تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

صَيْدُ الْبَرِّ) أي : اصطياده وأكل ما صيد منه لكم وهو ما لا يعيش إلا فيه وما يعيش فيه وفي البحر فإن صيد الحلال حل للمحرم أكله لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لحم الصيد حلال لكم ما لم تصطادون أو يصد لكم» (١)(ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي : محرمين وقد ذكر تعالى تحريم الصيد على المحرم في ثلاث مواضع من هذه السورة قوله تعالى : (مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة ، ١] إلى قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة ، ٢] وقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة ، ٩٥] وقوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) [المائدة ، ٩٦] تشديدا على المحرم أنه لا يتعاطى ذلك وأكد ذلك بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : في ذلك الاصطياد وغيره (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فإنه مجازيكم بأعمالكم.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) أي : صيرها وسمى البيت كعبة لتكعبه أي : تربعه وقال مجاهد : سميت كعبة لترفعها والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة وقال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البناء وقوله تعالى : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي : المحترم عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك (قِياماً لِلنَّاسِ) أي : يقوم به أمر دينهم بالحج أو العمرة إليه ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرّض له وجبي ثمرات كل شيء إليه قال الرازي : والمراد بعض الناس وهم العرب وإنما حسن هذا المجاز ؛ لأنّ أهل كل بلد إذا قالوا : الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا فهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم. وقرأ ابن عامر قيما بغير ألف مصدر قام غير معل والباقون بالألف.

(وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) أي : الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب أي : صير الأشهر الحرم قياما للناس يأمنون فيها من القتال (وَالْهَدْيَ) أي : الذي لم يقلد (وَالْقَلائِدَ) أي : الهدي الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء ومرّ الكلام عليه في أوّل السورة (ذلِكَ) أي : الجعل المذكور وهو الأربعة الأشياء التي جعلها الله قياما للناس (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها دليل على علمه بما في الوجود وما هو كائن وقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فيه وعيد لأعدائه ممن انتهك محارمه وقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ) فيه وعد لأوليائه ممن حافظ عليها (رَحِيمٌ) بهم وقوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به وأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي : تظهرون من العمل (وَما تَكْتُمُونَ) أي : تخفون منه فيجازيكم به.

وقوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها رغب به في صالح العمل وحلال المال (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) إذ لا عبرة بالقلة والكثرة بل بالجودة والرداءة فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير ، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي : في ترك الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى وآثروا الطيب وإن قلّ في الحس لكثرته في المعنى (يا أُولِي

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٨٩ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١١٩٤٩.

٤٦١

الْأَلْبابِ) أي : أصحاب العقول السليمة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب.

ونزل لما أكثروا سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ) أي : تظهر (لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي : لما فيها من المشقة فقيل : سبب نزولها ما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه أنهم لما سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحفوه المسألة أي : بالغوا في السؤال فغضب وصعد المنبر وقال : «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» وشرع يكرّر ذلك وإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي؟ فقال : «حذافة» فقال عمر رضي الله تعالى عنه : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا نعوذ بالله من الفتن فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه قد صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط في آخره» فنزلت هذه الآية (١).

وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله إنا حديث عهد بجاهلية اعف عني يعف الله عنك فسكن غضبه ، وللبخاريّ في التفسير عن أنس أيضا قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» فغطى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوههم لهم خنين فقال رجل : من أبي؟ قال : فلان فنزلت هذه الآية. وللبخاري أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي؟ يقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية (٢).

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أسأل عن شيء إلا وأجيب» فقال رجل : أين أنا؟ قال : «في النار» وقال آخر : من أبي؟ قال : «حذافة» وكان يدعى لغيره فنزلت هذه الآية (٣). وقيل غير ذلك ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردّها إلى شيء واحد لما مرّ عند قوله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة ، ٨٧] من أنّ الأمر الواحد قد تتعدّد أسبابه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية مع تحقيق الأولى والباقون بتحقيقهما. ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أنّ هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفا من عواقبه قال تعالى : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) أي : تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) المعنى : إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينزل القرآن بإبدائها ومتى أبداها ساءتكم فلا تسألوا.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله تعالى قد فرض فرائض فلا تضيعوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها ثم عفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (٤) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْها) استئناف أي : عفا الله عما

__________________

(١) أخرجه البخاري في الدعوات حديث ٦٣٦٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٥٩.

