شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

على كل الوسائل : والأحوال ، ومن بيده قلوب الناس ، وأقدارهم ؛ ولم يكد جبريل يبشر النبي بهذه البشرى ، حتى أخذ انقلاب يظهر على شاشة الإمبراطورية الرومانية!!.

ويرويه «جبن» على النحو التالي :

«إنها من أبرز البطولات التاريخية ، تلك التي نراها في «هرقل». فقد ظهر هذا الإمبراطور غاية في الكسل ، والتمتع بالملذات ، وعبادة الأوهام في السنين الأولى ، والأخيرة من حكومته ؛ كان يبدو كما لو كان متفرجا أبله ، استسلم لمصائب شعبه ؛ ولكن الضباب الذي يسود السماء ساعتي الصباح ، والمساء ، يغيب حينا من الوقت لشدة شمس الظهيرة ، وهذا هو ما حدث بالنسبة إلى هرقل ، فقد تحول «أرقاديوس (١) القصور» إلى «قيصر ميدان الحرب (٢)» فجأة ، واستطاع أن يستعيد مجد الروم خلال ست حروب شجاعة شنها ضد الفرس. وكان من واجب المؤرخين الروم أن يزيحوا الستار عن الحقيقة ؛ تبيانا لأسرار هذه اليقظة ، والنوم. وبعد هذه القرون التي مضت يمكننا الحكم بأنه لم تكن هناك دوافع سياسية وراء هذه البطولة ، بل كانت نتيجة غريزة هرقل الذاتية ، فقد انقطع عن كافة الملذات ، حتى أنه هجر ابنة أخته «مارتينا» ـ التي تزوجها لشدة هيامه بها ، رغم أنها كانت محرمة عليه» (٣).

* * *

هرقل ـ ذلك الغافل الفاقد العزيمة ـ وضع خطة عظيمة لقهر الفرس ، وبدأ في تجهيز العدة ، والعتاد ؛ ولكن رغم ذلك كله ، عند ما خرج هرقل مع جنوده ، بدا لكثيرين من سكان «القسطنطينية» أنهم يرون آخر جيش في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية.

__________________

(١) أرقاديوس (٣٧٧ ـ ٤٠٨ م) ، أحد أباطرة الرومان ، وهو الابن الأكبر لتيودوس الأول ، تولى العرش سنة ٣٩٥ م. واشتهر بالجبن ـ المراجع.

(٢) قيصر أو «سيراز» (١٤٤ ـ ١٠١ ق. م.) قائد وسياسي روسي عظيم.

(٣) ص ـ ٧٦ ـ ٧٧ ، المجلد الخامس.

٣٢١

وكان هرقل يعرف أن قوة الفرس البحرية ضعيفة ، ولذلك أعد بحريته للإغارة على الفرس من الخلف. وسار بجيوشه عن طريق البحر الأسود إلى «إرمينيا» ، وشن على الفرس هجوما مفاجئا في نفس الميدان الذي هزم فيه الإسكندر جيوش الفرس ؛ لما زحف على أراضي مصر والشام. ولم يستطع الفرس مقاومة هذه الغارة المفاجئة ، فلاذوا بالفرار.

وكان الفرس يملكون جيشا كبيرا في «آسيا الصغرى» ، ولكن «هرقل» فاجأهم بأساطيله مرة أخرى ، وأنزل بهم هزيمة فادحة ، بعد إحراز هذا النصر الكبير عاد «هرقل» إلى عاصمته «القسطنطينية» عن طريق البحر ، وعقد معاهدة مع الأفاريين (Avars) ، واستطاع بنصرتهم أن يسد سيل الفرس عند عاصمتهم.

وبعد الحربين اللتين مر ذكرهما شن هرقل ثلاث حروب أخرى ضد الفرس في سنوات ٦٢٣ ، ٦٢٤ ، ٦٢٥ م. واستطاع أن ينفذ إلى أراضي العراق القديم (ميسوبوتانيا) عن طريق البحر الأسود ، واضطر الفرس إلى الانسحاب من جميع الأراضي الرومية ، نتيجة هذه الحروب ، وأصبح «هرقل» في مركز يسمح له بالتوغل في قلب الإمبراطورية الفارسية ، وكانت آخر هذه الحروب المصيرية ـ تلك الحرب التي خاضها الفريقان في «نينوى» على ضفاف «دجلة» في ديسمبر عام ٦٢٧ م.

* * *

ولما لم يستطع «كسرى أبرويز» مقاومة سيل الروم ، حاول الفرار من قصره الحبيب «دستكرد» ، ولكن ثورة داخلية نشبت في الإمبراطورية ، واعتقله ابنه «شيرويه» ، وزجّ به في سجن داخل القصر الملكي ، حيث لقي حتفه ، لسوء الأحوال في اليوم الخامس من اعتقاله ، وقد قتل ابنه «شيرويه» ثماني عشرة من أبناء أبيه (كسرى) أمام عينيه.

ولكن «شيرويه» هو الآخر لم يستطع أن يجلس على العرش أكثر من ثمانية أشهر ، حيث قتله أحد أشقائه ، وهكذا بدأ القتال داخل البيت

٣٢٢

الملكي ، وتولى تسعة ملوك زمام الحكم في غضون أربعة أعوام. ولم يكن من الممكن ، أو المعقول في هذه الأحوال السيئة ، أن يواصل الفرس حربهم ضد الروم .. فأرسل «قباد الثاني» ابن كسرى أبرويز الثاني يرجو الصلح ، وأعلن تنازله عن الأراضي الرومية ، كما أعاد الصليب المقدس ؛ ورجع «هرقل» إلى عاصمته «القسطنطينية» في مارس عام ٦٢٨ م ، في احتفال رائع ، حيث كان يجر مركبته أربعة أفيال ، واستقبله آلاف مؤلفة من الجماهير ، خارج العاصمة ، وفي أيديهم المشاعل ، وأغصان الزيتون (١)!!

