شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

ومن هنا كان كفرهم بغيبيات القرآن الكريم ، وآياته شاهدا على يأسهم من رحمة الله ، وأولئك لهم عذاب أليم. قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) سورة العنكبوت آية ٢٣.

ثانيا : إنّ سر الإعجاز الغيبي للقرآن يكمن حقيقة في أنه وقع كما أخبر. وهذا مما ليس في مقدور البشر ، ولو كانوا أنبياء ؛ إلّا أن يوحى إليهم ، فخرج القرآن بإعجازه الغيبي عن تكهنات ، وغيبيات الناس ، فكان متخطيا لشبهاتهم. فما وقع من غيبيات في الماضي ، صدقه التاريخ ؛ وما وقع من غيب الحاضر ، صدقه ما جاء به الأنبياء ، وما كشفت عنه العلوم والتجارب. وما يقع من غيب المستقبل ، يصدقه الزمن. ولو كان القرآن من عند محمد لما صدقت غيبياته جميعها ، ولما اتصف وقوعها بالإطلاقية ، ولظل صدقها نسبيا.

وهذا يعني أنّ القرآن الكريم أعجز البشر مسلمين ، وغير مسلمين بحقائقه ، وأخباره الغيبية ؛ وبشكل خارق لعاداتهم ، وعلومهم ؛ وبشكل خارج عن قدراتهم التنبئية ، والإعلامية ، والعلمية ، ممّا يدل دلالة لا مراء ولا جدال فيها أنّ هذا القرآن هو كتاب إلهي ، ومن عند علّام الغيوب لا يعلمها إلّا هو مصداق قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الأنعام آية ٥٩.

ولقد أكدت حقيقة الإعجاز الغيبي للبشرية جمعاء صدق نبوّة الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبي الأمي ، ونافية عنه علم الغيب ، أو أن يكون القرآن المشتمل عليه من عنده.

قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) سورة الشورى آية ٥٢.

٣٠١

وهكذا فإنّ حقيقة الإعجاز الغيبي الإلهي تناولت شواهد العبودية لله تعالى وحده ، فكانت دعوة الأنبياء ، والرسل نافين عن أنفسهم صفة العلم بالغيب ناسبين إيّاه إلى الله تعالى وحده علّام الغيوب ، وكما ورد في القرآن الكريم على لسان النبي عيسى «عليه‌السلام».

قال تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) سورة المائدة آية ١١٦.

وقد أفاض قرآننا الكريم في تأصيله لأحقّية نسبة العلم إلى خالقه ، قال تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) سورة البقرة آية ٣٣.

والقرآن ، وبغيبياته الماضية ، والحاضرة ، والمستقبلية ، يؤكد أحقية نسبته وبالحق في نزوله إلى الله تعالى صاحب تلك الغيبيات ، والمخبر عنها.

قال تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) سورة الإسراء آية ١٠٥.

وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) سورة الزمر آية ٢.

وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) سورة الزمر آية ٤١.

ويكمن سر الإعجاز الغيبي للقرآن الكريم في أنّه وقع كما أخبر. فما وقع في الماضي صدّقه التاريخ ، وما وقع من غيب الحاضر صدّقه ما جاء به الأنبياء ، وما كشفت عنه التجارب ، والعلوم ، وما يقع من غيب المستقبل يصدقه الزمن.

وتحقيقا للفائدة رأينا مناقشة موضوع الإعجاز الغيبي للقرآن ضمن ثلاث حقائق.

٣٠٢

الحقيقة الأولى : الإعجاز الغيبي الماضي.

الحقيقة الثانية : الإعجاز الغيبي الحاضر.

الحقيقة الثالثة : الإعجاز الغيبي المستقبلي.

الحقيقة الأولى :

الإعجاز الغيبي الماضي :

ويتمثل في ما أخبر عنه القرآن الكريم من حقائق ، وقصص ، وأخبار غيبيّة حصلت في الماضي ، فكانت غائبة عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وصحابته.

وقد تناول القرآن الكريم في إعجازه الغيبي سرد الأخبار ، والقصص عن الأنبياء ، والرسل ، والسابقين ، ومع أقوامهم ، حيث يقول تعالى : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) سورة طه آية ٩٩.

ويقول تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) هود آية ١٠٠.

وقد تجلّت حكمة الإعجاز الغيبي للقرآن الكريم ، وفي سوره لأخبار الأنبياء ، والرسل السابقين في تثبيت فؤاد الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ومؤازرته في دعوته ، ونشر رسالته كما هو في قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) سورة هود آية ١٢٠.

وقد تجلّت تلك الحكمة من سرد أخبار ، وقصص أهل القرى السّابقين في ضرورة الاتعاظ والاعتبار ممّا حصل معهم ، وبحيث يكون مصيرهم هو نفس مصير من يكذّب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». قال تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما

٣٠٣

كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) سورة الأعراف آية ١٠١.