(٢) أخرجه البخاري في التفسير ، حديث ٢٦٢١.

(٣) انظر الحاشية ما قبل السابقة.

(٤) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠ / ١٣ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ١٢٢ ، وابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٢٦٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٩٨٠ ، ٩٨١.

٤٦٢

سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مسألتها أو صفة أخرى أي : عن أشياء عفا الله عنها ولا يكلف بها.

روي أنه لما نزل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران ، ٩٧] قال سراقة بن مالك : ألكل عام؟ فأعرض عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعاد ثلاثا فقال : «لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم فاتركوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (١).

(وَاللهُ غَفُورٌ) يمحو الزلات عينا وأثرا ويعقبها بالإكرام (حَلِيمٌ) لا يعجل على العاصي بالعقوبة.

وقوله تعالى : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ) الضمير فيه للمسألة التي دلّ عليها تسألوا ولذلك لم يعدّ بعن أو الأشياء بحذف الجار وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِكُمْ) قال البيضاويّ : متعلق بسألها وليس صفة لقوم فإن ظرف الزمان لا يكون صفة لجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها اه. قال أبو حيان : هذا محله في ظرف الزمان المجرّد من الوصف أمّا إذا لم يتجرّد عنه فيصح أن يكون صفة للجثة أو حالا منها أو خبرا عنها ، وقبل وبعد وصفان في الأصل فإذا قلت : جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي : تقدّم عليه ولذا صح وقوعه صلة للموصول ولو لم يلحظ فيه الوصف ولو كان ظرف زمان مجرّدا لم يجز أن يقع صلة قال تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة ، ٢١] ولا يجوز والذين اليوم وممن سألها قبلهم ثمود سألوا صالحا الناقة وسأل قوم عيسى المائدة (ثُمَّ أَصْبَحُوا) أي : صاروا (بِها) أي : بسببها (كافِرِينَ) حيث لم يأتمروا بما سألوا جحودا.

وقوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) ردّ وإنكار لما ابتدعته أهل الجاهلية.

روي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر يجزوا أذنها أي : شقوها وتركوا الحمل عليها وركوبها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ وقيل : إنهم كانوا ينظرون إلى خامس ولدها فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى يجزوا أذنها أي : شقوها وتركوها ، وحرم على النساء لبنها ومنافعها وكانت منافعها خاصة للرجال وإذا ماتت حلت للرجال والنساء.

وأما السائبة : فكان الرجل منهم يقول : إن شفيت أو ردّ غائبي فناقتي سائبة ثم يسيبها فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا تركب ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها وقيل : كانت الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة سنة إناثا سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فإن نتجت بعد ذلك أنثى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع أمّها في الإبل فلم تركب ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمّها فهي البحيرة بنت السائبة.

وأمّا الوصيلة : فمن الغنم كانت إذا ولدت سبعة أبطن نظر فإن كان السابع ذكرا ذبحوه فأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وقيل : إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم

__________________

(١) أخرجه مسلم في الحج حديث ١٣٣٧ ، والترمذي في الحج حديث ٨١٤ ، والنسائي في المناسك حديث ٣٦١٩ ، وابن ماجه في المناسك حديث ٢٨٨٤.

٤٦٣

وكان ابن الأنثى حراما على النساء فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا.

وأمّا الحام : فهو الفحل إذا ركب ولد ولده ويقال : إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وإذا مات أكله الرجال والنساء.

