نزوله ، ومعانيه وتواتره. وكما يقول شيخنا محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه مناهل العرفان (١) : «ومعنى ذلك أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يلزم منه تناقض ، ولا تخاذل ، ولا تضاد ، ولا تدافع بين مدلولات القرآن ، ومعانيه وتعاليمه ، ومراميه ، بعضها مع بعض. بل القرآن كله سلسلة واحدة ، متصلة الحلقات ، محكمة السور والآيات ، متآخذة المبادي ، والغايات ، مهما تعددت طرق قراءته ، ومهما تنوّعت فنون أدائه».

وكما يقول الإمام ابن الجزري : قد تدبرنا اختلاف القرآن ، فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال : إحداهما : اختلاف اللفظ لا المعنى. والثانية : اختلافهما جميعا مع جواز اجتماعهما في شيء واحد. الثالثة : اختلافهما

__________________

(١) الزرقاني ـ مناهل العرفان ـ ج ١ ـ ص ١٨٥.

١٣٠

مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد ، لكن يتفقان من وجه آخر لا يقتضي التضاد.

فأما الأول : فكالاختلاف في ألفاظ «الصراط ، وعليهم ، ويؤده ، والقدس ، ويحسب» ، يطلق عليه أنه لغات فقط.

وأما الثاني : فنحو لفظ «مالك وملك» في الفاتحة ؛ لأن المراد في القراءتين هو الله تعالى لأنّه مالك يوم الدين وملكه .. وكذا ننشزها بالزاي ، وننشرها بالراء ؛ لأنّ المراد بهما هو العظام. وذلك أن الله تعالى أنشرها أي أحياها ، وأنشزها أي رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت ، فضمن الله المعنيين في القراءتين.

وأما الثالث : فنحو قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قرئ بالتشديد ، والتخفيف في لفظ «كذبوا» المبني للمجهول. فأما وجه التشديد ، فالمعنى : وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم. وأما وجه التخفيف ، فالمعنى : وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم (أي كذبوا عليهم) فيما أخبروهم به. فالظن في الأولى يقين ، والضمائر الثلاثة المرسل. والظن في القراءة الثانية شك ، والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم.

ومن هذا القبيل قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) بفتح اللام الأولى ، ورفع الأخرى في كلمة : «لتزول» وبكسر الأولى وفتح الثانية فيها أيضا. فأما وجه فتح الأولى ، ورفع الثانية من «لتزول» فهو أن تكون كلمة «إن» مخففة من الثقيلة ، أي وإن مكرهم كامل الشدة تقتلع بسببه الجبال الراسيات من مواضعها ، وفي القراءة الثانية «إن» نافية أي ما كان مكرهم ، وإن تعاظم ، وتفاقم ؛ ليزول منه أمر محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ودين الإسلام. ففي الأولى : تكون الجبال حقيقة ، وفي الثانية تكون مجازا. ثم قال أيضا : «فليس في شيء من القرآن تناف ، ولا تضاد ، ولا تناقض. وكل ما صح عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» من ذلك ، فقد وجب قبوله ، ولم يسع أحدا من الأمة رده ، ولزم الإيمان به ؛ وأنّه كله منزل من عند الله ، إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب

١٣١

الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنته علما ، وعملا ، ولا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن هذا تعارض».

إلى ذلك أشار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله : «لا تختلفوا في القرآن» (١).

الشبهة الثانية :

إن في القرآن شكا ، وريبة سببها أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف. فبعض الروايات تفيد معنى التخيير للمرء بأن يأتي باللفظ من عنده وما يرادفه ، أو باللفظ وما لا يضاده في المعنى كحديث أبي بكرة ، وفيه : «كلها شاف كاف ، ما لم تختم آية عذاب برحمة. أو آية رحمة بعذاب. نحو قولك : تعال ، وأقبل ، وهلم ، واذهب ، وأسرع ، وعجّل». وهذا اللفظ جاء من رواية أحمد بإسناد جيد. ومثل هذا الحديث جاء من رواية أبي بن كعب. وجاء أكثر من ذلك حيث روى أكثر من ذلك أبو عبيد في فضائله : إن عبد الله بن مسعود أقرأ رجلا : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ) فقال الرجل : «طعام اليتيم» ، فردها عليه ، فلم يستقم بها لسانه. فقال : أتستطيع أن تقول : طعام الفاجر. قال نعم. قال : فافعل.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إن الحروف السبعة كلها من عند الله تعالى نزولا ، وتواترا ، وتلاوة. وما دام الأمر كذلك فكيف يعقل أن يؤدي تعددها ، واختلافها في أوجه التلاوة إلى الشك ، والريبة؟!! إلا إذا كان شك الطبعة في الإسلام ، والريبة في القرآن ، وعن سوء نية من أعداء الإسلام لا فهم لهم لمعنى اختلاف الأحرف السبعة ، أو تعددها ، ولا دليل لهم على شك أو ريبة قد يسببها تعدد أوجه القراءة أي نزول القرآن على سبعة أحرف!

