شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

٣ ـ الرسم : كالتشديد ، والتخفيف مثل : يغشي ، ويغشى. وفتحت وفتّحت بتشديد التاء.

٤ ـ الإدغام ، والإظهار : مثل : تذكرون وتتذكرون.

٥ ـ الهمز ومد الألف : مثل : ملك ومالك ، ومسجد ومساجد ، لتحمل الرسم النطقين.

٦ ـ التنقيط والحركات النحوية مثل : يفعلون وتفعلون ، ويغفر وتغفر ، وفتبينوا ، وتثبتوا ، وييأس ويتبين ، وأرجلكم وأرخلكم ...

ثانيا : الأحرف السبعة متواترة عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بينما القراءات متواترة عن الصحابة «رضوان الله عليهم» ، ومنها المشهورة.

يقول الزركشي في البرهان عن القراءات السبع : «والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة ، أما تواترها عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ففيه نظر ، فإن إسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد» (١).

وبالنسبة للأحرف السبعة : فقد أورد السيوطي في إتقانه أسماء واحد وعشرين صحابيا شهدوا الحديث مما قطع بتواتره عند العلماء ، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام (٢).

ثالثا : الأحرف السبعة وردت في السنة النبوية على سبيل الحصر ، بينما القراءات السبع ورد عددها اجتهادا ، وهي ليست على سبيل الحصر. فهناك القراءات العشر ، وهناك القراءات الأربع عشرة ، وكل قراءة يتحقق فيها ضابط الصحة الثلاث.

فبالنسبة للأحرف السبعة وردت بها الأحاديث النبوية حصرا. عن

__________________

(١) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٨٢.

(٢) ـ السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٤٧.

١٤١

ابن عباس «رضي الله عنهما» قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقرأني جبريل على حرف فراجعته ، فلم أزل أستزيده ، ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» (١).

وقد أورد ابن جرير الطبري أحاديث كثيرة عن نزول القرآن على سبعة أحرف. أمّا بالنسبة لعدد القراءات السبع لم ترد به السنة النبوية ، وتوافقه مع عدد الأحرف السبعة إنّما جاء مصادفة ، وليس تحقيقا. وعليه فكل قراءة غير السبع تحقق فيها ضابط الصحة تعتبر صحيحة ، ويعتد بها. قال ابن الجزري في أول كتابه : «النشر في القراءات العشر» : «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ، ولو احتمالا ، وصح سندها ، فهي قراءة صحيحة التي لا يجوز ردها ، ولا يحل إنكارها ، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ووجب على الناس قبولها سواء أكانت عن الأئمة أم عن العشرة ، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين» (٢).

ويقول القراب في الشافي : «التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة ، إنّما هو من جمع بعض المتأخرين» (٣).

__________________

(١) السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٤٧.

(٢) السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٧٧.

(٣) السيوطي ـ الإتقان ـ ج ١ ص ٨٣.

١٤٢

الباب السابع

شبهات حول المتشابه في القرآن ، وتفنيدها (١).

الشبهة الأولى :

إنّ القول بأن الله لا جهة له ، وأنه ليس فوقا ، ولا تحتا ، ولا يمينا ولا شمالا يستلزم أنّ الله غير معبود ؛ لأنّ هذه من صفات المعدوم ؛ وإنّ التجرد من الإنصاف بهذه المتقابلات جملة أمر لا يوسم به إلا المعدوم ، ومن لم يتشرف بشرف الوجود.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : من الخطأ الفادح أن يشبّه الله بمخلوقاته ، وأن يوضع موضع المخلوق من حيث النسبة. فالله تعالى لا يشبه خلقه حتى نحكم عليه بما نحكم على مخلوقاته في وجوب أن تكون له جهات ما دام

__________________

(١) انظر في مثل هذه الشبهة : محمد عبد العظيم الزرقاني ـ مناهل العرفان في علوم القرآن. ج ٢ ص ٢٩٣ ـ وما بعدها.

١٤٣

موجودا. فوجود الله غير وجود المخلوق. فالله ليس مجسما ، وليس ماديا. ومن الخطأ أن يقاس المجرد عن المادة بما هو مادي.

فالمادي هو الذي يجب أن يتصف بشيء من هذه المتقابلات بأن تكون له جهات ست أو جهة منها. أما غير المادي فترتفع عنه مثل هذه الصفات ، ولا يمكن أن تكون له جهة من هذه الجهات. فالخالق لا يستوي أبدا مع خلقه في جريان أحكام الخلق على الخالق.