وروي «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأكثم الخزاعي : يا أكثم رأيت عمرو بن لحى يجرّ قصبه في النار فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك وذلك أنه أوّل من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه» فقال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال : «لا إنك مؤمن وهو كافر» (١) ومعنى (ما جَعَلَ اللهُ) أي : ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير ولا التسيب ولا غير ذلك (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في قولهم : إنّ الله أمرنا بها (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أنّ ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه آباءهم كما قال تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا) أي : كافينا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) إذ لا مستند لهم سوى ذلك قال الله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) أي : إلى الحق والاستفهام للإنكار أي : أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين. وقرأ هشام والكسائيّ قيل بضم القاف قبل الياء والباقون بالكسر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي : احفظوها والزموا إصلاحها (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي : لا يضركم الضالّ إذا كنتم مهتدين ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسّلام : «من رأى منكرا واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» (٢).

وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه» (٣). وفي رواية «لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملنّ الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لهم» (٤).

قال أبو عبيدة : خاف الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه يتأوّل الناس الآية غير متأوّلها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف فأعلمهم أنها ليست كذلك ، قال أبو ثعلبة الخشني : سألت عن هذه الآية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت الأمر لا بدّ لك منه فعليك نفسك ودع أمر العامة وإن وراءكم أيام الصبر فمن صبر فيهنّ قبض على الجمر وإنّ وراءكم أياما للعامل فيهنّ مثل

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٥٢٢ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٥٦.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٤٩ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١١٤٠ ، والنسائي في الإيمان حديث ٥٠٠٨.

(٣) أخرجه الترمذي في الفتن حديث ٢١٦٨ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠٠٥.

(٤) أخرجه الترمذي في الفتن حديث ٢١٦٩.

٤٦٤

أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله» قال ابن المبارك وزادني غيره قال يا رسول الله : أجر خمسين منهم؟ قال : «أجر خمسين منكم» (١).

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ هذه الآية قرئت عنده فقال : إنّ هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه وبسط لعذره وعنه ليس هذا زمان تأويلها قيل : فمتى؟ قال : إذا حال دونها السيف والسوط والحبس.

وروي : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل» (٢). وقيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ولاموه فنزلت : عليكم أنفسكم وعليكم : من أسماء الفعل بمعنى الزموا أنفسكم ولذلك نصب أنفسكم (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) الضال والمهتدي (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به ، وفي ذلك وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أنّ أحدا لا يؤاخذ بذنب أحد غيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) أي : فيما أمرتم شهادة بينكم فشهادة : مبتدأ خبره محذوف ، قيل : هذه الآية وما بعدها من أشكل آي القرآن حكما وإعرابا وتفسيرا والمراد بالشهادة الإشهاد بالوصية.

وقيل : المراد بها اليمين بمعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان ، قال القرطبي : ورد لفظ الشهادة في القرآن على أنواع مختلفة بمعنى الحضور قال تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة ، ١٨٥] وبمعنى قضى قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران ، ١٨] وبمعنى أقرّ قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء ، ١٦٦] وبمعنى حكم قال تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) [يوسف ، ٢٦] وبمعنى حلف قال تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) [النور ، ٦] وبمعنى وصى قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي : أسبابه (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وهذا خبر بمعنى الأمر أي : ليشهد وإضافة شهادة ل «بين» على الاتساع و (حين) بدل من إذا أو ظرف لحضر واثنان فاعل شهادة أو خبر مبتدأ محذوف أي : الشاهدان اثنان وقوله تعالى : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) عطف على (اثنان) ومن فسر الغير بأهل الذمّة جعله منسوخا فإنّ شهادته على المسلم لا تسمع إجماعا ، وقد اتفق الأكثرون على أنه لا نسخ في سورة المائدة ، وعن مكحول نسخها قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق ، ٢] وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر.

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ) أي : سافرتم (فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي : قاربتم الأجل وقوله تعالى : (تَحْبِسُونَهُما) أي : توقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) أي : صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل : أيّ صلاة كانت (فَيُقْسِمانِ) أي : يحلفان (بِاللهِ) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ اليمين إنما تكون إذا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الملاحم حديث ٤٣٤١ ، والترمذي في التفسير حديث ٣٠٥٨ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠١٤.

