شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

فليلاحظ دائما في الرد على أمثال تلك الشبهات أمران :

أولهما : تلك القاعدة الذهبية التي وضعها العلماء : وهي أن خبر الآحاد إذا عارض القاطع سقط عن درجة الاعتبار ، وضرب به عرض الحائط ، مهما تكن درجة إسناده من الصحة.

ثانيهما : خطّ الدفاع الذي أقمناه حصنا حصينا دون النيل من الصحابة ، واتهامهم بسوء الحفظ أو عدم التثبت ، والتحري ، خصوصا في كتاب الله وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الشبهة الحادية عشرة :

يقولون : إن كثيرا من المتعلمين لا يحفظون القرآن ، ولا يحسنون قراءته في المصحف ، لعدم معرفتهم الرسم العثماني. فلما ذا نتقيد بهذا الرسم ، ولا نكتب المصاحف اليوم باصطلاح الكتابة المعروف ، تسهيلا على الناشئة ، وتيسيرا على الناس؟

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : أن للعلماء آراء في ذلك بالجواز. بل قال بعضهم ـ وهو العز بن عبد السلام ـ بوجوب كتابة المصحف للعامة باصطلاح كتابتهم الحديث ؛ خشية الالتباس ، كما يجب كتابته بالرسم العثماني محافظة على هذا التراث العزيز. وقد سبق شرح آراء العلماء قريبا. وما هي منك ببعيد.

ثانيا : أن في الرسم العثماني مزايا ، وفوائد ذكرناها سابقا.

٦١

ثالثا : أن مذهب الجمهور قائم على أدلة متوافرة على وجوب التزام هذا الرسم عندهم. وقد تقدمت تلك الأدلة أيضا.

رابعا : أنّ مصطلح الخط والكتابة في عصرنا ، عرضة للتغيير والتبديل. ومن المبالغة في قداسة القرآن حمايته من التغيير ، والتبديل في رسمه.

خامسا : أن إخضاع المصحف لمصطلحات الخط الحديثة ، ربما يجرّ إلى فتنة ، أشبه بالفتنة التي حدثت أيام عثمان ، وحملته على أن يجمع القرآن. فربما يقول بعض الناس لبعض ، أو بعض الشعوب لبعض ، عند اختلاف قواعدهم في رسم المصحف : رسمي خير من رسمك ، أو مصحفي خير من مصحفك ، أو رسمي صواب ، ورسمك خطأ. وقد يجر ذلك إلى أن يؤثم بعضهم بعضا ، أو يقاتل بعضهم بعضا. ومن المقرّر أن درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

سادسا : أن الرسم العثماني أشبه بالرسم العام الذي يجمع الأمة على كتابة كتاب ربها في سائر الأعصار والأمصار ، كاللغة العربية ؛ فإنها اللسان العام الذي يجمع الأمة على قراءة كتاب ربها في سائر الأعصار والأمصار. وما يكون لنا أن نفرط في أمر هذا شأنه يجمع الشتات ، وينظم الأمة في سلك واحد لا فرق بين ماض ، وحاضر وآت!.

سابعا : أنّه يمكن تسهيل القراءة على الناس بإذاعة القرآن كثيرا إذاعة مضبوطة دقيقة ، وبإذاعة فن التجويد في المدارس ، وفي أوساط المتعلمين ، وأخيرا يمكن ـ كما قالت مجلة الأزهر ـ أن ننبّه في ذيل كل صفحة من صفحات المصحف على ما يكون فيها من الكلمات المخالفة للرسم المعروف ، والاصطلاح المألوف. لا سيما أن رسم المصاحف العثمانية لا يخالف قواعدنا في الخط والإملاء إلا قليلا ، وفي كلمات معدودة ، أضف إلى ذلك أن الفرق بين الرسمين لا يوقع القارئ اليقظ في لبس عند تأمله ، وإمعانه غالبا.

٦٢

الباب الثالث

شبهات حول كتابة القرآن ورسمه ، وتفنيدها.

