شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

المبرز ، وتجد المساوي المتكافئ ، وتجد اللاحق المتخلف ؛ دون أن يكون اختلاف طرقهم فادحا فيما يكون بينهم من هذا التفاضل ، أو التكامل ، أو التماثل. وهكذا تراهم ، وهم مختلفون في المنازل ، يقع بينهم التماثل كما يقع بينهم التفاضل. ويعرف هذا بنسبة ما قطعه كل منهم من طريقه إلى ذلك الهدف المشترك. وكذلك المتنافسون في حلبة البيان ، يختار كل واحد منهم طريقته الخاصة به ، والتي يرضاها لنفسه ، ويستريح لها ، وتتناسب مع استعداده الفطري ، والأدبي للوصول إلى غايته المنشودة في عالم البيان. ثمّ يقع بينهم التفاوت ، والتفاضل ، والتعادل ؛ وذلك بمقدار مواهبهم البيانية ، وقدراتهم البلاغية ، وبمقدار وفائهم لخصائص البيان ، أو نقصهم منها. فالمدعوون إلى معارضة القرآن : فمنهم الأكفاء ، والأنداد في عالم البيان للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ؛ ومنهم الأكفاء منه ، ويسبقونه بيانا ، وفصاحة ، ومنهم الأدنى منه.

فالمدعوون الأنداد للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» سيأتون بشيء أو بمثل ما جاء به. والمدعوون الأكفاء منه سيأتون بأعلى مما جاء به ، والأدنى منه ، فلن يشق عليهم ، ولن يكبر عليهم أن يأتوا بقريب مما جاء به أو بشيء من مثله ؛ ومع احتفاظ كل منهم بنمطه في الكلام ، ونمطه في البيان ، وأسلوبه في المخاطبة. ولكن شيئا من هذه المراتب الثلاث لم يتم ، ولم يحصل ، ولم يتحقق ، وإلّا لبطل التحدي ، ولفشل الإعجاز. فالعرب بشعرائهم وفصحائهم ، وأدبائهم ، ومن مختلف المستويات البيانية ، بشعرائهم وفصحائهم ، وأدبائهم ، ومن مختلف المستويات البيانية ، والبلاغية ، واللغوية ، والنحوية ، لم يستطيعوا أبدا أن يأتوا بأعلى منه ، أو بمثله ، أو بما يقاربه. لا بالنسبة إليه كله ، وكان كله النازل منه عند ما تحدّاهم فقط ثمان وأربعين سورة. فتحداهم أن يأتوا بمثله ، ففشلوا ـ مصداق قوله تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) سورة الطور آية ٣٤.

ولم يستطيعوا بالنسبة لعشر سور من مثله. مصداق قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ

٢٠١

دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة هود آية ١٣. ولم يستطيعوا حتى بالنسبة لسورة واحدة من مثله. مصداق قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة يونس آية ٣٨.

وبذلك عبّر القرآن عن إعجازه في تحديه لهم بالتيئيس لهم بعدم القدرة في التحدي حتى لو كان من في الأرض جميعا من الإنس ، والجن ظهيرا لبعضهم البعض في ميدان التحدي ، فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) سورة الإسراء آية ٨٨. قال الإمام فخر الدين الرازي : «وجه الإعجاز : الفصاحة ، وغرابة الأسلوب ، والسلامة من العيوب». ولنا أن نتساءل : هل استطاع أي منهم ـ وهم أهل الميدان البياني ، وفوارس الميدان البلاغي ـ أن يأتي بكلام ، وعلى نمط ، وأسلوب ، ومنهج اكتملت فيه علامات البيان ، وتحققت فيه شواهد الإعجاز؟!! كلا ثمّ كلا. فقد فشلوا ، وقد خسروا في ميدان الرهان ، وبقي القرآن ، وسيظل هو الفائز الرابح ، وإلى الأبد بإذن الله في ميدان التحدي ، والإعجاز. اللهم فاشهد. ولنا أن نؤكد أن وجه الإعجاز في القرآن راجع إلى التأليف الخاص به لا إلى التأليف المطلق. فلو نزعت لفظة منه لم يستطع لسان العرب أن يأتي أو يوجد غيرها ، وفي محلها. فقامت الحجة بفصاحته ، وبلاغته على العرب قاطعة. وكما يقول القاضي أبو بكر الباقلاني : «وجه إعجازه ما فيه من النظم ، والتأليف ، والتوصيف ، وأنّه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ، ومباين لأساليب خطاباتهم. ولهذا لم يمكنهم معارضته ، ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعها في الشعر ؛ لأنّه ليس مما يخرق العادة. ونظم القرآن ليس له مثال يحتذى ، ولا إمام يقتدى به ، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا» (١).

__________________

(١) السيوطي ، الإتقان. ج ٢. ص : ١١٩.

٢٠٢

الشبهة الثالثة :