__________________

(١) محمد عبد العظيم الزرقاني ـ مناهل العرفان في علوم القرآن. الجزء الأوّل. ص ١٨٦.

١٣٢

ثانيا : بالنسبة لحديث أبي بكرة فإنه من الاستحالة بمكان أن يعني جواز تبديل شيء من القرآن بما لا يضاده كما يزعمون. أو أنّه يعني التخيير للشخص بأن يأتي من تلقاء نفسه باللفظ وما يرادفه ، أو باللفظ وما لا يضاده في المعنى.

فروايات نزول القرآن على سبعة أحرف إنما تعني فقط التوسعة على الناس بقراءة القرآن بمترادفات من اللفظ الواحد مع ملاحظة أن جميع هذه المترادفات قد نزلت فعلا من عند الله تعالى. وبمعنى آخر فإن تلك الأحاديث إنما جاءت لتوسع على الناس ، فيقرءون القرآن على أكثر من وجه ، أي يقرءون المعنى الواحد بأكثر من لفظ ، وكل يقرأ بالوجه أو اللفظ الذي يسهل عليه التلفظ به. مع العلم أنّ هذه الأوجه أي هذه الألفاظ التي تدلّ على المعنى الواحد كلها نزلت من عند الله تعالى ، وكلها مما وردت به الأحاديث المذكورة ، وهو من معانيها ، وما تعنيه وتدل عليه.

ويدل على ذلك ، وأن جميع مترادفات اللفظ الواحد للمعنى الواحد نازل من عند الله هو قول الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لكل من تنازع فيها من الصحابة : «هكذا أنزلت». وكذلك قول كل من اختلف من الصحابة فيها لأخيه : «أقرأنيها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». وكذلك قوله تعالى لرسوله جوابا لمن سأله تبديل القرآن : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) سورة يونس آية ١٥.

روى البخاري في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، والطبري في تفسيره ، والزركشي في برهانه ، ومسلم في صحيحه ، وأبو داود في سننه ، والنسائي في سنته ، والترمذي في سننه عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرأها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فكدت أساوره في الصلاة ، فانتظرته حتى سلم ؛ ثم لببته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة؟ قال : أقرأنيها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قلت له : كذبت ؛ فو الله ، إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أقرأني هذه

١٣٣

السورة التي سمعتك تقرؤها. فانطلقت أقوده إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها!! وأنت أقرأتني سورة الفرقان. فقال الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : «أرسله يا عمر ، اقرأ يا هشام؟ فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : هكذا أنزلت. ثم قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. فاقرءوا ما تيسر منها».

