شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

والاعوجاج ؛ والنور ، والظلمات ؛ والعدل ، والظلم. وقد خرق الله به سنن العادات ، ونواميس الكون ؛ إحقاقا للحق ، وإبطالا للباطل ، فكيف لا يكون هذا إعجازا؟!! وكيف يسمى هذا خرقا للنظام العام أو تحقيق الحق؟! أليس القرآن من عند الله؟! أليس الله أعلم بخلقه؟! أليس الله المالك لكونه؟! أليس الله المتصرف بمخلوقاته؟! إذن أين العجب من خرق الله لنواميس كونه؟! فليس في نزول القرآن شذوذ أو خروج باطل عن الكونية ، وسننها ؛ وإنّما به جاء الحقّ ، وزهق الباطل. وبهذا خاطب الله رسوله محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أن يقول لقومه على لسان ربه : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) سورة الإسراء آية ٨١.

ولعلنا لا نبالغ إن قلنا : إنّ أساس شبهتهم الخاطئ أنّهم جعلوا القرآن بشريا ، وأنّه من محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». فكانت شبهتهم ، وبغير دليل ، حجة عليهم ، وعلى افترائهم ، بأن القرآن لا يجوز أن يخرق نواميس الكون ، أو أن يخرج عن النظام العام ، وهم لا يعلمون معنى ذلك الخروج. وهم تناسوا ، أو أغلقوا عقولهم عن التصديق ، والإيمان بالله ، وقرآنه ؛ ولو فعلوا ذلك ، لما طاحوا ، ولعلموا دوما أنّ هذا القرآن كتاب إلهي جاء ليحق الحق ، ويبطل الباطل ، ولو خرق نواميس الكون ، ولو كره المجرمون مصداق قوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ). سورة الأنفال آية ٨.

ثالثا : وأمّا بالنسبة لكون القرآن أثرا من آثار الموهبة كما يدعون ، فإنّنا نعجزهم بأن يوحدوا بين الموهبة ، والمعجزة. وما بينهما إلّا كما بين الثرى ، والثريا. فالموهبة تتحقق للكثيرين ، ولمن أخذ بأسبابها ، وعواملها. فهي تتحقق كثيرا بالنسبة للأفراد ، والأمم ، والشعوب ، وفي كل العصور. وأمّا المعجزة فلا وسائل ، ولا عوامل تكتسب بها أبدا ، وإنّما هي تدبير رباني ، وخلق إلهي لا يعطى لأي إنسان ، ولا يستطيعه فرد ؛ وليس له أشباه ونظائر معتادة أبدا ، وبذلك كانت معجزات الأنبياء ، والرسل الحسية فريدة في إعجازها ؛ ولم يستطع أحد من البشر الإتيان

٢٤١

بمثلها. فبالنسبة لموسى مثلا ، ظن فرعون ، وسحرته أنّ ما جاء به موسى سحرا أو شعوذة ؛ فاعتقدوا أنّهم سيغلبونه ، ويفندون سحره ؛ لأنّهم برعوا في هذا الفن. فقال الله تعالى على لسانهم : (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) سورة طه آية ٥٧ ـ ٥٨.

وقال تعالى أيضا على لسانهم : (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) سورة طه آية ٦٣.

ولكن ، وبعد أن أبطل الله سحرهم ، استيقن السحرة عظمة معجزة موسى. وأن ما جاء به موسى ليس سحرا ؛ فآمنوا ، وسجدوا لرب هارون وموسى. وهذا مصداق قوله تعالى : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) سورة طه آية ٦٩ ـ ٧٠.

وكما قال شيخنا الزرقاني : «أمّا المعجزات فلن تجد لها من وسائل ، ولا عوامل ، ولن تستطيع أن تصل إلى أشباه معتادة لها ونظائر ؛ اللهم إلّا إذا خرجنا عن نطاق الكون المعروف ، وسنن الوجود المألوف» (١).

رابعا : وأمّا قضية الفتاة الفرنسية «جان دارك».

أ ـ فلم يكن فيها أو بالنسبة لها خرق للسنن الكونية ، ولم تكن معجزة بمعنى الكلمة. وعملها لم يكن من قبيل الإعجازات ، اللهم إلّا إذا كانت مثل الذي يتحقق فعله للكثيرين. وكثير حتى من النساء من فعل مثل فعلها.

ب ـ وأمّا كونها تدعي أنّها مرسلة من قبل العناية الإلهية ، فهذا كذب ، ولم تثبت صحته حتى بالنسبة لأصحاب هذه الشبهة. ودليل ذلك أنّها هزمت ، وأسرت ، وأخرقت ، ولو أنّها كانت صاحبة معجزة

__________________

(١) الزرقاني ـ مناهل العرفان. ج ١ ص ٧٧.

٢٤٢

حقيقية لما حصل معها ذلك. وبذلك لا تقارن ، ولا يجوز مقارنتها مع معجزة القرآن أو الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» حيث كل ما جاء به تحقق.