إنّ عجز النّاس عن الإتيان بمثل القرآن لا يدل على أنّه معجز. ودليل ذلك : أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثل الكلام النبوي. ومع ذلك فعجزهم هذا لا يدل على إعجاز الكلام النبوي أو قدسيته ـ وكذلك القرآن ، فإنّ العجز عن الإتيان بمثله لا يثبت إعجازه ، أو أنّه كلام الله ، كما لا يثبت قدسيته. فالعرب في قصورهم البياني ، والبلاغي عن البلاغة المحمدية كان سببا في عجزهم عن الإتيان بمثل الكلام النبوي. وهو كذلك السبب نفسه الذي أعجزهم عن معارضة القرآن. وبهذا فإن هذا العجز لا يدل على ، ولا يثبت قدسية الأسلوب القرآني كما لا يدل على ، ولا يثبت قدسية الأسلوب النبوي.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : إنّ الحديث النبوي غير معجز ، وغير متحدى به كالقرآن. وما التفاوت ، والفضيلة البيانية ، والقدرة البلاغية بين الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وبين خاصة العرب من أهل البلاغة ، والبيان ؛ وما التفاوت هذا إلّا في حدود القدرة البشرية ، وليس بالأمر الشاذ الخارق للعادة. والرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وهو أفصح العرب ، وله المقام الأوّل في الصنعة البيانية ، والقدرة البلاغية ، إلّا أنّه بالنسبة لغيره من فصحاء العرب كالتفاوت بين البليغ ، والأبلغ ، وبين الحسن ، والأحسن. وبذلك فكلامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بسماته البيانية ، وخصائصه البلاغية قريب جدا إلى نظيره ، وهو كلام فصحاء العرب ، ومن ثمّ لا يستحيل على هؤلاء الفصحاء أن يأتوا ولو بقدر يسير من كلام الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ؛ وإن أعجزهم ذلك ، فإنّه لا يستحيل عليهم إن يأتوا بحديث أو كلام قريب منه ، ولو كان يسيرا. فالكلام النبوي لا يعجزهم ؛ بل لم يعجزهم أن يأتوا بالقليل اليسير الذي يشبهه ، أو القريب منه. وكذلك فإنّ سعة التحدي ، والإعجاز في الميدان البياني تسمح لكل من الكلام النبوي ، وكلام نظرائه من البلغاء العرب أن يتنافسا في هذا الميدان. ولو أنّ ذلك يتم تحت معيار

٢٠٣

التفوق للكلام النبوي ، ولكن ليس تحت معيار العجز المطلق بالاقتراب منه ، أو العجز المطلق في مماثلته. فكل متنافس يدلي بدلوه ، ويتقدم بصنعته ، ويباري بأسلوبه ؛ فإن عجز ، فلا يمنع أن يتقوى بحليفه أو قرينه ؛ فإن عجز ، فجماعته ، وجماعة البلغاء ، والفصحاء من العرب لا تعجزهم حتما شواهد البلاغة ، ومؤشرات الفصاحة النبوية. فهم وإن عجزوا عن الإتيان بمثل الكلام النبوي ، فلا يعجزون حقا عن أن يأتوا بشيء ، ولو قليل قريب منه أو يشابهه ـ وأين هذا من القرآن الكريم ـ فإعجازه في التحدي لا يتناول الفرد أو الفردين ، والجماعة أو الجماعتين ، وإنّما يتناول غاية البشر ، والجن ، وإلى قيام الساعة. فهو دائما معجز لهم حتى ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وصدق ربنا ، وهو يقول في هذا المقام : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) سورة الإسراء آية ٨٨.

ولشيخنا الزرقاني كلام مفيد في هذا المقام : فهو يقول : وإنّما قلنا إنّ الحديث النبوي لا يعجز بعض الخواص الممتازين أن يأتي بمثله ؛ لأنّ التفاوت بين الرسول ، وبلغاء العرب مما يتفق مثله في مجاري العادة بين بعض النّاس ، وبعض في حدود الطاقة البشرية : كالتفاوت بين البليغ والأبلغ ؛ والفصيح ، والأفصح ؛ والحسن ، والأحسن. وليس هذا التفاوت بالأمر الشاذ الخارق للنواميس العادية جملة ؛ بحيث تنقطع الصلة بين الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وسائر البلغاء جميعا ؛ لاختصاصه من بينهم بفطرة شاذة لا تمت إلى سائر الفطر بنسب إلّا كما ينسب النقيض إلى النقيض ، والضد إلى الضد. كلا بل إن هذا القول باطل من وجهين :

أحدهما : إنّه يخالف المعقول ، والمشاهد لما هو معروف من أن الطبيعة الإنسانية العامة واحدة ؛ ومن أن الطبائع الشخصية يقع بينها التشابه ، والتماثل في شيء ، أو أشياء في واحد ، أو أكثر في زمن قريب ، أو أزمنة متطاولة ، في كل فنون الكلام ، أو في بعض فنونه.

والآخر : أنّه يخالف المنقول في الكتاب ، والسنة ، من أنّ البشرية

٢٠٤

قدر مشترك بين الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وجميع آحاد الأمة. ولا ريب أن لهذه البشرية المشتركة وجه شبه يؤدي لا محالة إلى المماثلة بين كلامه ، وكلام من تجمعه بهم رابطة ، أو روابط خاصة على نحو ما قررنا. أليس الله يقول : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً). ويقول : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) ثمّ أليس الرسول يقول في الحديث الشريف : «إنّما أنا بشر ، وإنّكم تختصمون إلي» إلخ. ويقول لرجل رآه ، فامتلأ منه فرقا ورعبا. «هوّن عليك ، فإنّي لست بملك ؛ وإنّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد». وأيضا فإنّ لشيخنا محمد عبد الله دراز كلاما مفيدا في هذا المقام ، فهو يقول : «وأما إن قيل : إن التفاوت بينه «عليه‌السلام» ، وبين سائر البلغاء كان إلى حد انقطاع صلتهم به جملة ؛ لاختصاصه من بين العرب ، ومن بين النّاس بفطرة شاذة لا تنتسب إلى سائر الفطر في قليل ، ولا كثير إلّا كما تنتسب القدرة إلى العجز ، أو الإمكان إلى الاستحالة ، فلا شك أن القول بذلك هو آخر القول بأنّ من الإنسان ما ليس بإنسان ، أو هو التسليم بأنّ ما يجيء به هذا الإنسان لا يكون من عمل الإنسان. ذلك أن الطبيعة الإنسانية العامة واحدة. والطبائع الشخصية تقع فيها الأشياء ، والأمثال في الشيء بعد الشيء ، وفي الواحد بعد الواحد ؛ إن لم يكن ذلك في كل عصر ، ففي عصور متطاولة ؛ وإن لم يكن في كل فنون الكلام ، ففي بعض فنونه. وكم رأينا من أناس كثيرة تتشابه قلوبهم ، وعقولهم ، وألسنتهم ؛ فتتوافق خواطرهم ، وعباراتهم حينا ، وتتقارب أحيانا ؛ حتى لقد يخيل إليك أن الروح الساري في القولين روح واحد ، وأنّ النفس هاهنا هو النفس هناك. وكذلك رأينا في الأدباء المتأخرين من يكتب بأسلوب ابن المقفع ، وعبد الحميد ـ الكاتب ، ومن يكتب بأسلوب الهمذاني ، والخوارزمي ، وهلم جرا. فلو كان أسلوب القرآن من عمل صاحبه الإنسان ، لكان خليقا أن يجيء بشيء من مثله من كأن أشبه بهذا الإنسان مزاجا ، وأقرب إليه هديا ، وسمتا ، وألصق به رحما ، وأكثر عنه أخذا ، وتعلما. أو لكان جديرا بأصحابه الذين نزل القرآن بين أظهرهم ، فقرءوه ، واستظهروه ، وتذوقوا معناه ،

