شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

مبعدا لم ير ما يهوى من الكلال ، والإعياء» (١). وقال الإمام القرطبي : «أي اردد طرفك ، وقلب بصرك في السماء (كرتين). أي مرة بعد مرة أخرى ، يرجع إليك البصر خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك العيب والخلل : وإنما أمر بالنظر كرتين ؛ لأنّ الإنسان إذا نظر في الشيء مرة ، لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى. والمراد بالكرتين التكثير بدليل قوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ). وهو دليل على كثرة النظر» (٢).

ولنا القول أيضا : وعند ما يقول الله تعالى في كتابه : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) سورة الذاريات آية ٢١. فهو يشير كما يقول ابن عباس : «إلى اختلاف الصور ، والألسنة ، والألوان ، والطبائع ، والسمع ، والبصر ، والعقل ، إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم» (٣). وكما يقول قتادة : «من تفكر في خلق نفسه ، عرف أنّه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة» (٤). ومما لا شك فيه أن دلائل هذه العظمة الإلهية في الخلق للنفس الإنسانية تتجلى واضحة جلية ضمن تناسق شواهد التوافق في خلقها ، والاختلاف في صورها ، وألسنتها ، وألوانها ، وطبائعها ، وغيرها من صور بدائع خلقها. ولذلك لا ترى في حقيقة خلقها أي تناقض ، أو خلل ، أو نقص ، أو زيادة.

أ ـ فالقرآن الكريم ، وهو يتكلم عن توافق شواهد خلق النفس ، وفي جميع أطوارها ومراحلها ، فهو يصدق هذه الحقيقة. فحقيقة خلق أطوار آدم هي نفسها حقيقة خلق أطوار كل نفس سواء أكانت أطوار الجنين ، أو أطوار الخلق ما بعد الولادة. مصداق قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) سورة نوح آية ١٤. فكل نفس آدمية خلقت أطوارا ، ومرت

__________________

(١) الإمام الفخر الرازي ـ التفسير الكبير ـ ج ٣٠ ص ٥٨.

(٢) الإمام القرطبي ـ التفسير ـ ج ١٨ ـ ص ٢٠٩.

(٣) الإمام الخازن ـ التفسير. ج ٤. ص ٢٠٣.

(٤) الإمام الخازن المرجع السابق نفسه.

٣٤١

في خلقها بنفس مراحل خلق آدم في الرحم. من نطفة ، إلى علقة ، إلى مضغة ، إلى عظام إلى لحم.

قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) سورة المؤمنون الآيات ١٢ ـ ١٤.

وكل نفس أيضا خلقت أطوارا ، ومرت في خلقها بمراحل خلق آدم نفسها بعد الولادة : من طور الطفل إلى طور البلوغ إلى طور الشيخوخة. مصداق قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) سورة غافر آية ٦٧.

ب ـ والقرآن الكريم ، وهو يتكلم عن اتساق حقيقة اختلاف النفس في ألسنتها ، وصورها ، وألوانها ، فهو يصدق هذه الحقيقة. مصداق قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) سورة الروم آية ٢٢. وبذلك جعل الله حقيقة هذا الاختلاف في الخلق للنفس البشرية دلالة إعجازه ، وقدرته في الخلق تؤيدها مكتشفات العلم في كل عصر. ومنها حقيقة خلق البنان أي الأصبع حيث ثبت علميا اختلاف تركيب ، وخيوط ، ودقائق كل إصبع عن الآخر. وبذلك يتخذ العلماء منه دليلا للتعرف على صاحبه. وصدق ربنا ، وهو خير الصادقين ، إذ يقول : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) سورة القيامة آية ٤.

وهذه سنة الله في خلقه ، وآياته ، وحقائقه ، وكتبه ، ورسله ، وعلومه ، لا تجد فيها ولا تجد في أعظم كتاب أحاط بها قرآنه الكريم لا تجد فيه تناقضا ، أو اختلافا ، أو تفاوتا. وهذه سنة الله تشهد على كتاب الله بالكمال ، والسمو ، وتؤصله ليكون دستور البشرية في الهداية ، والاستقامة ، والعيش ، والحياة ذخرا لنا في حياتنا ، وآخرتنا ؛ فلا مناص

٣٤٢

لنا ، وللبشرية جمعاء من التمسك به ، والعمل به ، فلا مجال بإبعاده عن حياتنا ، أو فصله عن دنيانا. وهذه سنة الله في هدايتنا ، وصلاحنا ، وبكتاب ربنا.

وصدق ربنا ، وهو يقول : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) سورة الأحزاب آية ٦٢ ، وسورة الفتح آية ٢٣. وصدق ربنا ، وهو يقول : (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) سورة الإسراء آية ٧٧. وصدق ربنا ، وهو يقول : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) سورة فاطر آية ٤٣. وصدق رسولنا ، وهو يقول : «من ابتغى الهدى في غيره ، أضله الله» فهذا كتاب اقتضت المشيئة الإلهية له الخلود ، فكيف يريدون له عدم الخلود؟!! وهذا قرآن اقتضت العناية الإلهية له عدم التحريف ، والتصحيف ، أو التغيير ، أو التبديل ، أو الضياع ، أو الاندثار ، فكيف يريدون له الضياع ، والاندثار؟!.

وهذا فرقان اقتضت الإرادة الإلهية له العزة في الحق ، والهداية ، فكيف يريدون له التجاهل ، والإبعاد ، والابتعاد ، والبطلان؟!!.

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) الآيتان ٤١ ـ ٤٢.

وهذا فرقان باركته العناية الإلهية ليكون للعالمين نذيرا ، فكيف يريدون أن يفصلوه عن حياتهم ، ويبعدوه عن معايشهم ، وشئونهم؟! (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) سورة الفرقان آية ١.

الشبهة الثانية :

فصل القرآن عن الدولة ، أي فصل الدين عن الدولة.