ج ـ إن الفتاة الفرنسية كانت تعيش في قريتها «جوارد رومي» والكل يعرفها. ولم تكن صاحبة معجزات حتى ، ولم تكن فتاة سليمة صحيحا ، وعقليا. وفي زمنها شاعت الخرافات ، وكانت الفتاة خيالية تسبح في خيالات الأوهام ، وتطلق لأفكارها العنان ، فتأتي بما تدعيه أنّه وحي إلهي لها ، وبأن الله أرسلها لتخليص أمتها ، ووطنها من الأعداء ؛ فصدقها النّاس ، وهم المعروفون بالضلال في غياهب جهالة القرون الوسطى ، وأسلموها القيادة ؛ فحاربت أعداءها ، وهزمتهم في بادئ الأمر ، ثمّ انهزمت في نهاية الأمر. فكان أمرها عاديا كغيرها من القواد ، والمحاربين الذين ينتصرون ، وينهزمون ـ فأين إعجازها؟! وإن لم تكن فتاة معجزة ، فكيف يجوز لمن له عقل أن يشبهها بالرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ومعجزته الأبدية ثابتة ، وإلى قيام الساعة!! وقصة «جان دارك» تتكرر دائما ، ولم تخل ديار الإسلام من مثلها : كالقاديانية ، والبهائية ، وغيرها. وبعيدا عن كل تشبيه أو مقارنة ، فالمعروف عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أنّه كان عاقلا ، خلوقا ، متزنا ، صاحب رأي سديد ، ومشورة حكيمة ، وعقلانية راجحة ، وسداد خلق ، مفكرا متعبدا ، بعيدا عن سراب الجهالات ، وإسراف الخيالات. لا يحكم على الأمور إلّا بروية ، ولا يقول بقول إلّا بعلم. ولا يفتي إلّا عن بينة. وهو رسول الله يوحى إليه. روى الإمام مسلم وغيره : أنّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أبى على عائشة ـ أم المؤمنين ـ أن تقول في شأن صبي من الأنصار ـ جيء به ميتا ليصلى عليه ـ طوبى لهذا ، لم يعمل شرا ، فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «أو غير ذلك يا عائشة! إنّ الله خلق الجنة ، وخلق لها أهلا ، وخلقها لهم ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النّار ، وخلق لها أهلا ، وخلقها لهم ، وهم في أصلاب آبائهم». فالرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» يأبى على عائشة أن تحكم على مصير صبي من الأنصار ، وهو يعلم أنّ اطفال المسلمين غير

٢٤٣

المكلفين في الجنة. ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أبى أن يأتل على الله ، وأبى أن تسير عائشة مع أوهام عقلها ، وظن تفكيرها ، فتحكم بغير روية ، وبلا علم. وكذلك انظر إلى ما رواه الإمام البخاري : «أنّه لما توفي عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ قالت أم العلاء ـ امرأة من الأنصار ـ رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «وما يدريك أنّ الله أكرمه؟!» فقالت : بأبي أنت يا رسول الله ، فمن يكرمه الله؟! قال : «أمّا هو فقد جاءه اليقين. والله ، إنّي لأرجو له الخير. والله ما أدري ، وأنا رسول الله ما يفعل بي» قالت : فو الله ، لا أزكّي أحدا بعده أبدا ، وكذلك يقول القرآن الكريم : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) سورة الأحقاف آية ٩. وكفى تفنيدا لهذه الشبهة أنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ـ وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ـ عند ما أخبر صحابته أن لا يظنوا أن أعمالهم تدخلهم الجنة ، قالوا حتى أنت يا رسول الله! قال : «حتى أنا إلّا أن يتغمدني الله برحمته». وبهذا تأبى العقلانية السليمة ، والبصيرة الحاذقة ، أن تقارن فتاة واهية خيالية مدعية برسول الله محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وهو الراجح في عقله ، السديد في رأيه ، المتروي في حكمه ، الخلوق في فضائله. وتكفيه تزكية ربه له ، وهو الذي يقول فيه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم آية ٤.

خامسا : ولعل أوضح ما يفند شبهتهم أنّها تفتقد إلى الدليل ، والحجة ، والبرهان ، في كل ما يدعون ، أو يمثلون. فهم ينكرون معجزة القرآن الخارقة للعادات ، ولكل ما هو سائد ، وجار ، سواء بالنسبة للغة ، أو البيان ، أو العلوم ، ودون أي دليل أو تثبت ، والأنكى من ذلك أنّهم يماثلون بين آيات الله المعجزة ، وبين خوارق البشر العادية ، كالفتاة الفرنسية جان دارك. ولعلّ ما يصبغ الإعجاز القرآني بعين اليقين أنّه يأتي خارقا للعادات ، والسنن الكونية دون أن يماثل ، أو يستطيع أحد من البشر أن يجاريه ، أو يمثل عليه ، فضلا عن أنّه يجعل من إعجازه آيات ،

٢٤٤

ودلائل حقيقية ، وأكيدة ، وثابتة ، وتمتع بشواهد الصدق ، والألوهية في التحدي ، والإفحام في الإقناع.

