شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

رابعا : نظرية التكليف الاجتماعي ـ ومنشأ هذه النظرية أساسه : حقّ المجتمع الإسلامي في مشاركته أموال أفراده ، وهم أعضاؤه. وحقّه عليهم أن يدعموه ، ويحموه ، ويعينوه ، وأن يخففوا من عنائه ، وأن يقلّلوا من أعبائه ، وأن يساهموا في خدماته فرضا مستحقا عليهم لا منّة أو إحسانا منهم عليه.

فالمجتمع المسلم يوفر لأفراده العيش الرغيد ، والمكسب الوافر في المادة ، والعلم ، والثقافة ، والروحانية. وأفراده يحيون فيه حياة تضامن ، وتكافل ، وتكامل. فالفرد الإنساني مدني بطبعه يألف الحياة مع بني جنسه ، وما يكسبه في مجتمعه هو بفضل الجماعة ، وماله من مالها ، وحياته من حياتها ، وبقاؤه من بقائها. ومن هنا فالفرد في المجتمع لا يتصرف بالمال مكسبا وإنفاقا إلّا ضمن مصلحة مجتمعه. فكلّ إساءة في التصرف إساءة لمال الجماعة. ومن هنا فالإسلام نظّم التصرف. فالإسلام يقرّر مبدأ الفصل بين مالية الحاكم ، ومالية الدولة.

ويقرّر الإسلام مبدأ الاستقلال المالي للزوجة عن زوجها :

قال تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) سورة النساء آية ٤.

وقال تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) سورة النساء آية ٢٠.

ويقرّر الإسلام حرمة أكل أموال اليتيم ظلما :

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) سورة النساء آية ١٠.

ويقرّر الإسلام مبدأ التصرف بالمال ببلوغ الرشد :

٤٠١

قال تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) سورة النساء آية ٦.

ويقرّر الإسلام الأخذ على يد السفهاء بمنعهم من التصرف بأموالهم : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) سورة النساء آية ٥.

ويقرّر الإسلام مبدأ عدم تبذير الأموال :

قال تعالى : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) الإسراء آية ٢٦ ـ ٢٧.

ويقرر الإسلام عدم أكل أموال الناس بالباطل : قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) سورة النساء آية ٢٩.

فالقرآن الكريم يوحّد أموال الجماعة. واختار تعبير : (أَمْوالَكُمْ) (١) وتعبير (أَنْفُسَكُمْ) للتأكيد على أنّ مال البعض هو مال الكل ، وأنّ النفوس واحدة ، والتكافل بينهم عام ، وشامل. فأعضاء المجتمع المسلم يعيشون وحدة تضامنية متكافلين متضامنين ، مالهم مال الجماعة ، ومال الجماعة مالهم. وللجماعة حقّها في أموال أفرادها دون تعد أو سلب أو حرمان بل مساهمة منهم لضمان استمرار جماعتهم ، وبقائها ، وقيامها بأعبائها ، وواجباتها ، والمالية على وجه الخصوص.

__________________

(١) يقرّر الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار تعليقا على الآية : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) : أنّ هذه الآية قرّرت قاعدة الاشتراك التي ينادي بها دعاة الاشتراكية في هذا العصر ، ولم يهتدوا إلى سنة عادلة لها ، ولو التمسوها في الإسلام لوجدوها ، حيث إن الإسلام يجعل مال كلّ فرد مالا لأمته كلّها مع احترام الحيازة والملكية ، وحفظ حقوقها ، فهو يوجب على كل ذي مال كثير حقوقا معيّنة للمصالح العامة.

أنظر : دكتور يوسف القرضاوي ـ كتاب : فقه الزكاة ـ ص ١٠٨.

٤٠٢

خلاصة القول : استنادا إلى ما سبق من تفنيد عناصر الاشتراك بين الزكاة ، والضريبة ، ومفاهيم الزكاة ، ونظرياتها يمكننا القول : بأنّ الزكاة ليست ضريبة ، ولا يجوز تصنيفها ضمن الضرائب ، فمدلول الضريبة الوضعي بمعنييه القديم ، والحديث لا يتناول مدلول الزكاة.

ويكفينا القول : بأنّ الزكاة عبادة مالية ، وفريضة إلهية شرعية وليست ضريبة نقدية. وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة لا يكتمل إسلام المسلم إلّا بها ، وحكمها حكم الفرائض ، والعبادات الأخرى : كالصلاة ، والصوم ، والحج ، يستحق مؤديها الأجر ، والثواب ؛ ومانعها الإثم ، والعقاب.

٤٠٣
٤٠٤

الباب الثاني عشر

شبهات حول صلاحية القرآن وتفنيدها.

ونجملها في شبهة واحدة للعلمانيين وهي : فصل القرآن عن الحكم. أي عدم صلاحية القرآن للحكم.

وتتمثل شبهتهم في أن القرآن لا تصلح تعاليمه ، ولا يصلح أن يكون دستورا للحكم هذه الأيام. ودليلهم على ذلك : أنّه لا يوجد إسلام مثالي ، أو حكم إسلامي مثالي حكم الأفراد ، والدول. اللهم إلّا في فترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمر بن الخطاب. ويدعم هذا القول فشل التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة الإسلامية. وكما يقول أحدهم ، وهو فؤاد زكريا : «أمّا التجارب التاريخية ، فلم تكن إلّا سلسلة طويلة من الفشل ؛ إذ كان الاستبداد هو القاعدة ، والظلم هو الأساس في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وأمّا العدل ، والإحسان ، والشورى ، وغيرها من مبادئ الشريعة لا تعدو أن تكون كلاما يقال لتبرير أفعال حاكم يتجاهل كل ما له صلة بهذه المبادئ السامية. ولا جدال في أنّ لجوء أنصار تطبيق الشريعة ـ مهما اختلفت آراؤهم في الأمور التفصيلية ـ إلى الاستشهاد

