تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

لك كما ظهر من قريظة والنضير (فَانْبِذْ) أي : اطرح عهدهم (إِلَيْهِمْ ،) وقوله تعالى : (عَلى سَواءٍ) حال أي : مستويا أنت وهم في العلم بنقض العهد ، بأن تعلمهم به ؛ لئلا يتهموك بالغدر إذا نصبت الحرب معهم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي : في نقض العهد أو غيره.

روي أنّ معاوية كان بينه وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا ، فإذا هو عمرو بن عنبسة ، فأرسل إليه معاوية يسأله فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» (١) فرجع معاوية ، قال الرازي : حاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بقتل من ينقض العهد على أقبح الوجوه ، وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه ، من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه ، قال أهل العلم : إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن عاهدهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض ، إمّا أن يظهر ظهورا محتملا أو ظهورا مقطوعا به ، فإن كان الأوّل وجب الإعلام عليه على ما هو مذكور في هذه الآية ، وذلك أن قريظة عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحصل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوف الغدر به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ، ويعلمهم بالحرب ، وأمّا إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة ، وهم في ذمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرعهم إلا وجيش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمر الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.

ولما بيّن تعالى ما يفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه ، وذكر أيضا ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد ، بين أيضا حال من فاته في يوم بدر وغيره لكي لا تبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبلغا عظيما بقوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي : خلصوا من القتل والأسر يوم بدر (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) الله أي : لا يفوتونه بهذا السبق في الانتقام منهم ، إمّا في الدنيا ، وإمّا في الآخرة بعذاب النار ، وفيه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منه ، فأعلمه الله تعالى أنهم لا يعجزونه ، وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص يحسبن بالياء على الغيبة على أن الفعل للذين كفروا ، والباقون بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشرد من صدر منه نقض العهد إلى من خاف منه النقص واتفق لأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار بقوله تعالى :

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ) أي : لقتالهم (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه ، وفي المراد بالقوّة أقوال.

الأوّل : الرمي وقد جاءت مفسرة به عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر يقول : «وأعدوا لهم ما استطعتم ألا إن القوّة الرمي ثلاثا» (٢) أخرجه مسلم ، وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا : «إذا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد حديث ٢٧٥٩ ، والترمذي في السير حديث ١٥٨٠.

(٢) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٩١٧ ، وأبو داود في الجهاد حديث ٢٥١٤ ، والترمذي في التفسير حديث ٣٠٨٣ ، وابن ماجه في الجهاد حديث ٢٨١٣.

٦٦١

كبسوكم فعليكم بالنبل» (١) ، وفي رواية : «ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة : تأديب الرجل فرسه ، وملاعبة أهله ، ورميه بقوسه أي : نبله ، فإنهنّ من الحق ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه ، فإنها نعمة تركها أو كفرها» (٢) أخرجه الترمذي.

والثاني : إنها الحصون.

والثالث : إنها جميع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوّة في الحرب على قتال عدوّكم وقوله تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله سواء كانت ذكورا أو إناثا ، وقال عكرمة : المراد الإناث.

وروي عن خالد بن الوليد أنه قال : لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها ، وعن أبي محيريز أنه قال : كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف ، وإناث الخيل عند البيات والغارات ، وقيل : ربط الفحول أولى ؛ لأنها أقوى على الكرّ والفرّ ، ويدلّ للأوّل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله ، وتصديقا بوعده ، فإنّ شبعه وريه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة» (٣) يعني حسناته ، وعن عروة البارقيّ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم» (٤) ، وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحمر فقال : «ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٥) [الزلزلة ، ٧ ـ ٨] (تُرْهِبُونَ) أي : تخوفون (بِهِ) أي : بتلك القوّة أو بذلك الرباط (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي : الكفار من أهل مكة وغيرهم ، وذلك إنّ الكفار إذا علموا أنّ المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم ، فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سببا لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين (وَ) ترهبون (آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي : غيرهم وهم المنافقون لقوله تعالى : (لا تَعْلَمُونَهُمُ ؛) لأنهم معكم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) أي : إنهم منافقون.

فإن قيل : المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكر الإرهاب؟ أجيب : بأنّ المنافقين إذا شاهدوا قوّة المسلمين ، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويقطع طمعهم من أن يصيروا غالبين ، فيحملهم ذلك على أن يتركوا الكفر من قلوبهم ، وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان ، وقيل : هم اليهود ، وقيل : الفرس (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) وإن قل (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : طاعته جهادا كان أو غيره (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) قال ابن عباس : أجره ، أي : لا يضيع في الآخرة أجره ويعجل الله عوضه في الدنيا (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي : لا تنقصون من الثواب ، ولما سئل ابن عباس عن هذا التفسير تلا قوله تعالى : (آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف ، ٣٣] ولما بيّن تعالى ما

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٩٠٠ ، وأبو داود في الجهاد حديث ٢٦٦٣.

(٢) أخرجه أبو داود في الجهاد حديث ٢٥١٣ ، والنسائي في الخيل حديث ٣٥٧٨.

(٣) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٨٥٣ ، والنسائي في الخيل حديث ٣٥٨٢.

(٤) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٨٥٢ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٨٧٣ ، والترمذي في الجهاد حديث ١٦٩٤ ، والنسائي في الخيل حديث ٣٥٧٥ ، والدارمي في الجهاد حديث ٢٤٢٧.

(٥) أخرجه البخاري في المساقاة حديث ٢٣٧١.

٦٦٢

يرهب به العدوّ من القوّة ، والاستظهار بيّن جواز الصلح بقوله تعالى :

(وَإِنْ جَنَحُوا) أي : مالوا (لِلسَّلْمِ) أي : الصلح (فَاجْنَحْ) أي : فمل (لَها) وعاهدهم ، وتأنيث الضمير في لها لحمل السلم مع أنه مذكر على ضدّه وهو الحرب قال الشاعر (١) :

السلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

فأنث ضمير السلم ، في تأخذ حملا على ضدّه وهو الحرب ، وعن ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [التوبة ، ٢٩] وعن مجاهد بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ، ٥] وقال غيرهما : الصحيح إنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام ، وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا وهذا ظاهر.