ولذلك عند ما أعجز الله أعداء الإسلام بقرآنه ، أشار إلى شواهد ذلك الإعجاز من دلائل سماها آيات ، وأحاطها بمعالم ، وصفات اليقينية في البيان ، والثبوت ، والوضوح ، فقال : (آياتٍ بَيِّناتٍ). وكما يظهر في قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) سورة الحج آية ٧٢.

ومن هنا نستطيع القول دوما : إنّ إعجاز القرآن ، بخرقه للعادات والسنن الكونية ، يبقى دائما قطعيا ، ويقينيا بدلائله ، وآياته البينات. بينما تبقى ادعاءات أصحاب الشبهة دوما غير معجزة ، وتفتقد إلى الأدلة ، والبينات.

الشبهة التاسعة :

إنّ القرآن غير معجز في علومه ، وأحكامه ، وتشريعاته. فهذه لا يصح أن تكون وجها من وجوه الإعجاز. بدليل أنّها ـ وإن اعتبرت معجزات ـ فهي شبيهة بالمخترعات الكثيرة ؛ حيث لم يكن لها آثار خارقة ، أو عجيبة ، ولم تتعد في آثارها ، وتأثيراتها شواهد القدرة الاستيعابية العادية للعقول ، والأذهان. فعلوم القرآن ، وتشريعاته علوم عادية لم تخرج عن حدود ، وقدرات العقول ، والأذهان في الفهم ، والهضم والاستيعاب ، وهي بمثابة آثار لمواهب بعض الأفذاذ من النّاس «كسولون» اليوناني مثلا.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : هناك فرق كبير بين المعجزات ، وبين شواهد العلم ، وآثار المعرفة ، وروائع الفنون ، وبدائع المخترعات ، وفنون الثقافات. فالمعجزة أسبابها مجهولة ، ولا يعرف لها أسباب حتى تلتمس ، وتطرق ، ويؤتى بمثلها. فالمعجزة قد تقع فجأة ، ودون أسباب ، ومقدمات يستدل منها ويستشف على وقوعها. بينما العلوم ، والمخترعات لها أسبابها المعروفة ،

٢٤٥

وسبلها المتبعة ؛ ولا تقع فجأة ، وإنّما تدريجيا ، وبتطور حثيث ، ويمكن التماسها ، واتباعها ، واستعمالها ؛ لتحقيق مزيد من التطور في معرفة المتكشف منها ثمّ تطويره. فالسيارة ، والطائرة من وسائل النقل الحديثة لم يجر اختراعها في لحظة واحدة ؛ وإنّما استمر سنوات عديدة. ووسائل اختراعها عند ما عرفت انتقل العلم بها إلى الكثيرين ، فتعلموها ، وطوروها ، واخترعوا أمثالها ، وأفضل منها. ونفس القول يقال بالنسبة لجميع العلوم والمخترعات ، سواء التي تتعلق بالآفاق : كعلوم الفضاء ، ومركباته ؛ أو علوم النفس : كعلوم الطب ، وأجهزته ؛ أو علوم الكون الأخرى المتعلقة بالنبات ، والبحار ، والرياح ، والجبال ، والمعادن ، وما شابهها. وهذا كله على خلاف المعجزات ، فإنّها تبقى بلا وسائل ، وبلا عوامل ، وبلا أشباه ، وبلا نظائر لها.

ثانيا : هناك فرق كبير ، وبون شاسع بين علوم القرآن الإلهية ، وبين علوم العلماء البشرية. ومن السخافة بمكان أن يقارن الإلهي بالبشرى. فالعلم الإلهي دائما معجز. والعلم البشري دائما غير معجز ، ويؤتى بمثله ، وأحسن. والعلم الإلهي ثابت في إعجازه إلى أبد الآبدين ؛ فلا ينقض ، ولا يخالف. والعلم البشري غير ثابت في حقيقته ، وقابل للنقض والتطور. والعلم الإلهي في القرآن يقيني في قطعيته لا تنتابه شواهد الظنية البشرية. والعلم البشري الظني لا يقوى على مخالفة العلم اليقيني القطعي في القرآن. والحقائق العلمية القرآنية حقائق نهائية ، وقطعية. وأمّا نظيرتها البشرية ، فليس كلها ذلك. وما ثبتت يقينيته أو قطعيته من العلوم والحقائق العلمية البشرية ، فهو يقيني ، وقطعي في القرآن. وعند ما يذكّرنا القرآن بحقيقة علمية كحقيقة أطوار خلق الإنسان من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة ثمّ من عظم ثمّ من لحم ، فإنّ هذه الحقيقة العلمية تبقى أبدية في إعجازها ، وإلى أن تقوم الساعة. وعند ما يذكّرنا القرآن بحقيقة علمية علاجية كالعسل ، وشفائه ، فإنّ هذه الحقيقة العلمية تبقى معجزة ، وإلى قيام الساعة. ومن هنا لا يجوز أن تقارن علوم القرآن بعلوم البشر مهما أوتوا من عبقرية. وبذلك يبقى الفرق كبيرا بين ما جاء به القرآن ، وبين