(٢) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٦٤ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٧٩.

٤٦٥

كانا من غيرنا فإن كانا مسلمين فلا يمين ، وعن غيره : إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما ، وإن كانا الوصيين فلا ثم شرط لهذا الحلف شرطا فقال اعتراضا بين القسم والمقسم عليه (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي : شككتم فيما أخبرا به عن الواقعة ثم ذكر المقسم عليه بقوله : (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) أي : بهذا الذي ذكرناه ثمنا أي : لم نذكره ليحصل لنا به غرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة وليس قصدنا به إلا إقامة الحق (وَلَوْ كانَ) أي : المقسم له (ذا قُرْبى) أي : لنا (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي : التي أمرنا بإقامتها (إِنَّا إِذاً) أي : إذا كتمناها (لَمِنَ الْآثِمِينَ.)

(فَإِنْ عُثِرَ) أي : اطلع بعد حلفهما (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي : فعلا ما يوجبه من خيانة أو كذب في الشهادة بأن وجد عندها مثلا ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به (فَآخَرانِ) أي : فشاهدان آخران (يَقُومانِ مَقامَهُما) أي : في توجيه اليمين عليهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) الوصية وهم الورثة على قراءة غير حفص بضم التاء وكسر الحاء على البناء للمفعول وعلى البناء للفاعل فهو الأوليان ويبدل من آخران (الْأَوْلَيانِ) بالميت أي : الأقربان إليه ، وقرأ حمزة وشعبة بتشديد الواو وكسر اللام وبسكون الياء وفتح النون على الجمع على أنه صفة للذين أو بدل منه أي : من الأوّلين الذين استحق عليهم والباقون بسكون الواو وفتح اللام والياء وألف بعد الياء وكسر النون على التثنية على أنه بدل من آخران كما مرّ أو خبر محذوف أي : هما الأوليان (فَيُقْسِمانِ) أي : هذان الآخران (بِاللهِ) ويقولان (لَشَهادَتُنا) أي : يميننا (أَحَقُ) أي : أصدق (مِنْ شَهادَتِهِما) أي : يمينهما (وَمَا اعْتَدَيْنا) أي : تجاوزنا الحق في اليمين (إِنَّا إِذاً) أي : إذا وقع منا اعتداء (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي : الواضعين الشيء في غير موضعه.

ومعنى الآيتين : أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته أو يوصي إليهما احتياطا فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت ، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإن الشاهد لا يحلف ولا تعارض يمينه بيمين الوارث ، وثابت إن كانا وصيين وردّ اليمين إلى الورثة إمّا لظهور خيانة الوصيين فإنّ تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها ، وهي ما روي أنّ رجلا من بني سهم خرج مع تميم الداري وعدي بن زيد إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدموا الشام مرض بديل فدوّن ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما بها وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشا بالذهب ثم قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة ودفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا فأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاؤوا تميما وعديا فقالوا : هل باع صاحبنا شيئا؟ قالا : لا قالوا : هل اتجر تجارة قالا : لا قالوا : فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا قالوا : فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا منها إناء من فضة مموّها بالذهب ثلثمائة مثقال من فضة قالا : ما ندري إنما أوصى لنا بشيء وأمرنا أن ندفعه لكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاجترآ على الإنكار وحلفا فأنزل تعالى الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك وخلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيلهما ، ثم وجد الإناء في

٤٦٦

أيديهما ، فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك فقالا : إنا كنا قد اشتريناه منه فقالوا : ألم تزعما أنّ صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه؟ قالا : لم يكن عندنا بينة وكرهنا أن نقر لكم فكتمنا لذلك فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (فَإِنْ عُثِرَ) فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان وحلفا وتقدّم أنّ تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها.