وحجة أصحاب هذه الشبهة تتمثل في أنّ القرآن كتاب ديني ، والإسلام دين روحي ، وهو مجرد رسالة دينية روحية ، ولا علاقة بالقرآن أو الإسلام بالدولة ، والسياسة ، والسلطان. وهم يستندون في حجتهم إلى

٣٤٣

أنّ القرآن الكريم لم ينص على إقامة الدولة ، ولم يجعلها ركنا ، أو أصلا من أصول الدين. والقرآن الكريم لم يتكلم عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كرئيس دولة ، أو ملك ، أو زعيم ، أو رجل سياسة ، وإنما ذكره كنبي ، ورسول ، أي رجل دين. ومنطلق أصحاب هذه الشبهة هو ما أثاره المرحوم الشيخ علي عبد الرزاق من ١٨٨٧ م ـ ١٩٦٦ م في كتابه «الإسلام ، وأصول الحكم» ، ومن حمل لواءه من بعده من الإعلاميين أمثال دكتور محمد أحمد خلف الله ، وسلامة موسى ، وغيرهم ، من أن الرسول محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يكن ملكا ، أو مؤسس دولة ، أو رئيسا لدولة.

ولقد ذكر الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي أصدره في آبريل سنة ١٩٢٥ م «أنّ محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ما كان إلّا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين ، لا تشوبها نزعة ملك ، ولا حكومة. وأنّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ، ومرادفاتها. ما كان إلّا رسولا كإخوانه الخالين من الرسل ؛ وما كان ملكا ، ولا مؤسس دولة ، ولا داعيا إلى ملك» (١). وذكر دكتور محمد أحمد خلف الله كبير العلمانيين في هذا العصر ، وفي مقال له بعنوان : «النص والاجتهاد ، والحكم في الإسلام» نشره في مجلة العربي الكويتية ما نصه : «إن القرآن الكريم لم يجعل النبي العربي محمد بن عبد الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ملكا ، أو رئيس دولة. وظل ينعته بالنبي الرسول ، وليس من حقنا بأي حال من الأحوال أن نلتزم بغير ما جاء به القرآن الكريم ، ونستبدله بغيره. لم يكن نبي الإسلام في أي وقت من الأوقات ملكا ، أو رئيس دولة ، وإنما ظل دائما النبي الرسول» (٢).

وذكر سلامة موسى في كتابه : «اليوم والغد» الذي نشره سنة

__________________

(١) علي عبد الرزاق. كتاب : الإسلام وأصول الحكم. طبعة بيروت. سنة ١٩٧٢ م. ص ١٥٤.

(٢) د. محمد أحمد خلف الله : مقاله في مجلة العربي الكويتية. عدد ٣٠٧ رمضان سنة ١٤٠٤ ه‍. يونيو سنة ١٩٨٤. ص ٤٣.

٣٤٤

١٩٧٩ م ما يفيد بإنكاره للدين ، وعلاقته بالدولة ، وبأنّ الرابطة الدينية أصلها كاذب. وجاء قوله بالحرف الواحد : «إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة ؛ لأنّها تقوم على أصل كاذب ، فإن الرابطة الدينية وقاحة. فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا .. ونحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان ؛ وحكومة ديمقراطية برلمانية كما هي في أوروبا ؛ وأن يعاقب كل من يحاول أن يجعلها مثل حكومة هارون الرشيد ، أو المأمون ، أو أتوقراطية دينية ... وكلما ازددت خبرة وتجربة ، وثقافة ، توضحت أمامي أغراضي ... يجب علينا أن نخرج من آسيا ، وأن نلتحق بأوروبا ؛ فإني كلما زادت معرفتي بالشرق ، ازدادت كراهيتي له ، وشعوري بأنه غريب عني. وكلما زادت معرفتي بأوروبا ، زاد حبي لها ، وتعلقي بها ، وزاد شعوري بأنها مني ، وأنا منها. وهذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سرا ، وجهرا ، فأنا كافر بالشرق ، مؤمن بالغرب» (١).

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إن القرآن الكريم أوجب إقامة الدولة الإسلامية حكما وفرضا ، وإن لم يذكرها نصا ، ولفظا. فقد أوجبها بذكره لوظائفها ، ونصه على واجباتها. فقد أوجب فرائض ، وتكاليف دينية ، ودنيوية كثيرة ، وأوكل تنفيذها ، وإقامتها إلى الدولة ، والحاكم ، وجعل أداءها ، وقيامها من أساسيات الوظائف العامة للسلطة ، والسلطات الحكومية. إن القرآن الكريم جعل أداء الواجبات الدينية منوطا ، ومتعلقا بوجود الدولة. فالواجب الديني يقتضي واجبا مدنيا هو الدولة. ووجوب الدولة إسلاميا يعود إلى أنها مما لا سبيل إلى أداء الواجب الديني إلا به. وكل ما لا

__________________

(١) سلامة موسى : كتاب : اليوم والغد. القاهرة سنة ١٩٢٧ م. انظر النص في : د. محمد محمد حسين : الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر. ص ٢١٢ ـ ٢١٥ ـ القاهرة ـ سنة ١٩٨٠ م.

٣٤٥

يتم الواجب إلّا به ، فهو واجب. ومن هنا ، ومن أجل إقامة شعائر الدين ، أوجب الدين إقامة الدولة ، والسلطة ، وأوجب الإسلام وجود السلطان ، والحاكم.

فالقرآن الكريم لم يفرض على المسلمين إقامة الدولة الإسلامية كواجب ديني ، ولكن فرض عليهم من الواجبات الدينية ما يستحيل القيام به والوفاء بحقوقه إذا هم لم يقيموا دولة الإسلام. بل وألزمهم بالنسبة لذلك إطاعة الحاكم ، والسلطان ، وتنفيد أوامر الدولة. مصداق قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) سورة النساء آية ٥٩.

وبالمقابل أوجب على الحاكم ، والسلطان القيام بأمانة أداء الواجبات الموكولة إليه ، وفي ما يتعلق بأمور الدين ، والدنيا معا .. مصداق قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) سورة النساء آية ٥٨.

وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : «فوجود «ولاة للأمر» يجب عليهم أداء الأمانات إلى المحكومين ... ووجود رعية تجب عليها طاعة «ولاة الأمر» هؤلاء ، هي فرائض دينية لا سبيل إلى الوفاء بها إذا غابت الدولة من عالم المسلمين ، والإسلام .. وهذه الدولة ليست مطلق دولة من حيث النهج الذي تلتزمه ، والشرع الذي تحتكم إليه ، وإنما هي «الدولة الإسلامية» ، لأنّها هي وحدها الكافلة لإقامة الواجبات الشرعية الإسلامية التي لا تقوم ، ولا تقام إلّا بهذه الأداة ... وهكذا نجد أن «الدولة» ـ رغم أنّها ليست فريضة قرآنية ، ولا ركنا من أركان الدين ـ إلّا أنّه لا سبيل في حال غيابها إلى الوفاء بكل الفرائض القرآنية الاجتماعية ، والواجبات الإسلامية الكفائية التي يقع الإثم بتخلفها على الأمة جمعاء ، والتي كانت ـ لذلك ـ آكد من فروض الأعيان .. فوجوب «الدولة» إسلاميا راجع إلى أنّها مما لا سبيل إلى أداء الواجب الديني إلّا به ..

٣٤٦

ومن هنا تأتي علاقتها وعلاقة السياسة بالدين في نهج الإسلام ... إنّها واجب مدني اقتضاه ويقتضيه «الواجب الديني» الذي فرضه الله على المؤمنين بالإسلام» (١).

ثانيا : إن إقامة الدولة الإسلامية أمر ضروري ، وواجب شرعا وعقلا ، وإن لم يذكرها القرآن كركن أو أصل من أصول الإسلام. فالدولة الإسلامية واجب أمرها شرعا ، أو عقلا.

وهذه حقيقة متفق عليها من قبل أئمة المسلمين ، وإن خالفهم القلة منهم : كأبي بكر الأصم من المعتزلة ٢٧٩ ه‍ ـ ٨٩٢ م ، والنجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي ٣٦ ه‍ ـ ٥٩ ه‍ ـ ٦٥٦ ٦٨٨ م من الخوارج. وكما يقول الجاحظ مبررا قيامها : «اتفاق المسلمين على ضرورة الدولة ، ووجوبها شرعا أو عقلا ؛ أو للاعتبارين ؛ لأن الناس يتظالمون فيما بينهم بالشره ، والحرص المركب في أخلاقهم ؛ فلذلك احتاجوا إلى الحكام» (٢).

وكما يقول الإمام الماوردي : «ولأن الإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه ، واستعانته صفة لازمة لطبعه ، وخلقة قائمة في جوهره» (٣).

وكما يقول أيضا : «ولأن صلاح الدنيا معتبر من وجهين : أوّلها : ما ينتظم به أمور جملتها. والثاني : ما يصلح به حال كل واحد من أهلها» (٤).

ولذلك فإن لم تكن الدولة ركنا من أركان الدين ، أو أصلا من أصوله ، فإن هذا لا يعني أنها غير ضرورية ، أو أنّ إقامتها ليس ضروريا.

__________________

(١) شيخ الإسلام ابن تيمية : كتاب : منهاج السنة النبوية ـ ج ١ ص ٧٠ وما بعدها ، القاهرة ـ سنة ١٩٦٢ م.

(٢) الجاحظ ج ١ ص ١٦١. تحقيق عبد السلام هارون ـ القاهرة. ١٩٦٤.

(٣) الماوردي ـ أدب الدين والدنيا ـ ص ١٣٢ وص ١٣٤ تحقيق مصطفى السقا. القاهرة ـ سنة ١٩٧٣ م.

(٤) الماوردي ـ أدب الدين والدنيا ـ ص ١٣٢ وص ١٣٤. تحقيق مصطفى السقا. القاهرة ـ سنة ١٩٧٣ م.

٣٤٧

وإن لم تكن الدولة واجبا دينيا ، فهي واجب مدني ، وضرورة مدنية يتوقف على حقيقتها ، ووجودها أداء الواجبات الدينية. فمن الاستحالة قطع العلاقة بين الضرورة المدنية ، والواجب الديني ، ومن العسير فصم العلاقة بين الدولة ، وبين الدين ، فهما متلازمان أبدا. ولا تستقيم شرعا ، وعقلا دعاوى العلمانيين بالفصل بينهما. وكما يذكر الإمام الماوردي : فصلاح الدنيا لا يستقيم إلّا بما ينتظم أمور جملتها ، وإلّا بما يصلح حال كل واحد من أفرادها. وصلاح الدنيا من صلاح الدين ، وكلاهما متعلق أمر تنفيذه ، والقيام بشواهده ، ومعالمه بوجود الدولة ، ينفذ سياستها في الإصلاح الحاكم أو المسئول أو الخليفة أو أمير المؤمنين. وحتى الواجبات الدينية في ذاتها يتعلق أمر القيام بها بالحاكم ، أو الوالي ، أو رئيس الدولة : كجمع الزكاة من أصحابها ، ومصادرها ، ووضعها ، وصرفها في مصارفها ؛ والقصاص ، وما يقتضيه من إجراءات في الإثبات ، وشهادة الشهود والإقرار ، ورعاية المصالح العامة الإسلامية على النحو الذي يحقق النفع ، ويمنع الضرر عن الجميع ؛ وتنظيم أمر الشورى ، وإقامة حكمه ؛ والقيام بإدارة المرافق ، وإقامة الحدود ، ونشر العلم ؛ وإشباع الحاجات ، وتحقيق مقاصد الشريعة ، وهي الضرورات الخمس ... إلخ.

وبذلك فإن ضرورة ، وحتمية وجود الدولة الإسلامية ، يستدعي إقامتها ، وإن لم تكن أصلا أو ركنا من أركان الدين. ولم يقل أحد بذلك ، وبالمقابل لم يقل أحد إنّها غير ضرورية. ولنا أن نستأنس بقول شيخ الإسلام ابن تيمية ٦٦١ ـ ٧٢٨ ه‍ ـ ١٢٦٣ ـ ١٣٢٨ م. «والدولة ـ الإمامة ـ الخلافة ليست ركنا من أركان الإيمان الستة ، وهي : الإيمان بالله ، والملائكة ، والكتب ، والرسل ، واليوم الآخر ، والقدر ...».