ومن غيبيات الرسل ، والأنبياء السابقين التي تحدث عنها القرآن الكريم :

١ ـ غيبيّة قصة النبي نوح «عليه‌السلام» حيث قال تعالى فيها : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) سورة هود آية ٤٩.

٢ ـ غيبيّة الأنبياء والرسل ممّن جاءوا بعد نوح ، وهم : هود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وحيث قال تعالى فيها : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) سورة هود آية ١٠٠.

٣ ـ غيبيّة قصة النبي يوسف «عليه‌السلام» حيث قال الله تعالى فيها : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) يوسف ١٠٢.

٤ ـ غيبيّة النبي موسى «عليه‌السلام» حيث قال تعالى فيها : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) سورة القصص آية ٤٤.

٥ ـ غيبيّة مريم أم المسيح عيسى «عليه‌السلام» حيث قال تعالى فيها : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) سورة آل عمران آية ٤٤.

الحقيقة الثانية :

الإعجاز الغيبي الحاضر :

ويتمثل في ما أخبر عنه القرآن الكريم في أخبار ، وحقائق ، وصفات الله تعالى ، والملائكة ، والجن ، والإنس ، والقيامة ، والحساب ،

٣٠٤

والجنّة ، والنّار ، والثواب ، والعذاب ، ونحو ذلك ممّا لا سبيل للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أو صحابته العلم به ، أو رؤيته ، وأمثلة هذا كثيرة جدا في القرآن الكريم.

ومن غيب الحاضر أيضا ما أخبر القرآن به عن المنافقين ، والذين افتضح أمرهم ، وفي عهد التنزيل القرآني ، ومنهم : الأخنس بن شريق الثقفي الّذي نزل فيه قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) سورة البقرة آية ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

ومن هؤلاء المنافقين أصحاب مسجد ضرار ، وكانوا اثني عشر رجلا ، وهم : حزام بن خالد ، ولبة بن حاطب ، ومعتّب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأرعد ، وعباد بن حنيف ، وحارثة ، وجارية ، ـ ابنا مجمع ـ وزيد ، ونبتل بن الحارث ، ولحاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت. وهؤلاء الذين نزل فيهم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) سورة التوبة آية ١٠٧.

الحقيقة الثالثة :

الإعجاز الغيبي المستقبلي :

ويتمثل في ما أخبر عنه القرآن الكريم من حقائق ، وأمور ستقع فيما بعد مستقبلا ؛ وهي غامضة على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وعلى صحابته ، ومنها ما وقع فعلا في عهده ، ومنها ما يقع على مدار الزمن ، وإلى قيام الساعة.

ومن أمثلة ما وقع من غيبيّات مستقبلية في عهده «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» :

١ ـ غيبيّة انتصار الروم على الفرس في بضع سنين ـ والذي قال الله

٣٠٥

تعالى فيه : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) سورة الروم آية ١ ـ ٥.

أخرج الواحدي عن المفسّرين قالوا : «بعث كسرى جيشا إلى الروم ، واستعمل عليهم رجلا يسمى شهريران ، فسار إلى الروم بأهل فارس ، وظهر عليهم ، فقتلهم ، وخرّب ديارهم ، وقطع زيتونهم ، وكان قيصر بعث رجلا يدعى يحنس فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب ـ فغلب فارس الروم ، وبلغ ذلك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وأصحابه بمكة ، فشق ذلك عليهم ، وكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» يكره أن يظهر الأميون من أهل المجوس على أهل الكتاب من الروم ، وفرح كفار مكة ، وشمتوا ، فلقوا أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» فقالوا : إنّكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميّون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم ، وإنّكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ...) سورة الروم إلى آخر الآيات.

وفعلا صدق إخبار الله تعالى ، وقاتل الروم أهل الكتاب المجوس أهل الفرس مرة أخرى ، وانتصروا عليهم ، وكما أخبر القرآن ، وكان ذلك في بضع سنين حيث تعني كلمة بضع من ثلاث إلى تسع. وحدّد بعض المفسّرين أنّ انتصار الروم على الفرس كان في السنة التاسعة فعلا.

وفرح المؤمنون بهذا النصر وبنصرهم في غزوة بدر حيث تمّ في نفس الفترة.

٢ ـ غيبيّة دخول المسلمين مكة المكرّمة آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين. وقد أراها الله رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في منامه ، وتحققت فعلا في العام الّذي بعد عام الحديبية والتي قال الله فيها : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا

٣٠٦

تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) سورة الفتح آية ٢٧.

أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال : أرى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وهو بالحديبية أنّه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ، ومقصرين ؛ فلما نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه : أين رؤياك يا رسول الله؟!! فنزلت : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) الآية.

٣ ـ غيبيّة انتصار المسلمين في غزوة بدر ، وانهزام جمع المشركين. والذي قال تعالى فيه (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) سورة القمر آية ٤٥.