٢٤٦

ما جاء به سولون اليوناني وغيره. ونحن نتحدى أن يثبت أحد أن علوم سولون ، وغيره كانت ثابتة ، أو اتصفت بصفات الفعالية ، والكمال في الإصلاح ، والرفاهية للأمم. ومن الخطأ الفادح أن يقارن سولون اليوناني بالرسول محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». فالأوّل كان عالما ، وقائدا عسكريا ، وإداريا ، وانتخب عام ٥٩٤ قبل الميلاد «أرجونا» أي رئيسا لأمة. وحكمها بالقانون الذي وضعه «زراكوت» من قبله. بينما الرسول محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كان أميا لا يقرأ ، ولا يكتب ، ولم يكن حاكما ، أو سياسيا ، أو زعيما. ثمّ لنا التساؤل : أين قانون سولون الآن؟!! وأين علومه؟!! وما تأثيرها على البشرية حتى على أمته ، وشعبه؟!! وما هي الحلول التي قدمتها لهم؟!! وهل حققت لهم السعادة الدنيوية؟! وهل ما زالت موجودة؟!! أين هذا من وحي السماء ، والقرآن الكريم بعلومه ، وتشريعاته ، وأحكامه ، والتي ما زالت ، وستبقى ، تثبت ، وتؤكد إعجازها في كلّ لحظة من لحظات الزمن الأبدية؟!! وأين قانون سولون ، وأين علوم العلماء ، ومخترعاتهم من وحي السماء الذي أنقذ البشرية ، وخلّصها من غياهب الجهالة ، والضلال ، ونقلها إلى بصائر النور ، والعلم ، والشفاء!! فكان القرآن الكريم بحق رحمة ، وموعظة ، وشفاء ، ونورا للناس أجمعين. ومن رفض هذا ، عاش في الظلام. وصدق قول ربنا فيه : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) سورة الإسراء آية ٨٢.

وقول ربنا يخاطب رسوله : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سورة الأعراف آية ٢٠٣.

ولنا التساؤل دوما : أين علوم البشر ، وأين علوم الوضع قديما وحديثا ، والتي إن أفادت ، قد تضر ؛ وإن نفعت ، قد لا تبقى ، وإن أسعدت ، فقد أشقت!! أين هذه من علوم القرآن التي تفيد ، ولا تضر ؛ وتنفع وتبقى ؛ وتسعد ، ولا تشقي ، والتي هي بحق أخرجت الناس من الظلمات إلى النور. وهذه حقيقة ستبقى ما بقي قول ربنا في قرآنه العظيم : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) سورة إبراهيم آية ١.

٢٤٧

هذا القرآن الخالد في نظمه ، المعجز في آياته ، وعلومه ، والذي حريّا أن يسجد له كل من آمن به ، وأوتي عقلا أو علما. وهذا ما صدق فيه قول ربنا : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) سورة الإسراء آية ١٠٧.

ولنا التساؤل دوما : لما ذا لا يكون هذا القرآن في علومه معجزا وهو القول الفصل؟ من ابتغى الهدى في غيره ، أضله الله. فكر الحضارة النيرة ، وملاذ البشرية العاقلة. فيه تبيان لكل شيء ، وهدى ، ورحمة ، وبشرى للمسلمين ، مصداق قول ربنا فيه : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) سورة النحل آية ٨٩.

ولما ذا لا يكون معجزا؟! وهو في حد ذاته برهان من عند ربنا ، وهو نور لنا. مصداق قول ربنا فيه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) سورة النساء آية ١٧٤.

ثالثا : إنّ معنى الإعجاز العلمي للقرآن يجب ألا ينحصر في الشواهد والمعاني الجامدة ، والمادية ، وإنما يجب أن يتناول الشواهد ، والمعاني الروحية التي تؤهل العقل للتفكر ، والتدبر حتى يهتدي ، ويؤمن بربه.

لقد نزل القرآن الكريم معجزا في علمه ، أساس الإعجاز فيه مخاطبته للعقل البشري ، ودعوته إليه بالبحث ، والتفكير ، والتعلم ، هدفه الاسمي هدايته إلى الله خالقه ، وخالق علمه ، وخالق هذا الوجود الّذي يحيا فيه. فالقرآن في إعجازه العلمي يؤصل معاني العقلانية السليمة في الاهتداء إلى حقيقة وجودها ، وإلى حقيقة موجدها.