وقرأ شعبة بكسر السين ، والباقون بالفتح (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : فوض أمرك إليه فيما عقدته معهم ؛ ليكون عونا لك في جميع أحوالك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ؛) لأقوالهم فهو يسمع كل ما أبرموه في ذلك ، وفي غيره كما يسمعه علانية (الْعَلِيمُ) بنياتهم فهو يعلم كل ما أخفوه كما إنه يعلم كل ما أعلنوه.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

(وَإِنْ يُرِيدُوا) أي : الكفار (أَنْ يَخْدَعُوكَ) أي : بإظهار الصلح ليستعدوا لك (فَإِنَّ حَسْبَكَ)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لعباس بن مرداس في ديوانه ص ٨٦ ، ولسان العرب (أبس) ، وأساس البلاغة (جرع) ، وتاج العروس (أبس) ، وبلا نسبة في المخصص ١٥ / ٧٤.

٦٦٣

أي : كافيك (اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) في سائر أيامك ، فإن أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أوّل حياته إلى وقت وفاته كان أمرا إلهيا وتدبيرا علويا ، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل (وَ) أيدك (بِالْمُؤْمِنِينَ) أي : الأنصار.

فإن قيل : فإذا كان الله تعالى مؤيده بنصره ، فأيّ حاجة مع نصره تعالى إلى المؤمنين؟ أجيب : بأن التأييد ليس إلا من الله تعالى دائما لكنه على قسمين : أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة ، والثاني : ما يحصل بذلك فالأوّل هو المراد من قوله تعالى : (أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ،) والثاني : هو المراد من قوله تعالى : (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) والله تعالى هو مسبب الأسباب ، وهو الذي أقامهم بنصره ثم بيّن تعالى كيف أيده بالمؤمنين بقوله تعالى :

(وَأَلَّفَ) أي : جمع (بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) وذلك إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة ، وحميتهم عظيمة حتى لو أنّ رجلا من قبيلة لطم لطمة واحدة ، قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره ، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه ، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارا دعاة ، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية ، مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي : تناهت عداوتهم إلى حد لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم تقدر على الإلفة والصلاح بينهم (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بقدرته البالغة ، فإنه تعالى المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء (إِنَّهُ) أي : الله تعالى (عَزِيزٌ) أي : غالب على أمره لا يعصى عليه ما يريد (حَكِيمٌ) لا يخرج شيء عن حكمته ، وقيل : الآية نزلت في الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم فأنساهم الله تعالى ذلك ، وألف بين قلوبهم بالإسلام حتى تصادقوا وصاروا أنصارا ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ) أي : كافيك (اللهُ.)

فإن قيل : هذا مكرّر ، أجيب : بأنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقا على جميع التقديرات ، فلا يلزم حصول التكرار ؛ لأنّ المعنى في الآية الأولى : إن أرادوا خداعك كفاك الله تعالى أمرهم ، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين وقوله تعالى : (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إمّا في محل نصب على المفعول معه كقول الشاعر (١) :

فحسبك والضحاك سيف مهند

يروي الضحاك بالنصب على أنه مفعول معه ، والمعنى : كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصرا ، أو رفع عطفا على اسم الله تعالى أي : كفاك الله وكفى المؤمنين ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وعن سعيد بن جبير أسلم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر فتمم الله تعالى به الأربعين فنزلت هذه الآية.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : حثهم (عَلَى الْقِتالِ) للكفار والتحريض في اللغة ،

__________________

(١) صدره :

إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا

والبيت من الطويل ، وهو لجرير في ذيل الأمالي ص ١٤٠ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٥٨١ ، وسمط اللآلي ص ٨٩٩ ، ولسان العرب (حسب) ، (هيج) ، (عصا).

٦٦٤

كالتحضيض ، وهو الحث على الشيء (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) منهم (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ) صابرة (يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهذا خبر بمعنى الأمر أي : ليقاتل العشرون منكم المائتين والمائة الألف قتال عشرة أمثالكم.

تنبيه : تقييد ذلك بالصبر يدلّ على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابرا قادرا على ذلك ، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء منها : أن يكون شديد الأعضاء قويا جلدا ، ومنها : أن يكون قويّ القلب شديد البأس شجاعا غير جبان ، ومنها : أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة ، فإنّ الله تعالى استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدّمة فعند حصول هذه الشروط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.

فإن قيل : حاصل هذه العبارة المطولة إنّ الواحد يثبت للعشرة فما الفائدة في العدول إلى هذه العبارة المطولة؟ أجيب : بأنّ هذا إنما ورد على وفق الواقعة فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعث السرايا والغالب أن تلك السرايا ما كان ينقص عددها عن العشرين ، وما كانت تزيد على المائة فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذين العددين.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالتاء على التأنيث والباقون بالياء على التذكير (بِأَنَّهُمْ) أي : بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي : جهلة بالله تعالى واليوم الآخر ، فلا يقاتلوا لطلب ثواب وخوف عقاب إنما يقاتلون حمية ، فإذا صدقتموهم في القتال لا يثبتون معكم ، وكان هذا يوم بدر فرض الله تعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين ، قال عطاء عن ابن عباس : لما نزل التكليف بهذه الآية صاح المهاجرون وقالوا : يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع ، ونحن في غربة وعدوّنا في أهليهم ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ، وعدوّنا ليس كذلك فنسخها الله تعالى بقوله تعالى :

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) أيها المؤمنون (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) أي : في قتال الواحد للعشرة (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) منهم (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) منهم (بِإِذْنِ اللهِ) أي : بإرادته تعالى ، فردّوا من العشرة إلى اثنين ، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز أن يفروا ، وقال عكرمة : إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين ، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ، فإن فر من اثنين فقد فر (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون ، قال سفيان بن شبرمة : وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر.

(ما كانَ) أي : ما صح وما استقام (لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) قرأ أبو عمرو بالتاء على التأنيث ، والباقون بالياء على التذكير (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي : يكثر قتل الكفار ، ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ، ويعز الإسلام ويستولي أهله ؛ لأنّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتدّ بالقتل ، قال الشاعر (١) :

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

__________________

(١) البيت بلا نسبة في خزانة الأدب ١ / ١٩٣.