وكما يقول أيضا : «ولا ركنا من أركان الإحسان التي يجمعها : أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه ، فإنّه يراك». وكما يقول أيضا : «ولم يقل أحد من هؤلاء الأعلام : إنّ الوحي القرآني قد فصل للدولة الإسلامية نظاما ؛ ولا أن الله قد أوجب على رسوله في القرآن إقامة

٣٤٨

الدولة كما أوجب إقامة أركان الإسلام ، وفرائض الدين ، وأصول الاعتقاد. فالدين وضع إلهي ، وهو في الرسالة الخاتمة قد اكتملت أركانه وعقائده ، وأصوله ، وشريعته في القرآن الكريم الذي لم تشتمل آياته على نظام للحكم ، ولا تشريع للدولة ، ولا تفصيل للحكومة التي يزكيها كي تسوس مجتمع الإسلام».

وكما يذكر : «وبالطبع فليس بين أهل الإسلام من يعتقد أن هذا السكوت القرآني عن تفصيل شأن الدولة ، ونظام الحكم السياسي راجع إلى السهو ، أو القصور أو التقصير. فحاشا لله ، وتنزه سبحانه. لكن الذي يعتقده المسلمون هو أن القرآن ـ ذلك الكتاب لا ريب فيه ـ لما كان كتاب الرسالة الخاتمة ، فإنه قد وقف عند النهج ، والمقاصد ، والغايات ، والفلسفات في كل ما يتصل بالأمور التي هي محل ، وموضوع للتغير ، والتطور الذي هو قانون طبيعي ، وسنة من سنن الله في الكون الذي أبدعه ويرعاه. ومن هذه الأمور إقامة الدولة الإسلامية ، وقيادة الأمة ، وسياسة المجتمعات» (١).

ولنا أن نؤكد : أن القرآن ، وإن لم يذكر الدولة ، ويصنفها ضمن الأركان ، والأصول ولكنه لم ينف ضرورتها. بل أصّل هذه الضرورة من خلال تأصيله لواجباتها ، وأساس وظائفها ، وعلى رأسها الدينية. وكذلك ، وإن لم يحدد شكلا معيّنا ، أو قانونا جامعا للسياسة ، والإدارة ، لكنه لم يهمل ذلك كلية. فبعد استيفائه لذكر الثوابت ، وانتقاله للمتغيرات كنظام الحكم ، فقد وقف عند تحديد المقاصد ، والفلسفات ، والغايات ؛ والتي صاغها في صورة مثل عليا ، ووصايا ، وكليات ، وأطر حاكمة ومرنة ، وما سكت عنه هي النظم ، والنظريات ، والقوانين حيث تركها للعقل ، والتجربة ، والتقنين ، لنهتدي بهذه الأمثلة على درب الخلق ، والإبداع ، والإضافة ، والتجديد في ميادين الحكم ، والسياسة. ولنا أن

__________________

(١) ابن تيمية. منهاج السنة النبوية. ج ١ ص ٧٢٧٠. المرجع السابق.

٣٤٩

نؤكد ثانية : إن عدم ذكر القرآن للدولة كركن أو أصل من أصول الدين ، لا يعني أبدا انقطاع أو انتفاء العلاقة بينهما ؛ ولا ينفي ضرورتها وحتميتها.

ولنا أن نستأنس في هذا بقول حجة الإسلام الغزالي : «ومع اتفاق علماء الإسلام على ضرورة الدولة ، ووجوبها ، فإنهم قد اتفقوا ـ خلا الشيعة الإمامية ـ على أنها من الفروع ، وليست من أصول العقائد ، ولا من أركان الدين فهي واجب مدني اقتضاه الواجب الديني المشتمل على تحقيق الخير للإنسان في هذه الحياة» (١).

ثالثا : إنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أقام الدولة الإسلامية الأولى ، وجعل دستورها القرآن ، ونظامها الإسلام. وهذا يفند الزعم بفصل القرآن عن الدولة.

وبذلك فإن إقامة السنة النبوية العملية لأوّل دولة سياسية تحكم بشريعة القرآن يدحض القول : بوجوب فصل القرآن عن الدولة ، أو الدين عن الدولة.

ويرد كيد العلمانيين ، وأسيادهم الحاقدين على كل ما هو إسلام ، أو قرآن ، وهم قد فقدوا كل حجة في زعمهم أن الإسلام دين روحي ، وأن القرآن كتاب ديني ، وليس حياتيا ، وأن منهجه فقط منهج تعبد ، وليس منهج دولة ، أو سياسة.

فالرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أقام الدولة ، وأسس بنيانها على عقد شرعي ، وجعل دستورها القرآن ؛ ومنهجها أحكام الحلال ، والحرام ؛ ونظامها الإسلام. وهو بذلك أقام كيانا سياسيا ، ودولة جديدة اكتملت معالمها ، وأركان

__________________

(١) الغزالي. الاقتصاد في الاعتقاد. ص ١٣٤. دون تاريخ. وفيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة طبعة القاهرة سنة ١٩٠٧ ، ص ١٥. والإمام الجويني ـ الإرشاد. القاهرة ـ ١٢٥٠. ص ٤١٠. والشهرستاني : نهاية الإقدام. ص ٤٧٨. والجرجاني : شرح المواقف. ج ٣ ص ٢٦١ القاهرة ـ سنة ١٣١١ ه‍.