٤٠٥

الدائم بعهد الخلفاء الراشدين ، وبعمر بن الخطاب بوجه خاص ، هو في حدّ ذاته دليل على أنّهم لم يجدوا ما يستشهدون به طوال التاريخ التالي الذي ظل الحكم فيه يمارس باسم الشريعة. أي أن التطبيق الذي دام ما يقرب من ثلاثة عشر قرنا كان في واقع الأمر نكرانا لأصول الشريعة وخروجا عنها. إنّ أنصار تطبيق الشريعة يركزون جهدهم كما قلنا على الاستشهاد بأحداث ، ووقائع تنتمي إلى عصر الخلفاء الراشدين ، ولا سيما عمر بن الخطاب. ولكن ألا يعلم هؤلاء الدعاة الأفاضل أنّ عمر بن الخطاب شخصية فذة فريدة ظهرت مرة واحدة ، ولن تتكرر!! وإذا كانت تجارب القرون العديدة ، وكذلك تجارب العصر الحاضر ، قد أخفقت كلها في الإتيان بحاكم يداني عمر بن الخطاب ، فلم يداعبون أتباعهم بالأمل المستحيل في عودة عصر عمر بن الخطاب؟!!وإذا كان الخط البياني للحق ، والعدل ، والخير ، قد ازداد هبوطا على مرّ التاريخ ، وبلغ الحضيض في التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة ، فعلى أي أساس يأمل هؤلاء في أن تكون التجربة المقبلة التي يدعون إليها في مصر هي وحدها التجربة التي ستنجح ، فيما أخفقت فيه الأنظمة الإسلامية على مر القرون؟!!».

ويعقب دكتور فؤاد زكريا في مقدمة كتابه «الحقيقة والوهم» على تباشير الصحوة الإسلامية ، واتّساع نطاق المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية هذه الأيام مقللا من شأنها حيث يقول : «إنّ الدعوة إلى تطبيق الشريعة ـ التي تعلو أصواتها في الآونة الراهنة ـ ترتكز بلا شك على قاعدة جماهيرية واسعة. وكثير من أنصارها يتخذون من سعة الانتشار هذه حجة لصالحها ؛ ويستدلون على صحة اتجاههم من كثرة عدد أشياعهم ، وأنصارهم». ويعقّب أيضا في ختام كتابه المذكور بالتهوين والتقليل من شأن المناداة بتطبيق الشريعة حيث يقول : «ولم تكن صيحة المطالبة بتطبيق الشريعة إلّا صيحة خافتة ، لا تأثير لها على المجرى العام لحياة النّاس. هذه هي صورة الدين كما عرفه شعبنا طوال أجيال عديدة.

٤٠٦

أمّا الموجة الحالية ، فإنّها ـ برغم انتشارها الواسع ـ ظاهرة جديدة ودخيلة على التدين المصري العاقل الهادئ. وكأي ظاهرة دخيلة ينبغي علينا أن نتعقب أسبابها إلى عوامل طارئه».

ويبرّر ظهور القاعدة الجماهيرية العريضة ، والمطالبة بتطبيق الشريعة بمعسول القول ، وهناته ، حيث يقول : «وفي رأيي أنّ اتّساع القاعدة الجماهيرية التي تنادي بمبدإ معين لا يمكن أن يكون مقياسا لنجاح هذا المبدأ إلّا في حالة واحدة فقط هي التي يكون فيها وعي هذه الجماهير ناضجا كلّ النضج. وأستطيع أن أقول من وجهة نظري الخاصة : إنّ الانتشار الواسع للاتجاهات الإسلامية بشكلها الراهن إنّما هو مظهر صارخ من مظاهر نقص الوعي لدى الجماهير ... ، وذلك لغلبة الطابع الشكلي على فهمها للدين ، وتركيز جهده على الجانب الشعائري من الدين ، وعلى التحريمات الجنسية ، وشكل الملبس ... الخ. ونتصور أن أوّل جوانب تطبيق الشريعة وأهمها هو تطبيق حدود الخمر ، والسرقة ، والزنى ؛ ونتجاهل كلية مشكلات الحياة الاقتصادية ، والسياسية بتعقيداتها التي لا تنتهي. هذا الانقياد لا يمكن أن يكون علامة صحة ، وإنّما هو حالة شاذة طارئة لم تعرفها مصر إلّا في ظل عهود الحكم الفردي المتلاحقة ، وفي العهد الذي فتح الباب لتسرب الفكر المتخلّف الوافد من مجتمعات بترولية تستخدم الدين أداة للحفاظ على مصالحها في الداخل ، ونشر إيديولوجيتها الهابطة في الخارج». وفي الندوة التاريخية التي أقيمت في دار الحكمة للحوار بين «الإسلام والعلمانية» منذ سنتين ، والذي دعت إليه نقابة الأطباء بالقاهرة يذكر د. فؤاد زكريا تأييدا لشبهته في عدم صلاحية تطبيق الشريعة ، وصلاحية العلمانية في الحكم ما يسميه بواقع التعصب الطائفي كما هو الحال في لبنان ، والهند ، وبأن كثرة وجود الأديان يتعارض مع التفرد في تطبيق دين الإسلام.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّ أصحاب هذه الشبهة أمثال فؤاد زكريا ، وجماعة