٦٦٥

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك ، وقال عمر رضي الله تعالى عنه : كذبوك وأخرجوك فقدمهم ، واضرب أعناقهم ، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر ، وإنّ الله أغناك عن الفداء ، مكّن عليا من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكني من فلان ـ لنسيب له ـ فلنضرب أعناقهم ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم نارا ، فقال له العباس : قطعت رحمك ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يجبهم ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنّ الله لين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم ، ٣٦] ومثل عيسى في قوله : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة ، ١١٨] ومثلك يا عمر مثل نوح قال : (نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ، ٢٦] ومثل موسى حيث قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) [يونس ، ٨٨] ومال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قول أبي بكر.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر : «يا أبا حفص ، وكان ذلك أوّل ما كناه ، أتأمرني أن أقتل العباس؟» فجعل عمر يقول : ويل لعمر ثلكته أمه ، ثم قال لأصحابه : أنتم اليوم عالة ولا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق ، فقال ابن مسعود : إلا سهيل ابن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتدّ خوفي فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إلا سهيل ابن بيضاء» ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقوم : «إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم» فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية ، والأوقية أربعون درهما ، فيكون مجموع ذلك ألفا وستمائة درهم ، وقال قتادة : كان الفداء يومئذ لكل أسير أربعة آلاف.

قال عمر رضي الله تعالى عنه : فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة منه (تُرِيدُونَ) أيها المؤمنون (عَرَضَ الدُّنْيا) بأخذ فداء من المشركين ، وإنما سمي منافع الدنيا عرضا ، لأنها لا ثبات لها ولا دوام ، فكأنها تعرض ثم تزول بخلاف منافع الآخرة (وَاللهُ يُرِيدُ) لكم (الْآخِرَةَ) أي : ثوابها بقهركم المشركين ونصركم الدين (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يقهر ولا يغلب (حَكِيمٌ) أي : لا يصدر منه فعل إلا وهو في غاية الإتقان ، قال ابن عباس : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتدّ سلطانهم ، أنزل الله تعالى في الأسرى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد ، ٤] فجعل الله تعالى نبيه والمؤمنين في أمر الأسرى بالخيار إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا فادوهم ، وإن شاءوا أعتقوهم أي : فهذه الآية نسخت تلك ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت الغنائم حراما على الأنبياء والأمم ، وكانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للقربان وكانت تنزل نار من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون وأخذوا الفداء فأنزل الله تعالى.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي : لو لا قضاء الله سبق في اللوح المحفوظ ، بأنه يحمل لكم

٦٦٦

الغنائم (لَمَسَّكُمْ) أي : لنالكم (فِيما أَخَذْتُمْ) أي : من الفداء (عَذابٌ عَظِيمٌ) وقال الحسن ومجاهد : لو لا كتاب من الله سبق إنه لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن إسحق : لم يكن من المؤمنين أحد إلا أحب الغنائم ، إلا عمر بن الخطاب ، فإنه أشار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الأسرى ، وسعد بن معاذ قال : يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ».

روي : لما نزلت هذه الآية كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيديهم أن يأخذوا من الفداء فنزلت :

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) أي : من الفداء ، فإنه من جملة الغنائم (حَلالاً طَيِّباً) فأحل الله الغنائم بهذه الآية لهذه الأمة وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» (١).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم تحل الغنائم لأحد قبلنا ، ثم أحل لنا الغنائم ذلك بأنّ الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا» (٢).

فإن قيل : ما معنى الفاء في قوله تعالى : (فَكُلُوا؟) أجيب : بأنها سببية والمسبب محذوف تقديره أبحت لكم الغنائم فكلوا ، وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة ، وحلالا حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي : أكلا حلالا ، وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة ، ولذلك وصفه بقوله : (طَيِّباً. وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) غفر ذنوبكم (رَحِيمٌ) أباح لكم ما أخذتم ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) إشارة إلى المستقبل ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إشارة إلى الحالة الماضية ولما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفداء من الأسارى وثق عليهم أخذ أموالهم منهم ذكر الله تعالى هذه الآية استمالا لهم ، فقال عز من قائل :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) قرأ أبو عمرو بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف ، والباقون بفتح الهمزة وسكون السين ولا ألف بعدها ، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة ، وورش بين بين (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي : خلوص إيمان وصحة نية (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء ، قال ابن عباس : نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحرث كان العباس أسيرا يوم بدر ، ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر ، فلم تبلغه النوبة حتى أسر ، فقال العباس : كنت مسلما إلا أنهم ألزموني فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا» قال العباس : وكلمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك ذلك الذهب لي فقال : «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا» قال : فكلفني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية ، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأين ما دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة ، وقلت لها ما أدري ما يصيبني ، فإن حدث بي ما حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم فقال العباس : وما يدريك يا ابن أخي؟ قال : «أخبرني به ربي» فقال العباس : أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك عبده ورسوله

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٥٢١ ، والدارمي في السير حديث ٢٤٦٧.

(٢) أخرجه البخاري في فرض الخمس حديث ٣١٢٤ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٤٧.

٦٦٧

والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتابا في أمرك فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب ، قال العباس : فأبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي».

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمره العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة من ربكم يعني الدعوة بقوله تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واختلف المفسرون في أنّ الآية نزلت في العباس خاصة أو في جملة الأسارى قال بعضهم : إنها نزلت في الكل قال الرازي : وهذا أولى ؛ لأنّ ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه :

أحدها : قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ.)

وثانيها : قوله تعالى : (مِنَ الْأَسْرى.)

وثالثها : قوله تعالى : (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً.)

ورابعها : قوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ خَيْراً.)

وخامسها : قوله تعالى : (مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ.)

وسادسها : قوله تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) فدلت هذه الألفاظ الستة على العموم فما الموجب للتخصيص أقصى ما في الباب أن يقال : سبب نزول هذه الآية هو العباس إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(وَإِنْ يُرِيدُوا) أي : الأسارى (خِيانَتَكَ) أي : بما أظهروا من القول (فَقَدْ خانُوا اللهَ) بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بالعهد (مِنْ قَبْلُ) أي : قبل بدر (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) ببدر قتلا وأسرا فليتوقعوا مثل ذلك إن عادوا (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما في بواطنهم وضمائرهم من إيمان وتصديق وخيانة (حَكِيمٌ) أي : بالغ الحكمة فهو يتقن كل ما يريده فهو يوهن كيدهم ويتقن ما يقابلهم به فيلحقهم لا محالة وكذا فعل تعالى في ابن عزة الجمحي ، فإنه سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنّ عليه بغير شيء لفقره وعياله وعاهده على أنه لا يظاهر عليه أحدا ، ثم خان فظفر به في غزوة حمراء الأسد عقب يوم أحد أسيرا ، فاعتذر له وسأله العفو عنه فقال : «لا ، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرّتين» وأمر به فضربت عنقه (١).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : بالله ورسوله (وَهاجَرُوا) أي : وأوقعوا الهجرة من بلاد الشرك وهم المهاجرون الأوّلون هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حبا لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَجاهَدُوا) أي : وأوقعوا الجهاد وهو بذل الجهد في توهين الكفر (بِأَمْوالِهِمْ) وكانوا في غاية العزة في أوّل الأمر (وَأَنْفُسِهِمْ) بإقدامهم على القتال مع شدّة الأعداء وكثرتهم وقدم المال ؛ لأنه سبب قيام النفس أي : بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار ، والنخيل وغيرها ، وأخر قوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ) لذلك ، وفي سببية أي : جاهدوا بسببه حتى لا يصدّ عنه صاد ، ويسهل المرور فيه من غير قاطع (وَالَّذِينَ آوَوْا) أي : من هاجر إليهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فأسكنوهم