٣٥٠

حكومتها ، وأدوات ولايتها ، ودوائر سلطاتها ، وأجهزة قسماتها ، وسلطنة عمالتها ، وولاية عمالاتها ، ومظاهر علاقتها ، وتقسيمات أقاليمها ، ومهمات أمرائها ؛ فكانت دولة إسلامية بحق ، لها معالمها ، ومقوماتها. ونشأت كدولة مدنية ترعى شئون الدين ، والدنيا ، والدينية ، والمدنية معا. وإذا كانت أحداث الحروب ، والغزوات ، والسرايا ، والبعوث قد ملأت كتب ومصادر السنة ، ومراجع التاريخ ، فإن هذا لا يعني أنّها خلت من الكلام أو ذكر معالم هذه الدولة ؛ ولو أنّها جاءت متناثرة مفرقة بين ، وعلى صفحات هذه المصادر ، والمراجع. ولقد قيّض الله لهذه الأمة من العلماء ، من جعل شغله الشاغل في السيرة النبوية الكلام عن المعالم الأساسية ، والمقومات الأصلية للدولة النبوية ، وعلى رأسهم الإمام الخزاعي أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن موسى بن مسعود بن أبي غفرة الخزاعي ٧١٠ ـ ٧٨٩ ه‍ ١٠٢٦ ـ ١١٠٣ م. حيث أشار في كتابه «تخريج الدلالات السمعية» إلى معالم ، وأركان ، ودوائر ، ووظائف ، وأدوات ، وقسمات دولة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ؛ فجاء كتابه هاما ، ومفيدا ، ومن أهم مراجع التراث الإسلامي الأول (١).

١ ـ وبالنسبة لعقد التأسيس : فقد تم بين الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وبين قادة الأوس ، والخزرج ، وممثليهم الذين التقوا به في موسم الحج ذلك العام. فكانت بيعة العقبة عقدا سياسيا ، وعسكريا ، واجتماعيا ، وشرعيا حقيقيا لا مفترضا ؛ تأسس بناء عليه أول دولة إسلامية في التاريخ العربي والإسلامي. وقد تمت هذه البيعة بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وبين خمس وسبعين من وجوه الأوس ، والخزرج بينهم امرأتان هما : نسيبة بنت كعب ، وأسماء بنت عمرو بن عدي. وقد تضمنت بنود العقد التأسيسي أهم شواهد إقامة الدولة : مكانها يثرب ؛ ورئيسها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» طيلة حياته ؛ وقيادتها الأولى

__________________

(١) أنظر خلاصة هذا الكتاب في : الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي ـ ج ٤ ص ٤٨١ وص ٧٦٥. وكذلك كتاب : نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني ج ١ ج ٢. طبعة بيروت ـ دار الكتاب العربي.

٣٥١

اثنا عشر نقيبا أنصاريا يكونون مجلس مستشاري الحكومة النبوية وينتخبون من قبل جمعيتها التأسيسية ، وهم أصحاب بيعة العقبة الخمس وسبعين حيث قال لهم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم» فاختاروا تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس (١).

وقد لخص عقد التأسيس معالم العلاقة بين أطرافه : بين رئيس الدولة ، وبين أعضاء الجمعية التأسيسية ؛ والتي تشير إلى حماية الجمعية التأسيسية لقائد الأمة ، ويمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم ، ونساءهم وأبناءهم. وقال لهم : «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفلة الحواريين لعيسى بن مريم. وأنا كفيل على قومي».

وتذكر كتب السيرة النبوية عن معالم عقد التأسيس هذا ـ بيعة العقبة ـ ، قال كعب بن مالك : فلما اجتمعنا في الشعب ، ننتظر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، جاءنا ، ومعه العباس بن عبد المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه إلّا أنّه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويستوثق له ـ فلما جلس كان أول متكلم قال : يا معشر الخزرج ، إنّ محمدا منا حيث علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه ؛ فهو في عزمة من قومه ، ومنعة في بلده ، وإنّه قد أبى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم ، وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه ، وخاذلوه بعد الخروج إليكم ، فمن الآن فدعوه ؛ فإنّه في عزة ، ومنعة من قومه ، وبلده. قال كعب : فقلنا له : قد سمعنا ما قلت ، فتكلّم يا رسول الله؟ فخذ لنفسك ، وربك ما أحببت. فتكلم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فتلا القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغّب في الإسلام ثم قال : «أبايعكم على أن تمنعوني منه نساءكم وأبناءكم». قال كعب : فأخذ البراء بن معرور بيده ، وقال : نعم.

__________________

(١) رفاعة الطهطاوي ـ الأعمال الكاملة ـ ج ٤ ص ١٥٩ ـ ١٦٠ ـ دراسة وتحقيق د. محمد عمارة ـ بيروت ١٩٧٧ م.

٣٥٢

فو الذي بعثك بالحق ، لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله؟ فنحن ـ والله ـ أبناء الحروب ، ورثناها كابرا عن كابر. فقال أبو الهيثم بن التيهان ، يا رسول الله ، إنّ بيننا ، وبين الرجال ـ اليهود ـ حبالا. وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك ، وتدعنا!! قال : فتبسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ثم قال : «بل الدم الدم ، والهدم الهدم. أنا منكم ، وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم (١). بمعنى : أفاديكم بدمي إن أحل أحد دمكم ، وبمنزلي إن حاول أحد أن يهدم منازلكم. بمعنى : أفاديكم بروحي ، وحياتي ، وما أملك.

وقد تضمن التأسيس دين الدولة ، وأركان الإيمان ، وشواهد الإسلام. وهذا ما يتجلى دائما في لقاءات وبيع الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : كبيعة العقبة الأولى ؛ حيث تذكر كتب السيرة النبوية عن عبادة بن الصامت قوله : «بايعنا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ليلة العقبة الأولى : أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف. قال الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «فإن وفيتم ، فلكم الجنة ؛ وإن غشيتم من ذلك شيئا ، فأخذتم بحده في الدنيا ، فهو كفارة له ؛ وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله ؛ إن شاء عذب ، وإن شاء غفر» (٢).

هذا هو رسولنا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وهذه هي عقوده ، وبيعه. وهذه هي أسس دولته ، أقامها على الشرعية في التأسيس ، والوفاء بالعقد ، والالتزام بالإسلام في الحكم ، والإيمان في العمل.