٤٠٧

العلمانيين يتناقضون مع أنفسهم ، ويقعون في أشر تناقضاتهم. فهم بنكرانهم لصلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق هذه الأيام ، والعودة إلى الحل الإسلامي ، يعترفون في قرارة أنفسهم بصلاحية القرآن للحكم الإسلامي. ودليل ذلك أنّهم يستشهدون على تلك الصلاحية بالحكم على عهد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وعهد عمر بن الخطاب «رضي الله عنه». فهم ينكرون على الشريعة الإسلامية صلاحيتها في التطبيق ، وهم في الوقت نفسه يعترفون بهذه الصلاحية ، وإن حصروها في فترة من الفترات. واعترافهم هذا حجة عليهم ؛ لأنّ ما صلح تطبيقه ، ولو في فترة من فترات الزمن ، يصلح لكل الفترات الأخرى إذا ما أحسن تطبيقه ، وأخلص في استخدامه. وبالعقلانية السليمة تمكن المحاجة : إنّ الصالح يبقى صالحا إلّا إذا انتقضت صلاحيته بفقدان بعض شروطها ، وعلى رأسها حسن التطبيق. وبالمنطق الصحيح أيضا تمكن المحاجة : أنّ الإساءة في تطبيق الشريعة الإسلامية أحيانا لا يجب ، بل ، ولا يجوز أن ينفي عنها صلاحيتها في الأحيان الأخرى. فالصالح دوما صالح إلّا إذا أسيء استخدامه. وبذلك فإن فؤاد زكريا يقع في شر تناقضاته عند ما يستدل بإساءة التطبيق على عدم إمكانية التطبيق. وهو عند ما يذكر أن إساءة تطبيق الشريعة ـ والذي دام طيلة ثلاثة عشر قرنا ـ يعتبر نكرانا لأصول الشريعة ، وخروجا عنها ، فإنّ قوله هذا يوحي باعترافه بأنّ حسن تطبيق الشريعة لا يعتبر نكرانا لها ، أو خروجا عنها ، وهو بالتالي يقر بأصالتها ، ونجاعتها إذا لم يسأ استخدامها وحسن تطبيقها. وإذا سلّمنا جدلا أن واقع المسلمين لم يعرف تطبيقا مثاليا للإسلام طيلة ثلاثة عشر قرنا كما يقول العلمانيون ـ وهذا لم يحصل البتة ـ واعتبروا ذلك نكرانا لأصول الشريعة ، وخروجا عنها ، فلنا أن نتساءل : متى كان الواقع حكما على الإسلام؟!! ومتى كان الإسلام يقاس على الواقع؟! ومتى كانت شواهد الحكمة تقتضي منا ، أو من البشرية جمعاء ، أن نستند في حكمنا على شريعة الله تبعا للواقع البشري حتى ولو كان مثاليا؟!! أليس في هذا نكران لأصول الشريعة الغراء ، وخروج عن أصالتها ، ومثاليتها؟!! ومن البداهة بمكان ـ وهذا يعرفه العلمانيون ـ وهم

٤٠٨

الذين لا يقرون بالإلحاد كما يزعمون ـ أنّ الإسلام دوما كان حجة على المسلمين ، وليس العكس. لقد أسلم قسيس مدينة أسيوط في الستينات من هذا القرن ـ وكان رئيسا للكنيسة القبطية ، وأستاذا لعلم اللاهوت والشريعة المسيحية ، قاده إلى ذلك تجرده من التعصب الديني أولا ، وحياده في الحكم على صلاحية الأديان ثانيا ، فعاتبه أهل دينه ، وعيّره اثنان من زملائه القساوسة على تغيير دينه ، ونعيا عليه انحطاط تفكيره الذي قاده إلى اعتناق دين يمثل واقع أهله المسلمين أدنى ، وأكثر مراحل المجتمعات الإنسانية تخلفا سواء في علومهم أو أخلاقهم. فهداه الله إلى قوله لهم : إنّي لا أتّخذ من المسلمين حجة على الإسلام ، ولكنني أتّخذ من الإسلام حجة على المسلمين. هذا هو قولنا لأكابر العلمانيين في جدالهم ، ومناقشتهم.

ومشكلة العلمانيين هذه الأيام أنهم لم يفهموا دينهم ، ولم يحسنوا عرض دينهم للآخرين ؛ ولم يهتدوا إلى مقاييس السلامة في الحكم على دينهم إن بقيت في قلوبهم ذرة من دين.

ثانيا : إنّ أصحاب الشبهة من العلمانيين يغالطون أنفسهم ، ويقعون في شرّ مغالطاتهم. إنّهم ينكرون مثالية التطبيق الفعلي للإسلام طيلة عهود الدولة الإسلامية. وكما يقول أستاذ العلمانيين فؤاد زكريا : «أمّا التجارب التاريخية فلم تكن إلّا سلسلة طويلة من الفشل ، وهم يدّعون أنّ الإسلام لم يطبق على حقيقته على مر القرون» وكما يقول فؤاد زكريا أيضا : «فعلى أي أساس يأمل هؤلاء أن تكون التجربة المقبلة التي يدعون إليها في مصر هي وحدها التجربة التي ستنجح فيما أخفقت فيه الأنظمة الإسلامية على مر القرون؟!!».

وهو بدوره يتخذ من عمر بن الخطاب شخصية فذة فريدة ظهرت مرة واحدة ، ولن تتكرر. وذلك حتى يقنط الدعاة المسلمون ، ويستكينوا ، ويقلعوا عن الدعوة إلى الله ، وتطبيق شريعة الإسلام. فهو ييئسهم بقوله : وإذا كانت تجارب القرون العديدة ، وكذلك تجارب العصر الحاضر قد

٤٠٩

أخفقت كلها في الإتيان بحاكم يداني عمر بن الخطاب ، فلم يداعبون أتباعهم بالأمل المستحيل في عودة عصر عمر بن الخطاب؟!!.