وما نزل القرآن إلّا لتحديد نظم هذا الوجود بمخلوقاته ، ومن ثمّ علاقتها بخالقها. والقرآن ، وإن دعا الإنسان إلى التعلم ، واكتساب المعرفة ، وتأصيل العلوم بأنواعها ، إلّا أنّ القرآن قد نزل لأعمّ من هذا ، وهو الاهتداء بهذه العلوم ، وتسخيرها من أجل الوصول إلى حقيقة الخالق. فالقرآن مجاله النفس الإنسانية ، هاديا لها ، حاثّا لها على التفكر

٢٤٨

والتعلّم ، والبحث ضمن طاقتها العقلية التي وهبها الله لها ، وضمن حدودها المتاحة لها. ومن ثمّ فمن الخطأ أن تحاول النفس الإنسانية تثبيت القرآن بالعلم ، أو الاستدلال عليه بما تتوصل إليه من العلم. فالقرآن كتاب منهجي كامل ، وسام في وظيفته ، وفي موضوعه ؛ وحقائقه العلمية حقائق قاطعة ، ونهائية ، ومطلقة ؛ وما يصل إليه الإنسان في علومه وأبحاثه بأدواته المسخرة له هو حقائق علمية غير قاطعة ، وغير نهائية ، وهي مقيدة بحدود تجاربه ، وأدواتها ؛ وهذه لا يمكن أن تعطي حقيقة واحدة نهائية ، ومطلقة.

ومن هنا لا يجوز لنا أن نفسّر القرآن تفسيرا علميّا بمعنى أن نستدل على حقيقته ، وألوهيته في التنزيل بما يتوصل إليه الإنسان من مسائل علمية ، أو نظريات علمية. ولا يجوز تفسير القرآن بما يطابق تلك المسائل العلمية المكتشفة ، والتي يتوصل إليها الإنسان كلّ فترة ، أو بما يطابق النظريات العلمية المكتشفة دواما. ومن ثمّ لا يجوز الاستدلال بهذه المسائل ، وهذه النظريات العلمية على حقيقة القرآن ، ومن ثمّ جعلها هي المعيار في الحكم على القرآن ، وجعلها المهيمن ، والقرآن تابع.

فالاستدلال على يقينية القرآن بمناهجه ، وحقائقه يجب ألّا يتم ، بل لا يجوز أن يتم عن طريق حقائق علمية غير يقينية ، وغير قطعية ، وغير نهائية. فالمسائل العلمية ، والنظريات العلمية ، هي حقائق غير نهائية وغير قاطعة ، وهي عرضة للتغيير ، والتعديل ، والنقص ، والزيادة ، بل والنقض رأسا على عقب.

وكثير من النظريات العلمية ، والتي سادت العقل البشري أجيالا ، وأزمانا طويلة ، واعتقد أنّها أصبحت نهائية ، وقاطعة ، نقضت تماما ، وتعرضت للتغيير بل والفناء.

ومن هنا فإنّ تفسير القرآن اليقيني القطعي بمسائل غير قطعية ، وقابلة للتغيير ، والتبديل ، ومن ثمّ للنقض ، والبطلان ، يعرضه ـ أي القرآن ـ للتناقض ، كلّما نقضت تلك المسائل ، وكلما بطلت تلك النظريات.

٢٤٩

فالإعجاز العلمي للقرآن لا يفسّر باشتماله على نظريات علمية ، ومسائل علمية تخمينية غير يقينية ، وغير قطعية ، وقابلة للتفويض ، والتعديل ، والبطلان ؛ وإنّما يفسّر بدعوته للعقل البشري إلى التعقل ، والتدبر ، والتفكر ، والتعلم ، والتبحر في ميادين العلوم ، ومخلوقات الله ، ومن ثمّ الاستدلال بها على خالقها ، وموجدها ، ومنظمها.

ولنا في حديث الشهيد سيد قطب أسوة حسنة في تأصيل هذه المعاني حيث يقول في تفسيره في ظلال القرآن : «إنّ الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة ... أمّا ما يصل إليه البحث الإنساني ـ أيّا كانت الأدوات المتاحة له ـ فهي حقائق غير نهائية ، ولا قاطعة ، وهي مقيدة بحدود تجاربه ، وظروف هذه التجارب ، وأدواتها ، فمن الخطأ المنهجي ـ بحكم المنهج العلمي الإنساني ـ أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية ، وهي كلّ ما يصل إليه العلم البشري». هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية ، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى علمية ، فهي قابلة دائما للتغيير ، والتعديل ، والنقض ، والإضافة ، بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب بظهور أداة كشف جديدة ، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة. وكلّ محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيّرة ، أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة تحتوي أولا على خطأ منهجي أساسي.

كما أنّها تنطوي على معان ثلاثة كلّها لا يليق بجلال القرآن الكريم.