روى ابن أبي حاتم ، وابن مردويه : «أنّ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ جعل يقول حيث نزلت هذه الآية : «أيّ جمع هذا؟!! فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصلتا سيفه يقولها». وفعلا فقد تحققت هذه النبوءة في المدينة بعد الهجرة بسنتين في حين أنّ نزول الآية كان في مكة حيث سورة القمر مكيّة ؛ فكان الإخبار القرآني عن انتصار المسلمين في غزوة بدر مسبقا ، وهم ضعفاء في مكة.

٤ ـ غيبيّة نزول العذاب ، والقحط ، والجهد على كفار مكة في شكل الدخان الأسود يعمي أبصارهم ، والذي قال الله تعالى فيه : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) الدخان آية ١٠ ـ ١٦.

أخرج البخاري عن ابن مسعود قال : «إنّ قريشا لمّا استعصوا على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» دعا عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم قحط حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ، فأنزل الله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) فأتي

٣٠٧

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» فقيل : يا رسول الله ، استسق الله لمضر ، فإنّها قد هلكت ؛ فاستسقى ، فسقوا ، فنزلت (إِنَّكُمْ عائِدُونَ). فلمّا أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ). يعني يوم بدر.

٥ ـ غيبيّة إذلال ، وتشتيت ، وعذاب اليهود إلى قيام الساعة ، والذي نزل فيهم قوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) آل عمران آية ١١٢.

وهكذا تحققت ، ولا تزال هذه الغيبية تتحقق ، وإلى قيام الساعة ؛ حيث أمضى اليهود أجيالهم ، وأزمانهم مشتتين أذلاء في جميع أقطار العالم محتقرين من قبل شعوب العالم مقطعين ضربت عليهم آيات الذلّة ، ومعالم المسكنة ؛ وهذه سنة الله تعالى فيهم ، وهذه نبوءته بهم مصداق قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة الأعراف آية ١٦٧.

وهكذا تحققت نبوءة هذه الغيبية بعذاب بني إسرائيل عدّة مرّات ، كان أولاها قتل وسبي نبوخذنصّر البابلي لهم ، وتخريبه بيت المقدس عليهم ، والّذي قال الله تعالى فيه : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) سورة الإسراء آية ٥.

ومنها أيضا قتلهم ، وسبيهم من قبل هريديان الروماني ، وأيضا من قبل الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ومن قبل كثير من حكام الكفر ، والشرك كأمثال هتلر زعيم ألمانيا النازية في العصر الحالي. وبإذن الله يكون القضاء الأخير عليهم من قبل المسلمين ، وبعد نزول عيسى عليه‌السلام إلى الأرض وتطهيرها من رجس الكفر ، وقتل الخنزير ، ودلق الخمر ، وقتل أعور الدجال ، بعدها بإذن الله سيقتلون على ، وبأيدي المسلمين قضاء مبرما.

٣٠٨

وما احتلالهم لفلسطين ، وتدنيسهم لبيت المقدس هذه الأيّام إلّا شواهد على تجمعهم ثانية في بلد الأنبياء تنفيذا لوعد الله فيهم ، وقتلهم ، وليس لبقائهم كما يدّعون إلى قيام الساعة. وما جرائمهم ، وقتلهم للمسلمين ، وإخراجهم من بلدهم فلسطين ، وتدنيسهم بيت المقدس عند احتلالهم له سنة ١٩٦٧ م ، وقولهم : «محمد مات خلّف بنات» ما هذه عوامل بقاء ، وما هذه شواهد حبهم للسلام ، وإن هي إلّا امتداد لشذوذهم ، ومنكراتهم التي تكلّم القرآن عنها ، لتكون بإذن الله سبب هلاكهم على أيدي المسلمين هلاكا تامّا.

ثالثا ـ إنّ صدق وقوع تنبؤات القرآن الغيبية في هذا العالم المادي ، وفي هذا الواقع المحسوس ، ينبئ قطعا بوجود غيب وراء المادة ، وأن هناك إلها عالما مدبرا لمخلوقاته ، وعالما لكل صغيرة ، وكبيرة في هذا الكون لا يغيب عنه شيء.

قال تعالى : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ). سورة لقمان آية ١٦.

وقال تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) سورة سبأ الآيات ٢ ـ ٣.

ولعل أشد خطأ وقع فيه أصحاب هذه الشبهة أنهم شبهوا تنبؤات البشر غير الصادقة ، وغير المتحققة بتنبؤات القرآن الغيبية الصادقة والمتحققة دوما وأبدا ، وما زالت تتحقق وإلى أبد الآبدين.

ولعل الأنكى من ذلك أنهم نسبوا مثل هذه التنبؤات إلى أناس من

٣٠٩

البشر غير عاديين ، ومعروفين بالصدق ، والأمانة ، والاستقامة كالرسول محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، والذي أبت عليه نفسه ـ وهم يعرفون ذلك ـ أن يكذب ، أو أن يدعي العلم ، أو الغيب سواء قبل البعثة ، أو بعدها.