وهكذا ديدن العلمانيين في افتراءاتهم يبنونها على ظواهر الأمور وجزئياتها ؛ وأوهى الأمثلة ، وأضحلها. وكما يقول ربنا في كتابه الكريم : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) سورة العنكبوت آية ٤١.

وهكذا ديدنهم في الحكم على الأمور ، وعن هوى ، وبعد عن كل حقيقة ، وتجرد عن كل برهان أو دليل ، ويصدق فيهم قول ربنا دوما : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة النمل آية ٦٤. وهكذا الأدلة العلمية ، والنقلية ، والتاريخية ، والتطبيقية ، تسعف حقيقة الرد المفند لزعمهم المزعوم. والتي تثبت دوما أن الشريعة الإسلامية طبقت أحكامها وتعاليمها ، وأن الدين الإسلامي سادت نظمه ، وقوانينه ، وأن راية الإسلام ظلت خفاقة طيلة عهود الدولة الإسلامية منذ نشأتها على عهد النبوة إلى انتهاء الدولة العثمانية بإلغاء الخلافة الإسلامية رسميا سنة ١٩٢٤ م ، ومن قبل ربيب الماسونية ، وساحر العلمانية ، مصطفى كمال أتاتورك.

وخير شهادة لنا في هذا المقام قول شهيد الحق سيد قطب في مقدمة كتابه : «مقومات التصور الإسلامي» : «وارتفع لواء الإسلام عاليا ، وظل مرفوعا أكثر من ألف عام بل حوالي مائتين وألف عام ممثلا في النظام الإسلامي في ظل الأقطار الإسلامية. وهو النظام الذي يرجع النّاس فيه إلى شريعة الله وحدها. ولا يحكم قضاة هذه الأمّة إلّا بالشريعة الإسلامية في كل أمر من أمور الحياة ، ولا يتحاكم النّاس إلى غير هذه الشريعة في شأن واحد من شئون المعاش» (١).

__________________

(١) الشيخ محمد الغزالي ـ كتاب : مائة سؤال عن الإسلام. ج ٢ ص ٣٥٢. ٣٥٤. القاهرة.

٤١٠

ولعل ما يبرز شرور مغالطات العلمانيين في تبرير شبهتهم أنّهم يحكمون على حقيقة الكلية بجزئياتها ، وعلى سلامة الأمور بهناتها. وهم يحكمون على ديمومة حكم الإسلام بقلائل هفوات حكامه. وهم يعلمون أن شواهد عصمة الإسلام في صلاحيته ، واستمراريته ليس من الضرورة أن تمتد لتتناول شواهد تنفيذه ، ومعالم تطبيقه ، وأعمال الحكام في تطبيق أنظمته ، وتعاليمه. فالفكر البشري ، والعمل الإنساني صنوان في الفهم للفكر الإسلامي ، وكلاهما يدور في حلقة عدم العصمة لكل منهما. وكما يقول شيخنا محمد الغزالي : «نعرف الفرق بين الإسلام ، والفكر الإسلامي ، وبين الإسلام ، والحكم الإسلامي ... فالإسلام وحي معصوم لا ريب فيه. أمّا الفكر الإسلامي ، فهو عمل الفكر البشري في فهمه ، والحكم الإسلامي هو عمل السلطة البشرية في تنفيذه ؛ وكلاهما لا عصمة له». وليس من الضروري بأي حال من الأحوال ـ والعلمانيون يعرفون ذلك ـ أنّ عدم العصمة للعمل البشري يجب أن تبقيه دائما في حلقة الأخطاء أو تقوده دائما إلى مجافاة الصواب. فالحاكم المسلم قد يخطئ ، وهو غير معصوم من الخطأ. ولكن لا يطول خطؤه ، فيندم ، ويعود إلى صوابه. وقد يزلّ ، ولكن لا يستمر زلله ؛ فيقومه أصحابه ، وأمته. والأمة الإسلامية لا تجتمع على خطأ. وهذا هو التصور العقلاني السليم للحكم في الإسلام حيث جعل ـ وهو معصوم ـ في متناول أيدي الحكام المسلمين ـ وهم غير معصومين ـ وهذا هو الابتلاء الحقيقي لمن استخلفهم الله في حكمه ؛ ومن فشل في هذا الابتلاء من الحكام المسلمين ، فقليل ما هم ، ولو كره العلمانيون ، يقول أستاذنا محمد الغزالي : وعند ما يخطئ مفكر فإن خطأه لا يبقى طويلا حتى يستدرك عليه مفكر آخر. وعند ما يخطئ حاكم ، فإنّ زلته لن تطول حتى يصوبها ناقد راشد ، والأمة الإسلامية ـ بفضل الله ـ لا تجتمع على خطأ ، وجهاز الدعوة بها حساس. وهو عن طريق التعليم ، والأمر والنهي ينصف الحق. ولما كانت هذه الأمّة حاملة الوحي الخاتم ، فإنّ القدر يؤدبها لذا استرخت ، أو فرطت حتى تلزم الصراط المستقيم ، ويتعهدها بالمجددين الذين يغارون على حقائق الوحي ، وسبل

٤١١

فقهه ، وأساليب حكمه. قال تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) سورة الأعراف آية ١٨١.

وأيضا كما يقول شيخنا محمد الغزالي : «يظهر أنّه لا غرابة في وجود أخطاء في تاريخنا الثقافي ، والسياسي ؛ وإنّما الغرابة في التستر على هذه الأخطاء ، أو الاستحقاق في معالجتها ، والتعمية على آثارها» (١).