٢٠٥

وتمثلوه ، وترسموا خطواته ، واغترفوا من مناهله أن يدنوا أسلوبهم شيئا من أسلوبه على ما تقضي به غريزة التأسي ، وشيمة نقل الطباع من الطباع ، ولكن شيئا من ذلك كله لم يكن»(١).

ثانيا : إنّ من الخطأ الفادح تشبيه القرآن الإلهي بالكلام النبوي تبعا لمعيار أو بناء على معيار ليس بدقيق ، وليس بمانع ؛ وحتى لم تثبت صحته ، ونقضت سلامته. وهو معيار العجز النسبي عن الإتيان بمثل الكلام النبوي. والثابت المتواتر أنّ العجز بالنسبة للقرآن الكريم عجز مطلق ، فإعجازه مطلق سواء بالنسبة للبشر جميعا ، أو الجن جميعا ، وفي مختلف الأزمنة ، والأمكنة وإلى قيام الساعة. والثابت المتواتر أيضا أنّ العجز بالنّسبة للكلام النبوي عجز نسبي. فإعجازه نسبي ، وغير مطلق ؛ ولو بالنسبة للقليل اليسير المماثل له ، أو القريب منه. ولذلك وإيضاحا لما نقول نؤصل أمرين اثنين :

الأوّل : إنّ الحديث النبوي الشريف يقترب كثيرا ، ويشابه كثيرا ، ولو إلى حد ما ، كلام كثير من الصحابة ، والتابعين. ويصل بنا هذا التماثل وهذا التشابه إلى درجة أنّه يلتبس حتى على الكثير من المحدثين ، أو أصحاب الاختصاص في علم الحديث ، أو أصحاب الاختصاص في التفسير ؛ وهل هو حديث مرفوع ينتهي إلى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ،!! أم أنّه موقوف عند الصحابي ،! أم أنّه مقطوع عند التابعي!! إلى أن يرشدنا السند إلى قائله؟

وقد استبان هذا التشابه بين كلام الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وكلام الصحابة والتابعين المقربين جدا إليه ، كالإمام علي ـ رضي الله عنه ـ وإلى درجة جعلت نفسه في الكلام من أشبه الأنفاس بكلام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» إن لم يكن أشبهها. ولنا أن نتساءل : فأين القرآن من الحديث النبوي في التماثل والتشابه؟! وأين القرآن الكريم من أحاديث الصحابة ، والتابعين في هذا المقام؟! فكيف يقارن القرآن الإلهي بالكلام البشري ؛ وبحجة معيار لم

__________________

(١) د. محمد عبد الله دراز ـ النبأ العظيم ـ ص ٩٧.

٢٠٦

تثبت صحته المطلقة في ميدان المقارنة؟!! وهو عدم القدرة على الإتيان بمثل الكلام النبوي ، أو إعجازه النسبي.

الثاني : إنّ عدم قدسية الكلام النبوي لا يجوز أن يحتج بها ، ولا تصلح أن تكون دليلا على أن القرآن غير قدسي. فالثابت ، وبالدليل القاطع أنّ إعجاز القرآن المطلق ليس كإعجاز الكلام النبوي النسبي. فلو كان القرآن في أسلوبه ، وخصائصه البيانية ، والبلاغية من عمل صاحبه ، أي من تأليف صاحب الكلام النبوي لتماثلا من حيث الإعجاز ، وكان هذا الإعجاز مطلقا لكليهما. وهذا ما لم يحدث ، ولم يثبت. فالقرآن يختلف تماما في أسلوبه وبيانه ونسقه عن الحديث النبوي. والرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كثيرا ما كان يشير في أحاديثه إلى مثل هذه الفروق بين حديثه ، وبين القرآن ، ويدعو أصحابه أن يهتموا بالقرآن حفظا ، وتلاوة ، وكتابة ، وكما ورد في بعض الأحاديث النبوية : «لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه». وغني عن البيان القول : إن الفارق بين أسلوبي القرآن ، والحديث النبوي من الثبوت ، والوضوح وإلى درجة أنّه لا يستطيع أن يماري بها أي ممار ، أو أي مجادل. وكما يقول شيخنا محمد دراز عبد الله : «لو كان الأسلوب القرآني صورة لتلك الفطرة المحمدية ، لوجب أن تنطبع هذه الصورة على سائر الكلام المحمدي ؛ لأنّ الفطرة الواحدة لا تكون فطرتين ، والنفس الواحد لا يكون نفسين ، ونحن نرى الأسلوب القرآني فنراه ضربا وحده ؛ ونرى الأسلوب النبوي ، فنراه ضربا وحده لا يجري مع القرآن في ميدان إلّا كما تجري محلقات الطير في جو السماء لا تستطيع إليها صعودا. ثمّ نرى أساليب النّاس ، فنراها على اختلافها ضربا واحدا لا تعلو عن سطح الأرض. فمنها ما يحبو حبوا ، ومنها ما يشتد عدوا» ويتابع قوله : «أمّا الأسلوب القرآني ، فإنّه يحمل طابعا لا يلتبس معه بغيره ، ولا يجعل طامعا يطمع أن يحوم حول حماه ، بل يدع الأعناق تشرئب إليه ثمّ يردها ناكسة الأذقان على الصدور» (١).