الشبهة الأولى :

إن في القرآن لحنا ، بدليل أنه روي عن عثمان بن عفان أنّه حين عرض عليه المصحف بعد جمعه قال : «أحسنتم ، وأجملتم ، إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها». ويدعي أصحاب هذه الشبهة : أنّه روي عن عكرمة أنّه قال : «لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان ، فوجد فيها حروفا من اللحن ، فقال : لا تغيروها ؛ فإنّ العرب ستغيرها ، أو قال : ستعربها بألسنتها. لو كان الكاتب من ثقيف ، والمملي من هذيل ، لم توجد فيه هذه الحروف». وهم يستدلون بالروايتين ليطعنوا بالمصحف العثماني ، وبأنّه غير ثقة ، وبأنّه لا يستحق الاهتمام به ، أو التعبد بتلاوته وقراءته في الصلاة ، وإن أجمعت عليه الأمّة الإسلامية ـ وعلى رأسها الصحابة ـ بالقبول ؛ وذلك لأنّ فيه لحنا.

٦٣

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : الروايتان عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ غير صحيحتين وإسنادهما ضعيف ، وفيهما انقطاع ، واضطراب. قال العلامة الألوسي في تفسيره : «إن ذلك لم يصح عن عثمان أصلا».

ثانيا : الروايتان تتناقضان تماما مع ما عرف عن عثمان بن عفان من ورع ، ودقة ، وكمال ، وشدة تحري ؛ وخاصة فيما يتعلق بالقرآن وجمعه. ويدلل على هذا ما أخرجه أبو عبيد عن عبد الرحمن بن هانئ مولى عثمان قال : «كنت عند عثمان ـ وهم يعرضون المصاحف ـ فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها : «لم يتسنّ» ، وفيها : «لا تبديل للخلق» ، وفيها : «فأمهل الكافرين» ، فدعا بدواة ، فمحا أحد اللامين ، وكتب (لِخَلْقِ اللهِ) ، ومحا «فأمهل» ، وكتب (فَمَهِّلِ) ، وكتب (لَمْ يَتَسَنَّهْ) فألحق فيها الهاء. قال ابن الأنباري : «فكيف يدعى عليه أنّه رأى فسادا فأمضاه؟! وهو يوقف على ما يكتب ، ويرفع الخلاف الواقع من الناسخين فيه ، فيحكم بالحق ويلزمهم إثبات الصواب ، وتخليده».

ثالثا : على فرض صحة الروايتين ، فإننا يمكن أن نؤولها بما يتفق ويتلاءم مع الصحيح المتواتر عن عثمان في كتابة المصاحف وجمعها ؛ ومن الدقة ، والضبط ، ونهاية التثبت. فالمراد باللحن في الروايتين المذكورتين وجه في القراءة. فيكون المراد : أن في القرآن ورسم مصحفه وجها في القراءة لا تتقنه ، ولا تجيده ألسنة العرب جميعا ، ولكنها ، ومع مرور الزمن ستلين ألسنتهم ، وستتقنه ، وستجيد قراءته ، وتلاوته ؛ بكثرة القراءة ، والمران ، والتلاوة بهذا الوجه. فاللحن المراد في قول عثمان ـ إن صح ـ هو الوجه في القراءة سيصعب على العرب التلاوة به في أوّل الأمر ثم تستقيم القراءة به في نهاية الأمر ، وقد ضرب العلماء مثلا على ذلك ، وهو كلمة «الصراط» بالصاد المبدلة من السين ، فتقرأ العرب بالصاد عملا بالرسم ، وبالسين عملا بالأصل.

٦٤

الشبهة الثانية :

إنّ في القرآن لحنا بمعنى خطأ ، بدليل ما روي عن سعيد بن جبير أنّه كان يقرأ : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ، ويقول : «هو من لحن الكتاب».

تفنيد هذه الشبهة :

على فرض صحة ما نقل عن سعيد بن جبير ، فإن مراده باللّحن يستحيل أن يكون بمعنى الخطأ ، بدليل أن سعيد بن جبير كان يقرأ بهذا الوجه من القراءة ، (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ). فلو كان يعني باللحن : الخطأ ، لما رضي لنفسه أن يقرأ بالخطإ. واللحن في قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) يعني اللغة والوجه في القراءة. وكلمة (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ، واردة في آية في سورة النساء ، وفي قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) آية ١٦٢. فكلمة (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) وردت منصوبة بالياء في قراءة الجمهور ؛ ووردت مرفوعة بالواو في قراءة أبي عمرو في رواية يونس ، وهارون عنه. والقراءتان وجهان صحيحان في التلاوة. فالنصب مخرج على المدح ، والتقدير : «وامدح المقيمين الصلاة». والرفع مخرج على العطف ، والمعطوف عليه ، وهو المؤمنون مرفوع.