٢ ـ وأما بالنسبة للدستور : فقد جعله الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» مستندا إلى القرآن الكريم في تنظيمه لعلاقات الرعية السياسية. منها ما يتعلق بالله تعالى ، ومنها ما يتعلق بالمؤمنين فيما بينهم ، ومنها ما يتعلق بعلاقاتهم

__________________

(١) الشيخ محمد الغزالي. فقه السيرة. ص ١٥٨. طبعة دار الكتب الحديثة ـ القاهرة ١٩٧٦.

(٢) محمد الغزالي ـ المرجع الآنف الذكر. ص ١٥٥.

٣٥٣

مع غيرهم. وبلغت مواده خمسين بندا تناولت أهم أمور الدولة ، والحقوق ، والواجبات ، وفي السلم والحرب.

أ ـ فبالنسبة لعلاقة الرعية بالله تعالى ـ فقد جعل منطلقها المسجد حيث بناه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في مكان بركت فيه ناقته يملكه غلامان في كفالة أسعد بن زرارة في المدينة المنورة. وجعل الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» من المسجد منطلق عمل الرعية بدستور الإسلام ، تنظم أوّل ما تنظم بنوده علاقة الإخلاص مع الله تعالى. وكان فيما يقوله لهم ما روى البيهقي عن عبد الرحمن بن عوف قال : «كانت أوّل خطبة خطبها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بالمدينة أن قام فيهم ، فحمد الله ، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : «أمّا بعد : أيها النّاس ، فقدّموا لأنفسكم ، تعلمنّ والله ، ليصعقنّ أحدكم ، ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه ـ ليس له ترجمان ، ولا حاجب يحجبه دونه ـ : ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالا ، وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فينظر يمينا ، وشمالا ، فلا يرى شيئا ، ثم ينظر قدامه ، فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي نفسه من النار ، ولو بشق تمرة ، فليفعل. ومن لم يجد ، فبكلمة طيّبة ؛ فإن بها تجزى الحسنة عشرا أمثالها إلى سبعمائة ضعف. والسلام عليكم ، وعلى رسول الله ...» (١).

ب ـ وبالنسبة لعلاقة الرعية فيما بينهم : فقد وثق رباط المؤاخاة فيما بينهم فكانوا عباد الله إخوانا. تفننوا في تطويع هذه العلاقة لبنود الدستور ، وما تقتضيه من ظواهر الإخلاص ، والحب ، والأثرة ، والتعاون ، والمعاونة ، والإحسان. حتى جعل الأنصاري منهم يتنازل عن أهم ما يملك من مال أو زوجات لأخيه المسلم المهاجر. وقد جعلت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة في توارث التركات إلى موقعة «بدر» حتى نزل قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة الأنفال آية ٧٥. فألغى التوارث بعقد الأخوة ،

__________________

(١) محمد الغزالي ـ فقه السيرة ـ ص ١٩١.

٣٥٤

ورجع إلى ذوي الرحم. وقد آخى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» من بينهم : حمزة مع زيد ؛ وأبو بكر مع خارجة. وعمر مع عتبان بن مالك ؛ وعبد الرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع. وتذكر كتب السيرة أن سعد بن الربيع الأنصاري قال لأخيه عبد الرحمن بن عوف المهاجر : «إني أكثر الأنصار مالا ، فأقسم مالي نصفين ، ولي امرأتان ، فانظر أعجبهما إليك! فسمها لي ، أطلقها فإذا انقضت عدتها ، فتزوجها. قال عبد الرحمن بن عوف : بارك الله في أهلك ومالك ، أين سوقكم؟» (١). واستنادا إلى هذا الدستور يتحرك الفرد بروح الجماعة ، ومصلحتها ، وآمالها ؛ كيانه من كيانها ، ومصلحته من مصلحتها ، وسعادته من سعادتها.

ج ـ وبالنسبة لعلاقة الرعية المؤمنة مع غيرها كفلها الدستور ضمن مظاهر الوفاء ، والند للند. وكفل الدستور حرية الاعتقاد ، والدين للجميع تطبيقا ، وعملا بالحكم الرباني في القول الرباني : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) سورة البقرة آية ٢٥٦.

وقد نظم الدستور علاقة من بقي على دينه مع الدولة الإسلامية ، وأدخلهم كجزء من رعيته السياسية ، وأبقى لهم حرية الاعتقاد الديني. ثم نظم حقوق ، وواجبات الرعية من مؤمنين ، وغير مؤمنين. وكذلك علاقات الدولة الإسلامية مع غيرها من الجماعات والدول زمن السلم ، وزمن الحرب. وقد أطلق المؤرخون على هذا الدستور اسم الصحيفة مرة ، والكتاب مرة أخرى. وسمي أهلها أهل الصحيفة مرة ، وأهل الكتاب مرة أخرى.

وقد جعل القرآن حكم الجميع فيما اختلفوا فيه ؛ فهم رعية دولته الإسلامية. فنصت الصحيفة على مادة تقول : «وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث ، أو اشتجار يخاف فساده ، فإنّ مرده إلى الله ، وإلى محمد رسول الله» (٢).

__________________

(١) محمد الغزالي ـ فقه السيرة ـ ص ١٩٢.

(٢) انظر هذه الصحيفة في أمهات كتب السيرة. مثل : النويري : نهاية الأرب. ج ـ

٣٥٥

وبالنسبة للمؤمنين من الرعية السياسية فمرجعهم القرآن مصداق قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) سورة النساء آية ٥٩. وقد ذكر ابن إسحاق ما ورد في الوثيقة التي تنظم علاقات الدولة الإسلامية مع رعاياها من اليهود ، والوثنيين ، والتي جاءت تحت معاني التسامح ، والتلطف ، والمعاونة. وجاء فيها : «وإن يهود بني عوف أمّة من المؤمنين ؛ ولليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ؛ وأن ليهود بني النجار ، والحارث ، وساعدة ، وبني جشم ، وبني الأوس مثل ما ليهود بني عوف ، وأن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم. وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصح ، والنصيحة ، والبر دون الإثم. وأنّه لم يأثم امرؤ بحليفه. وأن النصر للمظلوم ؛ وأن الجار كالنفس غير مضار ، ولا آثم. وأن بينهم النصر على من دهم يثرب. وأنّ من خرج آمن ، ومن قعد بالمدينة آمن إلّا من ظلم .. وأن الله جار لمن بر ، واتقى» (١). وغيرها من البنود الأخرى في الدستور ، والتي تجمع كلها على مضامين التعاون ، والتكافل ، والضرب على أيدي المخربين ، والمعتدين على رعية الدولة من مسلمين ، وغير مسلمين.