وهكذا صدق ما تنبأ به القرآن الكريم عن غلبة الروم في مدته المقررة ، أي في أقل من عشر سنين ، كما هو المراد في لغة العرب من كلمة : «بضع»!.

وقد أبدى «جبن» حيرته ، وإعجابه بهذه النبوءة ؛ ولكنه كي يقلل من أهميتها ربطها برسالة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» إلى «كسرى».

يقول جبن :

«وعند ما أتم الإمبراطور الفارسي نصره على الروم ، وصلته رسالة من مواطن خامل الذكر من «مكة» ، دعاه إلى الإيمان بمحمد ، رسول الله ، ولكنه رفض هذه الدعوة ، ومزق الرسالة. وعند ما بلغ هذا الخبر رسول العرب ، قال : سوف يمزق الله دولته تمزيقا ، وسوف يقضي على قوته».

«ومحمد ، الذي جلس في الشرق على حاشية الإمبراطوريتين العظيمتين ، طار فرحا ، مما سمع عن تصارع الإمبراطوريتين وقتالهما ؛ وجرؤ في إبّان الفتوحات الفارسية وبلوغها القمة أن يتنبأ بأن الغلبة تكون لراية الروم بعد بضع سنين. وفي ذلك الوقت ، حين ساق الرجل هذه

__________________

(١) جبن : ص ـ ٩٤ ، ج ـ ٥.

٣٢٣

النبوءة ، لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعا ؛ لأن الأعوام الاثني عشر الأولى من حكومة هرقل كانت تشي بنهاية الإمبراطورية الرومانية» (١).

بيد أن جميع مؤرخي الإسلام يعرفون معرفة تامة أن هذه النبوءة لا علاقة لها بالرسالة التي وجهها النبي إلى «كسرى أبرويز» ؛ لأن تلك الرسالة إنما أرسلت في العام السابع من الهجرة ، بعد صلح الحديبية ، أي عام ٦٢٨ م ، في حين أن آية النبوءة المذكورة نزلت بمكة عام ٦١٦ ، أي قبل الهجرة بوقت طويل ، فبين الحدثين فاصل يبلغ اثني عشر عاما (٢).

__________________

(١) المرجع السابق ، ص ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) EncyclopaediaofR eligionandEthics :

٣٢٤

الباب الحادي عشر

شبهات حول تطبيق القرآن ، وتفنيدها

الشبهة الأولى :

فصل القرآن عن الحياة. أي فصل الدين عن الحياة.

فالعلمانيون ينادون بفصل القرآن عن شئون الأفراد الحياتية ، وترك معالجتها للقوانين الوضعية. وهم يرون أن يحصر الاهتمام بالقرآن في الصلاة ، والتلاوة في المساجد فقط. وهم يقيسون ذلك على التوراة والإنجيل حيث فصلت الكنيسة عن حياة الأفراد الدنيوية. ودليلهم : أن تعقد علائق الحياة السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية لا تسمح ، ولا تتسع لتدخل الكتب السماوية حيث أضحت قاصرة في معالجتها ؛ وأصبحت الضرورة قصوى لأن تحصر مهمات الديانات في تأدية الشعائر الدينية في الكنائس ، والأديرة ، والمساجد ، وأن يترك للمبادئ العلمانية ، والقوانين ، والأنظمة الوضعية معالجة شئون الحياة للأفراد ، والدول تأصيلا لقول المسيح «عليه‌السلام» : أعط ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله.

٣٢٥

تفنيد هذه الشبهة :

إنه لمن نافلة القول التغاضي عن مفارقات ، وتناقضات ، ومغالطات هذه الشبهة ، والتي لا تستقيم لأدنى ، وأقل الدلائل في تفنيدها ، ونقضها والرد على أصحابها ، ومن خلال عدة أمور نختار منها ستة تدور كلها حول فكرة ضرورة عدم جواز مقارنة القرآن الكريم بالكتب السماوية الأخرى.

أولا : إن القرآن الكريم ناسخ للكتب السماوية الأخرى :

فهو ناسخ ، وثابت. وهي منسوخة ، وغير ثابتة ، وقابلة للتغيير ، والتحوير. والقرآن الكريم بثبوته ، ونسخه لغيره من الكتب السماوية يحمل في دلالاته ومفاهيمه معاني الكمال ، والسمو ، والشمولية ، والفعالية في المعالجة لأمور الدين ، والدنيا معا ؛ وبالتالي من الخطأ الفادح مقارنته بالكتب السماوية الأخرى ، وحصره في بعض الأمور دون أخرى أو حصره في المساجد ، أو قصره على التلاوة ، والتعبد. وقد حملت الكتب السماوية ، وعلى رأسها التوراة ، والإنجيل شواهد البشرى للقرآن ، والمنزل عليه «محمد» «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ؛ والكتاب يقرأ من عنوانه. فكلمة الإنجيل تعني البشرى باللغة الإغريقية القديمة. وقد شاءت العناية الإلهية أن تبقى هذه البشرى سليمة من الطمس باكتشاف إنجيل «برنابا» أصدق الأناجيل على الإطلاق. وفيه «وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله» (١). ولأجل صدقه صودر هذا الإنجيل ، وأتلف عدة مرات ، ولكن دون جدوى. وشاء القدر أن يظهره على يد راهب إيطالي لاتيني هو «فرامينو» والذي عثر على رسائل «الابريانوس» حيث يذكر إنجيل برنابا من بينها. وقد وجده «فرامينو» في مكتبة البابا «سكتش الخامس» ، ومكتوب باللغة الإيطالية ، وعلى الورق الإيطالي المعروف بالآثار المائية فيه ؛ مما يدل على صحته ،

__________________

(١) إنجيل برنابا. ص ٣١٨.