__________________

(١) أخرجه أبو داود حديث ٤٨٦٢ ، وابن ماجه حديث ٣٩٨٢ ، ٣٩٨٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ١١٥.

٦٦٨

في ديارهم وقسموا لهم من أموالهم وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوّجوهنّ (وَنَصَرُوا) أي : الله ورسوله والمؤمنين وهم الأنصار رضي الله عنهم ، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من هذين الجنسين ولكن المهاجرين الأوّلون أعلى منهم لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زمانا طويلا وصبرهم على فرقة الأهل والأوطان.

وأشار تعالى إلى القسمين بأداة البعد لعلوّ مقامهم فقال : (أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي : دون أقاربهم من الكفار قال ابن عباس في الميراث فكانوا يتوارثون بالهجرة فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث كانوا وصار ذلك منسوخا بقول تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) أي : آمنوا وأقاموا بمكة (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة (حَتَّى يُهاجِرُوا) أي : إلى المدينة (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي : ولم يهاجروا (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) أي : فيجب عليكم أن تنصروهم على المشركين (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي : عهد فلا تنصروهم عليهم وتنقضوا عهدهم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) في ذلك ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة وغير ذلك مما تقدّم وترهيب من العمل بأضدادها ، وفي البصير إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصا أو مشوبا ، ففيه مزيد حث على الإخلاص.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي : في النصر ؛ لأنّ كفار قريش كانوا معادين اليهود فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعاونوا عليه جميعا وفي الميراث ، فيرث بعضهم بعضا ولا إرث بينكم وبينهم (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي : ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولى بعضكم لبعض حتى في الميراث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار (تَكُنْ) أي : تحصل (فِتْنَةٌ) أي : عظيمة (فِي الْأَرْضِ) بضعف الإيمان وقوّة الكفر (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) في الدين ، ولما تقدّمت أنواع المؤمنين المهاجر والناصر والقاعد وذكر أحكام موالاتهم أخذ يبين تفاوتهم في الفضل بقوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : بالله ورسوله وما أتى به (وَهاجَرُوا) في الله تعالى من يعادي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابقين (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بما تقدّم من المال والنفس وغيرهما ، فبذلوا الجهد في إذلال الكفار ولم يذكر آلة الجهاد ؛ لأنها مع تقدّم ذكرها لازمة (وَالَّذِينَ آوَوْا) أي : من هاجر إليهم (وَنَصَرُوا) أي : حزب الله (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) أي : الكاملون في الإيمان (حَقًّا) أي : لأنهم حققوا إيمانهم بتحقيق مقتضاه من الهجرة والجهاد وبذل المال ونصرة الحق ثم وعدهم الموعد الكريم بقوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي : لزلاتهم وهفواتهم ؛ لأن مبنى الآدمي على العجز اللازم عند التقصير وإن اجتهد ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.

ولما ذكر تطهيرهم بالمغفرة ذكر تزكيتهم بالرحمة بقوله تعالى : (وَرِزْقٌ) أي : من الغنائم وغيرها في الدنيا والآخرة (كَرِيمٌ) أي : لا تبعة ولا منة فيه ثم الحق بهم في الأمرين من يستلحق بهم ويتسم بسمتهم بقوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي : بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة (وَهاجَرُوا) أي : لاحقين

٦٦٩

للسابقين ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم من هاجر بعد الحديبية قال : وهي الهجرة الثانية (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) أي : من تجاهدونه من حزب الشيطان (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي : من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم من المواريث والمغانم وغيرها لأنّ الوصف الجامع هو المدار للأحكام وإن تأخرت رتبتهم عنكم بما أفهمته أداة البعد (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أي : ذووا القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) قال ابن عباس : كانوا يتوارثون بالهجرة والإخاء حتى نزلت هذه الآية فبين الله تعالى بها أن سبب القرابة أقوى وأولى من سبب الهجرة والإخاء ونسخ بها ذلك التوارث وقوله تعالى : (فِي كِتابِ اللهِ) أي : في حكمه في اللوح المحفوظ أو القرآن وتمسك أصحاب أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى بهذه على توريث ذوي الأرحام وأجاب عنه الشافعي رضي الله تعالى عنه بأنه لما قال في كتاب الله كان معناه في حكم الله الذي بينه في سورة النساء ، فصارت هذه السورة مقيدة بالأحكام التي ذكرها في سورة النساء في قسمة المواريث وإعطاء أهل الفروض فروضهم وما بقي فللعصبات فوجب أن يكون المراد من هذا هو ذاك فقط فلا يتعدّى إلى توريث ذوي الأرحام ثم قال تعالى في ختم السورة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي : إن هذه الأرحام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح وليس فيها شيء من العبث والباطل لأنّ العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أنّ الملائكة لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال الله تعالى مجيبا لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي : كما علمتم بكوني عالما بكل المعلومات فاعلموا أنّ حكمي يكون منزها عن الغلط فكذا هنا وقول البيضاوي في بعض النسخ تبعا للزمخشريّ ، وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطي عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٦٧٠

سورة التوبة

مدنية ، إلا الآيتين من قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) وهي آخر ما نزلت وآيها مائة وثلاثون وقيل : تسع وعشرون ، وعدد كلماتها ألفان وأربعمائة وسبع وتسعون كلمة وحروفها عشرة آلاف وثمانمائة وسبعة وثمانون حرفا ، ولها عدّة أسماء : التوبة ، براءة ، المقشقشة ، البحوثة ، المبعثرة ، المنقرة ، المثيرة ، الحافرة ، المخزية ، الفاضحة ، المنكلة ، المشردة ، المدمدمة ، سورة العذاب وإنما سميت بذلك لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبرؤ منه والبحث عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم ولم تكتب فيها البسملة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر بذلك كما يؤخذ من حديث رواه الحاكم وأخرج في معناه عن علي أن البسملة أمان وهي نزلت لرفع الأمن بالسيف ، وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب.