ونظير ذلك يمكننا القول : إذا صح ، واتصف إنسان بأنه عالم أو جاهل ، فإنّ الجماد كالجبل مثلا لا يصح أن يتصف بالعلم أو الجهل ، وهما مرتفعان عنه ، بل وممتنعان عليه ؛ لأنّ طبيعته تختلف عن طبيعة الإنسان. وكذلك لا يصح وصف الأرض بأنّها بكر ، أو متزوجة ، أو أرملة ؛ وكذلك لا يصح وصف السماء بأنها سميعة أو بصيرة ، أو خرساء ؛ وكذلك لا يصح وصف البحر بأنه بالغ أو راشد ، أو محلف. وهكذا تنتفي المتقابلات كلها بانتفاء قابلية المحل لها أيا كانت هذه المتقابلات. وهكذا فإن لكل محل ، ولكلّ مخلوق طبيعة خاصة به تتصف بصفات خاصة ، ولائقة بها. وهذه مخلوقة ، ومادية فما بالك لو كان الأمر يتعلق بما هو خالق ، وغير مخلوق ، وغير مادي ، وهو الله تعالى ، فقياس الغائب على الشاهد فاسد ، ومغلوط.

ثانيا : إذا كان أنصار هذه الشبهة يقررون ضرورة أن يكون لله جهات حتى يكون معبودا ، فإن السؤال الذي يطرح ذاته هذا : أين كان الله قبل أن يخلق العرش ، والكرسي ، والسماء ، والأرض ، وقبل أن يخلق الزمان ، والمكان ، وقبل أن تكون هناك جهات؟؟. فإن قالوا : لم يكن له جهة ، ولا مكان ، فقد اعترفوا بخطإ ادعائهم ، وناقضوا أنفسهم ، واعترفوا بحقيقة أن الله لا تحده جهة ، ولا مكان ، ولا زمان ، وهو حي باق موجود يدبر أمور الحياة في السماء ، والأرض. وإن قالوا : إن العالم قديم بقدم الله تعالى ، فقد ناقضوا أنفسهم ، واستجاروا من الرمضاء بالنار ، وهنا يقتضي الحال الانتقال بهم إلى إثبات حدوث العالم.

١٤٤

ثالثا : لا يجوز الأخذ بظواهر النصوص على حقيقتها كما يبدو عند أنصار هذه الشبهة مما أوقعهم في لبس ، تناقض غريب. فهم لا يستطيعون أن يوفقوا بين قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) مع قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ).

فهل هو في السماء حقيقة ، أم في الأرض حقيقة ، أم فيهما معا حقيقة؟!!. فإن قالوا : إنّه في الأرض وحدها حقيقة ، فكيف تكون له جهة فوق؟! وإذا كان في السماء وحدها حقيقة ، فكيف تكون له جهة تحت؟! وإن قالوا : إنّه في السماء ، والأرض معا حقيقة ، فلما ذا يقال : إنّ له جهة فوق ، ولا يقال له جهة تحت؟!!

ولما ذا يشار إليه فوق ، ولا يشار إليه تحت؟!! ناهيك عن التذكير بأنّ الجهات أمور نسبية ، فما هو فوق بالنسبة إلينا قد يكون تحت بالنسبة لغيرنا.

رابعا : إنّ الأخذ بظواهر النصوص على حقيقتها أعجز أنصار هذه الشبهة عن تفسير كثير من التساؤلات. فإذا كان الله تعالى يقول : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) بإفرادها ، ويقول : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) بتثنيتها ، ويقول : والسماء بنيناها بأييد بجمعها ، فهم يعجزون عن الإجابة على ما يوجه إليهم من التساؤلات ، والتي منها : هل له يد واحدة بناء على الآية الأولى؟! أم له يدان اثنتان بناء على الآية الثانية؟!!

أم له أيد كثيرة بناء على الآية الثالثة؟!! خامسا : إنّ الأخذ بظواهر النصوص على حقيقتها أعجز أنصار هذه الشبهة عن تفسير كثير من الوقائع ، والظواهر ، وأدّى بهم إلى شواهد البلبلة ، والتناقض.

فقد روى البخاري ، ومسلم ، وغيرهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : من يدعوني ، فأستجيب له؟ من يسألني ، فأعطيه؟ من يستغفرني ، فأغفر له؟».