٣٢٦

وصدق هذه النسخة الإيطالية. وفي إسبانيا عثر على نسخة من إنجيل برنابا الشاهد على ، والذاكر لنبوة الرسول محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في أوائل القرن الثامن عشر. وقد أعلن القس «تشارلز فرانسيس بوتو» في كتابه : «السنون المفقودة من عيسى تكشف» فيقول : «إن إنجيلا يدعى إنجيل برنابا استبعدته الكنيسة في عهدها الأول» (١).

وفي فلسطين ، وبالقرب من البحر الميت عثر على مخطوطات ثمينة في هذا القرن الذي نعيش فيه ، والتي قال عنها الدكتور : «د. ف البرايت». وهو عمدة في علم الآثار : «إنّه لا يوجد أدنى شك في العالم حول صحة هذه المخطوطات ، وسوف تعمل ثورة في فكرتنا عن المسيحية» (٢). وقال عنها أيضا في واشنطن القس : أ. باول ديفز رئيس كنيسة كل القديسين بواشنطن في كتابه : «مخطوطات البحر الميت» : «إن مخطوطات البحر الميت ـ وهي من أعظم الاكتشافات أهمية منذ قرون عديدة ـ قد تغير الفهم التقليدي للإنجيل» وقد جاء في هذه المخطوطات. «إنّ عيسى كان مسيا للمسيحيين ، وإن هناك مسيا آخر. وكلمة مسيا بالأرامية تعني رسولا» (٣).

وفي باريس عثر على نسخة من إنجيل برنابا ترجمه إلى العربية من ترجمته الإنجليزية دكتور خليل سعادة. وقد طبعه الشيخ محمد رشيد رضا على نفقته. وقد جاء في آخر مقدمته ما يلي : «ومن لاحظ أن بعض القسيسين يجعلون العمدة في إثبات الأناجيل الأربعة ما فيها من التعاليم الأدبية العالية ثم قرأ إنجيل برنابا ، يظهر له مكانه العالي في تعاليمه

__________________

(١) عبد المجيد عزيز الزنداني. كتاب : توحيد الخالق. ج ١ ص ٩٦ ـ ٩٩. وج ٣ ص ٨٩ سنة ١٩٧٧ م.

(٢) عبد المجيد عزيز الزنداني. كتاب : توحيد الخالق. ج ١ ص ٩٦ ـ ٩٩. وج ٣ ص ٨٩ سنة ١٩٧٧ م.

(٣) عبد المجيد عزيز الزنداني. كتاب : توحيد الخالق. ج ١ ص ٩٦ ـ ٩٩. وج ٣ ص ٨٩ سنة ١٩٧٧ م.

٣٢٧

الإلهية ، والأدبية ، فإذا صرفنا النظر عن فائدته التاريخية ، وعن حكمه لنا في المسائل الثلاث الخلافية ، وهي : التوحيد ، وعدم صلب المسيح ، ونبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فحسبنا باعثا على طبعه وراء قيمته التاريخية ما فيه من المواعظ ، والحكم ، والآداب ، وأحاسن التعاليم» (١).

وقد أقرّ العلماء ، والقساوسة ، ورجال الدين المسيحيون في أوروبا أن الأناجيل المكتوبة في القرون الأولى للمسيح «عليه‌السلام» عديدة ، وأهمها أربعة : إنجيل متى ، وإنجيل مرقص ، وإنجيل لوقا ، وإنجيل يوحنا. وهي المعتمدة عندهم. وقرر نقاد المسيحية أن عقائد هذه الأناجيل الأربعة هي من وضع ، ورأي القديس بولس. وبينوا أنهم يجهلون زمن كتابتها ، وبأي لغة كتبت .. يقول «إيفار لستر». «إن الأناجيل كتبت باللغة الإغريقية في القرنين الرابع ، والخامس ، ومنهم من جعل أصول تعاليمها مأخوذة من الأديان الوثنية» (٢).

ثانيا : إن القرآن الكريم مصدق ، ومهيمن ، وشاهد على الكتب السماوية الأخرى : وهكذا نزل القرآن الكريم مصدقا للكتب السماوية السابقة ، وقبل تحريفها. وكيف يقارن بها ، وهو مهيمن عليها ، وحاكما عليها ، وهو آخرها ، وأعظمها ، وأسماها. مصداق قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) سورة المائدة آية ٤٨.

قال الزمخشري في الكشاف : «أي رقيبا على سائر الكتب ؛ لأنه يشهد لها بالصحة ، والثبات» (٣). وهذا قبل تحريفها. وقال ابن كثير : «اسم المهيمن يتضمن ذلك ؛ فهو أمين ، وشاهد ، وحاكم على كل كتاب قبله ، جمع الله فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ما ليس في

__________________

(١) محمد رشيد رضا. إنجيل برنابا ـ الترجمة العربية. ص ١٣٢٦ ه‍.

(٢) دكتور يوسف شويحات : العودة إلى النصرانية. ص ٥.

(٣) الزمخشري ـ الكشاف ـ ج ١ ص ٤٩٧.