__________________

(١) د. محمد عبد الله دراز ـ النبأ العظيم. ص ٩٩.

٢٠٧

وكذلك لو كان القرآن الكريم في أسلوبه ، وبيانه من عمل الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، لما استحال على المقربين منه ، أو الأقربين منه فصاحة ، وبلاغة ، وبيانا ، ولما استحال على أصحابه الذين أخذوا منه ، وتعلموا أسلوبه ، ونقلوا عنه فصاحته ، وبيانه ، أن يقتربوا بأسلوبهم من أسلوب القرآن الكريم ، كما اقتربوا من أسلوب الحديث. ولكن هذا لم يحدث على الإطلاق. وبحيث ، وباليقين عند أصحاب اليقين ، وبالدليل عند من تنكر للدليل أن القرآن يظل ، وسيظل دوما مستقلا بأسلوبه ، ومنفردا بطابعه البياني ، ساميا بخصائصه البلاغية ، وسماته النسقية ، والإعجازية عن أي أسلوب أو كلام أو نسق بشري أو جني ، وإلى أبد الآبدين ، حتى ولو كان كلاما نبويا.

فأسلوب القرآن يسمو بسماته الإلهية لا يشابه ، ولا يماثل. والكلام النبوي يسمو بسماته النبوية ، ولكن قد يشابه ، وقد يماثل. والكلام البشري يسمو ، ولا يسمو ، ويشابه ، ويماثل دوما.

الشبهة الرابعة :

إنّ القرآن غير معجز في أسلوبه. بدليل أنّه لم يخرج عمّا هو معهود عند العرب من أساليب ، وتراكيب ، ومناهج لغوية. فمن حروفهم ركبت كلماته ، ومن كلماتهم ألفت جمله ، ومن تراكيبهم ، ومفرداتهم جاءت آياته ، وعلى مناهجهم ، وأساليبهم في التأليف جاء منهاجه. والقرآن في لغته ضمن أسلوبه مفردات موادها ، وأبنيتها هي ذاتها التي انبنت عليها مفردات لغة العرب ، وأساليبهم ، ومناهجهم. والقرآن في مادته الكلامية يستقي من نفس مادة العرب الكلامية. والقرآن في صنعته البيانية لا يخرج عن صنعتهم البيانية. فالقرآن لا يخرج في مادته الكلامية ، وصنعته البيانية ، ومفرداته ، وتراكيبه ، وأساليبه ، ومناهجه عمّا هو معهود لدى العرب. فكيف يكون معجزا؟!! وكيف يتسنى ، وكيف يصح القول بأنّه معجز وفي أسلوبه ، وتراكيبه ، ومناهجه تلك؟!! فما هذا القول إلّا تحصيل ، حاصل ومن قبيل العبث ، والادعاء في الكلام ليس إلّا.

٢٠٨

تفنيد هذه الشبهة :

إننا ، ونحن ننتقض هذه الشبهة نحتج بالحجة ، وبالشهادة.

أولا : وأما بالنسبة للحجة : فإنّنا نستطيع القول ، وبكل ثقة : إنّ حجتهم التي يؤيدون بها شبهتهم هي نفسها التي ننقض بها شبهتهم. والمثل يقول : من فمه أدينه.

فكون لغة القرآن من نفس مادة العرب الكلامية ، وكون مادته الكلامية من نفس مادتهم الكلامية ، وكون صنعته البيانية هي نفسها ، ولم تخرج عن صنعتهم البيانية ، فهذا هو الإعجاز بعينه. ولو لم يكن القرآن كذلك ، لما كان معجزا في لغته ، وأسلوبه ، ومادته. فالإعجاز بالتحدي لا يكون حقيقيا ، ويفقد كل معنى ذي بال ، ومفيد إذا لم تكن الأمور والشواهد التي يتحدى بها من جنس معالم الميدان الذي يعمل فيه المتحدي.

وهكذا القرآن ، وهو يتحداهم بمادته الكلامية ، وهي مادتهم ؛ وهو يتحداهم بصنعته البيانية ، وهي صنعتهم ، ثمّ يفشلوا ، ولا يثبتوا في هذا الميدان الذي هم فوارسه ، وأساتذته ؛ ثمّ يلقون أسلحتهم وهي التي تحداهم القرآن بها. فلعمر الله ، إنّه هو الإعجاز الحقيقي ، والنافذ.

وهكذا القرآن ، وهو يتحداهم بشيء يملكونه ، ويملكون أدواته ، ومراده ؛ وبصناعة يملكون أدواتها ، ويتقنونها ، ويبرعون فيها ثمّ يفشلون ، ويلقون أسلحتهم. فلعمر الله ، إن هذا لهو التحدي الذي يملك كل معنى. ولعمر الله ، إنّه هو الفشل ، فشل الصانع ، والصناعة. وهكذا الحال في كل ميادين الإعجاز أن يكون التحدي بشيء موجود ، ومقدور عليه ، وإلّا لا يكون هناك تحديا ، أو إعجازا حقيقيا ، وذا بال.