١٤٥

فكيف يؤخذ بظاهر هذا الخبر مع أن الليل مختلف في البلاد باختلاف المشارق ، والمغارب؟!! وإذا كان الله ينزل لأهل كل أفق نزولا حقيقيا في ثلث ليلهم الأخير فمتى يستوي على عرشه حقيقة كما يقولون؟!! ومتى يكون في السماء حقيقة كما يقولون؟!! مع أنّ الأرض لا تخلو من الليل في وقت من الأوقات ، ولا ساعة من الساعات كما هو ثابت ، وأكيد.

سادسا : يرد على أنصار هذه الشبهة بما قاله حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : «نقول للمتشبث بظواهر الألفاظ : إن كان نزوله من السماء الدنيا ليسمعنا نداءه ، فأي فائدة في نزوله؟! ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك ، وهو على العرش أو على السماء العليا. فلا بدّ أن يكون ظاهر النزول غير مراد ، وأنّ المراد به شيء آخر غير ظاهره. وهل هذا إلّا مثل من يريد ، وهو بالمشرق ، إسماع شخص في المغرب ، فتقدم إلى المغرب بخطوات معدودة ، وأخذ يناديه ، وهو يعلم أنّه لا يسمع نداءه ، فيكون نقله الأقدام عملا باطلا ، وسعيه نحو المغرب عبثا صرفا فلا فائدة فيه ، وكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل» (١).

الشبهة الثانية :

إنّ القول بالمتشابه يؤدي إلى الترجيح بين الآيات القرآنية ترجيحا مذهبيا يشوبه التعصب ، وينتابه الضعف ، والخفاء.

نقل السيوطي عن الإمام فخر الدين الرازي أنّه قال : «من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات» ، وقال : إنّكم تقولون : إنّ تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ، ثمّ إنّا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه. فالجبري متمسك

__________________

(١) الزرقاني ـ مناهل العرفان ـ ج ١ ص ٢٩٥.

١٤٦

بآيات الجبر : كقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) سورة الكهف آية ٥٧.

والقدري يقول : هذا مذهب الكفار بدليل أنّه تعالى حكى عنهم ذلك في معرض الذم في قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ).

وفي موضع آخر : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) سورة البقرة آية ٨٨. ومنكر الرؤية متمسك بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) سورة الأنعام آية ١٠٣. ومثبت الجهة متمسك بقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) سورة النحل آية ٥٠. (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) سورة طه آية ٥. والثاني متمسك بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) سورة الشورى آية ١١. ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، والآيات المخالفة متشابهة ، وإنما آل في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ، ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كلّ الدين إلى يوم القيامة هكذا؟!!.

تفنيد هذه الشبهة :

إنّ نسبة بعض أفعال الجوارح لله تعالى كالبصر ، والإدراك ، والاستواء ، والرؤية ، لا تعني تشبيه الله الخالق بمخلوقاته أو تجسيمه ، وإنما الغرض من ذلك التقريب للأفهام ، والتنبيه للعقول ، والتأنيس للقلوب.

ويمكن تفنيد هذه الشبهة بالقول : بأنّ لوقوع المتشابه فوائد منها : أنّه يوجب مزيدا من المشقة في الوصول إلى المراد ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.

ويمكن تفنيد هذه الشبهة بما ذكره ابن اللبّان في مقدمة كتابه : «رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات» إذ قال ما خلاصته : «ليس في الوجود فاعل إلا الله وأفعال العباد منسوبة الوجود إليه تعالى بلا

١٤٧

شريك ، ولا معين ؛ فهي في الحقيقة فعله ، وله بها عليهم الحجة مصداق قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ). ومن المعلوم أنّ أفعال العباد لا بدّ فيها من توسط الجوارح مع أنّها منسوبة إليه تعالى ، وبذلك يعلم أنّ لصفاته تعالى في تجلياتها مظهرين : مظهر عبادي منسوب لعباده ، وهو الصور ، والجوارح الجثمانية. ومظهر حقيقي منسوب إليه ، وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية المنسوبة لعباده. على سبيل التقريب لأفهامهم ، والتأنيس لقلوبهم. ولقد نبه في كتابه تعالى على القسمين ، وأنّه منزّه عن الجوارح في الحالين ، فنبّه على الأول بقوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ). فهذا يفيد أن كل ما يظهر على أيدي العباد ، فهو منسوب إلى الله تعالى. ونبه على الثاني بقوله فيما أخبر عنه نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في صحيح مسلم : «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ؛ فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها».