ثالثا : وأيضا بالنسبة لحديث أبي بكرة هذا ، والذي نصه ما رواه أحمد ، والطبراني من حديث أبي بكرة : «أن جبريل قال : يا محمد ، اقرأ القرآن على حرف. قال ميكائيل : استزده حتى بلغ سبعة أحرف. قال : كلها شاف كاف ما لم تخلط آية عذاب برحمة ، أو رحمة بعذاب» (١). فلا يدل أبدا على جواز تبديل لفظ القرآن بما لا يضاده ، وإنما هو من قبيل ضرب الأمثال التي يضربها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» للحروف التي نزل عليها القرآن ؛ ليفيد أن تلك الحروف على اختلافها ما هي إلا ألفاظ متوافقة مفاهيمها كما يقول شيخنا الزرقاني «وإنّها متساندة معانيها لا تخاذل بينها ، ولا تهافت ، ولا تضاد ، ولا تناقض ، ليس فيها معنى يخالف معنى آخر على وجه ينفيه ، ويناقضه : كالرحمة التي هي خلاف العذاب ، وضدها. وتلك الأحاديث بهذا الوجه ، تقرير ؛ لأن جميع الحروف نازلة من عند الله. قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وأيضا ، كما يقول صاحب التبيان في مثل هذا المقام إذ يقول : «إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» علّم البراء بن عازب دعاء فيه هذه الكلمة : «ونبيك الذي أرسلت» فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، قال : «ورسولك الذي أرسلت» فلم يوافقه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» على ذلك ؛ بل قال له : لا «ونبيك الذي أرسلت». وهكذا نهاه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أن يضع لفظة رسول موضع لفظة نبي مع أن كليهما حق لا يحيل معنى ؛ إذ هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»

__________________

(١) الإمام السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٤٨.

١٣٤

رسول ، ونبي معا. ثم قال : فكيف يسوغ للجهّال المغفلين أن يقولوا : إنّه «عليه الصلاة والسلام» كان يجيز أن يوضع في القرآن الكريم مكان عزيز حكيم غفور رحيم أو سميع عليم ، وهو يمنع ذلك في دعاء ليس قرآنا ؛ والله يقول مخبرا عن نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى (١).

رابعا : وأما بالنسبة للرواية المنسوبة إلى ابن مسعود من أنه أقرأ الرجل بكلمة «الفاجر» بدلا من كلمة (الْأَثِيمِ) في قوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ) فتفسيرها : أن ابن مسعود سمع الروايتين عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ولما سمع الرجل لا يستطيع النطق بالقراءة الأولى ، أشار إليه أن يقرأ ثانية ، وكلاهما منزل من عند الله تعالى. وإلا ، وحاشا أن يبدل صحابي مثل عبد الله بن مسعود ، وهو أحفظ الناس للقرآن ، وأكثرهم تلاوة له ، وأعلمهم بنزوله أن يبدله ، أو يبدل لفظا مكان لفظ.

الشبهة الثالثة :

إن نزول القرآن على سبعة أحرف يتنافى مع ما هو مقرر ، ومعروف من أن القرآن نزل بلغة واحدة هي لغة قريش. فمن المتفق عليه أن القرآن نزل على حرف واحد هو لغة ، ولسان قريش ، ولذلك فإن ما جاءت به الأحاديث من أنه نزل على سبعة أحرف يتنافى ، ويتناقض مع القول السابق. وبذلك ، وبتعدد الأحرف والألسنة التي نزل عليها القرآن تنتفي وحدة الأمة الإسلامية بسبب عدم تلاوتها للقرآن بلسان واحد.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّه من الخطأ الفاحش تفسير أو حصر معنى الحرف بأنه

__________________

(١) الزرقاني ـ مناهل العرفان ـ ج ١ ص ١٨٩.

١٣٥

لغة ، وبالمعنى الجامد لها. فالعلماء فسروا الأحرف السبعة بأنها أوجه التغاير السبعة ، وليس اللغة أو اللهجة. وهذه الأوجه على الأرجح هي :

الوجه الأول : اختلاف الأسماء إفرادا ، وجمعا. مثل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) سورة المؤمنون آية ٨ وسورة المعارج آية ٣٢.

فقد قرئ «لأماناتهم» بالجمع ، وقرئ «لأمانتهم» بالإفراد. وقد رسمت في المصاحف العثمانية «لأمنتهم» وأضيف فوقها ألف صغيرة لتفيد القراءتين بالجمع ، والإفراد.

الوجه الثاني : اختلاف تصريف الأفعال. مثل قوله تعالى : (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) سورة الأعراف آية ١٣٨. فقد قرئ اللفظ «يعكفون» بكسر الكاف ، وضمها.

الوجه الثالث : اختلاف وجوه الإعراب ـ مثل قوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ) سورة البقرة آية ٢٨٢. فقد قرئ باللفظ «يضار» بفتح الراء وضمها.