ولنا القول : واستنادا إلى معايير الموضوعية في الحكم على الأمور ، فنحن نعترف بحدوث تجاوزات في تجارب الحكم الإسلامي ، ولكننا في نفس الوقت ننعي على الفيلسوف المثقف فؤاد زكريا في خروجه عن كل موضوعية عند ما يحكم على جميع التجارب التاريخية للحكم الإسلامي بأنها فاشلة ، ويحصر المثالي الناجح منها فقط في عصر عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» ، ودون أي دليل ، أو مستند تاريخي سليم ، أو مسوغ عقلاني صحيح.

ونحن بدورنا أيضا ننعي عليهم أن يتخذوا تجربة واحدة ، أو من تجارب قليلة خاطئة ، مسوغا لهم للخروج عن حدود الموضوعية ؛ ويحكمون على عدم صلاحية التطبيق المثالي للإسلام قديما ، وحديثا. وهم بذلك يتجاوزون كل حدود المنطق العقلاني السليم. وهم يتوّجون تجاوزهم في حكمهم هذا بشواهد سوء النيّة المبيتة للطعن في الإسلام. ودليل ذلك أنّهم لا يطبقون حكمهم هذا على تجاوزات التجارب العديدة والفاشلة في الرأسمالية ، والاشتراكية. بل ويتمادون أكثر من ذلك فلا يصفونها بالفاشلة ، وحتى وقد يلتمسون الأعذار لها. وهم كما يقول شيخنا يوسف القرضاوي «إن العلمانيين ، والماركسيين يتعاملون بمنطقين مختلفين : منطق مع الإسلاميين ، ومنطق مع أنفسهم. فهم مع الإسلاميين يحمّلون الإسلام كل الأخطاء ، والانحرافات في التاريخ ، وكل الأخطاء والانحرافات في التطبيق المعاصر. فالإسلام عندهم هو مجموع

__________________

(١) الشيخ محمد الغزالي. كتاب : مائة سؤال من الإسلام. ج ٢. ص ٣٥٢ ـ ٣٥٤ ـ القاهرة.

٤١٢

الانحرافات القديمة ، والجديدة معا. ولا يقولون يوما : إنّ الإسلام شيء والتطبيق شيء آخر ؛ وإنّ المسئولية مسئولية المسلمين ، وليست مسئولية الإسلام نفسه. على حين تراهم مع المذاهب الأخرى يفرقون بين صلاحية المبدأ في ذاته ، وبين سوء التطبيق له. أجل ، نراهم إذا دعوا إلى الاشتراكية الماركسية مثلا ، يبرءونها من الشوائب ، والانحرافات التي صاحبت تطبيقاتها المختلفة من اعتداء على الحقوق ، ووأد للحريات ، وانتهاك للحرمات ، وإهدار لكرامة الإنسان ، وقتل للديمقراطية ، وتصفية طبقة لتحل محلها طبقة جديدة. وكذلك الذين يدعون إلى الديمقراطية لا يحمّلونها مسئولية ما يشوبها من انحرافات ، وتحريفات. حتى ارتكبت باسمها عظائم الجرائم. وحتى قال رئيس مصري : إنّ الديمقراطية لها أنياب ، ومخالب ، وإنّها أشرس من الديكتاتورية. وكم زورت باسمها انتخابات ، واستفتاءات كانت نتيجتها التسعات الخمس ٩٩٩. ٩٩ فضلا عن شكوى كثير من الغربيين في بلاد الديمقراطية الأم من زيف الديمقراطية التي توجهها قوى ظاهرة ، وخفية لمصالح فئات معيّنة» (١).

ولعل من شواهد سوء نية الفيلسوف فؤاد زكريا أنّه ـ وهو الذي لم يلتمس عذرا واحدا لتجربة أو تجارب قليلة خاطئة للحكم الإسلامي ـ نجده يلتمس الأعذار لفشل جميع تجارب الاشتراكية ، والرأسمالية في البلدان العربية. فهو يعتذر لفشل تجربة الاشتراكية في مصر بقصر المدة ، وذلك بقوله : «وخلال هذه الفترة القصيرة لم تكن هناك جديّة كافية في التطبيق. ويكفي أنّها كانت اشتراكية بغير اشتراكيين ، وأن المكلفين بحراسة التجربة ، ورعايتها كانوا في معظم الأحيان يختارون على أسس شخصية تضمن ولاءهم للحاكم لا على أساس إيمانهم بالمبدإ نفسه واستعدادهم للتضحية في سبيله» (٢). وهو أيضا يعتذر لفشل تجربة

__________________

(١) د. يوسف القرضاوي كتاب : الإسلام والعلمانية ص ١٨٦.

(٢) د. يوسف القرضاوي. المرجع المشار إليه آنفا ص ١٨٧. ود. فؤاد زكريا : كتاب : الحقيقة والوهم. ص ١٧١.

٤١٣

الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية في مصر بقصر المدة أيضا. فهو يقول : «إنّها لم تستمر أكثر من ثلاثين سنة «١٩٢٣ ـ ١٩٥٢ م» (١). ويحاسب تجربة باكستان على بضع سنين ، وتجربة السودان على سنة ، أو سنتين. ألا بئس الذنب الكفر بعد الإيمان.

