شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

الباب الأول

شبهات حول الوحي بالقرآن ، وتفنيدها (١)

الشبهة الأولى :

إن القرآن من تأليف محمد. صاغه بأسلوبه ، وعبّر عنه ببيانه ، ونمّقه ببلاغته ، وزخرفه بتهيؤاته ، ودعمه بمعجزاته ، ثم نسبه إلى خالقه ، وادعى أنّه وحيه ؛ ليكسيه هالة قدسية ، جذبا لاحترام ، وثقة النّاس فيه ، ليصبوا به إلى مآربه الدنيوية في التسلط ، والسيادة ، والحكم ، والزعامة.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إذا كان القرآن من تأليف محمد ، فحديثه الأضعف منه بلاغة ، وفصاحة ، وبيانا ، يكذب ذلك. ولكان الأولى ألّا ينسب لنفسه حديثا ، وأن يجعل كل كلامه قرآنا. فالتمايز بين القرآن ، والحديث النبويّ

__________________

(١) انظر في مثل هذه الشبهة : دكتور غازي عناية : كتاب : هدى الفرقان في علوم القرآن. ج ١ ص ٦٥ وما بعدها.

٢١

على درجة من الشدة ، والوضوح ، بحيث لا يخفى على أحد ، وعلى الأخص على فطاحل اللغة العربية. فالقرآن في أسلوبه ، ونمطه ، وبيانه وتناسقه ، وخصائصه الأخرى تجعله فريدا في نوعه ، مميزا عن كلام البشر ؛ حيث جاء معجزا ، متحدى به ، لم يستطع أحد أن يعارضه ، أو يقلده ، أو يضاهيه ، أو يعيبه ، أو يأتي بمثله ، أو حتى يحرّفه. أمّا الحديث النبوي ـ وإن بلغ الذرورة في فصاحته ، وبيانه ـ فقد تناولته ألسنة المعارضة ، والتقليد ، والتحريف ، فهو لم يجئ معجزا ، ولم يتحد به ؛ ولذا فقد مسته شواهد التحريف ، فكان منه الحديث الصحيح ، والحسن ، والضعيف ، والموضوع. وأما ادعاء أعداء الإسلام أن لكلام محمد ضربين : الأول : وهو أن القرآن جاء به على انتظار ، وتمهل ، وترتيب ، وتحضير ، فأكسبه مزيدا من التهذيب ، والتنميق ، والتحبير. والثاني : وهو الحديث النبوي ، فعبر عنه دون تريث ، أو تفكير ، أو تمهل ، فجاء محررا من كل تنميق ، أو تحبير. ويردّ عليهم : بأن هذا الادعاء يفقد كل أساس مسوغ لصحته. فالقرآن الكريم نزل معظمه مفاجأة ، وعلى غير انتظار ، أو تمهل ، أو تريث ، فجاء منمقا ، مهذبا ، ساميا في لغته ، وأسلوبه ، وإعجازه. ونفس الشيء بالنسبة للحديث النبوي : فمنه ما جاء على انتظار ، وتمهل وتريث ، ومنه ما جاء على غير ذلك ، ومع ذلك فكلاهما ورد بنفس الأسلوب ، والنمط ، والخصائص. وقلما نجد تفاوتا بينهما ، وإنما يبقى التفاوت واضحا بين القرآن ، والحديث في الأسلوب ، والنمط ، والبيان ، والخصائص ؛ ويبقى بينهما كالتفاوت بين مقدور الخالق ، ومقدور المخلوق لا يقلل من هذا التفاوت زعم ، أو باطل ، أو ادعاء ، وإلى قيام الساعة.

ثانيا : إن القرآن الكريم لو كان من تأليف محمد ، لكان قد نسبه إلى نفسه ، ولادعى الألوهية فضلا على النبوة ؛ فيحيطه بهالة أكثر قدسية ؛ فيكسب مزيدا من ثقة الناس فيه ، فتزيد قداسته فيهم ، وبالتالي تتقوى زعامته فيهم ، ويشتد تسلطه عليهم. فلو كان القرآن من تأليف محمد لكان الأولى ألا يفرق بينه وبين الحديث ؛ ولا ينتظر أن ينسبه غيره إليه ،

٢٢

ولكن (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) فالمؤكد تماما حتى عند أدعياء الكفر أنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يدع جاها ، ولا زعامة ، ولا دنيا ، وهو الذي قال لأعرابي عند ما هالته عظمة النبوة : «هوّن عليك ؛ فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة». ومن الثابت أيضا حتى بالنسبة لأدعياء الكفر أنّه لم يدّع كتابا ، أو علما من عنده ، وما هذه الشبهات إلّا من قبيل الكفر ، والكفر عناد. والرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» هو الذي قال فيه ربه في سورة العنكبوت : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) آية ٤٨.