الأولى : هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض النّاس أنّ العلم هو المهيمن ، والقرآن تابع. ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم ، أو الاستدلال له من العلم ، على حين أنّ القرآن كتاب كامل في موضوعه ، ونهائي في حقائقه ؛ والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس. وكلّ ما يصل إليه غير نهائي ، ولا مطلق ؛ لأنّه مقيد بوسط الإنسان ، وعقله ، وأدواته. وكلّها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية ، ومطلقة.

٢٥٠

الثانية : سبق فهم طبيعة القرآن ، ووظيفته ، وهي أنّه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية مع طبيعة هذا الوجود ، وناموسه الإلهي ؛ حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله بل يصادفه ، ويعرف بعض أسراره ، ويستخدم بعض نواميسه من خلافته ؛ نواميسه التي تكشف له بالنظر ، والبحث ، والتجريب ، والتطبيق وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلّم المعلومات المادية جاهزة.

الثالثة : هي التأويل المستمر مع التحمل ، والتكلّف لنصوص القرآن كي نحملها ، ونلهث بها وراء الفروض ، والنظريات التي لا تثبت ، ولا تستقر ، وكلّ يوم يجد فيه جديدا.

ومن هنا وكما يقول فضيلة الشيخ محمد الغزالي : فإنّ كلّ حقيقة علمية قطعية هي قطعية في القرآن. وكلّ مسألة من مسائل العلم يثبت يقينها هي يقينية في القرآن.

ولنا القول : بأنّ الحقائق اليقينية القطعية هي كذلك في القرآن ، ولا تعارض بينها ، وبين القرآن. وهناك الحقائق العلمية اليقينية القطعية ، والتي اكتشفها ، ولا يزال يكتشفها الإنسان ، وردت شواهدها في القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرنا. بل ونص عليها القرآن ؛ معجزا للبشرية ، وهاديا لها حيث لم يسع العلم بعلمائه ، وأجهزته ، وأدواته ، إلّا أن يعترف بها ويخشع لخالقها ، تدعمها الآيات القرآنية العديدة التي تحث العقل البشري ، وتستزيده على الحقيقة العلمية ، وبالبحث ، والتقصّي ، وبالتدبر ، والتأمل في علوم الله ، ومخلوقاته ، حيث جعل منها شواهد على الإيمان يستدل بها الإنسان على ربه خالقه ، وخالقها.

ولنا أن نؤصل معالم الإعجاز العلمي في القرآن ضمن الموضوعين التاليين :

الأول : الإعجاز القرآني في الدعوة إلى العلم.

الثاني : الإعجاز القرآني في الحقائق العلمية.

٢٥١

الإعجاز القرآني في الدعوة إلى العلم (١)

يتجلّى الإعجاز العلمي للقرآن واضحا في الدعوة إليه ؛ يحدوه في ذلك العناية الربانية لبني الإنسان في الهداية ، والإيمان ، والتوحيد ، ومن ثمّ السعادة في الدنيا ، والآخرة. يؤازر ذلك كلّه الآيات القرآنية العديدة داعية الإنسان إلى طلب العلم ، وتقصّي الحقيقة العلمية ؛ وذلك ضمن معان وصيغ ، مآلها التعقل ، والتدبر ، والتفكر ، والتقصي ؛ وغايتها تحقيق غاية الإيمان بتحقيق غاية العلم.

الإعجاز القرآني بنسبة العلم إلى خالقه :

قال تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٢).

وقال تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣).

وقال تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٤).

التأصيل القرآني بتكريم أهل العلم :

قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٥).

وقال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦).

__________________

(١) أنظر في مثل هذه الأنواع ، والأمثله من الإعجاز القرآني ـ دكتور غازي عناية ـ كتاب : منهجية البحث العلمي عند المسلمين ص ٢٩.

(٢) سورة يوسف ، آية ٧٦.

(٣) سورة النساء ، آية ١٧٦.

(٤) سورة البقرة ، آية ٣٢.

(٥) سورة فاطر ، آية ٢٨.

(٦) سورة آل عمران ، آية ١٨.

٢٥٢

وقال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (١).

الإعجاز القرآني بإقران العلم بالنظر في مخلوقات الله :

قال تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢).

وقال تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٣).

وقال تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٤).

الإعجاز القرآني بإقران العلم بالتفكر والتعقل :

قال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥).

وقال : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦).

وقال تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٧).

الإعجاز القرآني بإقران العلم بآيات الله :

قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (٨).

__________________

(١) سورة المجادلة ، آية ١١.

(٢) سورة يونس ، آية ١٠١.

(٣) سورة العنكبوت ، آية ٢٠.

(٤) سورة الغاشية ، آية ١٧ ـ ٢٠.

(٥) سورة الأنعام ، آية ٥٠.

(٦) سورة الزخرف ، آية ٣.

(٧) سورة النحل ، آية ٦٧.

(٨) سورة الروم ، آية ٢٢.

٢٥٣

وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (١).

الإعجاز القرآني بإقران العلم بالدعاء :

قال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٢).

وقال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (٣).