ثالثا : إنّ أصحاب هذه الشبهة من العلمانيين يخطّئون أنفسهم ، ويقعون في شرّ أخطائهم عند ما يقصرون مثالية الحكم الإسلامي في التطبيق على عمر بن الخطاب فقط. ومن الخطأ الفاحش القول : بأنّ عمر بن الخطاب شخصية فذة فريدة لا تتكرر. وهذا القول ـ وكما يعلم العلمانيون أنفسهم ـ يجافي الحقيقة ، ويجانب الصواب فيما يتعلق بالحقائق التاريخية للحكم الإسلامي. ولعل حقدهم الأعمى على الإسلام أنساهم حقيقة تكرار الشخصية العمرية طيلة عهود الدولة الإسلامية. ولعل ضغينة مكرهم أفقدتهم الرؤية الصحيحة حتى عن أجلاء صحابة عمر بن الخطاب نفسه ، وهم الخلفاء الراشدون : وكما يقول دكتور محمد حسين هيكل في كتابه «الصديق أبو بكر» : «أليست هذه بعض معجزات التاريخ؟!! في سنتين وثلاثة أشهر تطمئن أمم ثائرة ، وتصبح أمّة متحدة قوية ، مرهوبة الكلمة ، عزيزة الجانب حتى لتغزو الامبراطوريتين العظيمتين اللتين تحكمان العالم ، وتوجهان حضارته ، لتنهض بعبء الحضارة في العالم قرونا بعد ذلك. هذا أمر لم يسجل التاريخ مثله ، فلا عجب أن يقتضي من أبي بكر مجهودا تنوء به العصبة أولو القوة ... وقد تخطى الستين يوم بويع» (٢).

وتجاهلهم كذلك لمثالية حكم عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ذو النورين والذي نال رضا الله ، ورضا رسوله ، وكما ورد في الحديث الشريف : «اللهم ارض عن عثمان ، فإني عنه راض» وذلك على أثر شرائه

__________________

(١) د. يوسف القرضاوي : المرجع المشار إليه آنفا. ص ١٨٧. ود. فؤاد زكريا : كتاب : الحقيقة والوهم. ص ١٧١.

(٢) د. محمد حسين هيكل : كتاب الصديق أبو بكر. ص ٩٤٥.

٤١٤

لبئر «رومه» وهبته لها للمسلمين ، والذي نال بمثاليته حسن مروءة الكرم والسخاء. وكما ورد في الحديث الشريف : «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» على أثر تجهيزه لجيش العسرة في سبيل الله. والذي نال مكارم الحياء ، والأخلاق ، كما ورد في الحديث الشريف : «ألا أستحي من رجل تستحي منه ملائكة الرحمن». عثمان بن عفان الحيي البكّاء ، والذي وصلت مثالية حكمه بقاع الأرض من أدناها إلى أقصاها. وتجاهلهم كذلك لمثالية حكم علي بن أبي طالب العالم الورع ، والذي قال فيه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «أنا مدينة العلم ، وعلي بابها» ، والذي قال فيه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «ألا ترضى أن تكون مني كمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي» ، علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ والذي تمثلت مثالية حكمه بالشجاعة ، والقضاء ، وكما ورد في معنى الحديث الشريف : «لأعطين الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ، ورسوله. فبات النّاس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما كان الصباح ، اجتمع النّاس بباب خيمة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كلهم يرجو أن يعطها. يقول عمر : ظننت أنّه يبحث عني ، فأخذت أتطاول على رءوس أصابعي. فنظر إلي ثم حول بصره عني ، فعلمت أنّه لست أنا. فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أين علي بن أبي طالب؟!! قالوا : هو مريض يشتكي عينيه. فقال : أرسلوا له. فلما جاء تفل الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في عينيه ، ودعا له ، وسلمه الراية ، وقال له : اذهب ، فقاتل. ففتح الله على يديه الحصن» وكان ذلك أثناء غزوة خيبر.

هؤلاء الخلفاء الراشدون ، والذين تجاهلهم العلمانيون ، وانفرد كبيرهم الذي علمهم السحر فؤاد زكريا الطبيب الفيلسوف بأحدهم ، وهو عمر بن الخطاب ، والذين وردت الأحاديث الشريفة بتزكيتهم ، وسمو مثاليتهم ، وعلو شخصياتهم ، فكانوا أعلاما فريدين أيضا. وكما ورد في الحديث الشريف ما يفيد : «أرحم أمتي بأمّتي أبو بكر ، وأقواهم في دين الله عمر ، وأشد امتي حياء عثمان ، وأعلمهم بالفرائض علي بن أبي طالب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأقرؤهم لكتاب الله عبد الله بن مسعود. ولكل أمّة أمين ، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة» ؛ وتجاهل

٤١٥

العلمانيون لصحابة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أوقعهم في شرّ أخطائهم ، ومغالطاتهم. وهؤلاء الذين قال فيهم حبيبنا المصطفى «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «دعوا لي أصحابي ، فو الذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ، ولا نصفه». والذي قال فيهم أيضا : «أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم». وهؤلاء الصحابة النجوم منهم الفريد الفذ بحكمه ، والفريد الفذ بقضائه ، والفريد الفذ بجهاده ، والفريد الفذ بعلمه ، والفريد الفذ بأخلاقه ، والفريد الفذ بحسن سياسته. هؤلاء الصحابة النجوم الذين بأيهم اقتدينا ، اهتدينا.

ولنا القول في هذا المقام : إنّ التكرار للشخصية العمرية في مثالية الحكم الإسلامي ـ والعلمانيون يعلمون ذلك ـ يفند زعمهم بعدم تكرارها. والأمثلة الحية للعديد من الحكام المسلمين في عدالتهم ـ والعلمانيون يفتكرون ذلك ـ تؤكد فحش افترائهم ، وطيلة عهود الدولة الإسلامية ، يملئون الأرض بمعالم عدالتهم ، وحسن تفكيرهم ، وصفاء مثاليتهم ؛ بدءا من عصر الخلفاء الراشدين ، ومرورا بالعصر الأموي ، والعباسي ، والطولوني ، والإخشيدي ، والفاطمي ، والأيوبي ، والمملوكي ، والعثماني ، والأندلسي. فالواقع التاريخي ـ والعلمانيون يستندون إليه تجاهلا لحقيقته ـ يكذّب أخطاءهم. وأمثلته العديدة شاهد عيان يملأ الآفاق على عدالة ومثالية حكام المسلمين. ومنهم : خامس الخلفاء الراشدين «عمر بن عبد العزيز» ، الذي مكن دين الله في أرضه ، وملأ الأجواء في عدله ، وغمر الأصقاع بحسن سيرته ، وسلوكه.