وقد حقّق الله ذلك لنبيه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ، وبقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

وبهذا يفهم ما جاء من الجوارح منسوبا إليه تعالى ، فلا يفهم من نسبتها إليه تشبيه ، ولا تجسيم ؛ ولكن الغرض من ذلك التقرب للأفهام ، والتأنيس للقلوب. والواجب سلوكه إنّما هو رد المتشابه إلى المحكم على القواعد اللّغوية ، وعلى مواضعات العرب ، وعلى ما كان يفهمه الصحابة ، والتابعون من الكتاب والسنة (١).

الشبهة الثالثة :

إنّ القول بالمتشابه يؤدي إلى التساؤل عن ماهية الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان ، والهدى؟!!

__________________

(١) الزرقاني ـ مناهل العرفان ـ ج ٢ ـ ص ٢٩٨.

١٤٨

تفنيد هذه الشبهة :

إنّ الحكمة من القول بالمتشابه موجودة قطعا. وهنا يفرّق بين المتشابه الذي يمكن علمه ، والمتشابه الذي لا يمكن علمه. فالمتشابه الذي يمكن علمه ، فالحكمة من وجوده يتمثل في حفزه العلماء ، والفقهاء والدارسين على التبحر في العلم ، والوقوف على موضوعاته ، وجزئياته ، والغوص في دقائقه ، والإحاطة بخواصه.

وتتمثل حكمة المتشابه أيضا في إظهار منازل الناس ، وتكريس شواهد التفاضل ، وتبيين درجات التفاوت منهم ؛ نظرا لأنّه لو كان القرآن كلّه محكما ، لما احتاج إلى التأويل ، والبحث ، ومن ثم لاستوت منازل الناس ، ودرجاتهم ، ومن ثم لم يظهر فضل العالم الباحث المفسّر المؤول عن غيره من العوام. أمّا المتشابه الذي لا يمكن علمه أي الذي استأثره الله بعلمه ، فحكمته تتجلى في ابتلاء العباد بالاستسلام لله ، والأخذ به ، والتفويض ، والتوقف فيه لله تعالى ، ومن ثم التعبد به تلاوة كالمنسوخ حكما دون التلاوة ؛ فقد بقي قرآنا يتعبد به تلاوة نثاب عليها ، وبالتالي فإنّ حكمة هذا المتشابه تتمثل في أمر آخر هو إثبات إعجاز القرآن البياني حيث إنّه أعجز من نزل القرآن بلغتهم ، وبيانهم ، ومع ذلك أفحمهم ، فعجزوا عن فهم معناه ، والوقوف على حقيقته ، مما يؤصل بالتالي حقيقة الألوهية للقرآن ، وأنه كلام الله العربي المعجز ، وفي أقصر سورة منه.

الشبهة الرابعة :

إن القول بالمتشابه يقود إلى السؤال التالي : «هل للمحكم مزية على المتشابه أولا؟! فإن قلتم بالثاني ، فهو خلاف الإجماع ، وإلّا فقد نقضتم أصلكم في أنّ جميع كلامه سبحانه سواء ، وانّه منزل بالحكمة».

تفنيد هذه الشبهة :

وقد أجاب أبو عبد الله النكرباذي على هذه الشبهة بقوله : بأن

١٤٩

المحكم كالمتشابه من وجه ، ويخالفه من وجه ، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع ، وأنّه لا يختار القبيح.

ويختلفان في أنّ المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد ، فمن سمعه ، أمكنه أن يستدل به في الحال. والمتشابه يحتاج إلى فكرة ونظر ليحمله على الوجه المطابق ؛ ولأن المحكم أصل ، والعلم بالأصل أسبق ؛ ولأن المحكم يعلم مفصلا ، والمتشابه لا يعلم إلا مجملا.

وقد ردّ الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني على هذه الشبهة بقوله : ويمكن دفع هذه الشبهة بوجه أقرب : وهو أنّ المحكم له مزية على المتشابه ؛ لأنّه بنص القرآن هو أم الكتاب ؛ والاعتراض بأنّ هذا ينقض الأصل المجمع عليه ، وهو أنّ جميع كلامه سبحانه سواء ، وأنّه منزل بالحكمة : الاعتراض بهذا ساقط من أساسه ؛ لأنّ المساواة بين كلام الله إنّما في خصائص القرآن العامة : ككونه منزلا على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بالحق وبالحكمة ، وكونه متعبدا بتلاوته ، ومتحديا بأقصر سورة منه ، ومكتوبا في المصاحف ، ومنقولا بالتواتر ، ومحرما حمله ، ومسّه على الجنب ، ونحو ذلك. والمساواة في هذه الخصائص لا تنافي ذلك الامتياز الذي امتازت به المحكمات. وكيف يتصور التنافي على حين أن كلا من المحكم والمتشابه له حكمه ، وله مزاياه؟! فمزية المحكم أنّه أمّ الكتاب إليه ترد المتشابهات ، ومزية المتشابه أنّه محك الاختبار ، والابتلاء ، ومجال التسابق والاجتهاد ، إلى غير ذلك من الفوائد الأخرى.