٣٢٨

غيره» (١). وهكذا جاء القرآن مبينا لليهود ، والنصارى كثيرا مما كانوا يخفونه في كتبهم : كنبوّة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وآية الرجم ، وقصة أصحاب الكهف ، وقصة الذين مسخوا قردة ، وخنازير. مصداق قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) سورة المائدة آية ١٥. وجاءهم نور ، وكتاب مبين. مصداق قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) سورة المائدة آية ١٥. أي مزيل لظلمات الشرك ، والشك ، وهو كتاب مبين ظاهر الإعجاز. قال في التسهيل : «والآية دليل على صحة نبوة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ؛ لأنّه بيّن ما أخفوه في كتبهم ، وهو أمي لم يقرأ كتبهم» (٢). وهكذا نزل القرآن هاديا لكل من اتبعه ، وصدق به ، وبنبوّة صاحبه محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، مصداق قوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) سورة المائدة آية ١٦. أي يهديهم الله طريق النجاة ، والسلامة ، ومناهج الاستقامة. وهكذا جاء القرآن الكريم يبين لليهود ، والنصارى شرائع الدين على فترة من انقطاع الرسل حيث كانت الفترة بين عيسى «عليه‌السلام» ومحمد «عليه الصلاة والسلام» خمسمائة وستون عاما ، وذلك حتى لا يكون لهم على الله حجة إن لم يسلموا ، ويؤمنوا بالقرآن. مصداق قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) سورة المائدة آية ١٩.

قال ابن جرير : «أي قادر على عقاب من عصاه ، وثواب من أطاعه» (٣).

__________________

(١) ابن كثير ـ المختصر ـ ج ١ ـ ص ٥٢٤.

(٢) ابن جزي ـ التسهيل لعلوم التنزيل ص ١٧٢ ، ومحمد علي الصابوني ـ صفوة التفاسير. ج ١ ص ٣٣٤.

(٣) محمد علي الصابوني ـ صفوة التفاسير ـ ج ١ ص ٣٣٦.

٣٢٩

ثالثا : إن القرآن الكريم يتصف بالكمال ، والعمومية ، والعالمية.

وهكذا ، فكيف يقارن القرآن الكريم بغيره من الكتب السماوية ، وهو الذي جاء بالهدي التام ، والكمال ، ودين الحق الذي أعلاه على جميع الأديان الوضعية ، والشرائع السماوية الأخرى؟!! مصداق قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) سورة الفتح آية ٢٨.

فالقرآن الكريم ـ على عكس الكتب السماوية الأخرى ـ جاء للناس كافة يعالج شئونهم الدينية ، والدنيوية. فشواهد عالميته ، وكماله تتسع لمعالم عموميته في المعالجة. وبديهي أن الكتاب الذي ينزل ، ويأتي للناس كافة يحمل في دلالات نزوله عمومية المعالجة لشئونهم الدينية والدنيوية كافة. قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) سورة الأعراف آية ١٥٨. ودلالة العمومية يؤصلها ورود قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) في القرآن الكريم نحو ثمان وعشرين مرة. والقرآن الكريم في حمله لشواهد الرحمة للناس كافة تقتضي مفاهيمه ، ودلالاته ألّا تجزأ هذه الرحمة ، وتقتصر على أمور الدين دون الدنيا. فلا مجال مطلقا للقول بفصل القرآن عن الحياة ، أو فصل الدين عن حياة الأفراد. قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) سورة الأنبياء آية ١٠٧. والقرآن الكريم في إخراجه للناس من الظلمات إلى النور من البديهي ألا تقتصر شواهده هذه على أمور الدين دون الدنيا. قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) سورة إبراهيم آية ١.

وإن دلالة عمومية القرآن الكريم ، وكماله ، وسموه على الكتب السماوية الأخرى تؤكدها الأحاديث النبوية الشريفة. ومنها ما رواه أئمة الأحاديث عن أنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» عند ما رأى عمر بن الخطاب يقرأ في نسخة من التوراة قال له فيما ورد في الحديث : «لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلّا أن يتّبعني». وقال فيما قال : «لقد تركتكم على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها» والمحجّة البيضاء تبقى حجة بيضاء لنا وعلينا ،

٣٣٠

وفي ديننا ، ودنيانا ـ فقرآننا قرآن الدين ، والدنيا معا ، ودستور المادة ، والروح معا ، وقانون العبادة ، والسياسة معا. فما صح ، ولا يصح القول : بفصل الدين عن الدنيا ، أو فصل القرآن عن الحياة. لا يصح بل يجب ألا يصح بالنسبة لقرآننا أو ديننا.