وبذلك فالقرآن ، وقد أعجزهم بمادته الكلامية التي مادتهم ، وصنعته البيانية التي صناعتهم ، فقد أثبت إعجازه في ميدان التحدي الكلامي

٢٠٩

والبياني ، وأقام الحجة على إعجاز أسلوبه ، وفنّد بها شبهتهم ، وأبطل حجتهم. وليعلم أصحاب هذه الشبهة أنّه ، وعند ما يكون الكتاب ربانيا والكلام إلهيا ، يخرج بالدليل القاطع ، واليقين الثابت عن قدرة ما ليس هو برباني أو إلهي. ويبقى ذلك الكتاب ، وذلك الكلام ساميا بمنبعه الرباني ، كاملا بمصدره الإلهي ، معجزا بلغته ، ومادته ، ومفرداته ، وتراكيبه ، وأساليبه ، وإلى قيام الساعة. ويبقى ذلك الكتاب وذلك الكلام خارجا عن القدرة البشرية ، معجزا لها في ميادين التحدي البياني ؛ وإن كان في لغته ، ومادته ، وصنعته من نفس المادة الكلامية ، والصنعة البيانية للبشرية. وهذه حجة له عليها ، وليس حجة عليه. فالقرآن يبقى مميزا بأسلوبه ، ولغته ، ومفرداته ، وتراكيبه ، ومناهجه ، ومواده ، وخواصه ، وعامه ، ومطلقه ، ومقيده ، ومنطوقه ، ومفهومه ، ووجوه مخاطباته ، وتقديمه ، وتأخيره ، وأمثاله ، وأقسامه ، وجدله ، ومجازه ، وكناياته ومبهماته ، وأسمائه ، وألقابه ، وكناه ، وعلومه. ورحم الله الإمام فخر الدين الرازي إذ يشير في تفسيره لسورة البقرة إلى بعض شواهد إعجاز القرآن في أسلوبه حيث يقول : ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة ، وفي بدائع ترتيبها ، علم أن القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه ، وشرف معانيه ؛ فهو معجز أيضا بسبب ترتيبه ، ونظم آياته. ولعل الذين قالوا : إنّه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك ، إلا أنّي رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار. وليس الأمر في هذا الباب إلّا كما قيل :

«والنجم تستصغر الأبصار رؤيته

والذّنب للطّرف لا للنّجم في الصّغر»

أمّا ، وقد فقدوا الحجة ، فالله تعالى يقول : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) سورة الأنعام آية ١٤٩.

ثانيا : وأمّا بالنسبة للشهادة : ومن فمه أدينه. وكما قيل قديما ، وكما يقال حديثا : الإقرار حجة على المقر. وهكذا ، وبالنقل المتواتر ، وباليقين الثابت ، وبالدليل القاطع ، وبالإقرار الشاهد ، سيظل القرآن معجزا ،

٢١٠

وسيظل النّاس مؤمنهم ، وكافرهم يقرون ، ويشهدون على عظمة القرآن في التحدي ، والإعجاز. وسيظل شاهدا في إعجازه على البشرية جمعاء ، مفحما لها ، منتزعا اعترافاتهم ، وإقراراتهم ، وشهاداتهم ، ومن جوف أفواههم ، وعلى عظمته ، وإعجازه. حتى ولو تجاهلوا ذلك. قال تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) سورة الكهف آية ٥.

وهكذا ، ودوما في ميدان إعجاز القرآن البياني للبشر قاطبة قديما وحديثا ؛ دوما كبرت كلمة تخرج من أفواه مسيلمة بن حبيب الكذاب ، وطلحة بن خويلد الأسدي ، وسجاح ، والنضر بن الحارث ، وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي ، وأبو الطيب المتنبي ، وسلمان رشدي ، وكاتب ياسين ، ويوسف الخال ، وأدونيس ، وسلامة موسى ، وغيرهم كثير. ومع هذا ، ومع عناد هؤلاء ، وأمثالهم على الكفر ، فهم يشهدون ولو بفلتات ألسنتهم على عظمة القرآن في الإعجاز الأسلوبي والبياني. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس : «أنّ ضمادا قدم مكة ـ وكان من أزد شنوءة ـ وكان يرقي من هذه الريح (الجنون ، ومس الجن ـ) فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون : إنّ محمدا مجنون. فقال : لو أنّي رأيت الرجل ، لعل الله يشفيه على يدي. قال : فلقيه. فقال : يا محمد ، إنّي أرقي من هذه الريح ، وإنّ الله يشفي على يدي من شاء ، فهل لك؟ فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «إنّ الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، من يهده الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ، ورسوله ، أمّا بعد». قال : فقال : أعد علي كلماتك هؤلاء؟ فأعادها عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ثلاث مرات ، فقال : لقد سمعت قول الكهنة ، وقول السحرة ، وقول الشعراء ، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ، ولقد بلغت ناعوس البحر ـ أي قعره ـ».

قال : فقال : هات يدك أبايعك على الإسلام. قال : فبايعه. فقال

٢١١

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «وعلى قومك؟» قال : وعلى قومي : قال : فبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» سرية ، فمروا بقومه ؛ فقال صاحب السرية للجيش : هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم : أصبت منهم مظهرة. فقال «ردوها ، فإنّ هؤلاء قوم ضماد» (١).

ويروي ابن هشام في سيرته : «أن النضر بن الحارث ، وقف يوما ، فألقى خطبة في جمع من قريش ، وقال : «يا معشر قريش ، إنّه والله ، قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد. قد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاء به ، قلتم : ساحر. لا والله ، ما هو بساحر ؛ : لقد رأينا السحرة ، ونفثهم ، وعقدهم. وقلتم : كاهن. لا والله ، ما هو بكاهن ؛ قد رأينا الكهنة ، وتخالجهم ، وسمعنا سجعهم. وقلتم : شاعر. لا والله ، ما هو بشاعر ؛ قد رأينا الشعر ، ورجزه. وقلتم : مجنون. لا والله ، ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخليطه ، ولا وسوسته. يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم ، فإنّه والله ، لقد نزل بكم أمر عظيم» (٢).

ويروي الترمذي في سننه : أنّ أبا لهب ـ وهو عم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ـ قال له ذات مرة : «يا محمد ، إنّني لا أقول : إنّك كاذب ، ولكن الأمر الذي تقوم بتبليغه باطل». وقد أورد المؤرخ «ج. ساروار» في كتابه : محمد النبي : «أن الشاعر العربي لبيد بن ربيعة الشهير ببلاغته ، ومنطقه ، وفصاحة لسانه ، ورصانة شعره. سمع أنّ محمدا يتحدى النّاس بكلامه ، فقال بعض الأبيات ردا على ما سمع ، وعلقها على باب الكعبة ـ وكان التعليق على باب الكعبة امتيازا لم تدركه إلّا فئة قليلة من كبار شعراء العرب ـ وحين رأى أحد المسلمين هذا ، أخذته العزة ، فكتب بعض آيات الكتاب الكريم ، وعلقها إلى جوار أبيات لبيد. ومر لبيد بباب الكعبة في

__________________

(١) مسلم ، صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ٥٩٣. حديث رقم ٨٦٨. طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.