وروى البخاريّ عن البراء أنها آخر سورة نزلت (١) ، وقيل : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه سورة أو آية بين موضعها فتوفي ولم يبيّن موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتسامتها ؛ لأنّ في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها ، قال القاضي : يبعد أن يقال إنه عليه الصلاة والسّلام لم يبيّن كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال لأنّ القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجه الذي نقل ولو جوّزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور ، وفي آيات السورة الواحدة وذلك يخرجه عن كونه حجة بل الصحيح أنه عليه الصلاة والسّلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا ، وأنه عليه الصلاة والسّلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحيا ، والقول بأنّ قصتها تشابه قصتها وتناسبها فضمت إليها إنما يتم إذا قلنا : إنهم إنما وضعوا هذه السورة من قبل أنفسهم لهذه العلة. وقيل : إن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة براءة سورة واحدة أم سورتان ، فقال بعضهم : هما سورة واحدة ؛ لأنّ كلتيهما نزل في القتال ، ومجموعهما هو السورة السابعة من الطوال وهي سبع ، وما بعدها المؤون ؛ لأنهما معا مائتان وست آيات ، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال : سورتان ، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول : هما سورة واحدة. وقال بعض أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه : لعل الله لما علم من بعض الناس أنهم ينازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن أمر أن لا تكتب ههنا ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة ، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة وجب كونها آية من كل سورة ، وقيل غير ذلك. والصحيح من هذه الأقوال ما ذهب إليه القاضي من أنّ القرآن مرتب من

__________________

(١) انظر البخاري في المغازي حديث ٤٣٦٤ ، ومسلم في الفرائض حديث ١٦١٨.

٦٧١

قبل الله ومن قبل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجه الذي نقل ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحيا ، وإنما ذكرت هذه الأقوال تشحيذا للأذهان. وقوله تعالى :

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣))

(بَراءَةٌ) خبر مبتدأ محذوف أي : هذه براءة. وقوله تعالى : (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) من : ابتدائية متصلة بمحذوف تقديره : واصلة من الله ورسوله ، ويجوز أن يكون : براءة مبتدأ لتخصيصها بصفتها ، والخبر (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) أي : أوقعتم العهد بينكم وبينهم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله ، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعا لهما ، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع النظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين ، وإنما الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغنيان عن ذلك ، أمّا الله فبالغنى المطلق ، وأما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبالذي اختاره للرسالة ؛ لأنه ما فعل ذلك إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب.

روي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر الله تعالى بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال ، ٥٨] الآية ونقض العهد بما يذكر في قوله تعالى (فَسِيحُوا) أي : سيحوا آمنين أيها المشركون (فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) لا يتعرّض لكم فيها ولا أمان لكم بعدها ، وكان ابتداء هذه الأشهر يوم الحج الأكبر وانقضاؤها إلى عشر من ربيع الآخر ، وقال الأزهري : هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ؛ لأنها نزلت في شوّال. وقيل : في ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشرين من شهر ربيع الآخر ، وكانت حرما لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم أو على التغليب ؛ لأنّ ذا الحجة والمحرم منها. قال البغوي : والأوّل هو الأصوب وعليه الأكثرون اه. وقيل : العشر من ذي القعدة إلى عشر من شهر

٦٧٢

ربيع الأوّل ؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة وكان نزولها في سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر رضي الله عنه على موسم الحج سنة تسع ثم أتبعه عليا رضي الله عنه راكب العضباء ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقرأها على أهل الموسم ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : «لا يؤدّي عني إلا رجل مني» ، فلما دنا علي من أبي بكر سمع أبو بكر الرغاء فوقف ، وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١). وأصل العضباء : المشقوقة الأذن ، ولم تكن ناقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك ولكن كان ذلك علما عليها ، والرغاء بالمدّ : صوت ذوات الخف قاله الجوهري ، فلما لحقه قال أمير أو مأمور.

وروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما كان ببعض الطريق هبط جبريل ، وقال : يا محمد لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك فأرسل عليا رضي الله عنه فرجع أبو بكر رضي الله عنه وقال : يا رسول الله أشيء نزل ، قال : نعم فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي ، فلما كان قبل التروية بيوم خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : أيها الناس إني رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم ، فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ، وعن مجاهد ثلاث عشرة ، ثم قال : أمرت بأربع آي بأن أخبروا نادى بها أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف به عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ، فقالوا عند ذلك : أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ثم حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر حجة الوداع (٢).

فإن قيل : قد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة لأن يؤدّوا عنه كثيرا ولم يكونوا من عترته ، أجيب : بأنّ هذا ليس على العموم بل مخصوص بالعهود ؛ لأنّ العرب عاداتها أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل من الأقارب ، فلو تولاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لجاز أن يقولوا : هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود ، فربما لم يقبلوا فلم يخف عليهم بتوليته عليا ذلك ، ويدل على ذلك أن في بعض الروايات لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي ، وقيل : لما خص أبا بكر بتولية الموسم خص عليا بهذا التبليغ تطييبا للقلوب ورعاية للجوانب ، وقيل : قرر أبا بكر على الموسم وبعث عليا خليفة لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون ذلك جاريا مجرى تنبيه على إمامة أبي بكر.

فإن قيل : ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ أجيب : بأنهم قالوا : قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها.

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي : لا تفوتونه وإن أمهلكم (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي : مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة بالعذاب.

(وَأَذانٌ) أي : إعلام واقع (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) إذ الأذان في اللغة الإعلام ، ومنه

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير حديث ٣٠٩١.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٣.

٦٧٣

الأذان للصلاة ، فإنه إعلام بوقتها وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين.

فإن قيل : لم علقت البراءة بالذين عاهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس أجيب : بأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث.

(يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) أي : يوم عيد النحر لأنّ فيه معظم أفعاله من طواف ونحر وحلق ورمي يقع فيه ، ولأنّ الإعلام كان فيه. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في حجة الوداع فقال : «أي يوم هذا؟» فقالوا : يوم النحر فقال : «هذا يوم الحج الأكبر» (١).