ثم كيف يتصور هذا التنافي ، والقرآن كلّه مختلف باختلاف موضوعاته وأحواله ، فمنه : عقائد ، وأحكام ، وأوامر ، ونواهي ، وعبادات ، وقصص ، وتنبؤات ، ووعد ، ووعيد ، وناسخ ، ومنسوخ. ولا ريب أنّ كلّ نوع من هذه الأنواع له مزيته ، أو خاصته التي غاير بها الآخر ، وإن اشترك الجميع بعد ذلك في أنّها كلّها أجزاء للقرآن ، متساوية في القرآنية ، وخصائصها العامة.

وخلاصة الجواب : «أن امتياز المحكم على المتشابه في أمور ،

١٥٠

ومساواته إيّاه في أمور أخرى ، فلا تعارض ، ولا تناقض ، كما أنّ كلّ عضو من أعضاء جسم الإنسان له مزيته ، وخاصته التي صار بها عضوا ، والكل بعد ذلك يساوي الآخر في أنه جزء للإنسان في خصائصه العامة من حسن ، وحياة» (١).

الشبهة الخامسة :

إن القول بالمتشابه يؤدي إلى التأويل ، وهو اتباع المتشابهات بالتأويل. فإن الناظر في موقف السلف ، والخلف من المتشابه ، يجزم بأنّهم جميعا مؤولون لأنّهم صرفوا ألفاظ المتشابهات عن ظواهرها ؛ وصرفها عن ظواهرها تأويل لها. وبذلك فإنّهم مؤولون وقعوا جميعا فيما نهى الله عنه ، وهو اتباع المتشابهات بالتأويل ، حيث وصفهم الله تعالى بأنّ في قلوبهم زيغا ، فقال تعالى في الآية السابقة : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) سورة آل عمران آية ٧.

تفنيد هذه الشبهة :

وننقل هنا ما قاله الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في الرد على أصحاب هذه الشبهة.

أولا : إنّ القول بكون السلف ، والخلف مجمعين على تأويل المتشابه قول له وجه من الصحة لكن بحسب المعنى اللغوي ، أو ما يقرب من المعنى اللغوي. أمّا بحسب الاصطلاح السائد فلا ؛ لأنّ السلف ، وإن وافقوا الخلف في التأويل ، فقد خالفوهم في تعيين المعنى المراد باللفظ بعد صرفه عن ظاهره ، وذهبوا إلى التفويض المحض بالنسبة إلى هذا التعيين. أمّا الخلف فركبوا متن التأويل إلى هذا التعيين.

ثانيا : إنّ القول بأنّ السلف ، والخلف جميعا وقعوا بتصرفهم

__________________

(١) الزرقاني ـ مناهل العرفان ـ ج ٢ ص ٣٠٠.

١٥١

السابق فيما نهى الله عنه قول خاطئ ، واستدلالهم عليه بالآية المذكورة استدلال فاسد ؛ لأنّ النهي فيها إنّما هو عن التأويل الآثم الناشئ عن الزيغ ، واتباع الهوى بقرينة قوله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الاستقامة ، والجهة إلى الهوى ، والشهوة. أمّا التأويل القائم على تحكيم البراهين القاطعة ، واتباع الهداية الراشدة ، فليس من هذا القبيل الذي حظره الله تعالى ، وحرمه. وكيف ينهانا عنه ، وقد أمرنا به ضمنا بإيجاب ردّ المتشابهات إلى المحكمات ؛ إذ جعل هذه المحكمات هي أم الكتاب على ما سبق بيانه ، ثمّ كيف يكون مثل هذا التأويل الراشد محرما ، وقد دعا به الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فقال في الحديث المشهور : «اللهم فقهه في الدين ، وعلّمه التأويل».

وخلاصة هذا : أنّ الله أرشدنا في الآية إلى نوع من التأويل ، وهو ما يكون به ردّ المتشابهات إلى المحكمات ، ثمّ نهانا عن نوع آخر منه ، وهو ما كان ناشئا عن الهوى ، والشهوة لا على البرهان ، والحجة قصدا إلى الضلال والفتنة ، وهما لونان مختلفان ، وضربان بعيدان بينهما برزخ لا يبغيان.