(٢) ابن هشام ـ سيرة ابن هشام. ج ١. ص ٣١٩.

٢١٢

اليوم التالي ـ ولم يكن لبيد أسلم بعد ـ فأذهلته الآيات القرآنية حتى أنّه صرخ من فوره قائلا : «والله ، ما هذا بقول بشر ، وأنا من المسلمين» (١) ويروي ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء : «أن هذا الشاعر تأثر ببلاغة القرآن ، فهجر الشعر. وقد قال له عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» يوما : يا أبا عقيل ، أنشدني شيئا من شعرك. فقرأ سورة البقرة. وقال : ما كنت لأقول شعرا بعد إذ علمني الله سورة البقرة ، وآل عمران» (٢).

وقد ذكر الحافظ ابن نعيم في الحلية عن الشاعر لبيد بن ربيعة : «أن عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ كان في أوّل الإسلام يعيش في جوار الوليد بن المغيرة. فلما رأى ما يحدث لإخوانه من أذى المشركين ، عز عليه أن يعذبوا من دونه ؛ فرد جوار الوليد ، ثمّ مضى إلى الكعبة ، فوجد لبيد بن ربيعة في مجلس من قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان. فقال لبيد ، وهو ينشدهم : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل. فقال عثمان : صدقت. فقال لبيد : وكلّ نعيم لا محالة زائل. فقال عثمان : كذبت ، نعيم أهل الجنة لا يزول. فقال لبيد : يا معشر قريش ، والله ، ما كان يؤذى جليسكم ؛ فمتى حدث فيكم هذا؟! إلى آخر الخبر» (٣). ومفهوم هذا أنّ لبيدا قد بقي على جاهليته ، ولم يسلم حتى سنة تسع. وقيل : إنّه لم يقل في إسلامه غير بيت واحد هو : الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى كساني من الإسلام سربالا. وقيل هو قوله : ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح (٤).

وقد أورد المستشرق «ولاستن» في كتابه «محمد» قصة : محاولة ابن المقفع لمعارضة القرآن ، وعلق عليها قائلا : «إنّ اعتداد محمد بالإعجاز الأدبي للقرآن لم يكن على غير أساس ؛ بل يؤيده حادث وقع

__________________

(١) ج. ساروار ـ محمد النبي ـ كراتشي. ص ٤٨٨.

(٢) ابن قتيبة ـ الشعر والشعراء. ج ١. ص ٢٧٥.

(٣) أبو نعيم ـ الحلية ـ ج ١ ـ ص ١٠٣.

(٤) وحيد الدين خان ـ الإسلام يتحدى. ص ١٠٩.

٢١٣

بعد قرن من قيام دعوة الإسلام. والحادث هو أنّ جماعة من الملاحدة والزنادقة أزعجهم تأثير القرآن الكبير في عامة الناس ، فقرروا مواجهة تحدي القرآن ، واتصلوا لإتمام خطتهم بعبد الله بن المقفع (٧٢٧ م) ـ وكان أديبا كبيرا ، وكاتبا ذكيا ، يعتد بكفاءته ـ فقبل الدعوة للقيام بهذه المهمة ..... وأخبرهم أنّ هذا العمل سوف يستغرق سنة كاملة ، واشترط عليهم أن يتكفلوا بكل ما يحتاج إليه خلال هذه المدة. ولما مضى على الاتفاق نصف عام ، عادوا إليه ، وبهم تطلع إلى معرفة ما حققه أديبهم لمواجهة تحدي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». وحين دخلوا غرفة الأديب الفارسي الأصيل ، وجدوه جالسا ، والقلم في يده ، وهو مستغرق في تفكير عميق ، وأوراق الكتابة متناثرة أمامه على الأرض. بينما امتلأت غرفته بأوراق كثيرة كتبها ثمّ مزّقها. لقد حاول هذا الكاتب العبقري أن يبذل كل مجهود عساه أن يبلغ هدفه ، وهو الرد على تحدي القرآن المجيد. ولكنه أصيب بإخفاق شديد في محاولته هذه حتى اعترف أمام أصحابه ، والخجل ، والضيق يملكان عليه نفسه ، أنّه على الرغم من مضي ستة أشهر حاول خلالها أن يجيب على التحدي ، فإنّه لم يفلح في أن يأتي بآية واحدة من طراز القرآن ، وعندئذ تخلى ابن المقفع عن مهمته مغلوبا مستخذيا» (١).

وقد أورد ابن هشام في سيرته أيضا أن قريشا بعثت عتبة بن ربيعة إلى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فقال عتبة : «يا بن أخي ، إنّك منا حيث علمت من السلطة في العشيرة ، والمكان في النسب ؛ وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ؛ فاسمع مني ، أعرض عليك أمورا ، تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له : «قل يا أبا الوليد ، اسمع. قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد به شرفا ، سوّدناك علينا

__________________

(١) ولاستن ـ محمد. حياته. ص ١٤٣. ود. وحيد الدين خان. المرجع المشار إليه آنفا ص ١٠٩.

٢١٤

حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ، ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ؛ فإنّه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه» حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» يستمع منه ، قال : «أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم ـ قال : فاستمع مني. فقال : أفعل ... فقرأ عليه الآيات الأولى من سورة فصلت ، فلما وصل إلى قوله تعالى : (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أمسك عتبة على فيه ، وناشده الرحم أن يكف» (١).