وحيث صدق فيه قول ربه (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) الأنعام آية ٥٠.

وقول ربه : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) الأعراف آية ١٨٨.

روى البخاري : جلست جويريات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بن معوذ الأنصارية ، وجعلن يذكرن آباءهن من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن : وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «لا تقولي هكذا ، وقولي ما كنت تقولين».

ولعل أفضل ما زكّى به الله تعالى نبيّه بالصدق أنه نفى عنه أي ادعاء فيه بعلم الغيب حيث يقول فيه : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) سورة الأنعام آية ٥٠.

ولعل من المفيد في هذا المقام أن نستشهد بما يقوله المفكر الإسلامي وحيد الدين خان في كتابه «الإسلام يتحدى» فهو يقول (١) :

«إن عظمة القرآن الكريم تتجلى في تنبؤاته المختلفة ، التي ثبتت صحتها فيما بعد بطرق عجيبة.

إن عددا كبيرا من أذكياء الناس ، ومن العباقرة ، قد جرءوا على أن يتنبئوا عن أنفسهم أو عن غيرهم. ولكننا نعرف أن الزمان لم يصدق هذه النبوءات مطلقا ، بل جاء يكذبها بكل قسوة ، ولقد تحفز الفرص المواتية ، والأحوال المساعدة ، والكفاءات العالية ، وكثرة الأعوان والأنصار ،

__________________

(١) وحيد الدين خان. الإسلام يتحدى. ص ١١١ ـ ١٢٠ حرفيا ، ودون تصرف.

٣١٠

والنجاح الخارق في البداية للكثيرين ـ وهم يرون أنهم يسيرون تجاه نتائج مرضية ـ أن يتنبئوا بنتيجة معينة بكل يقين ، ولكن الزمن يبطل هذه الدعاوى ، ويكذبها دائما .. والزمن نفسه هو الذي أثبت صحة ما جاء في القرآن من التنبؤات في حين أنها جميعا جاءت في أحوال غير مواتية ، أن هذه التنبؤات ـ وقد وقعت فعلا على ما يحدثنا التاريخ ـ تجعل علومنا المادية حائرة عند تفسيرها. وما دمنا ندرسها في ضوء علومنا المادية ، فلن نستطيع إدراك حقائقها ، إلا أن ننسبها إلى مصدر غير بشري.

* * *

كان نابليون بونابرت من أعظم قواد الجيوش في عصره ، وقد دلت فتوحاته الأولى على أنّه سوف يكون ندا لقيصر ، والإسكندر المقدوني. وترتب على ذلك أن وجد الغرور منفذه إلى رأس نابليون ، فأصبح يتوهم أنّه هو مالك القدر. وازداد هذا الشعور لديه ، حتى أنّه ترك مستشاريه ، وادعى أنه لم يكتب في قدره غير الغلبة الكاملة على من في الأرض. ولكنا جميعا نعرف النهاية التي كتبت له في لوح القدر.

سار نابليون من باريس يوم ١٢ من يونية ، سنة ١٨١٥ ، مع جحفله العظيم ، ليقضي على أعدائه ، وهم في الطريق. ولم تمض غير ستة أيام حتى ألحق «دوق ولنجتون» شر هزيمة بجيش نابليون الجبار ، في «ووترلو» بأراضي بلجيكا. وكان «الدوق» يقود جنود انجلترا ، وألمانيا ، وهولندا. ولما يئس نابليون ، وأيقن من مصيره المحتوم ، فر هاربا من القيادة الفرنسية متوجها إلى أمريكا. ولم يكد يصل إلى الشاطئ حتى ألقت شرطة السواحل القبض عليه ، وأرغمته على ركوب سفينة تابعة للبحرية البريطانية ، وانتهى به القدر إلى أن أرسل إلى جزيرة غير معمورة في جنوب الأطلنطي ، هي جزيرة «سانت هيلينا». ومات القائد العسكري في هذه الجزيرة بعد سنوات طويلة من البؤس ، والشقاء ، والوحدة ، في ٥ مايو سنة ١٨٢١.

والبيان الشيوعي المعروف ، الذي صدر سنة ١٨٤٨ ، تنبأ بأن أول

٣١١

البلاد التي ستقود الثورة الشيوعية هي (آلمانيا) ، ولكن ألمانيا ، على الرغم من مضي مائة وعشرين عاما من هذه النبوءة ، لا تزال صفحات تاريخها خالية من مثل هذه الثورة ..

ولقد كتب كارل ماركس في مايو سنة ١٨٤٩ قائلا : «إن الجمهورية الحمراء تبزغ في سماء باريس!» ورغم أنه قد مر على هذه النبوءة أكثر من قرن ، فإن شمس الجمهورية الحمراء البازغة لم تشرق على أهالي باريس!.