وقد روى البيهقي عنه في الدلائل عن عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال : «إنما ولي عمر بن عبد العزيز ثلاثين شهرا. لا والله ، حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم ، فيقول : اجعلوا هذا حيث تروه في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله ، يتذاكر من يضعه فيه ، فلا يجده ، فأغنى الناس عمر». هذا الخليفة العادل ، والذي قال واليه على صدقات إفريقيا يحيى بن سعيد : كنت أجمع الصدقات ولا أجد أحدا من أصحابها ، فكنت أشتري به الرقاب ، وأعتقها.

٤١٦

وهكذا شخصية فريدة أخرى تتكرر أيضا ، ورغم جهالة الجاهلين ، ورغم نكران العلمانيين. وهكذا أيضا شخصية معاوية بن أبي سفيان ـ مؤسس الدولة الأموية ـ والذي خاض في سيرته الخائضون سواء من المستشرقين أو العلمانيين. فبالرغم من خطئه ، وانحرافه في نظام توليه الحكم من مبدأ الشورى ، والاختيار إلى مبدأ التعيين ، والوراثة ، فإنّ هذا الخطأ لم يثنه أبدا عن مبدأ الحكم بالإسلام ، وتطبيق الشريعة الإسلامية ، والاحتكام إلى نظام الإسلام في جميع شئون الحياة ، وتنفيذ قواعد العدالة في حكمه بين الأفراد. ونحن نتحدى أن يثبت أحد أن معاوية لم يحكم بالإسلام؟!! أو لم يكن حكمه مثاليا في تطبيق أحكام الله على العباد؟!! أو أنّه احتكم إلى غير نظام الإسلام في الاقتصاد ، أو الاجتماع ، أو السياسة ، أو الإدارة ، أو الجهاد؟!!.

ومعاوية بن أبي سفيان ـ هذا الخليفة العادل ـ والذي شوهت حسن سيرته الضغائن ، والأحقاد ـ هو القائل : لو كان بيني ، وبين النّاس شعرة ، ما قطعتها. والكل من حكام الاشتراكية ، والرأسمالية قطعوا هذه الشعرة بينهم وبين الناس ، بل وجعلوها سيوفا على رقابهم يقتلون بها ، ويبطشون بها.

ومعاوية هذا ـ الخليفة اللين السمح العافي عن النّاس ـ هو الذي يروي عنه الحافظ الذهبي في «سير الأعلام» عن ابن عون قال : «كان الرجل يقول لمعاوية : والله ، لتستقيمن بنا يا معاوية ، أو لنقومنّك. فيقول : بما ذا؟! فيقولون : بالخشب. فيقول : إذن ، أستقيم. والخشب : جمع خشيب ، وهو السيف الصقيل. ويدخل عليه أبو مسلم الخولاني ، فيقول : «السلام عليك أيّها الأجير. ويرد عليه من حول معاوية مصححين عبارته : السلام عليك أيها الأمير. ويصر أبو مسلم على قوله. فيقول معاوية : دعوا أبا مسلم ، فهو أعلم بما يقول. فقال أبو مسلم : أنت أجير المسلمين استأجروك على رعاية مصالحهم». ومعاوية بن أبي سفيان هذا هو الذي تنازل له عن الإمامة حفيد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الحسن بن علي.

٤١٧

حيث قال فيه جدّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «إنّ ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» رواه البخاري.

ولو كان معاوية على مثل هذا الانحراف عن العدل في الحكم ، والسوء في الإدارة ، لما تنازل عن الإمامة له الحسن بن علي «رضي الله عنه». وهل يعقل أن يتنازل له عن الإمامة لو كان يحكم بغير الإسلام؟! أو لم يكن مثاليا في حكمه لشريعة الإسلام؟! وهكذا كان معظم الحكام الأمويين ، ومنهم عبد الملك بن مروان ، والوليد بن عبد الملك ؛ شخصيات فذة ، ملأت إصلاحاتهم آفاق الميادين الإسلامية ، وحروبهم في سبيل الله آفاق البلدان المجاورة. وهكذا الحكام العباسيون ـ ومنهم أبو جعفر المنصور ، وهارون الرشيد ـ أصحاب شخصيات فذة ، ملأت الآفاق أعمالهم وجهادهم ، وغمرت البلدان سيرهم في العدالة ، وحسن القضاء ، والتعبد ، والورع. وهذا هارون الرشيد ـ الذي لم يسلم حكمه من شواهد التشويه ، وفساد الإدارة ، وهو من كل ذلك براء كبراء الذئب من دم يوسف. وحيث دافع عنه العلامة ابن خلدون دفاعا رصينا في مقدمته. وهو الذي تتناقض روايات المستشرقين ، والعلمانيين عمّا عرف عنه بتقسيم وقته بين الحج ، والجهاد ، والقضاء.

وهكذا الحكام الحمدانيون ـ ومنهم سيف الدين الحمداني ـ الذي تفنن في قتال الروم ، ومنعهم من تجاوز حدود الدولة الإسلامية.

وهكذا الحكام الزنكيون وعلى رأسهم نور الدين زنكي ـ والملقب بالشهيد ـ والذي شبه بالخلفاء الراشدين في سيرته ، وعدله ، وقضائه ، وجهاده.