الإعجاز القرآني بإقران العلم بالغيب :

قال تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٤).

وقال تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٥).

وقال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (٦).

الإعجاز القرآني بإقران العلم بالإيمان :

قال تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) (٧).

__________________

(١) سورة الروم ، آية ٢٣.

(٢) سورة طه ، آية ١١٤.

(٣) سورة محمد ، آية ١٩.

(٤) سورة المائدة ، آية ١١٦.

(٥) سورة البقرة ، آية ٣٣.

(٦) سورة يوسف ، آية ١٠٢.

(٧) سورة آل عمران ، آية ١٦٦.

٢٥٤

الإعجاز القرآني بإقران العلم بالحكمة :

قال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (١).

وقال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢).

الإعجاز القرآني بإقران العلم بالتوحيد :

قال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٣).

الإعجاز القرآني في الحقائق العلمية. (٤)

إنّ أصالة القرآن في إعجازه العلمي ركيزتها العقيدة ، وسلاحها العلم ، وشواهدها حقائق العلم في مختلف العلوم ، ونواحي الحياة ، ذكرها القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرنا معجزا ، وهاديا للبشرية في آن واحد ؛ لتعرف ربّها ، وتخضع لخالقها ؛ اعترافا ، وحمدا على نعمائه. فالعلم هو دعوة القرآن الأولى في الإعجاز ، والهداية ، فالعلم روح الإيمان ، ومؤشر النجاة. توّج القرآن دعوته للعلم بحقائق العلم أوردها على سبيل الترغيب والترهيب في آن واحد أنكرتها البشرية الجاحدة فترة من الزمن رضخ لها العلم حديثا لم يستطع أن ينكرها ، أو أن يجحدها ، مؤكدا معترفا أنّها حقائق قطعية في قرآن يقيني لم يزعزعه أي اختلال في حقائقه ، ولم تشبه أية شائبة في علومه ، معجزا ودالا للبشرية جمعاء أنّ ما هو قطعي في العلم ، هو قطعي في القرآن.

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ٤٨.

(٢) سورة آل عمران ، آية ١٦٤.

(٣) سورة محمد ، آية ١٩.

(٤) أنظر في مثل هذه الحقائق العلمية دكتور غازي عناية ـ مناهج البحث العلمي في الإسلام ـ طبعة دار الجيل ـ بيروت ص ٤٢.

٢٥٥

أمثلة على الحقائق العلمية في القرآن :

الحقيقة العلمية الأولى :

حقيقة خلق الإنسان من طين.

قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١).

وقال تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٢).

وقال تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٣).

الحقيقة العلمية الثانية :

حقيقة خلق الإنسان من ماء مهين.

قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٤).

وقال تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٥).

وقال تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٦).

الحقيقة العلمية الثالثة :

حقيقة خلق الإنسان أطوارا.

قال تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (٧).

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية ١٢.

(٢) سورة السجدة ، آية ٧.

(٣) سورة ص ، آية ٧١.

(٤) سورة الطارق ، آية ٥ ـ ٧.

(٥) سورة المرسلات ، آية ٢٠.

(٦) سورة السجدة ، آية ٨.

(٧) سورة نوح ، آية ١٤.

٢٥٦

وقال تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (١). والظلمات الثلاثة هي الغشاء المنباري ، والخوريون ، واللفائفي.

وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢).

الحقيقة العلمية الرابعة :

حقيقة خلق كلّ شيء حي من ماء.

قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٣).

الحقيقة العلمية الخامسة :

حقيقة القيمة الغذائية والعلاجية للعسل.

قال تعالى : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤).

ولقد أكدت التجارب التي أجريت على العسل في جامعة «ليبزيغ» في ألمانية أنّه يحتوي على نسبة ٢٥ ـ ٤٠ خ من الجلوكوز ، والتي تستخدم في علاج الكثير من الأمراض ، وتشكل عنصرا رئيسيا في صناعة الكثير من الأدوية كمغذية ومعالجة في آن واحد. ولقد أثبت أحد

__________________

(١) سورة الزمر ، آية ٦.

(٢) سورة المؤمنون ، آية ١٢ ـ ١٤.

(٣) سورة الأنبياء ، آية ٣٠.

(٤) سورة النحل ، آية ٦٩.

٢٥٧

الجراحين في مستشفى «نور فلك» في إنجلترا إيجابية العسل في قتل البكتيريا أثناء ، وبعد العمليات الجراحية ؛ ممّا يساعد على التئام الجروح. كما أعلن البرفيسور الفرنسي «كلود هيليو» أنّ عسل النحل الملكي له القدرة الكبيرة على قتل الجراثيم (١).

ويذكر دكتور عبد العزيز إسماعيل : «وإذا علمنا أنّ الجلوكوز يستعمل مع الأنسولين حتى في حالة التسمم الناشئ عن مرض البول السكري علمنا مقدار فوائده. وإنّ القرآن الكريم لم يذكره بطريق المصادفة ، ولكنّه تنزيل ممن خلق الإنسان ، والنحل» (٢).