وروي أن عليا رضي الله عنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال : يومك هذا فخل سبيلها ، وقيل : يوم عرفة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحج عرفة» (٢) ، وقيل : أيام منى كلها ؛ لأنّ اليوم قد يطلق ويراد به الحين والزمان كقوله يوم صفين ويوم الجمل ؛ لأنّ الحرب دامت في هذه الأيام ويطلق عليها يوم واحد. وقيل : هو الذي حج فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد المشركين ولم يجتمع مثل ذلك قبله ولا بعده ووصف الحج بالأكبر ؛ لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر ، وإنما قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها عن الحج. وقيل : وصف بذلك لموافقته حج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة الوداع ، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة وودّع الناس فيه وخطبهم وعلمهم مناسكهم. وقيل : وصف بذلك لاجتماع أعياد الملل في ذلك اليوم. وقيل : لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين. وقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : من عهودهم فيه حذف تقديره وأذان من الله ورسوله بأنّ الله بريء من المشركين ، وإنما حذف الجار لدلالة الكلام عليه. وقوله تعالى : (وَرَسُولِهِ) مرفوع على أنه مبتدأ حذف خبره أي : ورسوله.

كذلك وحكي أنّ أعرابيا سمع رجلا يقرأ : ورسوله بالجرّ ، فقال : إن كان الله بريء من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه ، فحكى الأعرابيّ الواقعة فحينئذ أمر عمر بتعليم العربية.

وحكي أيضا أنّ أعرابيا قدم في زمن عمر ، فقال : من يقرئني مما أنزل الله تعالى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقرأه رجل براءة ، فقال : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بالجرّ ، فقال الأعرابيّ : أوقد برىء الله من رسوله إن يكن الله بريء من رسوله فأنا بريء منه ، فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه مقالة الأعرابيّ فدعاه فسأله فأخبره الأعرابيّ بذلك ، فقال عمر : ليس هكذا يا أعرابيّ فقال : فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بالرفع ، فقال : وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه ، فأمر عمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة ، وأمر أبا الأسود الدؤلي فوضع النحو. (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي : عن الكفر والغدر (فَهُوَ) أي : ذلك الأمر العظيم وهو المتاب (خَيْرٌ لَكُمْ) أي : من الإقامة على الشرك ، وهذا ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لدخول النار. (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم عن الإيمان والتوبة من الشرك (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الحج باب ١٣٢ ، وتفسير سورة ٩ باب ٤ ، وأبو داود في المناسك باب ٦٦ ، والترمذي في الحج باب ١١٠ وابن ماجه في المناسك باب ٧٦ ، وأحمد في المسند ٥ / ٤١٢.

(٢) أخرجه أبو داود في المناسك باب ٦٩ ، والترمذي في الحج حديث ٨٨٩ ، والنسائي في المناسك حديث ٣٠١٦ ، وابن ماجه في المناسك حديث ٣٠١٥.

٦٧٤

مُعْجِزِي اللهِ) وذلك وعيد عظيم وإعلام بأنّ الله تعالى قادر على إنزال أشدّ العذاب بهم كما قال تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة ولفظ البشارة هنا ورد على سبيل الإخبار أو على سبيل الاستهزاء كما يقال محبتهم الضرب وإكرامهم الشتم.

وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) استثناء من المشركين وهم بنو ضمرة حيّ من كنانة أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإتمام عهدهم إلى مدّتهم ، وكان قد بقي من مدّتهم تسعة أشهر ، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا كما قال تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) أي : من عهودكم التي عاهدتموهم عليها (وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي : ولم يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) من عدوّكم (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي : إلى انقضائها ، ولا تجروهم مجرى الناكثين. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى.

(فَإِذَا انْسَلَخَ) أي : انقضى وخرج (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) التي حرم الله تعالى عليهم فيها قتالهم ، وضربت أجلا لسياحتهم والتعريف مثله في (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل ، ١٥ ، ١٦] والمراد بكونها حرما أنّ الله تعالى حرم القتل والقتال فيها. وقيل : هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، قال البيضاويّ : وهذا يخل بالنظم أي : نظم الآية إذ نظمها يقتضي توالي الأشهر المذكورة. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أي : الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحسانا وكرما (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي : في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره. (وَخُذُوهُمْ) أي : بالأسر (وَاحْصُرُوهُمْ) أي : بالحبس عن إتيان المسجد الحرام والتصرّف في بلاد الإسلام في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى الإسلام أو القتل (وَاقْعُدُوا لَهُمْ) أي : لأجلهم خاصة ، فإن ذلك من أفضل العبادات (كُلَّ مَرْصَدٍ) أي : طريق يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد. وانتصاب كل على الظرفية كقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف ، ١٦] وقيل : بنزع الخافض ، قال الحسن بن الفضل : نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء. (فَإِنْ تابُوا) أي : عن الكفر بالإيمان (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) تصديقا لتوبتهم وإيمانهم ، فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق. (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي : فدعوهم ولا تتعرّضوا لهم بشيء من ذلك ، وفي هذه الآية دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله ؛ لأنه إن كان جاحدا لوجوبهما فهو مرتدّ وإلا قتل بترك الصلاة وأخذت منه الزكاة قهرا وقوتل على ذلك كما نقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : لما توفي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخلف أبو بكر كفر من كفر من العرب ، قال عمر لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فمن قال : لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله» فقال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي رواية : عقالا كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقاتلهم على منعها ، قال عمر : فو الله ما هو إلا أن رأيت أنّ الله شرح صدر أبي بكر إلى القتال ، فعرفت أنه الحق (١). (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) أي : بليغ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الزكاة حديث ١٤٠٠ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٠ ، وأبو داود في الزكاة حديث ١٥٥٦ ، والترمذي في الإيمان حديث ٢٦٠٧ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٤٤٣.

٦٧٥

المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها (رَحِيمٌ) به.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : الذين أمرت بقتالهم (اسْتَجارَكَ) أي : طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدّة السياحة (فَأَجِرْهُ) أي : فأمنه ودافع عنه من يقصده بسوء. (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) أي : القرآن بسماع التلاوة الدالة عليه فيعلم بذلك ما يدعى إليه من المحاسن ويتحقق أنه ليس من كلام الخلق (ثُمَ) إن أراد الانصراف ولم يسلم (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي : الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه لينظر في أمره ، ثم بعد ذلك يجوز لك قتلهم وقتالهم من غير غدر ولا خيانة. قال الحسن : هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة.