الشبهة الثالثة :

إن في القرآن ما ليس منه. بدليل ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا) أنّه قال : إن الكاتب أخطأ ، والصواب : «حتى تستأذنوا».

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : يقول أبو حيان : «إن من روى عن ابن عباس أنّه قال ذلك

٦٥

فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من ذلك القول».

ثانيا : أخرج ابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس أنّه فسر (تَسْتَأْنِسُوا) فقال : أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها. أي أصحاب البيوت.

ثالثا : إن قراءة «تستأذنوا» لم تثبت عن ابن عباس ؛ ولو كانت صحيحة ، لنقلت عنه تلاوتها.

رابعا : على فرض صحة الخبر المنقول عن ابن عباس كما روى ذلك الحاكم ، فإنّه يردّ بدعوى أنّه معارض للمتواتر في القرآن وهو (تَسْتَأْنِسُوا) ، وليس تستأذنوا. والقاعدة المعمول بها : أن معارض المتواتر القطعي ساقط ، ولا يؤخذ به ، ولا يعتد به ، ولا يتلى به. وأن الرواية متى خالفت رسم المصحف ، فهي شاذة لا يلتفت إليها ، ولا يعوّل عليها.

الشبهة الرابعة :

إن في القرآن تحريف. بدليل ما روي عن ابن عباس أنّه قرأ : «أفلم يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى النّاس جميعا» فقيل له : إنّها في المصحف : «أفلم ييأس الذين آمنوا» فقال : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : قال أبو حيان : «بل هو قول ملحد زنديق».

ثانيا : قال الزمخشري : «ونحن ممن لا يصدق هذا في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكيف يخفى هذا؟! حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام ـ (أي المصحف الإمام) ، وهو مصحف

٦٦

عثمان ـ وكان متقلبا بين أيدي أولئك الأعلام المحتاطين لدين الله المهيمنين عليه ، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي أقيم عليها البناء ، هذا والله فرية ، ما فيها مرية».

ثالثا : قال الفرّاء : «لا يتلى إلا كما أنزل : «أفلم يايئس»».

رابعا : قال الزرقاني : «وعلى ذلك تكون رواية ذلك في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس رواية غير صحيحة. ومعنى : «أفلم يايئس الذينءامنوا» أفلم يعلموا. قال القاسم بن معن : هي لغة هوازن. وجاء بها الشعر العربي في قول القائل :

أقول لهم بالشّعب إذ يأسرونني

ألم تيأسوا أني ابن فارس (زهدم)

أي ألم تعلموا» (١).

الشبهة الخامسة :

إنّ في القرآن تغييرا. بدليل ما روي عن ابن عباس : «أنّه كان يقول في قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) : إنما هي : «ووصّى ربّك» التصقت الواو بالصاد. وكان يقرأ : ووصى ربك. ويقول : أمر ربك ، إنهما واوان التصقت إحداهما بالصاد. وروي عنه أنّه قال : «أنزل الله هذا الحرف على لسان نبيكم. ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إيّاه. فلصقت إحدى الواوين بالصاد ، فقرأ الناس : (وَقَضى رَبُّكَ). ولو نزلت على القضاء ، ما أشرك أحد».

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : قال ابن الأنباري : «إن هذه الروايات ضعيفة».

__________________

(١) قال في القاموس : زهدم : كجعفر. فرس لعنترة. وفرس لبشر بن عمرو الرياحي.

٦٧

ثانيا : قال أبو حيان في البحر : والمتواتر هو : «وقضى» ، وهو المستفيض عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة بمعنى أمر. وقال ابن مسعود وأصحابه : بمعنى «ووصى».