رابعا : إن القرآن الكريم محفوظ من التحريف ، والضياع. فقد صانته العناية الإلهية من كل تحريف ، أو تغيير ، أو نقصان ، أو ضياع ؛ وهذا كله على عكس الكتب السماوية الأخرى. قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) سورة الحجر آية ٩. قال المفسرون : تكفل الله بحفظ هذا القرآن ؛ فلم يقدر أحد على الزيادة ، والنقصان ، والتبديل والتغيير فيه كما يجرى في غيره من الكتب ؛ فإن حفظها موكول إلى أهلها لقوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ). وانظر الفرق بين هذه الآية : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) حيث ضمن حفظه ، وبين الآية السابقة ، حيث وكل حفظه إليهم ، فبدلوا ، وغيّروا. ولنا التساؤل هنا : كيف يعقل أن يقارن مثل هذا الكتاب الذي أولته العناية الإلهية بالحفظ من كل عبث أو لهو ، ومن كل نقصان أو زيادة ، ومن كل تحريف أو ضياع؟! أن يقارن بكتب أخرى ـ ولو سماوية ـ لم تنل شرف هذه النعمة؟! ومن ثم يجب أن يبقى ما يستند إليها من مفاهيم اللغو ، والباطل كالفصل بينها ، وبين الحياة ، أو بين الدين ، والدنيا ، بعيدا كل البعد عن قرآننا الكريم ، وبعظمة شواهده في السمو والكمال في المعالجة لشئون الأفراد والدول ، الدينية منها ، والدنيوية ، وإلّا انتقصت شواهد الحكمة بحفظه الأبدي ، وإلى قيام الساعة. وهكذا فإن مفاهيم فصل القرآن عن الحياة ، ووجوب الدنيوية للمبادئ العلمانية لا تقاس مطلقا على قرآننا كتاب الدين ، والدنيا والحياة ، وإن صح قياسها ، فليكن لغيره ، أو بالنسبة لغيرة مما لم تحفظه العناية الإلهية من التحريف كالتوراة ، والإنجيل. وحسبنا شهادة الإله ، بل وقرآنه على ذلك التحريف. قال تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) سورة النساء آية ٤٦. ومن هنا اقتضت معالم الكمال للقرآن في المعالجة للدين ، والدنيا معا أن يكشف ، أو أن يأتي

٣٣١

بذاته ، وبرسوله كاشفا لمعالم ، وشواهد أهل الكتاب في التحريف ، والتغيير ، والإخفاء لكتبهم أو لما في كتبهم. مصداق قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) سورة المائدة آية ١٥. ومن هنا اقتضت شواهد الحكمة الربانية في الإعجاز القرآني أن يظل مصانا من التحريف ، وإلى أبد الآبدين مصداق قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) سورة الحجر آية ٩.

ولنا القول : بأنّ الإعجاز القرآني بمعنى عدم التحريف لا يعني عدم القدرة على الزيادة فيه ، أو النقصان منه ، أو عدم الاستطاعة عن إحداث التغيير بالحذف ، والتقديم ، والتأخير في كلماته ، وآياته أو بينهما ؛ فهذا قد يكون مقدورا عليه من قبل الأفراد. ولكن المقصود بعدم إمكانية تحريف القرآن هنا يتمثل في إمكانية كشف ذلك التغيير ، أو النقص أو الزيادة فيه. فمن المستحيل أن يبقى التحريف خافيا على المسلمين ، وبحيث يؤدي إلى ضياع القرآن ، والاختلاف فيه ، كما حدث بالنسبة لاختلاف اليهود ، والنصارى في كتبهم ، ومن ثم ضياع السماوية منها. فالعناية الإلهية حفظت القرآن الكريم من التحريف بكشفها لكل تحريف ، وبحفظها له من الضياع له ، والاختلاف فيه.

وبهذا ترى المسلمين في بقاع الأرض ، وفي مختلف الأزمان والعصور ، وعلى اختلاف أعراقهم ، ومذاهبهم يقرءون قرآنا واحدا. أخرج أبو داود عن جابر «رضي الله عنه» قال : «خرج علينا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ونحن نقرأ القرآن ـ وفينا الأعرابي ، والعجمي ـ فقال : اقرءوا فكل حسن».

وهذا كله عكس ما عليه الكتب السماوية الأخرى ، ومنها التوراة مثلا ، وهي كتب موسى الخمسة : التكوين ، والخروج ، واللاويون ، والعدد ، والتثنية ، فكلها محرفة ، ولم تثبت صحتها عن موسى ، وألفت في أزمان متفاوتة تزيد على ألف عام. وكذلك يقال نفس الشيء بالنسبة للعهد القديم الذي يضم تسعة وثلاثين سفرا قسمت إلى ثلاثة أقسام : التوراة ، والأنبياء ، والكتب.

٣٣٢

ومن أمثلة ما جاء من تحريف التوراة : ما ورد في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التكوين وهو : «من حيلة ولدي يعقوب على شكيم وأبيه حمورى التي أدت إلى ذبحهم ، وتدمير مدينتهم خديعة ، ومكرا». وما ورد في الإصحاح السادس من سفر يشوع : «أن داود تآمر على زوجة قائدة حتى يتزوجها. وأنّ سليمان الحكيم عبد الأصنام إرضاء لزوجته. وأنّ النبي لوط زنى بابنتيه. والأمر بإبادة الأجناس الآخرين. وحل الربا ، وأكل أموال الأميين ـ أي الشعوب الأخرى غير اليهودية ـ وحل سرقة أموالهم ؛ وحرق مدينة أريحا ، وقتل كل من فيها من الرجال ، والنساء ، والأطفال ، والشيوخ ، حتى البقر ، والغنم ، والحمير بحد السيف. وإحراق مدينة أريحا بكل ما فيها. والاحتفاظ بالذهب ، والفضة ، وآنية النحاس ، والحديد. وإنجاء الزانية ، وجماعتها. وأنّ إبراهيم كذاب. وأن هارون دعا الإسرائيليين لعبادة العجل. ومن أدلة التحريف أيضا ما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التكوين : «وقال الرب الإله : هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا بالخير ، والشر».