٣ ـ وأما بالنسبة لمعالم وأركان الدولة الإسلامية : ١ ـ فكان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الرئيس ، والقائد ، والإمام ، والمرجع الأعلى للدولة. ٢ ـ وكان مجلس وزرائه ، ومشورته كبار الصحابة من مهاجرين ، وأنصار : كالعشرة المهاجرين الأول ، ونقباء الأنصار الاثني عشر. ٣ ـ وكان من الإداريين من اختص بالحجابة ، والسقاية ، والكتابة ، والترجمة ، وحمل الخاتم ، وكاتم الأسرار ، وهو حذيفة بن اليمان. وإمارة الحج ... الخ. ٤ ـ وكان من العمالات على الفقه ، والعلم : عمال تعليم القرآن ، وتعليم

__________________

ـ ١٦. ص ٣٤٨ ـ و ٣٥١ القاهرة. ومحمد حميد الله الحيدرآبادي : الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. ص ١٥ ـ ١٦. القاهرة ـ سنة ١٩٥٦ م.

(١) ابن إسحاق. ج ٢ ص ١٦ ـ ١٨. ومحمد الغزالي. فقه السيرة. ص ١٩٧.

٣٥٦

الكتابة ، والقراءة ، والإفتاء ، وتعليم الفقه ، وإمامة الصلاة ، والآذان ... الخ. ٥ ـ وكان من عمال العلاقات الخارجية ، والإعلام : السفراء ، والتراجمة ، والشعراء ، والخطباء ... الخ. ٦ ـ وكان من أمراء الجهاد : قواد السرايا ، والجيوش ، وأمراء القتال. وكتاب الجيش ، وفارضو العطاء ، والعرفاء ، ورؤساء الجند ... الخ. ٧ ـ وكان من أمراء النواحي : ولاة الأقاليم ، والقضاة ، وعمال الجباية ، وعمال الزكاة ، والصدقات ، وعمال الخراج ، والخارصون للثمار ، وفارضو المواريث ، وفارضو النفقات ، وصاحبو المساحة ... الخ. ٨ ـ وكان من عمال الأمن المحتسب ، وصاحب العسس ، ومتولي حراسة المدينة ، والعين (الجاسوس) ، والسجان ، والمنادي ، ومقيم الحدود ، ومتولي التطبيب والعلاج ... الخ. ٩ ـ وكان من العمال الآخرين : المستنفرين للقتال على المدينة ، وأصحاب السلاح ، وأصحاب اللواء والراية ، وأمراء أقسام الجيش الخمسة ، وحراس القائد ، والقائمون على متاع السفر ، والذين يخذلون الأعداء ، والذين يبشرون بالنصر ... الخ. ١٠ ـ وكان من الموظفين الإداريين غير ذلك. ومنهم الذين عينهم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بداءة ثم ثبتهم ؛ ومنهم الذين عزلهم ، واستبدلهم ، والبدلاء عنهم ... الخ.

فكنا بذلك ، أمام دولة اكتملت معالمها ، ومقوماتها ، وأركانها ، وأسسها ، ودستورها ... ودولة الإسلام قائمة على الإمارة ، والسياسة ، وشئون الدولة ، والمعبر عنها في ذلك الوقت : «بالأمر ومنه الائتمار» ، ومنه الإمارة ، ومنه «الأمير». وحتى يتميّز الأمر عن الوحي ، والدين الخالص كان الأمر شورى في شرعة الإسلام. وكان الحكم السياسي قائما على مبدأ الألوهية في الشورى عملا بقوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) سورة آل عمران آية ١٥٩. وقوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) سورة الشورى آية ٣٨.

وكما كان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» معصوما في البلاغ ، لا ينطق عن هوى ، فبلاغه وحي يوحى. وكان في الأمر ـ السياسة ـ مجتهدا ، ومستشارا ،

٣٥٧

ومستشيرا. فهو في البلاغ الديني بشر يوحى إليه. وهو في سياسة الدولة بشر يجتهد ، ويستشير.

ومن هنا يأتي المعلم الثاني من معالم دولة الإسلام أنّها دولة مدنية ، ترعى الشئون الدينية ، والسياسية. وهي دولة دين ، وحياة ، ودين ودنيا ، لا دولة كهنوت ، ودين وأتوقراطية. فالرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أرسى دعائم أول دولة في الإسلام ، أساسها العقد ، ودستورها القرآن ، ومعالمها الشرعية ، سار على نهجها أمراء المؤمنين ، وفقهاء الإسلام. أقاموا إسلامها ، وطبقوا أحكامه ، ونفذوا حدوده ، وما قتال أبي بكر للمرتدين مانعي الزكاة ـ جماعة مالك بن نويرة ـ وهم موحدون ، يصلون ويصومون ؛ إلا تأكيدا لوجود هذه الدولة ، وتحقيقا لمقوماتها ، وتأصيلا لعلاقتها بالدين. فكان وجود الدولة ضرورة مدنية ، وواجبا سياسيا لتنظيم جباية الزكاة ، وتنظيم شئون الأفراد ، وتحقيق الحكم الإسلامي بأداء الواجبات الدينية لا فرق بين صلاة ، وزكاة ، أو صوم ، وحج. وهذا المعنى الحقيقي لعبارته المشهورة لأصحابه : «والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة ، والزكاة ؛ فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونها لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، لقاتلتهم على منعها». فقد ربط بين الدين ، والدولة.