ثالثا : إنّ القرآن الكريم لو كان من تأليف محمد لاستطاع أئمة الفصاحة ، والبلاغة ، والبيان من العرب أن يكتشفوا ذلك ، وكان سهلا عليهم ، فيدحضوا به زعم محمد أن القرآن يوحى إليه من عند الله من جهة ، ويقلدونه ـ وهم قد عجزوا عن ذلك ـ من جهة أخرى. فالقرآن الكريم ـ وهم أهل الفصاحة ، والبيان ـ أعجزهم في لغتهم ، وغزاهم في عقر بلاغتهم ، وتحداهم ، وبأطلق لسان فيهم ، وأعرب لغة بينهم ، أن يجاروه ، ولو بأقصر سورة منه تتكون من ثلاث آيات ، وهي سورة الكوثر ، ولكن هل استطاعوا؟ ... قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة البقرة آية ٢٣ وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة يونس آية ٣٨. (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) سورة الطور آية ٣٤. ولكن هل استطاع هؤلاء العرب ـ وهم أصحاب الصناعة البيانية ، والبلاغية الفائقة ـ أن يجاروا هذا القرآن ، أو يعارضوه ، أو يقلدوه؟ ... وهل قبلوا التحدي ، وهم ملاك النّباهة ، والحسّ والذوق الأدبي الرفيع؟ الجواب على ذلك أبدا : فقد عجزت أقلامهم ، وخرست ألسنتهم ، وسقطت شبهاتهم ، وفنّدت ادعاءاتهم ، فهم المتقولون مصداق قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) سورة الطور آية ٣٣. وهم الخراصون ، مصداق قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) سورة الزخرف آية ٢٠. وقوله تعالى : (قُتِلَ

٢٣

الْخَرَّاصُونَ) سورة الذاريات آية ١٠. وهم المجادلون مصداق قوله تعالى : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) سورة الكهف آية ٥٦.

رابعا : إن القرآن الكريم لو كان من تأليف محمد ، لكان أسرع الناس في الرد على من حاجّه في ادعائه ، أو افترى على زعمه ، أو اعتدى على حرماته. فهذه قصة الإفك التي نالت من شرف زوجته عائشة ، ومن كرم نبوته ، فقد تأخر نزول الوحي بالقرآن تبرئة لها حوالي الشهر ذاق هو ، وزوجته الأمرين طيلة هذه المدة ، فلو كان القرآن من تأليفه ، فما الذي يمنعه من الرد السريع القاطع لألسنة المتقولين في شرفه؟ ... ولكن ، وأنّى لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أن يتقول على الله ، أو يتقول على الناس وإن فعل ـ وحاشا لله أن يفعل ـ فحكمه إلى الله مصداق قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) سورة الحاقة الآيات ٤٤ ـ ٤٧.

وهذه قصة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام ، حيث صلّى الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصحابته حوالى ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس بقي طيلة هذه المدة يقلب وجهه في السماء راجيا من الله تعالى أن يحوّل القبلة إلى المسجد الحرام بمكة ، فاستجاب له ، مصداق قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) سورة البقرة آية ١٤٤. فلو كان القرآن من تأليفه فما الذي منعه من تحويلها ـ أي القبلة ـ من أول الأمر!!.

وهذه قصة أصحاب الكهف ، والذين سئل عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبطأ عليه الوحي حوالي مدة أربعين يوما بقي طيلتها في حرج من يهود حيث سألوه عنهم ، فلو كان القرآن من عنده فما الذي يمنعه من سرعة الرد عليهم؟!!.

خامسا : إنّ القرآن الكريم لو كان من تأليف محمد ، فكيف نفسر عتاب الله له في القرآن ، وفي أكثر من موضع؟!! فهذا عتاب الله له في