والإصحاح السادس من السفر نفسه : «فحزن الرب أنه عمل الإنسان ، وتأسف في قلبه». وما جاء في سفر التكوين أيضا : أن إبراهيم رأى الرب آتيا يمشي بين ملكين ، فقال له إبراهيم : إن كان عبدك يرى نعمة بين عينيك ، فتعال ، فتغد معنا. وأنّ إبراهيم ذبح لهم عجلا سمينا ، فأكلوه معا. وكان ذلك تحت شجرة بلوط كان يجلس تحتها إبراهيم في قرية نمرة قرب القدس. وأيضا : أن إسرائيل ـ يعقوب ـ صارع الرب ، وصرعه. وأيضا : أن موسى مات عن عمر مائة وثلاثين عاما ، وناحت عليه نساء بني إسرائيل أربعين يوما ، ودفن في إحدى عرصات جبل موآب (جنوب الأردن).

وأيضا : أن مريم العذراء زنت بالراهب يوسف النجّار حيث كانت تتعبد معه في إحدى الأديرة. وقد زنا بها ، وهو خاطبها ، وقبل الدخول الشرعي بها.

٣٣٣

وهم يتشبّثون بهذه ، وبمثل هذه الافتراءات ، ودون أي دليل عقلاني علمي ، أو تاريخي ، أو نقلي ؛ وذلك كفرا من عند أنفسهم ، وبهتانا عظيما ؛ وحيث صدق فيهم قول ربنا دليلا إلهيا نقليا ، ولا دليل لهم. (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) سورة النساء آية ١٥٦. وقوله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) سورة البقرة آية ١٠٢. وأما تحريف الإنجيل ، فيصدق عليه قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) سورة المائدة آية ١٤.

وقوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) سورة المائدة آية ١٥.

وقد أشار دكتور موريس بوكاي الفرنسي في كتابه : «القرآن ، والتوراة ، والإنجيل ، والعلم. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» إلى التناقضات العجيبة في الأناجيل الأربعة بقوله : «فخيالات متى ، والمتناقضات الصارخة بين الأناجيل ، والأمور غير المعقولة ، وعدم التوافق بين معطيات العلم الحديث ، والتحريفات المتوالية للنصوص ، كلّ هذا يجعل الأناجيل تحتوي على إصحاحات ، وفقرات تنبع من خيال الإنسان وحده. لكن هذه العيوب لا تضع في موضع الشك وجود رسالة المسيح ؛ فالشكوك تخيم على الكيفية التي جرت بها» (١).

وقد أضاف هذا الطبيب الفرنسي موريس بوكاي : «بهذا يتضح ضخامة إضافة الإنسان إلى العهد القديم ... والتحولات التي أصابت نص العهد القديم الأوّل من نقل إلى آخر ، ومن ترجمة إلى أخرى ، وبكل ما ينجم حقا عن ذلك من تصحيحات جاءت على أكثر من ألفي عام» (٢).

__________________

(١) دكتور موريس بوكاي : كتاب : القرآن ، والتوراة ، والإنجيل ، والعلم ، ص. ١٣١.

(٢) دكتور موريس بوكاي. المرجع السابق نفسه ص ١٩.

٣٣٤

ثم قال : «في سفر التكوين توجد أكثر التناقضات وضوحا مع العلم الحديث. وتخصّ هذه التناقضات ثلاث نقاط جوهرية :

١ ـ تاريخ خلق العالم ، وتاريخ ظهور الإنسان على الأرض ـ ٢ ـ خلق العالم ومراحله ، ـ ٣ ـ رواية الطوفان» (١).

وقد قاده حياده العلمي إلى الاعتراف بصحة القرآن ، وسلامته من التحريف ، فذكر في نهاية كتابه : «لذلك فمن المشروع تماما أن ينظر إلى القرآن على أنّه تعبير الوحي من الله ، وأن تعطى له مكانة خاصة جدا ، حيث إن صحته أمر لا يمكن الشك فيه ؛ وحيث إن احتواءه على المعطيات العلمية المدروسة في عصرنا تبدو كأنّها تتحدى أي تفسير وضعي ؛ عقيمة حقا المحاولات التي تسعى لإيجاد تفسير للقرآن بالاعتماد فقط على الاعتبارات المادية» (٢). وعملا بقاعدة : الإقرار حجة على المقر ، فقد أورد حاخام باريس «أجوليان ويل» في كتابه : اليهودية ، ما يفيد بأن شهادات كل علماء الغرب تؤكد أن التوراة الموجودة الآن قد كتبها أحبار اليهود ؛ ومنها ما كتب أيام المملكة الإسرائيلية ؛ ومنها ما كتب في المنفى بين النهرين ؛ ومنها ما كتب قبل الميلاد بنحو ثلاثة قرون (٣).

ولنا التساؤل في هذا المقام : أبعد هذا التحريف في ، ولكتبهم المقدسة ، هل يجوز لنا أن نطمئن على شبهاتهم حول قرآننا الكريم ، وهم الذين أحاطوا كتبهم بكل شبهات التحريف؟! ومن ثم أنى ، وكيف يتسنى لهم أن يصدقوا في شبهاتهم؟! وأنّى ، وكيف يتسنى لنا أن نطمع فيهم ، وفيمن والاهم من أئمة العلمانية ، وكفارها ؛ وأن نطمع في أن

__________________

(١) دكتور موريس بوكاي. المرجع نفسه ـ ص ٤٠.

(٢) دكتور موريس بوكاي. المرجع نفسه. ص ١٤ ـ ٥٦ ـ ١١٧ ـ ١٤٢ ـ ٢٨٤ ـ ٢٨٦ سنة ١٩٧٨ م.

(٣) مجلة رابطة العالم الإسلامي. العدد السابع ، السنة الرابعة عشرة. يوليو سنة ١٩٧٦ م ، ص ٣٠.

٣٣٥

يؤمنوا أو يقلعوا عن شبهاتهم ، وافتراءاتهم؟!! وخير مؤنس لنا في هذا المقام قول ربنا فيهم : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) سورة البقرة آية ٧٥.