وإذا كانت هذه أحوال الكفار في شهاداتهم على تفوق القرآن الإعجازي في الأسلوب ، والبيان فما زادهم ذلك إلّا نفورا. وسيظل القرآن معجزا في أسلوبه ، ونظمه ، شهد على ذلك المؤمنون من العلماء. قال الشيخ ولي الدين الملوي : «ومن المعجز المبيّن : أسلوبه ، ونظمه الباهر ، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أوّل كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها ، أو مستقلة ، ثمّ المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها. ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها ، وما سيقت له» (٢).

وقال شيخنا محمد عبد الله دراز في كتابه النبأ العظيم : «أسلوب عجب ، ومنهج من الحديث فذ مبتكر ، كأن ما سواه من أوضاع الكلام منقول. وكأنّه بينها على حد قول بعض الأدباء : وضع مرتجل. لا ترى سابقا جاء بمثاله ، ولا لاحقا طبع على غراره. فلو أن آية منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء ، لدلت على مكانها ، واستمازت من بينها كما يتميز اللحن الحساس بين ضروب الألحان ، أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام» (٣).

__________________

(١) ابن هشام ـ السيرة ـ ج ١ ـ ص ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٢) محمد عبد العظيم الزرقاني ـ مناهل العرفان ـ ج ١ ـ ص ٨٠.

(٣) محمد عبد الله دراز ـ النبأ العظيم ـ ص ٩٣ ـ ٩٤.

٢١٥

ولنا القول ؛ بأنّه ، وقد فقدوا الحجة ، والشهادة على شبهتهم ، فإنّ الحجة البالغة تبقى لله وحده ، وعلى إعجاز قرآنه في أسلوبه ، وبيانه.

مصداق قوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) الأنعام آية ١٤٩.

وحسبك أن ننقل هنا ما ذكره الداعية المسلم محمد عبد الله دراز في كتابه «النبأ العظيم» عن خصائص أسلوب القرآن ، وإعجازه اللغوي ، فهو يقول (١) : «إنّ أوّل ما يسترعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله ، وجوهره.

١ ـ فدع القارئ المجوّد يقرأ القرآن ، ويرتله حق ترتيله نازلا بنفسه على هوى القرآن ، وليس نازلا بالقرآن على هوى نفسه. ثمّ انتبذ منه مكانا قصيّا لا تسمع فيه جرس حروفه ، ولكن تسمع حركاتها ، وسكناتها ، ومدّاتها ، وغنّاتها ، واتصالاتها ، وسكناتها ؛ ثمّ ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية ، وقد جرّدت تجريدا ، وأرسلت ساذجة في الهواء ؛ فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جرّد هذا التجريد ، وجوّد هذا التجويد.

ستجد اتساقا وائتلافا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر ، على أنّه ليس بأنغام الموسيقى ، ولا بأوزان الشعر. وستجد شيئا آخر لا تجده في الموسيقى ، ولا في الشعر ؛ ذلك أنّك تسمع القصيدة من الشعر ، فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتا بيتا ، وشطرا شطرا ؛ وتسمع القطعة من الموسيقى ، فإذا هي تتشابه أهواؤها ، وتذهب مذهبا متقاربا. فلا يلبث سمعك أن يمجها ، وطبعك أن يملّها ، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوّع متجدد ، تنتقل فيه بين أسباب ، وأوتاد وفواصل (٢) على أوضاع مختلفة يأخذ منها

__________________

(١) دكتور محمد عبد الله دراز ـ النبأ العظيم. من ص ١٠١ ـ ١٠٥.

(٢) هل أنت بحاجة إلى معرفة مسميات هذه الألقاب؟ الحرف المتحرك يتلوه حرف ـ

٢١٦

كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء. فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ، ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.

هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن ، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب. فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟!.

وترى النّاس قد يتساءلون : لما ذا كانت العرب إذا اختصمت في القرآن ، قارنت بينه ، وبين شعر نفيا وإثباتا ، ولم تعرض لسائر كلامها من الخطابة ، وغيرها؟

وأنت فهل تبينت هاهنا الجواب ، وهديت إلى السر الذي فطنت له العرب ، ولم يفطن له المستعربون؟!!

إنّ أوّل شيء أحسّته تلك الأذن العربية في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسّمت فيه الحركة ، والسكون تقسيما منوّعا يجدد نشاط السامع لسماعه ، ووزعت في تضاعيفه حروف المدّ ، والغنة توزيعا بالقسط يساعد على ترجيع الصوت به ، وتهادى النّفس فيه آنا بعد آن ، إلى أن يصل إلى الفاصلة الأخرى ، فيجد عندها راحته العظمى.

وهذا النحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى شيء منه في أشعارها ، فذهبت فيها إلى حدّ الإسراف في الاستهواء ثمّ إلى حدّ الإملال في التكرير. فإنّها ما كانت تعهده قط ، ولا كان يتهيأ لها بتلك السهولة في منثور كلامها سواء منه المرسل ، والمسجوع ؛ بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغض من سلاسة تركيبه ، ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلّا بإدخال شيء عليه ، أو حذف شيء منه.

__________________

ـ ساكن يقال لهما «سبب خفيف». والحرفان المتحركان يتلوهما ساكن «وتد مجموع». والحرفان المتحركان لا يتلوهما ساكن «سبب ثقيل». والحرفان المتحركان يتوسطهما ساكن «وتد مفروق». وثلاثة أحرف متحركة يعقبها ساكن «فاصلة صغيرة». وأربعة أحرف متحركة يعقبها ساكن «فاصلة كبيرة».

٢١٧

لا عجب إذا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنّه شعر ؛ لأنّها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئا منها إلّا في الشعر. ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها ، فتقول : ما هو بشعر ؛ لأنّه ـ كما قال الوليد (١) ـ ليس على أعاريض الشعر في رجزه ، ولا في قصيده. ثمّ لا عجب أن تجعل مردّ هذه الحيرة أخيرا إلى أنّه ضرب من السّحر ؛ لأنّه جمع بين طرفي الإطلاق ، والتقييد في حدّ وسط : فكان له من النثر جلاله وروعته ، ومن الشعر جماله ، ومتعته.