٢٤

قبوله لأعذار المنافقين ، وإذنه لهم بالتخلف عن غزوة تبوك ، مصداق قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) سورة التوبة آية ٤٣. فمن خلل الرأي ، وفساد العزيمة ، ونقص الادعاء أن يعتب مدع ، أو صاحب فرية على نفسه ، وبقوله الذي يدعيه. ولو صحت دعوى نسبة القرآن لنفسه ، لما عاتب نفسه ، ولما خطأ رأيه ؛ لأنّ هذا من قبيل التناقض الذي يتحاشاه أصحاب الافتراءات ، والرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كان أحوج إلى ادعاء الصحة في أقواله وتصرفاته ؛ جذبا للناس حوله ، ولاعتناق قرآنه ، وليس تنفيرهم ، وليس بأن يناقض نفسه ، وأن يعيب كتابه. إذن فلو كان القرآن من عنده لما كانت هناك ضرورات لأن يعاتب نفسه أكثر من مرة. وأيضا هذا عتاب الله له في قبوله الفداء من أسرى بدر ، مصداق قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) سورة الأنفال آية ٦٧ ـ ٦٨. فمن شطحات الأفكار ، وتجنب الصواب أن يعتب صاحب فرية على نفسه في تصرف سلكه ، أو في رأي أبداه ، أو في حكم قرره ، وأن يخطئ نفسه ، وينذرها بالعذاب العظيم ، ومن غيره. وأيضا هذا عتاب الله له في تولّيه عن أعمى هو عبد الله بن أم مكتوم جاءه يسأله عن دينه ، فتولّى عنه اهتماما بأكابر من قريش كان يرجو أن يهديهم الله إلى الإسلام ، وهم له كارهون ، مصداق قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) سورة عبس آية ١ ـ ١١.

الشبهة الثانية :

إن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أخذ ، وتعلم القرآن من أناس من البشر. فمرة ينسبون علم الرسول القرآني إلى راهب نصراني هو بحيرا ، ومرة إلى غلام رومي يعمل قينا في مكة ، ومرة إلى ناسك مكي هو ورقة بن نوفل.

٢٥

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : فبالنسبة للراهب النصراني «بحيرا» : فيكفينا الرد بالقول : بأن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يقابله إلا مرة واحدة في حياته ، وعمره اثنتا عشرة سنة ، ومع عمه أبي طالب عند ما صحبه في تجارة له إلى بصرى في بلاد الشام ؛ وكان ذلك في فترة قصيرة جدا يستحيل معها أن يأخذ منه ما نسب إليه من علم ، ومن الثابت يقينا أنّه لم يأخذ عنه شيئا من العلوم ، فضلا عن أنّ «بحيرا» عاجز في عقله ، وعلمه عن الإحاطة بأقل القليل من العلوم التي جاء بها القرآن ؛ وكل ما هنالك ، وتؤيده الروايات أن الراهب بحيرا تنبأ للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بالشأن العظيم ، وهي النبوة التي شاهد أماراتها فيه. حيث قال «بحيرا» لأبي طالب : إنّ هذا الغلام سيكون له شأن عظيم ، وحذره من يهود. وهذه القصة حجة للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في نبوته ، وليست حجة عليه ؛ وإنما هي حجة على من افتراها بأنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أخذ القرآن من بحيرا.

ثانيا : وأمّا بالنسبة للغلام الرومي ، فيكفينا الرد بالقول : بأنّه كان أعجميا ، وغير ملم بالعربية ، وكان حدادا في مكة ، وليس له شأن بعلم العربية ، أو تعلمها ، فكيف يقبل العقل ادعاءهم بأنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» تعلم القرآن منه؟!! وقد فنّد القرآن مزاعمهم ، وادعاءاتهم بقوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) سورة النحل آية ١٠٣.

ثالثا : وأما بالنسبة للناسك المكي ورقة بن نوفل : فيكفينا الرد بالقول : بأنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم تكن له العلاقة الوثيقة بذلك الناسك ، ولم يقابله إلّا بعد نزول الوحي عليه ، حيث صحبته خديجة إليه ، فشهد له ورقة بدلا من أن يعلمه ، فقال ورقة : هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى ؛ ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. قال : أو مخرجي هم؟! قال : نعم! لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا أوذي ، وإن يدركني

٢٦

يومك ، أنصرك نصرا مؤزرا. ويكفينا الرد بالقول أيضا بأنّ ورقة بن نوفل ولو أنّه كان حنيفيا على دين إبراهيم إلّا أنّه ، ومن الثابت أنّه كان لا يملك العلم ، والمعرفة التي جاء بها القرآن ، وكما ورد في الرواية : ثم لم يلبث ورقة أن مات بعد المقابلة بفترة قصيرة.

الشبهة الثالثة :

إنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو كاهن. قالوا : إنّه شاعر ، وما القرآن إلّا من خيالات شعره ، وسبحات فكره مصداق قوله تعالى : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) سورة الأنبياء آية ٥. وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) سورة الطور آية ٣٠. وجاء الرد الإلهي مفندا لزعمهم ، منكرا عليهم ادعاءهم ، ومن أصدق من الله حديثا ، قال تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) سورة الحاقة آية ٤١. قالوا : إنّه ساحر ، وما القرآن إلّا سحر يؤثر ، مصداق قوله تعالى : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) سورة يونس آية ٢. وقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) سورة القمر آية ٢. وقوله تعالى : (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) سورة المدثر آية ٢٤ ـ ٢٥. وجاء الرد الإلهي مفندا لزعمهم منذرا لهم بالعذاب الأليم ، والشراب الحميم ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) سورة يونس آية ٤. وجاء الرد الإلهي أيضا بالتولي عنهم : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) سورة القمر آية ٦. وجاء الرد الإلهي أيضا بصليانهم سقر. قال تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) سورة المدثر آيات ٢٦ ـ ٢٩. قالوا : إنّه مجنون ، وما القرآن إلا من شطحات جنونه ، وفلتات شذوذه ، مصداق قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) سورة الدخان آية ١٤. وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) سورة القلم آية ٥١. وجاء الرد الإلهي مدحضا لافتراءاتهم مرة مشفوعا بالقسم في قوله تعالى : (ن