ثالثا : قال الزرقاني : «فرواية «وقضى» هي التي انعقد الإجماع عليها من ابن عباس ، وابن مسعود ، وغيرهما ، فلا يتعلق بأذيال مثل هذه الرواية الساقطة إلا ملحد ، ولا يرفع عقيرته بها إلا عدو من أعداء الإسلام».

رابعا : إنّ الروايات عن ابن عباس مخالفة للمتواتر القطعي. وهو قراءة : «وقضى» والمعارض للقاطع ساقط لا يعتد به. فتبقى : «وقضى» هي الصحيحة ، وما روي عن ابن عباس أنّها «ووصى» ساقط غير صحيح ، ولا يعتد بتلاوته.

الشبهة السادسة :

إنّ في القرآن اختلافا في الرسم ، والتلاوة. بدليل ما روي عن ابن عباس أنّه قرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) ـ سورة الأنبياء آية ٤٨ ـ بدون الواو قبل كلمة ضياء. وروي عنه أنّه قال : خذوا هذه الواو ، واجعلوها في (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ). وروي عنه أيضا أنّه قال : انزعوا هذه الواو ، واجعلوها في : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ).

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : جميع هذه الروايات ضعيفة ، ولم يصح منها شيء عن ابن عباس.

٦٨

ثانيا : إنّها معارضة للقراءة المتواترة قطيعة الثبوت.

ثالثا : إنّ إعجاز القرآن البياني ، والبلاغي يقتضي وجود الواو قبل ضياء ، وليس عدمها. فابن عباس نفسه فسر الفرقان في الآية المذكورة بالنصر. وعليه يكون الضياء بمعنى التوراة أو الشريعة. فالمقام للواو لأجل هذا التغاير.

الشبهة السابعة :

إن في القرآن حذفا في الرسم ، والتلاوة. بدليل ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) أنّه قال : «هي خطأ من الكاتب ، وهو أعظم من أن يكون نوره مثل المشكاة. إنّما هي : مثل نور المؤمن كمشكاة».

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّها رواية معارضة للثابت المتواتر القاطع من القرآن.

ثانيا : يقول الزرقاني في مناهل العرفان : «إنّه لم ينقل عن أحد من القرّاء أن ابن عباس قرأ : مثل نور المؤمن ، فكيف يقرأ ـ رضي الله عنه ـ بما يعتقد أنّه خطأ ، ويترك ما يعتقد أنّه صواب؟!! ألا إنّها كذبة مفضوحة!! ولو أنّهم نسبوها لأبي بن كعب لكان الأمر أهون ؛ لأنّه روي في الشواذ أنّ أبي بن كعب قرأ : مثل نور المؤمن. والذي ينبغي أن تحمل عليه هذه الروايات أن أبيا ـ رضي الله عنه ـ أراد تفسير الضمير في القراءة المعروفة المتواترة ، وهي : مثل نوره. فهي روايات عنه في التفسير لا في القراءة ، بدليل أنّه كان يقرأ : (مَثَلُ نُورِهِ) (١).

__________________

(١) محمد عبد العظيم الزرقاني ـ مناهل العرفان ـ ج ١ ص ـ ٣٩٢.

٦٩
٧٠

الباب الرابع

شبهات حول تواتر القرآن ، وتفنيدها

الشبهة الأولى :

إنّ القرآن غير متواتر جميعه ، ودليل ذلك أن البسملة عند من يعتبرها قرآنا في بداية السور القرآنية لم يجر التحدي بها ، في حين أن القرآن المتحدى به هو المتواتر. فالبسملة لا يتحدى بها ، فهي غير معجزة ، ولا يتحقق فيها أنّها أصل لأحكام فكيف إذن تكون متواترة؟!!

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إن التحدي بالقرآن ليكون معجزا هو ما يكون أقله ثلاث آيات أي سورة واحدة ، والتحدي بالبسملة كقرآن إنّما يكون بإضافتها إلى آيتين أخريين ليتألف من الثلاثة قرآنا معجزا ، ومتحدى به ، وهذا متواتر في نقله وحفظه.

ثانيا : إنّ التحدي بالبسملة إنّما يتعلق بنظمها ، وبذلك تتناولها

٧١

الأحكام المعروفة بأنّ لتلاوتها ـ على اعتبار أنّها قرآن ـ الأجر الكبير ، والثواب العظيم.