خامسا : إن القرآن الكريم كتاب سماوي منهجي : بينما الكتب السماوية الأخرى غير منهجية ، فضلا عن أنها حرفت وغدت كتبا بشرية وضعية ، فلا يجوز أن يقارن القرآن بها. فما يصلح أن يقال فيها لا يصلح أن يقال بالنسبة للقرآن الكريم. ولذلك فإن سمحت شواهدها ، ومعالمها اللامنهجية فصلها عن الحياة فلا غبار على ذلك ؛ فهي أصلا كتب مواعظ ، وعبر ، وليست كتبا منهجية ؛ ولم تنزل لمعالجة شئون حياة الأفراد ، والدول ، وكذلك ما جاءت به من عقائد جاء مجملا ؛ وخلت من تفاصيل التشريع المتعلقة بالأحكام التي تعالج أمور الدين ، والدنيا ، فضلا عن أنّها لم تعد سماوية. ولذلك يناسبها الفصل عن الحياة ، والدنيا. وهذا كله على عكس القرآن الكريم ؛ فهو كتاب سماوي منهجي ، وسيبقى كذلك ، وإلى قيام الساعة يعالج أمور الدين ، والدنيا معا. وقد جاء للبشرية بمناهج التشريع ، والعقائد كاملة ، ومفصلة ؛ وقد أرسى قواعد المنهجية الحقيقة في المعالجة لمشاكل الحياة والأفراد ، والدول. فقد أرسى قواعد وأصول المنهج السياسي ، والمنهج الاقتصادي ، والمنهج الاجتماعي ؛ وفي نفس الوقت أرسى قواعد ، وأصول النظام الدستوري ، والإداري ، والمالي ، وكذلك أسس ، ومعالم القانون الجنائي ، «أي الجزائي» ، والدولي. فهو لم يترك شأنا من شئون الدين ، والدنيا إلّا عالجها ؛ ولكن بشيء من الإيجاز ، وفي شكل قواعد كلية ، ومبادئ شرعية عامة تستند إلى النصوص ، أو الاجتهاد ؛ وبالتالي فإن معالمه المنهجية في الكمال والشمولية ، والفعالية في المعالجة لجميع الأمور لا تسمح أبدا بالقول بفصله عن الدنيا ، أو عن الحياة ، أو الدين الذي جاء به عن شئون الأفراد الحياتية ، والدنيوية.

٣٣٦

ويصدق على هذا قول ربنا في كتاب ربنا : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) سورة النحل آية ٨٩.

قال عبد الله بن مسعود : «قد بين لنا في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء» (١). وأيضا قول ربنا : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) سورة النحل آية ٤٤.

ولنا القول : بأن ما تفيده الآيتان ، وغيرهما أن الله تعالى لم ينزل قرآنه على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» إلا ليبين ، وليفصّل لهم أحكام حياتهم ، وشئونهم الحياتية الدينية ، والدنيوية دون استثناء ؛ وضمن معايير الحلال ، والحرام حتى تستقيم حياتهم ؛ وحتى لا تكون لهم بعد ذلك على الله حجة. ومثل هذه المعاني تتنافى كلية مع القول : بأنّ القرآن يجب فصله عن الدنيا ، أو فصل الدين عن الحياة.

فالقرآن الكريم سام ، وكامل في تنظيمه لحياة الأفراد سواء فيما يتعلق بحياتهم الخاصة ، أو علاقاتهم فيما بينهم أو فيما بينهم وبين الدولة ؛ وكذلك فيما بينهم ، وبين ربهم. وقد أورد صاحب العقيدة الطحاوية أن لله تعالى تعاليم ، ووصايا أوحى بها إلى رسله ، وأنبيائه. منها ما دوّن في الكتب ، ومنها ما لا علم لنا به. فلكل رسول رسالة بلغها قومه كما قال سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) سورة البقرة آية ٢١٣. وقال جلّ جلاله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) سورة آل عمران آية ١٨٤.

والكتب المدونة هي : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وصحف إبراهيم ، وصحف موسى ، والقرآن الكريم. وما أثبته المفسرون أنّه

__________________

(١) د. محمد علي الصابوني ـ مختصر ابن كثير ـ ج ٢ ـ ص ٣٤٣.

٣٣٧

ـ وباستثناء القرآن الكريم ـ فإن الكتب السماوية الأخرى كانت جميعها عبرا ، وأمثالا ، ووصايا ، وأخلاقا ، ولم تكن كتبا منهجية تعالج شئون الحياة. أخرج ابن حبان في صحيحه ، واللفظ له ، والحاكم ، وقال صحيح الإسناد عن أبي ذر «رضي الله عنه» قال : «قلت يا رسول الله ، ما كانت صحف إبراهيم؟! قال : كانت أمثالا كلها : أيها الملك المسلط ، المبتلى المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ، وإن كانت من كافر. وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات : فساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكر فيها في صنع الله «عزوجل» ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم ، والمشرب. وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث : تزود لمعاد ، أو لمعاش ، أو لذة في غير محرم.

وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه. ومن حسب كلامه من عمله ، قل كلامه إلا فيما يعنيه. قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف موسى؟ قال : كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح. عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك. عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب. عجبت لمن رأى الدنيا ، وتقلبها ثم أيقن إليها. عجبت لمن أيقن بالحساب غدا ، ثم هو لا يعمل» (١).