٢٧

وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) سورة القلم الآيتان ١ ـ ٢ ومرة بأنهم للحق كارهون في قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) سورة المؤمنون آية ٧٠. ومرة بالنفي القاطع لصفة الجنون عنه في قوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) سورة التكوير آية ٢٢. قالوا : إنه كاهن ، وما القرآن إلّا من طقوس خيالاته ، وبنات أفكاره ، وقدسيات كهنوته. وجاء الرد الإلهي بالتذكير بأنّه ليس بكاهن ، وأن القرآن تنزيل من رب العالمين في قوله تعالى : (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) سورة الحاقة الآيتان ٤٢ ـ ٤٣. قالوا : إنّه شاعر مجنون ، وما القرآن إلّا من شعر جنونه ، وخيالات ذهنه ، مصداق قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) سورة الصافات آية ٣٦. وجاء الرد الإلهي مؤكدا صدقه ، وبأن ما جاء به هو الحق بعينه في قوله تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) سورة الصافات آية ٣٧. قالوا : إنّه ساحر مجنون ، وما القرآن إلّا من سحر جنونه ، مصداق قوله تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) سورة الذاريات آية ٥٢. وجاء الرد الإلهي بالتولي عنهم : فإنّهم قوم طاغون ، في قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) سورة الذاريات آية ٥٤. قالوا : إنّه ساحر كذاب ، وما القرآن إلا من سحر كذبه ، مصداق قوله تعالى : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) سورة ص آية ٤. وجاء الرد الإلهي بأنّهم في شك من ذكر الرحمن ، وبأنهم لم يذوقوا العذاب بعد. في قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) سورة ص آية ٨. قالوا : إنّه كاهن مجنون ، وما القرآن إلّا من كهنوت جنونه ، وهذيان كهنوته ، وجاء الرد الإلهي بالتذكير لهم بأنّه ليس كما يدعون في قوله تعالى : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) سورة الطور آية ٢٩. قالوا : إن هذا القرآن إلا أضغاث أحلام مفترى. مصداق قوله تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ) سورة الأنبياء آية ٥. وجاء الرد الإلهي بأنّه لا يصرفهم عن قولهم إلّا العذاب ، والهلاك. وجاء في قوله تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) سورة

٢٨

الأنبياء آية ٦ قالوا : إن هذا القرآن إلا إفك مفترى ، مصداق قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) سورة الفرقان آية ٤. وجاء الرد الإلهي بأن ما قالوه ظلم ، وزور في قوله تعالى : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) سورة الفرقان آية ٤. قالوا : إن هذا القرآن إلا أساطير الأولين. مصداق قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) سورة الفرقان آية ٥. وجاء الرد الإلهي بالتأكيد بأنّه منزل من عالم السر في السماوات ، والأرض في قوله تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٦) سورة الفرقان آية ٦. قالوا : إن هذا القرآن إلا قول تقوله محمد ، وافتراه مصداق قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) سورة الطور آية ٣٣. وقد جاء الرد الإلهي مرة بالتحدي لهم أن يأتوا بحديث مثله مفترى ، قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) سورة الطور آية ٣٤ ، ومرة بالتحدي لهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة هود آية ١٣. ومرة بالتحدي لهم أن يأتوا بسورة واحدة مثله ، قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة يونس آية ٣٨. وقال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة البقرة آية ٢٣. وجاء الرد الإلهي مرة أخرى بالنفي القاطع أن في مقدورهم الاستجابة للتحدي ، أو الإتيان بمثل هذا القرآن. قال تعالى : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة هود آية ١٤.

ومرة أخرى بالتحذير لهم ، وإفحامهم بأنهم لا ، ولن يستطيعوا ، ولم ، ولن يفعلوا ، قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) سورة البقرة آية ٢٤. وجاءت خاتمة الرد الإلهي باستحالة أن يكون هذا القرآن مفترى من دون الله ، قال

٢٩

تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) سورة يونس آية ٣٧ وقد جاءت ذروة الرد الإلهي بالنفي القاطع لقدرة الإنس ، والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن حتى ولو اجتمعوا له. قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) سورة الإسراء آية ٨٨.