وقد قال أدولف هتلر في خطابه الشهير الذي ألقاه بمونيخ في ٤ من مارس سنة ١٩٣١ :

«إنني سائر في طريقي ، واثق تمام الثقة بأن الغلبة ، والنصر قد كتبا لي (١)». والعالم بأجمعه يعرف اليوم أن الذي كتب في قدر الجنرال الألماني العظيم كان هو الهزيمة ، والانتحار.

وقد شاهدنا وقائع عديدة من هذه النبوءات المضحكة في «الهند» .. فقد أعلن زعيم الشيوعيين : س. ب. جوشي ، في المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي الهندي ، الذي انعقد في (مدوراي) بجنوب الهند ، في يناير سنة ١٩٥٤ ، بأن الحزب الشيوعي سوف يحكم ، مستقلا بنفسه ، في الانتخابات العامة القادمة ، في ولايات ترانكو ـ كوتشين (كيرالا) ، مدراس ، وآندهرا ، والبنغال الغربية ، وآسام. وقد أجريت ثلاثة انتخابات عامة (وانتخابات تكميلية أخرى) في هذه المدة الطويلة. ولم يستطع الحزب الشيوعي تأليف وزارة مستقلة في أية ولاية من ولايات الهند (٢).

__________________

(١). ٤٤٧AstudyOfHi storyAbridgmentp.

(٢) تمكن الحزب الشيوعي من تأليف وزارة ائتلافية في كوالا في الانتخابات العامة لسنة ١٩٦١ ، كما تمكنت «الجبهة المتحدة» في البنغال الغربية من تأليف وزارة ائتلافية في الانتخابات التكميلية التي أجريت في الولاية في ١٩٦٩ ، وكان الشيوعيون يتمتعون بالأغلبية في الجبهة المتحدة.

٣١٢

وسط هذه الجحافل من المتنبئين ، والنبوءات ، لا نجد غير «القرآن» الذي تحققت نبوءاته حرفا حرفا. وهذا الواقع يكفي في ذاته لإثبات أن هذا الكلام صادر من عقل وراء الطبيعة يمسك بزمام الأحوال والحوادث ، وهو على معرفة بكل ما سيحدث منذ الأزل إلى الأبد.

وسوف نورد هنا خبرين من التنبؤات الكثيرة التي أدلى بها رسول الإسلام ، وتحققت بكاملها. والشهادتان اللتان سنذكرهما ، تتعلق إحداهما بغلبة الإسلام نفسه ، على حين تتعلق بغلبة الروم مرة أخرى ..

أ ـ عند ما بدأ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» دعوته وقفت الجزيرة العربية كلها ضده ، وكان على النبي مواجهة ثلاث جبهات في وقت واحد :

أولاها : القبائل المشركة ، بعد أن أصبحوا أعداء حياته.

وثانيتها : الرأسمالية اليهودية.

وثالثتها : أولئك المنافقون الذين تسربوا داخل المسلمين للقضاء على حركتهم ، من داخل معاقلهم.

وكان الرسول يجاهد في سبيل رسالته السامية على كل هذه الجبهات : قوة المشركين ، والرأسمالية اليهودية ، والطابور الخامس. وقد وقف أمام هذا الطوفان الطاغي وقفات رائعة لا مثيل لها ، ولم يسانده في مواقفه غير حفنة من المهاجرين ، والأنصار ، وجماعة أسلمت من العبيد. ومما لا شك فيه أنه قد انضم إليه بعض كبار قريش ، ولكن سرعان ما انقطعوا عن أهلهم ، وذويهم ، وعادتهم قريش كمعاداتها للنبي.

وقد سارت هذه الحركة بمكة قدما ، تكافح وتناضل ، حتى أصبحت الأمور غاية في السوء ، واضطر النبي ، وأصحابه أن يهاجروا إلى جهات مختلفة ، حتى اجتمع شملهم في المدينة المنورة ، وهم في أشد حالات العوز ، والفقر ، بعد ما تركوا ثرواتهم في مكة ـ موطنهم الأصلي ـ. ويمكن قياس بؤس هؤلاء المهاجرين بتلك الجماعة التي عاشت في المسجد النبوي ، حيث لم تكن لديهم بيوت ، وكانوا ينامون على «صفة» في فناء

٣١٣

المسجد النبوي ، فأطلق عليهم : «أهل الصّفّة». ومما روي في كتب التاريخ أن تعداد هؤلاء الصحابة الكرام ، الذين عاشوا على «الصفة» بلغ في بعض الأحيان أربعمائة صحابي.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : «رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب ، فمنهم من يبلغ ركبتيه ، ومنهم من هو أسفل من ذلك ، فإذا ركع أحدهم قبض عليه ، مخافة أن تبدو عورته».

وعنه «أبي هريرة» رضي الله عنه أنه قال : «لقد رأيتني أصرع بين منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها ، فيقول الناس : إنه مجنون ، وما بي جنون ، ما بي إلّا الجوع!».