الحقيقة العلمية السادسة :

حقيقة أضرار الخنزير.

قال تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (٣).

لقد أثبتت التجارب التي أجريت على حوالي خمسين في المائة من الخنازير في بعض الولايات المتحدة الأمريكية : أنّها مصابة بمرض «تركيتا» وهو نوع من السموم تفرزه ديدان تحمل هذا الاسم ، وتسبب أمراضا تشبه الكوليرا (٤).

ويقول بيتي ديكسون : «إنّ الإصابة بها تكاد تكون عامة في جهات من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا ، ولكنها تكاد تكون نادرة الوجود في البلاد الشرقية ؛ لتحريم دين أهلها أكل لحم الخنزير» (٥).

__________________

(١) دكتور يوسف السويدي : كتاب : الإسلام والعلم التجريبي ـ ص ٦٤.

(٢) دكتور عبد العزيز اسماعيل ـ كتاب الإسلام والطب الحديث ص ١٩٩.

(٣) سورة البقرة آية ١٧٣.

(٤) دكتور يوسف السويدي ـ الإسلام والعلم التجريبي.

(٥) دكتور عبد الرزاق الشهرستاني : كتاب أسس الصحة والحياة.

٢٥٨

وقد ثبت علميا أنّ لحم الخنزير يحتوي على «ديدان التريخينا» ؛ وأنّ الأنثى الواحدة من هذه الديدان تضع نحو ١٥٠٠ جنينا في الغشاء المبطن لأمعاء المصاب ؛ فتتوزع الملايين المولودة من الإناث بطريق الدورة الدموية إلى جميع أنحاء الجسم ، فتتجمع الأجنّة في العضلات حيث تسبب آلاما شديدة ، والتهابات عضلية مؤلمة تدعو إلى انتفاخ النسيج العضلي ، وتكوّن الأورام.

وقد ثبت أيضا أنّ نسبة الترسبات الدهنية في لحم الخنزير أكثر من ضعفي اللحوم العادية ، وأنّ هذه الترسبات تفرز مادة الكولسترول «التي تساعد كثرتها على تصلب الشرايين ، وبالتالي الجلطة في القلب» (١).

وقد أثبتت أحدث التحليلات العلمية أنّ فيروس الأنفلونزا يتوطن داخل جسم الخنزير يكمل دورة نموه فيه.

الحقيقة العلمية السابعة :

حقيقة أضرار شرب الخمر.

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مسكر خمر ، وكلّ خمر حرام» (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، ومبتاعها ، وبائعها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليشربنّ أناس من أمّتي الخمر ويسمّونها بغير اسمها» (٥).

__________________

(١) دكتور عبد الرزاق الشهرستاني : كتاب أسس الصحة والحياة.

(٢) سورة المائدة ، آية ٩٠.

(٣) أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود في السنن.

(٤) أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود في السنن.

(٥) أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود في السنن.

٢٥٩

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله أنزل الدواء ، وجعل لكلّ داء دواء ، فتداووا ولا تتداووا بحرام» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطارق الجعفي عند ما سأله عن الخمر ، فنهاه. فقال طارق : إنّما أصفها للدواء. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه ليس بدواء ، ولكنه داء» (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا شفاء في نجس» (٣).

يقول دكتور «أوبري لويس» رئيس قسم الأمراض النفسية في جامعة لندن ، ونشره في أشهر مرجع طبي بريطاني «برايس الطبي» : «إنّ الكحول هي السّمّ الوحيد المرخص بتداوله على نطاق واسع في العالم كلّه ، ويجده تحت يده كلّ من يريد أن يهرب من مشاكله. وبهذا يتناوله مضطربو الشخصية ، ويؤدي هو بذاته إلى اضطراب الشخصية ، وإنّ جرعة واحدة من الكحول تسبب التسمم ، وتؤدي إلى الهيجان أو الخمود ، وقد تؤدي إلى الغيبوبة. أمّا شاربو الخمر المدمنون فهم عرضة للانحلال الخلقي الكامل ثمّ الجنون».

ويقول دكتور «لورنس» رئيس قسم الطب العلاجي في جامعة لندن : «أوّل ما يفقد من وظائف المخ بواسطة الكحول هو القدرات الدقيقة على الحكم ، والملاحظة ، والانتباه. كما أنّ الكفاءة العقلية والبدنية تنخفض بتناول الكحول مهما كانت الكمية قليلة ، وتقلّل من دقة النظر ، ومن القدرة على السمع الجيد ، والشّم ، والتذوق. كما تؤدي إلى فقدان توازن العضلات.

وأثبت العالمان : «ستوكار» «وشارات» أنّ الكحول تنتقل بالوراثة

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه.

(٢) أخرجه مسلم والترمذي.

(٣) أخرجه الصحيح.

٢٦٠