تنبيه : أحد : مرفوع بفعل مضمر يفسره الظاهر وتقديره : وإن استجارك أحد ، ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء ؛ لأن إن من عوامل الفعل ، فلا تدخل على غيره. (ذلِكَ) أي : الأمر بالإجارة للغرض المذكور (بِأَنَّهُمْ) أي : بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا علم لهم لأنهم لا عهد لهم بنبوّة ولا رسالة ولا كتاب ، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم ، وقوله سبحانه وتعالى :

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) استفهام معناه الجحد أي : لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) أي : من المشركين (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يوم الحديبية وهم المستثنون قبل (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) أي : أقاموا على العهد ولم ينقضوه (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي : على الوفاء وهو كقوله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) [التوبة ، ٤] غير أنه مطلق وهذا مقيد ، وما تحتمل الشرطية والمصدرية. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي : من اتقى يوفي بعده لمن عاهده ، وقد استقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عهدهم حتى نقضوه بإعانة بني بكر على خزاعة.

وقوله تعالى :

(كَيْفَ) تكرار للاستبعاد بثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوما أي : كيف يكون لهم عهد ثابت (وَإِنْ) أي : والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة ، فهم إن (يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي : يعلو أمرهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق (لا يَرْقُبُوا) أي : لا يراعوا (فِيكُمْ) أي : في أذاكم بكل جليل وحقير (إِلًّا) أي : قرابة محققة قال حسان (١) :

لعمرك إن إلّك من قريش

كإلّ السقب من رأل النعام

السقب : ولد الناقة ، والرأل : ولد النعامة ، والخطاب في لعمرك لأبي سفيان ، أي : لا قرابة بينك وبين قريش كما لا قرابة بين ولد الناقة وولد النعامة. وقيل : إلا إلها ، وقيل : جبريل (وَلا ذِمَّةً) أي : عهدا بل يؤذوكم ما استطاعوا وقوله تعالى : (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي : بكلامهم كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) أي : عن الوفاء به لمخالفة ما فيها من الأضغان (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أي : راسخو الأقدام في الفسق.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان حسان بن ثابت ص ١٠٥ ، ولسان العرب (ألل) ، وديوان الأدب ٤ / ١٥٥ ، وكتاب الجيم ٣ / ٢٢٦ ، وتاج العروس (ألل) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ١ / ٢١ ، وكتاب العين ٨ / ٣٦١ ، والمخصص ٣ / ١٥١.

٦٧٦

فإن قيل : الموصوفون بهذه الصفة كفار ، والكفر أقبح وأخبث من الفسق ، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم. وأيضا الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله : وأكثرهم فائدة؟ أجيب : بأنّ الكافر قد يكون عدلا في دينه ، فلا ينقض العهد ، وقد يكون فاسقا خبيث النفس في دينه فينقضه ، فالمراد بالفسق هنا نقض العهد ، وكان في المشركين من وفى بعهده ، فلهذا قال : وأكثرهم أي : إنّ هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهد أكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم. وقال ابن عباس : لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام.

(اشْتَرَوْا) أي : استبدلوا (بِآياتِ اللهِ) أي : القرآن (ثَمَناً قَلِيلاً) أي : عرضا يسيرا من الدنيا ، وهو اتباع الأهواء والشهوات مع مصاحبة الكفر ، وذلك أنّ أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنقض العهد الذي بينهم بسبب تلك الأكلة (فَصَدُّوا) أي : فتسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا (عَنْ سَبِيلِهِ) أي : منعوا الناس من الدخول في دينه (إِنَّهُمْ ساءَ) أي : بئس (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : عملهم هذا ، وما دل عليه قوله تعالى : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) فهو تفسير لا تكرير ، وقيل : الأوّل عام في المنافقين ، وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. (وَأُولئِكَ) أي : هؤلاء البعداء من كل خير (هُمُ الْمُعْتَدُونَ) الذين تعدوا ما حد الله لهم في دينه وما يوجبه العقد والعهد.

ولما بيّن تعالى حال من لا يرقب في الله إلا ولا ذمة وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدّى ما حدّ الله تعالى له بين ما يصيرون به من أهل دينه بقوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا) أي : رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها (وَآتَوُا الزَّكاةَ) المفروضة عليهم طيبة بها نفوسهم (فَإِخْوانُكُمْ) أي : فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقوله تعالى : (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين.

(وَإِنْ نَكَثُوا) أي : نقضوا (أَيْمانَهُمْ) أي : عهودهم. (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) الذي عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي : وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه. (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي : الكفار بأسرهم ، وإنما خص الأئمة منهم بالذكر ؛ لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع منهم على هذه الأعمال الباطلة ، وقال ابن عباس : نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وأبي جهل وسائر رؤساء قريش ، وهم الذين نقضوا عهودهم وهموا بإخراج الرسول ، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة وحققها الباقون ، وقول البيضاوي : والتصريح بالياء لحن تبع فيه الكشاف التابع للفراء ، وهو مردود ، فالجمهور من النحاة والقراء على جواز قلب الهمزة الثانية حرف لين ، فبعضهم على جعلها بين بين ، وبعضهم على قلبها ياء خالصة ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) قرأ ابن عامر بكسر الهمزة أي : لا تصديق لهم ولا دين وليس في ذلك دلالة على أنّ توبة المرتدّ لا تقبل ، والباقون بالفتح جمع يمين أي : لا أيمان لهم على الحقيقة ، وأيمانهم ليست بأيمان ، وإلا لما طعنوا في دينكم ولم ينكثوا ، وفيه دليل على أنّ الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده أي : إن شرط ذلك عليه كما هو مذهبنا وتمسك أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى بهذا على أنّ

٦٧٧

يمين الكافر لا تكون يمينا وعند الشافعيّ رحمه‌الله تعالى يمينهم منعقدة ، ومعنى هذه الآية عنده أنهم لما لم يؤمنوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان والدليل على أنّ يمينهم منعقدة أنّ الله تعالى وصفها بالنكث في قوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ولو لم تكن منعقدة لما صح وصفها بالنكث وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق بقاتلوا أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن ينتهوا عما هم عليه من الكفر والطعن في دينكم والمظاهرة عليكم ، وهذا في غاية كرم الله تعالى وفضله على الإنسان وليس الغرض إيصال الأذية لهم كما هو طريقة الموحدين.