ولما أسقط في أيديهم ، وأيقنوا أن لا قبل لهم بتأييد مزاعمهم ، وهم يعلمون أكثر من غيرهم بأنّ محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ليس بشاعر أو مجنون ، أو ساحر ، أو كاهن عمدوا إلى افتراء الوحي من خارج النفس المحمدية. وقد تناسوا أنّهم في الرهان خاسرون ، وأمام التحدي الإلهي فاشلون ، ومع ذلك أصروا ، وعاندوا ـ والكفر عناد ـ فادعى بعضهم ، وشاركه البعض النبوة ، وادعى أنّه يوحى إليه ، وعند ما حاول تأكيد افترائه ، وتقليد القرآن ، جاءت عباراته ـ وهم أفصح العرب ـ على غير فصاحة ، وعلى كل سخافة وتفاهة ، وعلى كل ركاكة ، وإسفاف ، فكان قرآنهم حجة على تفاهتهم ، وبرهانا على سقط متاعهم ، وفشل ادعاءاتهم.

أمثلة على بعض المتقوّلين على القرآن :

أولا : مسيلمة بن حبيب الكذاب : تنبأ باليمامة في بني حنيفة ، وتقع شرق مدينة الرياض حاليا ، وقد وفد على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وأعلن إسلامه ، وكان أليفا مع الناس ، ويجاهر بقبحه ، وعند ما عاد إلى اليمامة كتب إلى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» سنة ١٠ للهجرة : أمّا بعد ، فإني شوركت في الأرض معك وإنّما لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها ، لكن قريشا قوم يعتدون (١). وكان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قد أرسل أحد المسلمين ، وهو «نهار الرّجال» ـ وكان فقيها وقارئا للقرآن ـ إلى مسيلمة ليرده عن فتنته ، فارتد هو الآخر عن

__________________

(١) مصطفى صادق الرافعي : كتاب : إعجاز القرآن ـ ص ١٧٥.

٣٠

الإسلام ، وكان أعظم فتنة من مسيلمة على بني حنيفة ، إذ شهد أنّه سمع الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» يقول : إن مسيلمة قد أشرك معه ، فصدقوه. وكان لا يقول شيئا إلا تابعه مسيلمة ؛ وكان يستعين به على التعرف على أحوال الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». فكان الرّجال شريكا لمسيلمة في الارتداد عن الإسلام ، وشريكا له في النار بإذن الله ضرسه كجبل أحد في النار بل وأعظم.

عن أبي هريرة «رضي الله» عنه قال : «جلست مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في رهط معنا الرّجال بن عنفوة ، فقال : إن فيكم رجلا ضرسه في النار أعظم من أحد ؛ فهلك القوم ، وبقيت أنا والرجال ، فكنت متخوّفا لها حتى خرج الرجال مع مسيلمة ، فشهد له بالنبوة» (١). وقد قتل الرّجال مع مسيلمة في حرب المرتدين في اليمامة.

وقد زعم مسيلمة أنّ له قرآنا يوحى إليه عن طريق ملك يسمى رحمن. وكان قرآنه فصولا ، وجملا يترسل به في أمر أو حادثة تعرض له ، فكان أقرب إلى سجع الكهان ، وكان يقلد بكلامه أوزان ، وتراكيب القرآن.

أمثلة على أقوال مسيلمة الكذاب قوله :

«الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل». وقوله : «الشاة وألوانها ، وأعجبها السود وألبانها ، والشاة السوداء ، واللبن الأبيض ، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون».

وقوله : «يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، نصفك في الماء ، ونصفك في الطين ، لا الماء تكدّرين ، ولا الشارب تمنعين». وقوله : «والمبذرات زرعا ، والحاصدات حصدا ، والذاريات قمحا ، والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، واللاقمات

__________________

(١) مصطفى صادق الرافعي : كتاب : إعجاز القرآن ـ ص ١٧٥.

٣١

لقما ، إهالة وسمنا ... لقد فضلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المضر ، ريفكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغي فناوئوه ...».