وهكذا الحكام الأيوبيون ربائب الزنكيين ـ وعلى رأسهم صلاح الدين الأيوبي ـ الذي ملأ صيته الآفاق ، والأمصار نقاء في الحكم ، وعدلا في القضاء ، وجهادا في القتال. وتكفيه شخصيته الفريدة الفذة فخرا أنّه هو الذي قهر الصليبيين في فلسطين ، وأخرجهم منها ، وخلص بيت المقدس من جبروتهم ، وبعد أن ألحق بهم هزيمة منكرة في معركة حطين

٤١٨

بشمال فلسطين سنة ١١٨٧ م. وهكذا الحكام المماليك ـ وعلى رأسهم قطز ، والظاهر بيبرس ـ الذين خلّصوا البلاد الإسلامية من هجمات التتار والمغول ، وهزموهم في معركة عين جالوت بشمال فلسطين سنة ١٢٦٠ م.

وهكذا الحكام الأندلسيون ـ وعلى رأسهم الملك الناصر ـ الذي يشهد له التاريخ جهاده ضد الصليبيين ، وعمارته لكثير من المدن الأندلسية ، والتي ما زالت آثارها قائمة إلى اليوم تشهد له حنكته في إدارته ، وعدله في قضائه ، وإخلاصه في جهاده. وهذا قائد الجيوش الإسلامية عبد الرحمن الغافقي ، والذي يشهد له المستشرقون جهاده وإخلاصه لقيادته ، ومثاليته في حروبه ، وهو الذي ما يزال التاريخ الفرنسي يذكر دخوله جنوب فرنسا ، واستشهاده في معركة بلاط الشهداء في سهل «ثور». وحيث تدرس سيرته في المدارس الفرنسية الآن. وهكذا حكام المرابطين ، والموحدين في الشمال الإفريقي المسلم ، ومنهم يوسف بن تاشفين الذي اعترفت بشخصيته الفذة الفريدة كتب التاريخ ، وسير الأبطال ، وهو الذي وحد الأندلس بعد تفرق حكامها ، وأخّر سقوطها حوالي مائتي سنة ، وبعد أن هزم الصليبيين في معركة الزلاقة. وإنّ مثل هذه الأمثلة لهؤلاء الحكام المسلمين كفيلة لتدحض افتراءات أصحاب هذه الشبهة وغيرها من العلمانيين ، والمستشرقين الذين يدعون أنّه لم يكن هناك حاكم مثالي إلا عمر. وما عمر ـ ونحن نشهد معهم على مثاليته ـ إلّا واحدا يأتي ذكره على رأس هرم هؤلاء الأفذاذ من الحكام.

ونحن بدورنا نناشد كل هؤلاء العلمانيين أن يحتكموا حكمهم على التاريخ إلى شواهد الحقيقة من التاريخ ؛ وأن يستقوا أخبارهم من كتب الثقة ، وضمن شواهد التحري المحكم السليم للأخبار. ولكن ، وللأسف الشديد أن بعض مصادر المسلمين تناولتها شواهد التحريف ، وعدم الثقة ككتاب : الأغاني للأصفهاني. والذي سمّاه البعض «بالنهر المسموم».

٤١٩

ومثل هذا الكتاب ، وغيره لا يصلح مستندا أو حجة قوية يستند إليها في روايات التاريخ ؛ وكثير منها ما لا تقبله العقول السليمة ، مثل أنّ الوليد بن يزيد قد شرب الخمر من فوق الكعبة ، وأنّه مزق القرآن ، وقال فيه :

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا رب مزقني الوليد

ولكن ، ولا نبالغ في القول : بأن شبهات هؤلاء العلمانيين ـ والكثير منهم لا يجاهر بالكفر ، أو الإلحاد ـ إنّما مصدرها الحقد على الإسلام ؛ ومستندها الأباطيل في الروايات ؛ وشواهدها سوء النيّة المبيتة على الحكام ؛ ومعالمها الكذب على التاريخ ؛ ومظاهرها المغالطة في الوقائع والحقائق. وإلّا فنحن نتساءل : أي مستند نقلي أو علمي ، أو تاريخي يستند إليه أديب العربية طه حسين عند ما يحكم على فشل المنهج الإسلامي في الحكم ، والإدارة ابتداء من أواخر عهد عمر بن الخطاب إلّا الحقد ، والضغينة على الإسلام؟!! وكذلك دعوته إلى انتهاج الثقافة الغربية دون مبالاته بتناقضها مع الثقافة الإسلامية؟! وكذلك الدوافع التي تجعل من عبد الرحمن الشرقاوي ـ المعروف بماركسيته العلمانية ـ أن يبحث في سير الصحابة «رضوان الله عليهم» ، وبمنهجية التفسير المادي للتاريخ؟!! ومنها رواية : «الحسين شهيدا» إلّا النيّة السيئة المبيتة للإسلام؟!! هذه الرواية التي قال عنها العلماء أبو زهرة ، والنجار ، والشرباصي : إنّ الشرقاوي كان حريصا على تصوير المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بنصف قرن فقط بصورة بشعة. وكان هذا المجتمع قد تداعى ، وتهاوى ، وصار مجتمع عربدة وفجور ، ومجتمع شقاق ونفاق ؛ ومجتمع جبن وضعف ؛ ومجتمع خيانة ونكث للعهود ، مع أنّ المجتمع كان لا يزال فيه عدد كبير من صحابة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وفيه عدد ضخم من التابعين لهم بإحسان. وكذلك ، الأسباب التي دفعت بالعلماني المجاهر بعدائه للإسلام حسين أحمد أمين أن يهاجم السلف الصالح ، ومنهم أبو ذر الغفاري تشويها لسمعته. وعمر بن عبد العزيز الذي يصفه بالتسبب في الإدارة ، والاقتصاد. وعبد الحميد الثاني آخر

٤٢٠