الشبهة الثانية :

إن الاختلاف في قرآنية البسملة يخلخل ، ويزعزع حقيقة تواتر القرآن ومن ثم يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين ، ومن ثم يؤدي إلى تكفير بعضهم البعض. فالقول بأن القرآن وبما فيه البسملة كله متواتر يؤدي إلى تكفير من ينكرها كقرآن. والقول بأن القرآن ـ والبسملة ليست منه ـ كله متواتر يؤدي إلى تكفير من يصنفها كقرآن.

تفنيد هذه الشبهة :

إن قرآنية البسملة في بداية السور ليست متواترة ، وليست مما علم من الدين بالضرورة. وإنما مختلف في قرآنيتها ، وهي قضية اجتهادية. وكل ما كان من هذا القبيل لا يكفر منكره أو مثبته.

أما البسملة في سورة النمل : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) آية ٣٠ ، فهذه محكوم بقرآنيتها عند الجميع ، ويكفر منكرها ، وهي متواترة ، ومما علم من الدين بالضرورة.

الشبهة الثالثة :

إن إثبات تواتر القرآن بناء على حجية تواتر الدواعي لنقله ليس دليلا كافيا على تواتر القرآن. فإن تواتر الأسباب الداعية لحفظه ونقله إلى الآخرين ، لا يعتبر دليلا شافيا يستند إليه لإثبات حجية تواتر القرآن ـ ودليل ذلك السنة النبوية ـ فقد توفرت الأسباب الداعية لنقلها ، ومع ذلك فليست كلها متواترة ـ فمنها المتواترة ، ومنها خبر الآحاد. ومع أنها أصل للأحكام كالقرآن.

٧٢

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إن توافر أسباب ودواعي نقل القرآن متواترا لم يأت من ناحية أصالة الأحكام فقط ، وإنما جاء منها ، ومن نواحي الإعجاز ، والتحدي ، والتعبد بتلاوته ، وقراءته في الصلاة ، والرقية به ، والتبرك به ، وهذا كله لا يجتمع في السنة النبوية كلها ، وإنّما في بعضها ، فجاء بعضها متواترا ، وبعضها غير متواتر.

ثانيا : إن المراد بأصالة الأحكام الفرد الكامل الذي لا يوجد إلا في القرآن ؛ وذلك لأن أصالة الأحكام ، وكما يقول شيخنا الزرقاني «في القرآن ترجع الأصالة إلى اللفظ والمعنى جميعا. أما المعنى فواضح. وأما اللفظ فمن ناحية الحكم بإعجازه ، وبثواب من قرأه ، وبالوعود الكريمة والعطايا العظيمة لمن حفظه ، وبالوعيد الشديد لمن نسيه بعد حفظه ؛ ولمن مسه أو قرأه جنبا إلى غير ذلك. والسنة النبوية ليس للفظها شيء من هذه الأحكام ؛ ولذلك تجوز روايتها بالمعنى. أما معناها : فإن كان مما تتواتر الدواعي على نقله ، وجب تواتره ، وإلا فلا. ولهذا يقطع بكذب نقل الروافض ما نسبوه إلى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» من أنّه نص على أن الإمامة العظمى من بعده محصورة في علي ، وولده. وبيان ذلك : أنّه لو صح ما زعموه ، لنقل متواترا ؛ فإنّه مما تتوافر الدواعي على نقله لتعلقه بأمر يتصل بمستقبل الحكم الأعلى ، والولاية العظمى في الإسلام لجميع بلاد الإسلام» (١).

الشبهة الرابعة :

إنّ تواتر القرآن منقوض بأنّ ابن مسعود لم يوافق على مصحف عثمان بن عفان ، ودليل ذلك :

__________________

(١) الزرقاني : ـ مناهل العرفان ـ ج ١ ص ـ ٤٧٥.

٧٣

أ ـ ما رواه النسائي ، وأبو عوانة ، وابن أبي داود أن شقيق بن سلمة قال : «خطبنا عبد الله بن مسعود على المنبر ، فقال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، غلوا مصاحفكم ، (أي اخفوها حتى لا تحرق). وكيف تأمرونني أن أقرأ قراءة زيد بن ثابت ، وقد قرأت من في رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» مثله؟!».