ثانيا : سجاح بنت الحارث بنت سويد التميمية :

كانت نصرانية من بني تغلب في شمال الجزيرة ، وهم أخوالها ، تنبأت في خلافة أبي بكر ، وتبعها بعض رؤساء القبائل ، وكانت تقول لهم : «إنما أنا امرأة من يربوع ، وإن كان ملك ، فالملك ملككم». وسارت بجيشها تريد قتال أبي بكر ، وقد سمعت بقوة مسيلمة ، فسارت إليه ، وسألته عن وحيه ، فقال : نعم. قالت : أسمعني ، قال : أرأيت إن كنت حبلى ، وفي بطنك حية تسعى ، قالت : صدقت ، وتزوجته. فقال مسيلمة : لنأكل بقومي ، وقومها العرب. وقد ذكر ابن جرير الطبري في كتابه «تاريخ الأمم والملوك» : أنه عند ما عادت إلى قبيلتها سألها قومها : هل أصدقك شيئا؟ قالت : لا. قالوا : ارجعي إليه ، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق. فرجعت ، فقالت له : أصدقني صداقا. قال : من مؤذنك؟ قالت : شبث بن ربعي الرياحي. قال : علي به. فجاء ، فقال : ناد في أصحابك ، إن مسيلمة بن حبيب رسول الله ... وقد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد : صلاة العشاء الآخرة ، وصلاة الفجر. وقد ذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوهم أن عامة بني تميم لا يصلونها ، وقالوا له : هذا حق لنا ، ومهر كريمة منا لا نرده. وكان مسيلمة عند ما سمع بقدوم سجاح إليه قد أمر بنصب سرادق كبير ، وبفراش وثير مملوء بالطيب ، فاستقبلها به ، وحادثها بشجون الأحاديث ، والشعر التي تثير غرائزها ، إغراء لها على تصديقه ، ومن ثم زواجه منها. وكانت سجاح تزعم أنّه يوحى إليها ، وتسجع بكلامها كقولها حين توجهت إلى مسيلمة : «عليكم باليمامة ، ورفوا رفيف الحمامة ، فإنّها غزوة صرامة ، لا يلحقكم بعدها ملامة». وكان لها قرآن قليل ذكر منه صاحب الأغاني : «يا أيّها المؤمنون المتقون ، لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يبغون».

٣٢

وذكرت الروايات أن سجاح رجعت إلى الإسلام ، ورجع قومها معها ، وحسن إسلامها ، وتوفيت ، ودفنت بالبصرة جنوب العراق.

ثالثا : ـ طلحة بن خويلد الأسدي :

قدم على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» سنة تسع للهجرة على رأس وفد أسد بن خزيمة ، وأعلن إسلامه ، وكان شجاعا يعد بألف فارس ، تنبأ بعد وفاة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وزعم أن ملكا اسمه ذو النون يأتيه بالوحي. ولم يكن له قرآن إلّا قليل جدا ، ومنه كما ذكره ياقوت في معجم البلدان : «إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم ، وقبح أدباركم شيئا ، فاذكروا الله قياما ، فإن الرغوة فوق الصريح». وقد أرسل إليه أبو بكر الصديق جيشا بقيادة خالد بن الوليد ، وعند ما التقى الجمعان تزمل طلحة بكساء ، انتظارا لنزول الوحي عليه ، ولما أطال سأله عيينة بن حصن ـ وكان معه في سبعمائة من بني فزارة ـ هل أتاك بعد؟!! فقال طلحة من تحت الكساء : لا والله. ما جاء بعد. فأعاد إليه مرتين ، وهو يقول : لا. قال عيينة : لقد تركك أحوج ما كنت إليه. فقال طلحة. قاتلوا عن أحسابكم ، فأما دين فلا دين.

وقد ذكر ابن الأثير في كتابه. «أسد الغابة» أن عيينة قال له : تبا لك آخر الدهر ثم جذبه جذبة جاش منها ، وقال : قبح الله هذا ، ومن تبعوه ، فجلس طلحة ، فقال عيينة : ما قيل لك؟!! قال طلحة : إن لك رحى كرحاه ، وأمرا لا تنساه ، فقال عيينة : قد علم الله أن لك أمرا لن تنساه. يا بني فزارة ، هذا كذاب ، ما بورك لنا وله في ما يطلب. وقد انهزم طلحة ، وهرب إلى الشام ، ولكنه أسلم ، وحسن إسلامه ، وأبلى بلاء حسنا في القادسية.

رابعا : الأسود العنسي :

وهو عبهلة بن كعب. يلقب بذي الخمار ، لأنّه يدّعي أنّه يأتيه ملك

٣٣

اسمه «ذو خمار». وكان فصيحا بليغا ، معروف عنه بالكهانة ، والسجع ، والخطابة ، والشعر ، والنسب. تنبأ على عهد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ومعاذ بن جبل واليا على اليمن ، وقد قتل الوالي المسلم ، وتزوج من زوجته فيروز ، وكان له حمار علّمه أن يأتي بحركات غريبة حتى يوهم الناس بصدق نبوته ، وكان جبارا شقيا ، بسط سلطانه على اليمن ، وجنوب الجزيرة إلى أن قتله عم زوجته فيروز بتدبير منها ، وقتل قبل وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بيوم وليلة ، ورجع الحكم إلى الإسلام.