ولما قال تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أتبعه بذكر ثلاثة أسباب تبعثكم على مقاتلتهم ، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد ، فكيف بها حال الاجتماع : أحدها ما ذكره تعالى بقوله : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي : نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا عقد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكرة على خزاعة وهذا يدلّ على أنّ قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجرا لغيرهم وثانيها قوله تعالى : (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة على ما ذكر في قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٣٠]. وقيل : هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة وهذا من أوكد ما يجب القتال لأجله. وثالثها قوله تعالى : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ) أي : بالقتال (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : هم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم بالكتاب المنير وتحدّاهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادؤون بالقتال والبادىء أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم ، وبخهم الله تعالى بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها ، وتقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأن لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرّط فيها. (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي : أتخافونهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) فقاتلوا أعداءه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : مصدقين بوعد الله تعالى ووعيده ؛ لأنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) [الأحزاب ، ٣٩].

ولما وبخهم الله تعالى على ترك القتال جدّد له الأمر به بقوله تعالى :

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ

٦٧٨

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦))

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) أي : بالقتل والأسر واغتنام الأموال.

فإن قيل : قد قال الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال ، ٣٣] فكيف قال تعالى هنا : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ؟) أجيب : بأن المراد بالعذاب في الآية الأولى عذاب الاستئصال ، وبهذه الآية القتل والأسر. والفرق : أنّ عذاب الاستئصال قد يتعدّى إلى غير المذنب ، وإنه في حقه لمزيد الثواب وعذاب القتل مقصور على المذنب وهذا كالتصريح بأنّ هذا الفعل وما عطف عليه فعله تعالى وإن كان جاريا على أيدي العباد كسبا لا يرد على ذلك أنه لا يقال يعذب الله المؤمنين بأيدي الكافرين ؛ لأنّ ذلك إنما امتنع لشناعة العبارة كما لا يقال : يا خالق القاذورات والأبوال والعذرات وإن كان هو الخالق لها. (وَيُخْزِهِمْ) أي : بالذل والفضيحة في الدنيا والعذاب في الآخرة (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) أي : يمكنكم من قتلهم وإذلالهم (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي : طائفة من المؤمنين وهم خزاعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديدا فبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشكون إليه فقال : أبشروا فإن الفرج قريب.

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) أي : كربها ووجدها ، وقد وفى الله تعالى بما وعد ، والآية من المعجزات. وقوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) استئناف أي : إنّ الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ، فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم منّ الله تعالى عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا وحسن إسلامهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي : يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان فهو عليم بكل شيء ، فيعلم من يصلح للتوبة ومن لا يصلح لها ، أو يعلم ما في قلوبكم من الإقدام والإحجام (حَكِيمٌ) أي : أحكم جميع أموره.

(أَمْ حَسِبْتُمْ) أي : أظننتم (أَنْ تُتْرَكُوا) فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب ، والخطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال ، وقيل للمنافقين. وأم : بمعنى همزة الإنكار. (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أي : علما ظاهرا تقوم به الحجة عليكم في مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل ، وعبر تعالى بلما دون لم لدلالتها مع استغراق الزمان على أن تبين ما بعدها متوقع كائن ، وقوله تعالى : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) عطف على جاهدوا داخل في حيز الصلة كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذي وليجة من دون الله. والوليجة : فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل ، وهي البطانة من المشركين يتخذونهم يفشون إليهم أسرارهم ، وقال قتادة : هي الخيانة. وقال عطاء : هي الأولياء. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من مولاة المشركين وغيرها ، فيجازيكم عليه.

٦٧٩

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ولما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ رضي الله عنه عليه القول ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليّ : وهل لكم محاسن؟ قال : نعم نحن أفضل منكم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فأنزل الله تعالى ردا على العباس.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) أي : ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مسجد الله بدخوله والقعود فيه وخدمته ، فإذا دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذنه لم يعزر ، لكن لا بد من حاجة فيشترط للجواز الإذن والحاجة ، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر ، وذهب جماعة إلى أنّ المراد منه العمارة المعروفة من بناء المسجد وترميمه عند خرابه فيمنع منه الكافر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون السين ولا ألف بعدها على التوحيد ، وفي هذا دلالة على أن المراد المسجد الحرام. والباقون بفتح السين ، وألف بعدها على الجمع. وفيه دلالة على أن المراد جميع المساجد ، وقيل : المراد على القراءتين المسجد الحرام ، وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع. وقوله تعالى : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) حال من الواو في يعمروا ، أي : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ظهور كفرهم ، قال الحسن : لم يقولوا نحن كفار ، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام ، وذلك أنّ كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم حول البيت ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف بثياب قد عملنا فيها المعاصي وكلما طافوا أسبوعا سجدوا للأصنام فلم يزدادوا من الله إلا بعدا. وقيل : هو قولهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، وقال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل : من أنت؟ فيقول : نصراني ، واليهوديّ يقول : يهودي ، والمشرك يقول : مشرك. (أُولئِكَ حَبِطَتْ) أي : بطلت (أَعْمالُهُمْ) أي : الأعمال التي عملوها من أعمال البر وافتخروا بها مثل العمارة والحجابة والسقاية ، وفك العناة مع الكفر لا تأثير لها (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) لجعلهم الكفر مكان الإيمان.

واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ مرتكب الكبيرة من أهل الإيمان لا يبقى مخلدا في النار من وجهين : الأوّل قوله تعالى : (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) يفيد الحصر أي : هم فيها خالدون لا غيرهم ، ولما كان هذا واردا في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر. الثاني : أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار عن كفرهم ، فلو كان هذا الحكم جزاء لغير الكافر لما صح تهديد الكافر به. وفي الكشاف : أن الكبيرة تهدم الأعمال وهو جار على مذهبه الفاسد ، ولما بيّن تعالى أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين المستحق لعمارتها بقوله تعالى :

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ) أحدا (إِلَّا اللهَ) أي : إنما تتم عمارتها لهؤلاء الجامعين بين الكمالات العملية والعلمية.

فإن قيل : لم لم يذكر الإيمان برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنّ الإيمان به شرط في صحة الإيمان؟ أجيب : بأنه تعالى لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالتشهد وهو مشتمل على ذكره كان ذلك كافيا ، ومما علم من أن الإيمان بالله تعالى قرينه وتمامه الإيمان به فكان الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذكورا بطريق أبلغ

٦٨٠