(ذلِكَ) أي : الحكم المذكور من ردّ اليمين على الورثة (أَدْنى) أي : أقرب (أَنْ) أي : إلى أن (يَأْتُوا) أي : الذين شهدوا أوّلا (بِالشَّهادَةِ) أي : الواقعة في نفس الأمر (عَلى وَجْهِها) أي : الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة (أَوْ) أقرب إلى أن (يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي : على الورثة المدعين فيحلفون على خيانتهم وكذبهم فيفتضحون ويغرمون فلا يكذبوا وإنما جمع الضمير : لأنه حكم يعم الشهود كلهم (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك الخيانة والكذب (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به سماع قبول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن طاعته لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة.

وقوله تعالى :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥) وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) أي : يوم القيامة منصوب بإضمار اذكر. وقيل : بدل من مفعول (واتقوا) بدل اشتمال (فَيَقُولُ) لهم توبيخا لقومهم كما أنّ سؤال الموءودة لتوبيخ الوائد (ما ذا) أي : الذي (أُجِبْتُمْ) به حين دعوتم إلى التوحيد (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) أي : لا علم لنا بما أنت تعلمه (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فتعلم ما أجابونا وأظهروا لنا وما لم نعلم مما أضمروا في قلوبهم وقوله تعالى:

٤٦٧

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) أي : اشكرها منصوب بإضمار اذكر ، وقيل : بدل من يوم يجمع وهو على طريقة : ونادى أصحاب الجنة ، والمعنى أنه تعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهروا عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة وقوله تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ) أي : قوّيتك ظرف ل (نعمتي) أو حال منه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي : جبريل عليه‌السلام فكان له في الصغر حفظ لم يكن لغيره.

وقوله تعالى : (تُكَلِّمُ النَّاسَ) حال من الكاف في أيدتك (فِي الْمَهْدِ) أي : طفلا (وَكَهْلاً) أي : تكلمهم في الطفولية والكهولة على السواء والمعنى : إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهول في كمال العقل والتكلم به ، وبه استدل على أنه ينزل قبل الساعة ؛ لأنه رفع قبل الكهولة كما سبق في آل عمران (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) أي : الخط الذي هو مبدأ العلم (وَالْحِكْمَةَ) أي : الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم (وَالتَّوْراةَ) أي : المنزلة على موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالْإِنْجِيلَ) أي : المنزل عليك (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) أي : هذا الجنس (كَهَيْئَةِ) أي : كصورة (الطَّيْرِ) والكاف اسم بمعنى مثل مفعول (بِإِذْنِي) أي : بأمري (فَتَنْفُخُ فِيها) أي : في الصورة المهيأة (فَتَكُونُ) تلك الصورة التي هيأتها (طَيْراً بِإِذْنِي) أي : بإرادتي ، وقرأ نافع بالمدّ بعد الطاء وبعد الألف همزة مكسورة وورش يرقق الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) وسبق تفسيرهما في سورة آل عمران (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) أي : من قبورهم أحياء (بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : اليهود (عَنْكَ) أي : حين هموا بقتلك وقوله تعالى : (إِذْ جِئْتَهُمْ) ظرف ل (كففت) (بِالْبَيِّناتِ) أي : المعجزات (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ) أي : ما (هذا) الذي جئت به (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : بيّن ظاهر ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء إشارة إلى عيسى عليه‌السلام ، والباقون بكسر السين وسكون الحاء ولا ألف بعدها إشارة إلى ما جاء به.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ) أي : بالإلهام باطنا وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهرا (إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أي : الأنصار (أَنْ) أي : بأن (آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا آمَنَّا) بهما (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أي : منقادون أتم انقياد.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) منصوب ب (اذكر). وقيل : ظرف ل (قالوا) فيكون تنبيها على أنّ ادعاءهم الإخلاص مع قولهم : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) قرأ الكسائي بالتاء على الخطاب وإدغام لام هل فيها على أصله ، وفتح الباء الموحدة من ربك أي : هل تستطيع ربك أي : سؤال ربك والمعنى : هل تسأل ذلك من غير صارف؟ وقرأ الباقون بالياء على الغيبة ورفع الباء أي : يجيبك ربك إذا سألته (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً) وهي الطعام ويقال أيضا للخوان إذا كان عليه الطعام ، والخوان : شيء يوضع عليه الطعام للأكل هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص ، وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين أي : تميل ، وقال أهل البصرة فاعلة بمعنى مفعولة أي : تميد أيدي الآكلين إليها كقولهم : عيشة راضية أي : مرضية ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقولهم : (مِنَ السَّماءِ) أي : لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدّمنا من الأمم لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة (قالَ) عيسى عليه الصلاة والسّلام مجيبا لهم (اتَّقُوا اللهَ) أن تسألوه شيئا لم