إذن ، فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال ، فقد ضلّ كالظاهرية ، والمشبهة. ومن فسّر لفظ المتشابه تفسيرا بعيدا عن الحجة ، والبرهان قائما على الزيغ ، والبهتان ، فقد ضلّ أيضا : كالباطنية ، والإسماعيلية ، وكلّ هؤلاء يقال فيهم : إنّهم متبعون للمتشابه ، ابتغاء الفتنة. أمّا من يؤول المتشابه أي يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلبا للفتنة ؛ ولكن منعا لها ، وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم وردّا لهم إلى محكمات الكتاب القائمة ، وأعلامه الواضحة ، فأولئك هم الهادون المهديّون حقا. وعلى ذلك درج سلف الأمة ، وخلفها ، وأئمتها ، وعلماؤها.

روى البخاري عن سعيد بن جبير أنّ رجلا قال لابن عباس : «إنني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ. قال : ما هو؟ قال : (فَلا أَنْسابَ

١٥٢

بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) وقال : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ). وقال : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً). وقال : (قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ). قال ابن عباس : «فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ، ولا يتساءلون. ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ... فأمّا قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإنّ الله يغفر لأهل الإخلاص من ذنوبهم ، فيقول المشركون : تعالوا نقول ما كنا مشركين. فيختم الله على أفواههم ، فتنطق جوارحهم بأعمالهم ، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثا. إلى آخر الحديث» (١).

__________________

(١) الزرقاني ـ المرجع السابق ـ ص ٣٠١ ـ ٣٠٢.

١٥٣
١٥٤

الباب الثامن

شبهات حول النسخ في القرآن ، وتفنيدها.

الشبهة الأولى :

إنّ وقوع النسخ في القرآن يستلزم القول بالجهل ، والعبث على الله تعالى ، بدليل أنّه لو جاز وصح أن ينسخ الله تعالى حكما من أحكامه ، فإن ذلك إما أن يكون لحكمة ظهرت لله تعالى حيث كانت خافية عليه ؛ وهذا يعني ، ويستلزم البداء ، والجهل بالعواقب على الله تعالى ، وهذا مستحيل. فإذن يستحيل وقوع النسخ. وإن كان النسخ لغير حكمة ، فإن هذا يستلزم العبث على الله تعالى ، وهذا مستحيل أيضا. فإذن يستحيل وقوع النسخ في الحالتين ؛ لأن الجهل ، والعبث مستحيلان على الله تعالى بالأدلة النقلية ، والعقلية.

تفنيد هذه الشبهة :

إن نسخ الله تعالى لحكم من أحكامه أساسه حكمة ظاهرة ، ومعلومة لله تعالى ، ويستحيل أن تخفى عليه. وغاية الأمر أن الله تعالى عند ما ينسخ

١٥٥

حكما بحكم آخر فإن الحكم الناسخ يأتي بحكمة غير الحكمة التي أتى بها الحكم الأول المنسوخ ؛ وعلى اعتبار أن هناك مصلحة جديدة للعباد اقتضتها عملية النسخ ، وجاء بها الحكم الناسخ. فمصالح العباد تتجدد بتجدد الأزمان ، وتختلف باختلاف الأشخاص ، والأحوال. ولذا فإن النسخ يعني أن هناك مصلحة جديدة ، فيأتي الله بحكم جديد يتضمنها ، وينسخ به الحكم السابق الذي يتضمن المصلحة السابقة ؛ والله تعالى أحاط بكل شيء علما. فلا يستلزم النسخ إذن الجهل ، أو العبث على أو من الله تعالى.

الشبهة الثانية :

إن وقوع النسخ يستلزم تحصيل الحاصل ، أي جهالة الله تعالى ، وهذا باطل. ودليل ذلك : إمّا أنّه يعلم الله أنّ الحكم المنسوخ مؤبدا أو يعلمه مؤقتا. فإذا علم الله تعالى الحكم المنسوخ مؤبدا ثم نسخه ومنع من استمراره ، انقلب علمه جهلا ، وهذا محال على الله تعالى. إذن النسخ لا يقع. وإذا علم الله تعالى الحكم المنسوخ مؤقتا بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت ، وإذا ما علم أن للمؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته ، فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل ، وهذا باطل. إذن النسخ لا يقع.