فالسنة النبوية أقامت الدولة ، وجعلت دستورها القرآن ، وربطت بين القرآن ، والدولة. والآثار الصحابية ثبتت دعائم الدولة ، وربطت بين الدين ، والدولة وآراء أهل الحل ، والعقد حققت استمرارية الدولة ، وربطت بين الدين ، والسياسة. وفتاوى فقهاء المسلمين ركزت على ثبات ، وضرورة الدولة ، وربطت بين وجودها ، وبين الدين. وسياسات حكام المسلمين أثبتت شرعية الدولة المدنية لإقامة الواجبات الدينية. وكل ذلك أثبت نقلا ، وعملا ، وتاريخا ، أن الإسلام دين ، ودولة ، ولا فصل بين القرآن والدولة ، أو الدين والدولة. وأن لا مكان لقول العلمانيين : بالفصل بين القرآن ، والدولة ؛ أو بين الدين ، والدولة ، وقد ثبت بطلان زعمهم : بأنّ الإسلام رسالة روحية تعبدية فقط ، وأن القرآن كتاب روحي فقط.

٣٥٨

الشبهة الثالثة :

فصل القرآن عن السياسة ـ أي فصل الدين عن السياسة

وحجتهم في ذلك : أن القرآن ، والدين الإسلامي روحيان ، ولا علاقة لهما بالسياسة قياسا على الديانتين : اليهودية ، والمسيحية.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إن الديانة الإسلامية إلهية سماوية بينما الديانات الأخرى كاليهودية ، والمسيحية ، والبوذية ، والهندوسية ، وغيرها ، ديانات غير إلهية ، وغير سماوية ؛ وإنما هي ديانات وضعية بشرية. وبذلك تنتفي أوجه المقارنة بينها ، وبين الديانة الإسلامية. وإذا جاز فصل مثل هذه الديانات عن الدولة أو عن السياسة ، فهذا لا يصح ، ولا يجوز مطلقا بالنسبة للديانة الإسلامية. فكونها ديانة إلهية سماوية فهي تحكم ، وتنظم شئون الناس والدول ، شئون الدين ، والدنيا ، لا فرق بالنسبة للأمر سواء كان يتعلق بالأفراد أو الدول. ولعل منبع الخطأ في مستند هذه الشبهة ـ شبهة فصل الدين عن السياسة ـ يكمن أساسا في محاولة المساواة بين اليهود ، والمسيحية ، وبين الإسلام من حيث المصدرية ، والألوهية. فإنه لم تثبت معالم الألوهية ، والشواهد السماوية لكلتا الديانتين. فمن الثابت ، وبالأدلة القطعية ، أنّه لم تنزل ديانة إلهية من السماء يهودية صحيحة ثم حرفت ، أو ديانة مسيحية سماوية صحيحة ثم حرفت. وإنما نزل دين واحد بعقيدة واحدة ، وهو دين الإسلام ، وعلى جميع الأنبياء ، والرسل ، وفي جميع الكتب السماوية. فالدين الذي نزل على موسى هو الإسلام ، فحرفه قومه بنو إسرائيل ، وسموه بالدين اليهودي نسبة إلى إلههم يهوه أو يهوذا. والدين الذي نزل على عيسى هو الإسلام فحرفه قومه ، وسموه بالدين المسيحي نسبة إلى إلههم المسيح. ولذلك فإن اصطلاح الديانات السماوية الثلاث خاطئ ، ويكون شبهة قائمة في حد ذاتها. وكذلك فإن تعدد الكتب السماوية لا يعني تعدد الدين .. ولذلك

٣٥٩

فإن صح أن فصلت اليهودية ، والمسيحية ـ وهما غير سماويتين أصلا ـ عن السياسة ، وحصرتا في الكنائس ، والأديرة ، وحصرت ممارسة شعائرها في فئة البابوات ، والقساوسة ، والرهبان ، والأحبار ، فهذا لا يصح مطلقا بالنسبة للإسلام ؛ وهو سماوي إلهي في أصله. فهو ديانة الجميع ، يمارس شعائرها الجميع ، ويعملون بأحكامها في جميع لحظات حياتهم ، وبالنسبة لجميع علائقهم السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والمالية. فلا فصل عندنا بين الدين ، والسياسة ، أو بين الدين ، والدولة. وشواهدنا على وحدة الدين ، وبالنسبة لجميع الأنبياء ، والرسل قطعية في ثبوتها ، ونصوصها ، فقد قال تعالى مؤصلا وحدة دينه ، ومنذ خلق آدم ، وقبله ، وبعده ، وفي سورة آل عمران : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) آية ١٩.

وقال أيضا في السورة نفسها نافيا عن عباده القبول بدين غير دين الإسلام ، وإلّا كانوا خاسرين : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) سورة آل عمران آية ٨٥.

ولنا القول : بأن وحدة الدين الإلهي السماوي لا تنفي تعدد الشرائع الإلهية السماوية. فالله تعالى يقول : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) سورة المائدة آية ٤٨. ولكنه لا يقول : لكل جعلنا منكم دينا ، أو عقيدة. لذلك يصح القول : بأن هناك شريعة يهودية سماوية ، وإلهية في أصلها ثم حرّفت. ولذلك هناك شريعة مسيحية سماوية ، وإلهية ثمّ حرّفت. فالدين لجميع الأمم ، ويتمثل في افعل ، ولا تفعل ، واعتقد بإله خالق واحد ، فهو إذن واحد غير متعدد. وأمّا الشريعة فتتمثل في كيف تفعل ، وكيف لا تفعل ، وكيف تعتقد بالله ، وكيف تؤمن بالله ، وكيف تعبد الله. فهي إذن متعددة ، وغير واحدة. ولكل أمة شريعتها ، ومنهاجها في العبادة. وبما أن كلتا الشريعتين اليهودية والمسيحية حرفتا أيضا كالدين ، فقد أصبحتا وضعيتين غير سماويتين ، وبذلك لا يقارن دين الإسلام ، وشريعة الإسلام بهما. فإن جاز فصلهما ، أي الدين والشريعة اليهودية ، والمسيحية عن الدولة ، فلا غرو ، ولا عجب ؛ فهما بشريتان ،

٣٦٠