٢ ـ فإذا ما اقتربت بأذنك قليلا قليلا ، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة. فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ، ورصفها ، وترتيب أوضاعها فيما بينها : هذا ينقر وذاك يصفر ، وثالث يهمس ، ورابع يجهر ، وآخر ينزلق عليه النّفس. وآخر يحتبس عنده النفس. وهلمّ جرّا. الجمال اللغوي مائلا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة (٢) لا كركرة ، ولا ثرثرة ؛ ولا رخاوة ، ولا معاظلة. ولا تناكر ، ولا تنافر. وهكذا ترى كلاما ليس بالحضري الفاتر ، ولا بالبدويّ الخشن ، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية ، وفخامتها برقّة الحاضرة ، وسلاستها ، وقدر فيه الأمر أن تقديرا لا يبغي بعضهما على بعض. فإذا مزيج منهما كأنّما هو عصارة اللغتين ، وسلالتهما ؛ أو كأنّما هو نقطة الاتصال بين القبائل ، عندها تلتقي أذواقهم ، وعليها تأتلف قلوبهم.

من هذه الخصوصية ، والتي قبلها تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني. وليس الشأن في هذا الغلاف إلّا كشأن الأصداف مما تحويه من اللآلئ النفيسة ، فإنّه ـ جلّت قدرته ـ قد أجرى سنته في نظام هذا العالم

__________________

(١) تقدمت كلمة الوليد في ذلك.

(٢) من وقف على صفات الحروف ومخارجها ازداد بهذا المعنى علما. وإن شئت فارجع إلى ما كتبه الأديب الرافعي عن هذه الناحية في كتابه الموسوم (إعجاز القرآن) فقد أطال نفسه فيها ، وأجاد.

٢١٨

أن يغشّى جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة ، وجمال ؛ ليكون ذلك من عوامل حفظها ، وبقائها بتنافس المتنافسين فيها ، وحرصهم عليها. أنظر كيف جعل باعثة الغذاء ، ورابطة المحبة قواما لبقاء الإنسان فردا ، وجماعة. فكذلك لمّا سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم ، قضت حكمته أن يختار لها صوانا يحببها إلى النّاس بعذوبته ، ويغريهم عليها بطلاوته ، ويكون بمنزلة «الحداء» يستحث النفوس على السير إليها. ويهوّن عليها وعثاء السفر في طلب كمالها. لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل. ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدا في أفواه النّاس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق ، وحاسة تسمع ؛ وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سرّه ، وينفذون بها إلى بعيد غوره (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١).

هل عرفت أن نظم القرآن الكريم يجمع إلى الجمال عزّة ، وغرابة؟ وهل عرفت أن هذا الجمال كان قوة إلهية حفظ بها القرآن من الفقد والضياع؟

فاعرف الآن أنّ هذه الغرابة كانت قوة أخرى قامت بها حجة القرآن في التحدي ، والإعجاز ؛ واعتصم بها من أيدي المعارضين ، والمبدّلين ؛ وأن ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كفّ أيديهم عنه ؛ بل كان أجدر أن يغريهم به. ذلك أنّ النّاس ـ كما يقول الباقلاني (٢) : ـ إذا استحسنوا شيئا اتّبعوه ، وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلّة. وكذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضا فيما يستجيدونه من الأساليب ، وربما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربى عليه ، كما صنع ابن العميد بأسلوب الجاحظ ، وكما يصنع الكتاب ، والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض. وما أساليب النّاس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر إلّا

__________________

(١) سورة الحجر» الآية ٩.

(٢) في كتابه «إعجاز القرآن».

٢١٩

مناهل مورودة ، ومسالك معبّدة ، تؤخذ بالتعلم ؛ وتراض الألسنة ، والأقلام عليها بالمرانة ، كسائر الصناعات.

فما الذي منع النّاس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتهم ، وأقلامهم وهم شرع في استحسان طريقته ، وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته؟!

ما ذاك إلّا أنّ فيه منعة طبيعية كفّت ، ولا تزال تكفّ أيديهم عنه ؛ ولا ريب أن أوّل ما تلاقيك هذه المناعة فيما صوّرناه لك من غريب تأليفه في بنيته ، وما اتخذه في رصف حروفه ، وكلماته ، وجمله ، وآياته ، من نظام له سمت وحده ، وطابع خاص به ، خرج فيه عن هيئة كل نظم تعاطاه الناس ، أو يتعاطونه. فلا جرم لم يجدوا له مثالا يحاذونه به ، ولا سبيلا يسلكونه إلى تذليل منهجه. وآية ذلك أن أحدا لو حاول أن يدخل عليه شيئا من كلام النّاس ، من السابقين منهم أو اللاحقين ، من الحكماء أو البلغاء ، لأفسد بذلك مزاجه ، ولجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع».

الشبهة الخامسة :

إنّ القرآن في أسلوبه من تأليف محمد. فهو غير معجز. بدليل أنّ محمدا كان إنسانا غير عادي ، نبيها بين قومه ، فذا بين أقرانه ، فردا كاملا بين ما جاء به قومه. آنس في نفسه اقتدارا في البيان ، فجاء بالقرآن ، ونسبه إلى ربه ، ليغطيه بمسحة قدسية تجعله أكثر قبولا ، وأجل احتراما عند قومه.

ويزعم أصحاب هذه الشبهة أنّ محمدا أسعفه في ذلك هواجس مرضية توحي له الشعور بالعظمة ؛ وعوارض نفسانية تجعله يصدق ما ينسبه إلى نفسه ، ويدعو غيره لتصديقه.

تفنيد هذه الشبهة :

أولا : لقد ثبت بالدليل القاطع ، والثابت المتواتر أنّ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»

٢٢٠