وفي هذه الحالة البائسة ، حيث كان المسلمون في أسوأ أحوالهم ، مكشوفين في عراء المدينة المنورة ، خائفين ، يترقبون الأعداء من كل جانب ، مخافة أن يتخطفوهم في أي وقت ، في هذه الحالة نجد القرآن يبشرهم مرة بعد أخرى :

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) سورة المجادلة آية ٢١.

وقال أيضا :

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) سورة الصف آية ٨ ـ ٩.

ولم تمض على هذه البشرى أيام طويلة ، حتى وجد المسلمون الجزيرة العربية كلها تحت أقدامهم ، فقد انتصرت أقلية ضئيلة لا تملك الخيول ، ولا الأسلحة ، على أعداء يملكون الجيوش الكبيرة ، والعدة ، والعتاد.

وليس بوسعنا تفسير هذا التنبؤات في ضوء المصطلحات المادية ، إلا أن نسلم بأن صاحب هذا الإخبار بالغيب لم يأت به من عند نفسه ، وإنما كان خليفة عن الله ، فلو أنه كان إنسانا عاديا لاستحال كل

٣١٤

الاستحالة أن تصنع كلماته أقدار التاريخ. وكما قال البروفيسور (ستوبارت) : «إنه لا يوجد مثال واحد في التاريخ الإنساني بأكمله يقارب شخصية محمد».

وهو يضيف قائلا :

«ألا .. ما أقل ما امتلكه من الوسائل المادية ، وما أعظم ما جاء به من البطولات النادرة ، ولو أننا درسنا التاريخ من هذه الناحية ، فلن نجد فيه اسما منيرا هذا النور ، وواضحا هذا الوضوح ، غير اسم النبي العربي» (١).

إن هذا الأمر هو أعظم دليل على كونه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» مرسلا من لدن الحق تبارك وتعالى. وقد اعترف السير وليام موير ، ذلك العدو اللدود للإسلام ، بهذا الأمر بطريقة غير مباشرة ، حين قال :

«لقد دفن محمد مؤامرات أعدائه في التراب ، وكان يثق بانتصاره ليل نهار ، مع حفنة من الأنصار ، والأعوان ؛ رغم أنه كان مكشوفا عسكريا من كل ناحية ؛ وبعبارة أخرى : كان يعيش في عرين الأسد ، ولكنه أظهر عزيمة جبارة ، لا نجد لها نظيرا غير ما ذكر في الإنجيل ، من أن نبيا قال لله تعالى : «لم يبق من قومي إلا أنا» (٢).

ب ـ أما النبوءة الثانية التي وردت في القرآن ، فهي الإخبار بغلبة الروم على الفرس. وقد جاء في أول سورة الروم قوله تعالى :

بسم الله الرحمن الرحيم (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) سورة الروم آية ١ ـ ٤.

كانت الامبراطورية الفارسية تقع شرقي الجزيرة العربية ، على

__________________

(١). ٢٢٨.Is lamandItsFounder ,P.

(٢). ٢٢٨.LifeofMohammad ,p ـ وربما يذكرنا هذا الاقتباس بقول القرآن حكاية على لسان موسى عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ـ المائدة / ٢٥.

٣١٥

الساحل الآخر للخليج العربي ، على حين كانت الامبراطورية الرومانية تمتد من غربي الجزيرة على ساحل البحر الأحمر إلى ما فوق البحر الأسود. وقد سميت الأولى ـ أيضا ـ بالامبراطورية الساسانية ، والأخرى بالبيزنطية. وكانت حدود الامبراطوريتين تصل إلى الفرات ودجلة ، في شمال الجزيرة العربية. وكانتا أقوى حكومتين شهدهما ذلك العصر.

ويبدأ تاريخ الامبراطورية الرومانية ـ كما يرى المؤرخ «جبن» ـ في القرن الثاني بعد الميلاد ، وكانت تتمتع حينئذ بمكانتها كأرقى دولة حضارية في العالم.

وقد شغل المؤرخين تاريخ زوال الروم ، كما لم يشغلهم زوال أية حضارة أخرى (١). وليس يغني كتاب من الكتب التي ألفت حول هذا الموضوع عن الكتب الأخرى ، ولكن يمكن اعتبار كتاب المؤرخ «أدوارد جبن» ؛ «تاريخ سقوط وانحدار الامبراطورية الرومانية» (٢) أكثرها تفصيلا وثقة ، وقد ذكر المؤرخ في الجزء الخامس من كتابه الوقائع المتعلقة ببحثنا هنا.

* * *

اعتنق الملك «قسطنطين» الدين المسيحي عام ٣٢٥ م ، وجعله ديانة البلاد الرسمية ، فآمنت بها أكثرية رعايا الروم. وعلى الجانب الآخر ، رفض الفرس ـ عباد الشمس ـ هذه الدعوة.