الشبهة الرابعة :

إنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كان يتمتع بوحي نفسي ، وما القرآن إلا من استنباطه العقلي ، وإدراكه الوجداني عبّر عنه محمّد بأسلوبه ، وبيانه ، ولغته ، ومكنه من ذلك ذكاؤه ، وفراسته ، وقوة فطنته ، وعمق تأملاته ، ورفاهة أحاسيسه استخدمها كلها في تلفيق الأخبار ، وسرد الغيبيات ، وتبيان الحقائق العلمية.

تفنيد هذه الشبهة :

يمكننا تفنيد هذه الشبهة بعدة أمور هي :

أولا : إن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يعرف عنه أنّه كان يتمتع بالوحي النفسي ، وقومه يعرفونه حق المعرفة ، والقرآن الكريم يتعدى ، ويتجاوز كل ما نسبوه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صفات ، وخوارق ، بل يتعدى كل استنباط عقلي ، أو إدراك وجداني.

وكذلك لم يعرف عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قبل البعثة أنه أوتي خوارق الأخبار ، والغيبيات ، والعلوم ، كما أنّه لم يحدّث عن أساطير الأولين ، وهو المشهور بصدق الحديث الصادق الأمين.

٣٤

ثانيا : فبالنسبة لأخبار الأمم ، وقصص الأنبياء مع أقوامهم ، فإن ما جاء به القرآن فوق طاقة العقل البشري ، ومهما أوتي من ذكاء ، أو فطنة ، أو فراسة ؛ مما يثبت أن تلك الأخبار ، والقصص إنما وردت ، وبكل يقين للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» عن طريق التلقي ، والتلقين ، والإيحاء ممن يعلم الغيب. وهذا مصداق قوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) سورة هود آية ٤٩.

وقد ربط الله تعالى بين التنزيل القرآني ، وسرد القصص على مسامع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» مصداق قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) سورة يوسف آية ٣.

وقد تناول القرآن قصص الأنبياء ، والرسل ، وأخبار الماضين بتفصيل لحقائقها ، وتبيين لوقائعها بشكل واضح تعجز عنه العقول ، والتنبؤات ، وبشكل يخرس الألسنة ، ويسكت الأقلام ، ويفند الافتراءات ؛ فالقرآن يضرب في أغوار التواريخ ، ويخبر عن أقدم الأخبار في خلق الأمم مما يتجاوز حدود إعمال الفكر بحيث يستحيل على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أو غيره أن يعرفها ، أو يطلع على أخبارها. والقرآن نفى ذلك عن الرسول «ص».

فهذه آيات قرآنية تفصل أحوال موسى ، وفي أخباره مع أهل مدين. قال تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) سورة القصص آية ٤٤ ـ ٤٥.

وهذه آيات قرآنية تخبر عن كفالة زكريا لمريم ، وولادة المسيح منها كلمة من الله تعالى. قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ

٣٥

قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) سورة آل عمران آيات ٤٤ ـ ٤٥.

وهذه آيات قرآنية تسهب في سرد قصة يوسف مع إخوته. قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) سورة يوسف آية ١٠٢.

وقد تناولت الحكمة الربانية في سرد القصص ، ورواية الأخبار بين جميع الأنبياء ، والرسل أيضا. قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) سورة يوسف آية ١٠٩. وقد أصّل القرآن الكريم عظمة الاعتبار من سرد القصص ، وشواهد تثبيت معالم الألوهية لهذا القرآن. قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سورة يوسف آية ١١١.

وقد تناول الإعجاز الإلهي في سرده للقصص أرقاما حسابية وحقائق عددية تثبت ألوهية هذا القرآن ، وتنفي عنه صفة الوحي النفسي البشري.

القرآن يذكر مدة مكث نوح ـ عليه‌السلام ـ في قومه ، وهي : ألف سنة إلّا خمسين عاما.

قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) سورة العنكبوت آية ١٤.

والقرآن يذكر مدة لبث أصحاب الكهف في كهفهم ، وهي : ثلاث مائة وتسع سنوات. قال تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) سورة الكهف آية ٢٥.

ثالثا : وبالنسبة للغيبيات المستقبلية : فقد أعجزهم القرآن ، وأثبت أن ذلك ليس في مقدور البشر حتى والأنبياء منهم ، فقد أخبر القرآن غيبيات كثير من الأمور ، والحوادث التي ستقع مستقبلا ، ومنها :

٣٦

أ ـ انهزام المشركين في غزوة بدر ، مصداق قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) سورة القمر آية ٤٥. فسورة القمر مكية ، وانهزام المشركين حصل في بدر في المدينة بعد هجرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» إليها بسنتين.