ويقول دكتور يوسف شويحات : «إني أعتقد أن النصرانية كانت ترتكز تعاليمها على الأخلاق أكثر مما كانت تهتم بالشعائر الدينية ؛ ولذلك اعتنقتها الشعوب البربرية ، فهذبت أخلاقها. ولكن بولس الرسول الفيلسوف اليهودي أدخل على النصرانية الفلسفة اليونانية ، والمفاهيم اليهودية. كما أدخل عليها البيزنطيون التعاليم الزرادشتية. فالمسيحية ديانة

__________________

(١) عبد الحميد السائح : عقيدة المسلم وما يتصل بها ـ ص ٢٣٦ والسيد سابق. العقائد الإسلامية ص : ١٦٠ ـ ١٦١.

٣٣٨

أسرار ، ولا هوت ، وسياسة ؛ بينما النصرانية ديانة أخلاق ، ومبادئ ؛ فالمسيحية ديانة الغرب ، والنصرانية ديانة عربية». يؤيد قوله ما ورد في الموسوعة الكاثوليكية من أن آريوس ليبي المولد كان يدافع عن عقيدة قائمة هي النصرانية الخالية من التحامل الفكري الحاذق ، والفلسفة الجدلية البيزنطية التي سموها المسيحية بقصد القضاء على النصرانية. وهو يستند في هذا إلى ما كتبه «فيشر» عن تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ، وإلى ما كتبه سليم واكيم عن تاريخ إيران في الحضارة (١).

سادسا : إن القرآن الكريم كتاب غير متناقض. يتصف بثبات العقائد ، والشرائع ، وصحة الإعجاز. فحقائقه ثابتة ناصعة لا تتعارض مع العلم ، وحقائقه. وما ثبتت قطعيته من العلم ، فهو قطعي في القرآن الكريم. وحقائق الكون في الآفاق ، وحقائق النفس في الأجسام كلها تتناسب مع كلام الله ، وهي مخلوقاته. وكل ما أخبر به القرآن عنها ، وما يكتشف من حقائقها تتلاءم مع ما أخبر الله به عنها. فلا تناقض البتة بين كلام الله وهو القرآن ، وبين عمل الله ، وهي المخلوقات. وكلام الله ، وعمله لا يتناقضان أبدا. وكل ما جاءت به الحقائق العلمية يصدق ما جاء به ، وأخبر به القرآن سواء فيما يتعلق بحقائق الكون في الآفاق ، أو في الأنفس. مصداق قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). سورة فصلت آية ٥٣.

ولنا القول : بأنّ كتابا ربانيا سماويا يصدق بعضه بعضا ، وتصدق حقائقه حقائق الخلق في الكون ، والنفس ، ويحمل في ثنايا دلالاته ومفاهيمه ، ومعانيه ، ومعالمه ، وآياته سمو خلوده ، ومعالم صدقه ، وشواهد كماله ، وصدق حقائقه ، فهو جدير ، بل وأكثر جدارة من غيره من الكتب حتى السماوية منها أن يحيط بكل معالم ، ومظاهر الحياة

__________________

(١) عبد الحميد السائح : المرجع نفسه ـ ص ٢٤٨.

٣٣٩

الإنسانية حكما ، ومعالجة ، وتنظيما ، وعلى جميع المستويات ، والشئون سواء بالنسبة للأفراد ، أو الأسر ، أو المجتمعات ، أو الدول ؛ وبحيث أثبتت الدلائل النقلية ، والعلمية ، والتاريخية ، والتطبيقية العملية أنّه لا غنى للبشرية أبدا عن هذا الكتاب الرباني ؛ ولحل مشاكلهم ، وتنظيم حياتهم ، وإدارة شئونهم. فكيف ، وبعد ثبوت مثل هذه الحقائق ثبوت جبل أحد أن يزعم ، أو أن يقال بوجوب فصله عن الحياة ، أو عن الدنيا ، أو عن شئون الأفراد؟!! إنّه لعمر الله ، الكفر ، والعناد ، والجهل ، والضلال!!!

ولنا القول أيضا : فعند ما يقول الله تعالى في قرآنه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) سورة الذاريات آية ٢٠. فهو يشير كما يقول ابن كثير : إلى الآيات الدالة على عظمة خالقها ، وقدرته الباهرة. سواء أكانت هذه الآيات تتعلق بالنبات ، أو الماء ، أو الحيوان ، أو الإنسان ، أو جميع بدائع خلقه. فمما لا شك فيه أن دلائل هذه العظمة لا تصدق ، ولا تتحقق إلّا بتحقق تناسق شواهد الخلق ، فلا ترى فيها عوجا ، ولا أمتا ، ولا فطورا ، ولا تناقضا. فإن حقائق القرآن لا تنتابها شواهد الزيغ ، أو الاعوجاج ، أو التناقض ، أو التفاوت ، أو الفطور ، قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) سورة الملك آية ٣.

فكلام الله عن السماوات يصدق حقيقة خلقها ، وبأنها متطابقة بعضها فوق بعض. وكذلك يصدق حقيقة تناسقها ، وبديع صنعها ؛ فلا يمكن أن يرى فيها ، أو في خلق الله كله أي نقص ، أو خلل ، أو اختلاف ، أو تنافر ، بل هي غاية في الأحكام ، والاتقان. وإنما قال : (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ) ، ولم يقل : فيهن ؛ تعظيما لخلقهن ، وتنبيها على قدرة الله ، وتأكيدا على هذه القدرة الإلهية. قال تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) سورة الملك آية ٤.

قال الإمام فخر الدين الرازي : «المعنى : أنك إذا كررت نظرك ، لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجود الخلل والعيب ، بل رجع خاسئا

٣٤٠