وكان الملك الذي تولى زمام الإمبراطورية الرومانية في أواخر القرن السابع الميلادي هو «موريس» ، وكان ملكا غافلا عن شئون البلاد والسياسية ، ولذلك قاد جيشه ثورة ضده ، وبقيادة «فوكاس Phocas. وأصبح فوكاس ملك الروم ، بعد نجاح الثورة ، والقضاء على العائلة الملكية بطريقة وحشية ، وأرسل سفيرا له إلى إمبراطور إيران «كسرى أبرويز الثاني» ، وهو ابن «أنوشيروان» العادل.

__________________

(١). ٢١٠.Wes ternCivilization ,p

(٢) TheHistoryoftheD eclineandFalloft heRomanEmpire, byEdwardGibbon

٣١٦

وكان «كسرى» هذا مخلصا للملك «موريس» ، إذ كان قد لجأ إليه عام ٥٩٠ ـ ٥٩١ م ، بسبب مؤامرة داخلية في الامبراطورية الفارسية ، وقد عاونه «موريس» بجنوده لاستعادة العرش. ومما يروى أيضا أن «كسرى» تزوج بنت «موريس» ، اثنا إقامته ببلاد الروم ، ولذلك كان يدعوه «بالأب».

ولما عرف بأخبار انقلاب الروم ، غضب غضبا شديدا ، وأمر بسجن السفير الرومي ، وأعلن عدم اعترافه بشرعية حكومة الروم الجديدة.

وأغار «كسرى أبرويز» على بلاد الروم ، وزحفت جحافله عابرة نهر الفرات إلى الشام. ولم يتمكن «فوكاس» من مقاومة جيوش الفرس التي استولت على مدينتي «أنطاكية ، والقدس» ، فاتسعت حدود الامبراطورية الفارسية فجأة إلى وادي النيل. وكانت بعض الفرق المسيحية ـ كالنسطورية ، واليعقوبية ـ حاقدة على النظام الجديد في روما ، فناصرت الفاتحين الجدد ، وتبعها اليهود ، مما سهل غلبة الفرس.

* * *

وأرسل بعض أعيان الروم رسالة سرية إلى الحاكم الرومي في المستعمرات الافريقية يناشدونه إنقاذ الإمبراطورية ، فأرسل الحاكم جيشا كبيرا بقيادة ابنه الشاب «هرقل» ، فسار بجيشه في الطريق البحرية ، بسرية تامة .. حتى إن «فوكاس» لم يدر بمجيئهم إلا عند ما شاهد الأساطيل وهي تقترب من السواحل الرومانية ، واستطاع هرقل ـ دون مقاومة تذكر ـ أن يستولي على الامبراطورية ، وقتل «فوكاس» الخائن.

بيد أن هرقل لم يتمكن ـ برغم استيلائه على الإمبراطورية ، وقتله «فوكاس» من إيقاف طوفان الفرس .. فضاع من الروم كل ما ملكوا من البلاد في شرقي العاصمة ، وجنوبيها. لم يعد العلم الصليبي يرفرف على العراق ، والشام ، وفلسطين ، ومصر ، وآسيا الصغرى ، بل علتها راية الفرس : «درفش كاوياني»!! وتقلصت الإمبراطورية الرومانية في عاصمتها ، وسدت جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس ، وعم القحط ،

٣١٧

وفشت الأمراض الوبائية ، ولم يبق من الإمبراطورية غير جذور شجرها العملاق. وكان الشعب في العاصمة خائفا يترقب ضرب الفرس للعاصمة ، ودخولهم فيها ، وترتب على ذلك أن أغلقت جميع الأسواق ، وكسدت التجارة ، وتحولت معاهد العلم ، والثقافة إلى مقابر موحشة مهجورة.

وبدأ عباد النار يستبدون بالرعايا الروم للقضاء على المسيحية .. فبدءوا يسخرون علانية من الشعائر الدينية المقدسة ، ودمروا الكنائس ، وأراقوا دماء ما يقرب من ٠٠٠ ، ١٠٠ من المسيحيين المسالمين. وأقاموا بيوت عبادة النار في كل مكان ، وأرغموا الناس على عبادة الشمس والنار ، واغتصبوا الصليب المقدس ، وأرسلوه إلى «المدائن».

ويقول المؤرخ «جبن» في المجلد الخامس من كتابه :

«ولو كانت نوايا «كسرى» طيبة في حقيقة الأمر ، لكان اصطلح مع الروم ، بعد قتلهم «فوكاس» ، ولاستقبل «هرقل» كخير صديق أخذ بثأر حليفه ، وصاحب نعمته «موريس» ، بأحسن طريقة ؛ ولكنه أبان عن نواياه الحقيقية عند ما قرر مواصلة الحرب» (١).