الوجه الرابع : الاختلاف بالنقص ، والزيادة. مثل قوله تعالى : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). فقد قرئت الآية بمن وبدون من نحو : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

الوجه الخامس : الاختلاف بالتقديم ، والتأخير ـ مثل قوله تعالى : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) سورة التوبة آية ١١١.

فقد قرئت بتقديم الفعل الثاني المبني للمجهول ، وتأخير الفعل الأوّل المبني للمعلوم نحو : «فيقتلون ويقتلون» وكلاهما صحيح.

الوجه السادس : الاختلاف بالإبدال. مثل قوله تعالى : (وَانْظُرْ

١٣٦

إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) سورة البقرة آية ٢٥٩. فقد قرئت : كيف ننشزها بالزاي ، وكيف ننشرها بالراء.

الوجه السابع : الاختلاف في اللهجات بالتضخيم ، والترقيق ، والإمالة ، والإدغام ، والإظهار ... الخ. مثل قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) سورة طه آية ٩.

فقد قرئت أتاك «بالإمالة نحو «أتيك» و «موسى» نحو «موسى».

ثانيا : إن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يتنافى مطلقا مع ما هو متفق عليه أنّ القرآن نزل بلسان قريش ؛ لأن الأحرف السبعة كلها في لغة قريش. ولذلك لا داعي للبكاء على ضياع وحدة الأمة. ومما هو معروف أن معظم القرآن نزل بلغة قريش. وإذا كان قليل منه نزل بغير لغة قريش : كلغة هذيل ، وكنانة ، وقيس ، وضبّة ، وتيم ، وأسد ، فإن هذه اللغات احتوتها لغة قريش ، وهذبتها ، وصهرتها ، وصقلتها ؛ فكانت معروفة لدى قريش ؛ وأصبحت من لغة قريش بحكم أنها سيدة القبائل ؛ ولغتها سيدة لغات قبائل الجزيرة ، وكلها عربية. فلم يعد هناك لفظ أو قول يصعب على قريش فهم معناه حتى ولو كان من لغة قبيلة أخرى ، وكلهم من قبيلة مضر.

الشبهة الرابعة :

إن الأحرف السبعة هي القراءات السبع المنقولة عن الأئمة السبعة المعروفين في القرنين الثاني ، والثالث الهجريين ، وهم : نافع المتوفى سنة ١٦٩ ه‍ وابن كثير ، وأبو عمرو البصري سنة ١٥٤ ه‍ وابن عامر الشامي ١١٨ ه‍ ، وعالم الكوفي سنة ١٢٧ ه‍ ، وحمزة الكوفي سنة ١٥٦ ه‍ ، والكسائي ١٨٩ ه‍.

ويقصد أصحاب هذه الشبهة ـ وعن سوء نية ـ الطعن في القرآن ، وإنكار حروفه السبعة ، وإثبات الزيادة ، والتحريف فيه ؛ ومن ثم إنكار أحاديث الأحرف السبعة ليّا بألسنتهم ، وطعنا في الدين. وصدق فيهم

١٣٧

قول ربنا : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) سورة النساء آية ٤٦.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إن هذه الشبهة تتنافى تماما مع ما هو متفق عليه بين العلماء على أن الأحرف غير القراءات السبعة. وكما يقول «أبو شامة» في كتابه : «المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز» : «ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث ؛ وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة ، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل» (١). ويقول : «من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع ، وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث ، لقد غلط غلطا عظيما» (٢).

ثانيا : إنّ أحاديث الأحرف السبعة متواترة عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، بينما القراءات السبع ، فهي متواترة عن الصحابة. يقول الإمام الزركشي في البرهان عن القراءات السبع : «والتحقيق أنّها متواترة عن الأئمة السبعة ، أما تواترها عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ففيه نظر ؛ فإنّ إسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد» (٣).

ثالثا : إنّ الأحرف السبعة أعم من القراءات السبع عموما مطلقا. فالقراءات أخص من الأحرف السبعة النازلة خصوصا مطلقا. فإن وجوه الأحرف السبعة ، والتي أنزل الله عليها كتابه تشمل ، وتنظم كل وجه قرأ به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وأقرأه لأصحابه. فالأحرف السبعة تنتظم القراءات السبع ، والعشرة ، والأربع عشرة.

__________________

(١) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٨٢.

(٢) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٨٢.

(٣) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٨٢.