تفنيد الشبهة الثانية :

إنّ الله تعالى يعلم تمام العلم أن الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد. ولكنه علم بجانب ذلك أن توقيته إنما هو بورود الناسخ لا بشيء آخر : كالتقيد بغاية في دليل الحكم الأول. ولذا فإن علم الله تعالى بانتهاء الحكم المنسوخ بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه ؛ وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له.

الشبهة الثالثة :

إن النسخ يستلزم التناقض ، وتحصيل الحاصل. ودليل ذلك : إما أن يكون الحكم المنسوخ محددا بغاية معينة ؛ فإنه ينتهي بمجرد تحقق

١٥٦

هذه الغاية ، ولهذا فالنسخ في هذه الحالة يكون تحصيلا للحاصل. وإما أن يكون الحكم المنسوخ مؤبدا ، ففي هذه الحالة فإن النسخ يعني التناقض ؛ لأن التأبيد يقتضي بقاء ، وديمومة الحكم في حين أن النسخ يقتضي الرفع وعدم البقاء.

تفنيد هذه الشبهة :

إنّ القول بأنّ نسخ الحكم المؤبد يؤدّي إلى التناقض ينقض من عدة وجوه :

الأول : إنّ من الخطأ القول : بأنّ الحكم المؤبد لا ينسخ.

الثاني : إن التكاليف الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ. كما أنّها مقيدة بأهلية المكلف ، وألّا يطرأ عليه جنون ، أو عقلة ، أو موت. ومن هذا فإنّ النسخ لا يفضي إلى تناقض بين الناسخ ، والمنسوخ.

الثالث : إن الحكم للمنسوخ قد لا يكون مؤبدا ، ولا يكون مؤقتا ، بل أحيانا يأتي خارجا عن التأبيد ، والتأقيت ؛ ولذا فإنّه قد يخضع للنسخ. ونسخ الحكم ليس من المحالات فقد يكون مستمرا بحسب الظاهر.

الشبهة الرابعة :

إنّ النسخ يقتضي اجتماع الضدّين ، وهذا محال. وتوضيح ذلك : أن الله إذا أمر بحكم ، فيعني هذا أنّه حسن ، ومرغوب فيه ، وإذا نهى عنه ، فيعني أنّه خبيث ، وغير مرغوب فيه. ولذا فالأمر بالشيء ، والنهي عنه معناه اجتماع الصفات المتضادة في الحكم الواحد أو الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر ، والنهي.

تفنيد هذه الشبهة :

إنّ الحسن ، والقبح ليسا من صفات الفعل الذاتية حتى يكونا ثابتين فيها لا يتغيران ؛ بل هما تابعان لتعلق أمر الله ، ونهيه بالفعل. وعلى هذا

١٥٧

يكون الفعل حسنا ، ومرغوبا فيه ما دام مأمورا به من الله تعالى. وكذلك يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ، غير مرغوب فيه عند الله تعالى ما دام منهيا عنه منه تعالى. والقائلون بالحسن ، والقبح العقليين هم المعتزلة. وهم يعترفون أن الحسن ، والقبح يختلفان باختلاف الأشخاص ، والأحوال والأوقات. وبهذا التأصيل ينتفي اجتماع الضدّين ؛ لأنّ الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا غير الوقت الذي يكون فيه ذلك الفعل قبيحا ، فلم يجتمع الحسن ، والقبح في فعل واحد ، وفي وقت واحد.

الشبهة الخامسة :

شبهة العنانية ، والشمعونية من يهود : وتتمثل شبهتهم في أن التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى (عليه‌السلام) لم تنسخ ، وأنّها باقية. وهي منقولة إليهم بالتواتر ؛ ويستندون إلى نصوص في التوراة تفيد عدم النسخ ، ومنها : «هذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض». ومنها أيضا : «الزموا يوم السبت أبدا» ويرون أن مثل هذه النصوص تعني امتناع النسخ ؛ لأن نسخ أحكام في التوراة : كتعظيم يوم السبت إبطال لما هو من عند الله تعالى ، وهذا متعذر.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إن لفظ التأبيد لا يصلح دليلا يستند إليه اليهود في القول بعدم النسخ ؛ لأنّ التأبيد كثيرا ما يستعمله اليهود معدولا عن حقيقته. ومن ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها : «هذه سنة لكم أبدا».

وما جاء في القربان : «قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما» وهذان الحكمان منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم ، رغم التصريح بأنهما مؤبدان.