ب ـ غيبية انتصار الروم على الفرس في بضع سنين مصداق قوله تعالى : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) سورة الروم آيات ١ ـ ٤.

ج ـ غيبية أداء عمرة القضاء ، ودخول المسجد الحرام محلقين رءوسهم ومقصرين مصداق قوله تعالى في سورة الفتح : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) سورة الفتح آية ٢٧.

د ـ غيبية انشقاق القمر : مصداق قوله تعالى في سورة القمر : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) الآية ١ ـ ٢.

رابعا : وبالنسبة للحقائق العلمية فما ورد في القرآن يؤكد ألوهية التنزيل القرآني. والجميع على علم بأميّة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ولا شأن له بحقائق العلم الغيبية ، والتي أوردها القرآن ، والتي لا يزال العلم يكتشفها ، ويؤكد حقيقتها كآيات ربانية تنفي عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قرآنية الاستحداث الغيبي ، أو الافتراء العلمي ، أو الإيحاء النفسي كما يزعمون.

أمثلة على هذه الحقائق :

الأولى : حقيقة خلق الإنسان من طين. مصداق قوله تعالى في سورة ص : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) الآية ٧١.

الثانية : حقيقة خلق الإنسان أطوارا ، مصداق قوله تعالى في سورة المؤمنون : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ

٣٧

خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) الآيتان ١٣ ـ ١٤. ومصداق قوله تعالى في سورة نوح : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) الآية ١٤.

الثالثة : حقيقة خلق كل شيء من ماء ، مصداق قوله تعالى في سورة الأنبياء : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) الآية ٣٠.

الرابعة : حقيقة دوران النجوم ، والكواكب في أفلاكها. مصداق قوله تعالى في سورة يس : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الآية ٤٠.

ولنا القول : بأن شبهة تمتع الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بالوحي النفسي لا تقوم على دليل ، وتفقد كل مسوغ. بل هي في حد ذاتها من قبيل الهذيان النفسي الذي انتاب نفرا من الضعفاء الحاقدين من أهل الكفر الذين لم يستطيعوا بأي حال من الأحوال أن ينكروا نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، أو الوحي الإلهي بالقرآن له مصداق قوله تعالى في سورة الأعراف : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) الآية ٢٠٣. والرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بشر من الناس اختصه الله بالنبوة ، فلم العجب ، والأنبياء والرسل كلهم من البشر!! قال تعالى في سورة الكهف : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) الآية ١١٠. وإنّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بشر لا يملك لنفسه نفعا ، ولا ضرا ، ولا يعلم الغيب إلّا بإيحاء من الله تعالى مصداق قوله تعالى في سورة الأعراف : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) الآية ١٨٨.

وإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» يشهد على نفسه بالبشرية مصداق ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن : «سمع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» خصومة بباب حجرته فخرج إليهم ، فقال : إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأحسب أنّه صدق ، فأقضي له بذلك ؛ فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من النار ، فليأخذها ، أو يتركها».

٣٨

ولعل من المفيد أن نختم الرد على هذه الشبهة بما قاله المفكر المسلم محمد عبد الله دراز في كتابه «النبأ العظيم» حيث يقول : «هذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم «الوحي النفسي» زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد ، وما هو بجديد ، وإنما هو الجاهلي القديم ، لا يختلف عنه في جملته ، ولا في تفصيله ، فقد صوروا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» رجلا ذا خيال واسع ، وإحساس عميق ، فهو إذن شاعر ، ثم زادوا ، فجعلوا وجدانه يطغى كثيرا على حواسه ، حيث يخيل إليه أنّه يرى ويسمع شخصا يكلمه. وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجدانه ، فهو إذن الجنون أو أضغاث الأحلام. على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلا على هذه التعليلات ، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة الوحي النفسي حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلية ؛ فقالوا لعله تلقفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة ، فهو إذن قد علمه بشر. فأي جديد ترى في هذا كله؟!! أليس كله حديثا معادا يضاهون به قول جهال قريش!! وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة متسخة ، بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه ، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور الجاهلية الأولى مصداق قوله تعالى في سورة البقرة : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية ١١٨. وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله إنّه كان صادقا أمينا ، وإنّه كان معذورا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي ؛ لأن أحلامه القوية صورتها له وحيا إلهيا ، فما شهد إلا بما علم ، وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم ، حيث يقول في سورة الأنعام : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) الآية ٣٣. فإن كان هذا عذره في تصوير رؤاه وسماعه ، فما عذره في دعواه أنّه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا ، بينما هو سمعها بزعمهم من قبل. فليقولوا إذن : إنّه افتراه ، ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل. وهم يدعون التعقل ، ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون».

٣٩
٤٠