ب ـ ما رواه الحاكم من طريق أبي ميسرة قال : «رحت ، فإذا أنا بالأشعري وحذيفة ، وابن مسعود ، فقال ابن مسعود : «والله ، لا أدفعه ـ (يعني مصحفه) ـ أقرأني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»» ، فذكره.

ج ـ إن خير بن مالك يقول : «لما أمر بالمصاحف أن تغير ، ساء ذلك عبد الله بن مسعود ، فقال : من استطاع أن يغل مصحفه (أي يخفيه حتى لا يحرق) ، فليفعل. وقال في آخره : أفأترك ما أخذت من في رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»؟!!».

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّ هذه الروايات لا تنفي تواتر القرآن ، وقراءته أبدا. ولا تدل على هذا النفي. فهي تدل على امتناع عبد الله بن مسعود عن إحراق مصحفه. وبهذا الامتناع لا ينقض تواتر القرآن في مصحف عثمان. فإنّه ليس من شرط التواتر إحراق المصاحف الأخرى ، ومنها مصحف ابن مسعود. فمن المؤكد توافر شروطها لتواتر القرآن في مصحف عثمان ، وليس منها شرط أن تحرق ما عداه من مصاحف. فإن ما جاء في مصحف عثمان كله مروي جماعة عن جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب.

ثانيا : إنّ هذه الروايات لا تفيد مطلقا أن ابن مسعود خالف ما جاء في مصحف عثمان بن عفان. والدليل على ذلك قول ابن مسعود نفسه : «وقد قرأت من في رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» مثله». فكلمة «مثله» تفيد أن زيد بن ثابت قرأ القرآن نفسه من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ودونه في مصحف عثمان.

٧٤

ثالثا : إن المصحف العثماني أجمعت الأمة على قبوله ، وتواتره ، وإنّه من الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» حتى ولو خالفه ابن مسعود أو غيره ؛ حتى وإن احتج ابن مسعود بمصحفه ، فهو ليس بحجة ؛ فقد نقل بخبر الآحاد ، ولم تجمع الأمة على قبوله. وتفيد الروايات أن ابن مسعود أحرق مصحفه أخيرا كما ورد في حديث شقيق من رواية ابن أبي داود عن طريق الزهري ، وخاصة لما علم بكره الصحابة مخالفته لعثمان بن عفان عند ما دعا إلى إحراق الصحف الأخرى ، ومنها مصحفه أي مصحف ابن مسعود.

٧٥
٧٦

الباب الخامس

شبهات حول المكي والمدني من القرآن ، وتفنيدها

الشبهة الأولى :

إنّ أسلوبي القرآن المكي ، والمدني متعارضان. فالأسلوب القرآني المكي يتسم بالعنف ، والتشدد ، والحدة ، والقسوة ، والغضب ، والوعد ، والوعيد ، والتهديد ، والترهيب ، بينما يتسم الأسلوب القرآني المدني بالليونة ، والصفح ، والسماحة ، والعفو ، والفضل ، والاستنارة.

تفنيد هذه الشبهة :

إن نظرة عقلانية فاحصة في أسلوبي القرآن المكي ، والمدني تفنّد هذه الشبهة ، وتدحض افتراءات التعارض بينهما. فالقرآن الكريم بقسميه المكي ، والمدني يشتمل على الشدة ، والعنف ، والليونة ، والصفح ، وهو في دعوته إلى الحق ، والفضيلة ، والاقتناع ، والإفحام ، والشرح ، والتوضيح ، يستخدم شواهد الحكمة والتشدد ، والعقلانية ، والتسامح في

٧٧

قسميه ؛ وهو يستخدم أسلوب الترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، والشدة والتسامح في مكيه ، ومدنيه.

أولا : فالعنف ، والشدة ، والحدة ، والقسوة ليس قصرا على القرآن المكي. فالقرآن المدني يتسم في كثير من آياته بمثل هذه الصفات والشواهد.

فقد قال تعالى في سورة البقرة ، وهي مدنية : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) آية ١٣ ـ ١٤ ـ ١٥.