ثانيا : إنّ التواتر الذي نعتوه للتوراة لا يصلح دليلا يستند إليه في القول بعدم النسخ ؛ لأنّ التوراة غير منقولة بالتواتر ؛ وبشهادة ، واعتراف

١٥٨

الكثير من أحبار اليهود ، ومنهم الذي أسلم : كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار. ولو كانت التوراة متواترة ، لعارضوا بها خاتم الأنبياء محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ولنقل واشتهر لدى الناس.

ثالثا : إنّ ادعاء يهود أن شريعة موسى لم تنسخ لم يمنعهم من الاعتراف بأنّ الشرائع السابقة نسخت بشريعة موسى ؛ فكيف نفسر إذن إنكارهم لوقوع النسخ سمعا؟!!. أي شرعا؟!!.

رابعا : إنّ ادعاء يهود بأنّ توراة موسى لم تنسخ ، وأنّها لا تزال موجودة إلى الآن ادعاء باطل ليس له دليل عقلاني أو نقلي سليم.

وما ورد في نصوص كتب التوراة الموجودة لديهم الآن ما يناقض بعضه بعضا. فطائفة السامريين في مدينة نابلس بفلسطين تدعي أن النسخة الأصلية للتوراة موجودة فقط عندهم ؛ وهي تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في النسخة الموجودة عند طائفة العنانيين. والنسخة التي عند النصارى تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف وثلاثمائة سنة. وقد ورد في بعض نسخ التوراة ما يفيد أن نوحا أدرك جميع آبائه إلى آدم ، وأنّه أدرك من عهد آدم نحوا من مائتي سنة ، في حين ورد في نسخ أخرى ما يفيد أن نوحا أدرك من عمر إبراهيم ثمانيا وخمسين سنة.

وما ورد في نسخ التوراة الموجودة حاليا يؤكد بطلانها ، ويؤكد أنّها محرفة ، وأنّ التوراة الأصلية فعلا لم يكن لها وجود حيث يستحيل أن يرد فيها من أقوال منكرة نسبوها إلى الله ورسله. ومنها على سبيل المثال : أنّ الله ندم على إرسال الطوفان إلى العالم ، وأنّه بكى حتى رمدت عيناه ، وأنّ النبيّ يعقوب صارع الله تعالى ، وأنّ إبراهيم كان يجلس تحت ظل شجرة بلوط في قرية «نمرة» قرب القدس ، وأنّه رأى الله قادما عليه بين ملكين ، فنهض إليه إبراهيم ، وقال : لو أن عبدك يجد نعمة بين عينيك ، فاقبل طعامي ، وذبح له ، وأكلوا جميعا. ومن ذلك أيضا : أنّ لوطا شرب الخمر حتى ثمل ، وزنى بابنتيه. ومن ذلك أيضا : أن هارون

١٥٩

هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم إلى عبادته. وأن يوسف النجار خطيب مريم العذراء زنى بها ، وأنجبت عيسى (عليه‌السلام). وتكفي الدلالة على فساد ادعائهم بأنّ التوراة الأصلية لا تزال موجودة هو ارتداد اليهود مرات عديدة عن ديانتهم ، وقتلهم الأنبياء ، والمصلحين ؛ وخرافاتهم التي تملأ توراتهم المحرفة ، والتي تنأى التوراة الأصلية عن قبولها.

الشبهة السادسة :

شبهة العيسوية من اليهود : وتتمثل شبهتهم في أن شريعة موسى «عليه‌السلام» لم تنسخها شريعة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وأنّ شريعة موسى باقية أبدية ، ودليلهم : نصوص التوراة التي منها : «هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات ، والأرض» وما شريعة محمد إلا شريعة للعرب فقط ، وليست للناس كافة. وهم يعترفون بصحة ، وصدق شريعة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

تفنيد هذه الشبهة :

إنّ اعترافهم بصدق شريعة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أكبر رد عليهم في تفنيد شبهتهم ، فالاعتراف يقتضي أن يكون كاملا ، ومن التناقض أن يعترفوا بجزء أو ببعض دون بعض ، وشريعة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ورد فيها أنّها عامة لجميع الناس ، وأنّها ناسخة للشرائع السماوية السابقة ، ومنها شريعة موسى (عليه‌السلام) حيث قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ). سورة آل عمران آية ٨٥.

حيث قال : «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «لو كان أخي موسى حيّا ما وسعه إلا اتّباعي».

فإيمان اليهود العيسوية بشريعة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وتكذيبهم لنسخها لشريعة موسى هو تناقض يصلح أساسا ينبني عليه تفنيد شبهتهم هذه.

١٦٠