١٣٨

رابعا : إنّ أحاديث الأحرف السبعة أسبق من القراءات السبع ، ولا يعقل أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أمر بتأجيل القراءة بالأحرف السبعة حتى القرن الثاني والثالث الهجريين حيث وجدت القراءات السبع.

الفرق بين الأحرف السبعة والقراءات السبع

يجمع العلماء على أنّه من الخطأ القول بأن الأحرف السبعة هي القراءات السبع. يقول أبو شامة في كتابه : «المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز» : «ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث ، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة ، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل» (١).

ويقول مكي : «من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع ، وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث ، فقد غلط غلطا عظيما» (٢). ويمكننا تأصيل الفوارق الأساسية بين الأحرف السبعة ، والقراءات السبع فيما يلي :

أولا : الأحرف السبعة قرآن ، وحي نزل من عند الله على محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» للبيان ، والإعجاز ، منقولة إلينا بالتواتر ، متعبد بتلاوتها جميعا ، في حين أن القراءات السبع هي اختلاف لفظ الحروف ، أي اختلاف لفظ الوحي المذكور في الحروف ، أي اختلاف في كيفية النطق بالأحرف السبعة أي بالقرآن ، وكيفية أدائها من تخفيف ، وترقيق ، وتثقيل ، وتشديد ، وإمالة ، وإدغام ، وإظهار ، ومد ، وقصر ، وإشباع ، وحركات إعراب ... الخ. فالقراءات مذاهب أئمة في كيفية أداء القرآن ، أي الأحرف السبعة.

وأما الأحرف السبعة : فهي قرآن ليعبر عن معنى واحد بألفاظ

__________________

(١) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٨٢.

(٢) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٨٢.

١٣٩

متعددة تصل أحيانا إلى السبعة ـ فتكون هي الأحرف السبعة ـ وأحيانا ينزل القرآن بلفظ واحد أو اثنين أو ثلاثة حسب ما تقتضيه اختلاف وتعدد لغات العرب ، ويؤدي المعنى المطلوب. وذلك ضمن ما يحتمله اللفظ أو النص القرآني من وجوه التغاير ، والاختلاف فيه من إفراد ، وتثنية ، وجمع وتذكير ، وتأنيث مثل : لفظ «لأمنتهم» في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) سورة المؤمنون آية ٨. فقد ورد رسمها هكذا في المصحف فهي تحتمل الإفراد مثل أماناتهم ، والجمع مثل أماناتهم ؛ وذلك لأن رسمها جاء دون ألف فهي لفظان يفيدان معنى واحدا : فقراءتها بالإفراد يعني الجنس الدال على الكثرة ، وقراءتها بالجمع يعني الاستغراق الدال على الجنسية. وكذلك يقصد بالأحرف السبعة الاختلاف في وجوه الإعراب مثل قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً) سورة يوسف آية ٣١. و «ما هذا بشر» بالنصب والرفع. وكذلك الاختلاف في التصريف في الأفعال والأسماء مثل قوله تعالى : (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) سبأ آية ١٩. وذلك بنصب ربنا لأنّها منادى مضاف ، وتسكين باعد لأنها فعل أمر مبني على السكون أو «فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا» بضم ربنا لأنّها فاعل ، وفتح باعد لأنّها فعل مبني على الفتح. وذلك الاختلاف في التقديم والتأخير مثل قوله تعالى : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) سورة التوبة آية ١١١. ببناء الفعل الأول للمعلوم ، والثاني للمجهول / أو «فيقتلون ويقتلون» ببناء الفعل الأول للمجهول والثاني للمعلوم. كذلك الاختلاف بالزيادة ، والنقص مثل قوله تعالى : (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) سورة التوبة آية ١٠٠. بنقص (من) و «أعدّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار» بزيادة (من) وهما قراءتان متواترتان.

وبالنسبة للقراءات : فالاختلافات في معظمها تدور حول :

١ ـ مخارج الحروف : كالترقيق والتفخيم ، والميل إلى المخارج المجاورة : كنطق الصراط بإمالة الصاد بالزاي.

٢ ـ الأداء : كالمد ، والقصر ، والوقف ، والوصل ، والتسكين ، والإمالة ، والإشمام.

١٤٠