وقال تعالى في سورة آل عمران ، وهي مدنية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) آية ١٠ ـ ١١ ـ ١٢.

وقال تعالى في سورة النساء ، وهي مدنية : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) آية ١٦٧ ـ ١٦٩.

ثانيا : وكذلك فإن الليونة ، والتسامح ، والصفح ليس قصرا على القرآن المدني. فالقرآن المكي تفيض آياته في الكثير من سوره بمثل هذه الصفات ، والشواهد. فقد قال تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ

٧٨

الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آية ٥٤.

وقال تعالى في سورة الأعراف ، وهي مكية : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) آية ٤٦.

وقال تعالى في سورة يونس ، وهي مكية : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) آية ٦٢ ـ ٦٤.

الشبهة الثانية :

إنّ القسمين المكي ، والمدني منقطعا الصلة.

فالقرآن المكي تتسم سوره ، وآياته بالقصر ، أما المدني فتتسم سوره وآياته بالطول.

تفنيد هذه الشبهة :

يمكننا تفنيد هذه الشبهة بأمرين اثنين.

الأول : إن القول بانقطاع الصلة بين القرآنين المكي ، والمدني استنادا إلى شواهد الطول ، والقصر أمر تنقصه الدقة ، ويحتاج إلى دليل. ونحن نسأل : متى كان الطول والقصر معيارا صحيحا في الحكم على نظم أعظم كتاب ، وأعجز فرقان ، إلا أن يكون السوء في النية ، والتطاول في الكفر ، والتمادي في الباطل؟!!.

ومع الإقرار بصفة القصر للمكي ، والطول للمدني ، فإننا لا نشعر

٧٩

بأي تفاوت أو انقطاع بينهما بل بكمال الصلة ، والتناسق ، وجمال الانسجام ، وانتظام الأحكام.

ولو كان الأمر كما يدّعون ، لما غاب ذلك عن أئمة الفصاحة والبيان من العرب ؛ والذي نزل فيهم ، وتحداهم فلم يجرءوا ـ وعلى تماديهم في التحدي ـ على القول بانقطاع الصلة بين قسميه المكي والمدني. وعلى العكس من ذلك ، فقد شهدوا له بقسميه المكي ، والمدني بمراعاة قانون التحكم في قواعد البلاغة ، والتناسق في السرد ، والتلاوة ، والانتظام في النظم ، والأسلوب ؛ وهو ينتقل من المكي إلى المدني بالنسبة للسور ، ومن الآيات المكية في السور المدنية ، والآيات المدنية في السور المكية بالنسبة للآيات.

وما القصر للمكي ، والطول للمدني إلا شاهد بياني ، وبلاغي في أسلوب المخاطبة ، والتناسب مع الأحوال. فأهل مكّة اتسموا بالتمتع ، والتشدد ، والغلظة ، والصلافة ، فكان أسلوب الزجر المتسم بشواهد القصر مناسبا لهم. وعلى العكس من ذلك فأهل المدينة اتسموا باللين ، والسماحة ، والقبول ، فكان أسلوب الإطناب ، والإسهاب المتصف بشواهد الطول مناسبا لهم. وهذه غاية التناسق ، والتناسب في التخاطب. وهكذا اقتضت شواهد التناسب في المخاطبة مع الأحوال أن يأتي القرآن المكي في معظمه موجزا قصيرا ، والمدني في معظمه طويلا مطنبا.

الثاني : إن القول بقصر المكي ، وطول المدني ليس مقبولا على إطلاقه بل هو على الغالب ، ولذا فقد احتوى القسم المكي على سور طويلة كسورة الأنعام ، وقد احتوى القسم المدني على سور قصيرة كسورة النصر. ولو كان القول بقصر المكي ، وطول المدني على الأكثر والأغلب ، لكان صحيحا ، ونحن نسلم به. أما القول بذلك على الإطلاق ، فلا يمكن قبوله ؛ وخاصة أن هذا مصحوب بسوء النية ، والافتراء على القرآن ، والكافر لا يعدم الوسيلة ، ولو اتّصفت بالتفاهة ، والسفاهة للنيل من قرآن ربنا ؛ قرآننا.

٨٠