ويمكن قياس الهوة الكبرى التي حدثت بين الروم والفرس من خطاب وجهه «كسرى» إلى «هرقل» من بيت المقدس ، قائلا :

«من لدن الإله كسرى ، الذي هو أكبر الآلهة ، وملك الأرض كلها ، إلى عبده اللئيم الغافل هرقل : إنك تقول : إنك تثق في إلهك! فلما ذا لا ينقذ إلهك القدس من يدي؟!».

واستبد اليأس ، والقنوط بهرقل من هذه الأحوال السيئة ، وقرر العودة إلى قصره الواقع في «قرطاجنة» على الساحل الإفريقي .. فلم يعد يهمه أن يدافع عن الإمبراطورية ، بل كان شغله الشاغل إنقاذ نفسه. وأرسلت

__________________

(١) كتاب جبن / مجلد / ٥ ص ٧٤.

٣١٨

السفن الملكية إلى البحر ، وخرج «هرقل» في طريقه ليستقل إحدى هذه السفن إلى منفاه الاختياري.

وفي هذه الساعة الحرجة تحايل كبير أساقفة الروم باسم الدين والمسيح ، ونجح في إقناع «هرقل» بالبقاء ، وذهب «هرقل» مع الأسقف إلى قربان «سانت صوفيا» يعاهد الله تعالى على أنه لن يعيش أو يموت إلا مع الشعب الذي اختاره الله له.

وبإشارة من الجنرال الإيراني سين (Sain) أرسل «هرقل» سفيرا إلى «كسرى» طالبا منه الصلح ، ولكن لم يكد القاصد الرومي يصل إلى القصر ، حتى صاح «كسرى» في غضب شديد : «لا أريد هذا القاصد! وإنما أريد «هرقل» مكبلا بالأغلال تحت عرشي ، ولن أصالح «الرومي» حتى يهجر إلهه ، الصليبي ، ويعبد الشمس إلهتنا» (١).

وبعد مضي ستة أعوام على الحرب ، رضي الإمبراطور الفارسي أن يصالح هرقل على شروط معينة هي أن يدفع ملك الروم «ألف تالنت (٢) من الذهب ، وألف تالنت من الفضة ، وألف ثوب (٣) من الحرير ، وألف جواد ، وألف فتاة عذراء».

ويصف «جبن» هذه الشروط بأنها «مخزية» دون شك ، وكان من الممكن أن يقبلها «هرقل» ، لو لا المدة القصيرة التي أتيحت له لدفعها من المملكة المنهوبة ، والمحدودة الأرجاء ، ولذلك آثر أن يستعمل هذه الثورة كمحاولة أخيرة ، ضد أعدائه.

* * *

وبينما سيطرت على العاصمتين الفارسية ، والرومية هذه الأحداث ،

__________________

(١) (ص ـ ٧٦ ـ ج ٥.)

(٢) Talent ، ميزان يوناني قديم ، حوالي ستة وعشرين كيلوجراما ، لدى الأثينيين ، وقد يطلق على كمية النقود الذهبية أو الفضية التي تزنه.

(٣) الثوب : ثلاثون مترا من القماش تقريبا.

٣١٩

فقد سيطرت على شعب العاصمة المركزية في شبه الجزيرة العربية ـ وهي «مكة» المكرمة ـ مشكلة مماثلة : كان الفرس مجوسا من عباد الشمس والنار ، وكان الروم من المؤمنين بالمسيح ، وبالوحي ، وبالرسالة ، وبالله تعالى. وكان المسلمون مع الروم ـ نفسيا ـ يرجون غلبهم على الكفار ، والمشركين ، كما كان كفار مكة مع الفرس ؛ لكونهم من عباد المظاهر المادية. وأصبح الصراع بين الفرس ، والروم رمزا خارجيا للصراع الذي كان يدور بين أهل الإسلام وأهل الشرك في «مكة». وبطريقة نفسية كانت كل من الجماعتين تشعر بأن نتيجة هذا الصراع الخارجي هي نفس مآل صراعهما الداخلي. فلما انتصر الفرس على الروم عام ٦١٦ م ، واستولوا على جميع المناطق الشرقية من دولة الروم ، انتهزها المشركون فرصة للسخرية من المسلمين ، قائلين : لقد غلب إخواننا على إخوانكم ، وكذلك سوف نقضي عليكم ، إذا لم تصطلحوا معنا تاركين دينكم الجديد!! وكان المسلمون بمكة في أضعف ، وأسوأ أحوالهم المادية ، وفي تلك الحالة البائسة ، صدرت كلمات من لسان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» :

بسم الله الرحمن الرحيم : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الروم : ١ ـ ٦.

وتعليقا على هذه النبوءة يكتب «جبن» :

«في ذلك الوقت ، حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة ، لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعا ؛ لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة «هرقل» كانت تؤذن بانتهاء الإمبراطورية الرومانية» (١).

ولكن من المعلوم أن هذه النبوءة جاءت من لدن من هو مهيمن

__________________

(١) ص ـ ٧٤ المجلد ٥.

٣٢٠