٤٦٨

تسأله الأمم من قبلكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بكمال قدرته تعالى وصحة نبوّتي أو صدقتكم في ادعائكم الإيمان فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.

(قالُوا نُرِيدُ) أي : بسؤالنا من أجل (أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) تبرّكا لا أكل حاجة وقولهم : (وَتَطْمَئِنَ) أي : تسكن (قُلُوبُنا) بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته بيان لما دعاهم إلى السؤال وتمهيد عذرهم وقولهم : (وَنَعْلَمَ) أي : نزداد علما (أَنْ) مخففة أي : إنك (قَدْ صَدَقْتَنا) في ادعاء النبوّة وإنّ الله يجيب دعوتنا ، وقيل : إنّ عيسى عليه‌السلام أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئا إلا أعطاهم ففعلوا وسألوا المائدة وقالوا : (ونعلم أن قد صدقتنا) في قولك إنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى شيئا إلا أعطانا (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لمّا رأى أنّ لهم غرضا صحيحا في ذلك وأنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) وحقّق موضع الإنزال بقوله : (مِنَ السَّماءِ تَكُونُ) هي أو يوم نزولها (لَنا عِيداً) نعظمه ونشرفه وقال سفيان : نصلي فيه.

وروي أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا ، وقيل : إنّ عيسى عليه‌السلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى ثم قال : اللهمّ ربنا إلخ .. وقيل : العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيدا وقوله : (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من (لنا) بإعادة العامل أي : عيدا لأهل زماننا ولمن جاء بعدنا وقال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم وقوله : (وَآيَةً) عطف على عيدا وقوله : (مِنْكَ) صفة لها أي آية كائنة منك دالّة على كمال قدرتك وصحة نبوّتي (وَارْزُقْنا) المائدة والشكر عليها (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : من يرزق ؛ لأنه تعالى خالق الرزق ومعطيه بلا غرض.

(قالَ اللهُ) تبارك وتعالى مجيبا لعيسى عليه‌السلام (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي : المائدة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح النون وتشديد الزاي والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ) أي : بعد نزولها (مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) أي : تعذيبا أو مفعولا به على السعة والضمير في (لا أُعَذِّبُهُ) للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي : عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا فإنهم مسخوا قردة وخنازير ولم يعذّب بمثل ذلك غيرهم ، قال عبد الله بن عمران : أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وقوم فرعون.

واختلف العلماء هل نزلت المائدة أو لا؟ فقال مجاهد والحسن : لم تنزل فإنّ الله تعالى لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستغفروا وقالوا : لا نريدها فلم تنزل ، وقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي : إن سألتم والصحيح الذي عليه الأكثرون أنها نزلت لقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ولتواتر الأخبار في ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختلفوا في صفتها فقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسيّ : لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليه‌السلام مسحا وبكى وقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي منقضة حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه‌السلام وقال : اللهمّ اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة ، فقام

٤٦٩

فتوضأ وصلى وكشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس أي : بلا قشر كالفلوس ولا شوك تسيل دهنا وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد ، فقال شمعون الصفا وهو رأس الحواريين : يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس شيئا مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بقدرته ، كلوا مما سألتم واشكروا يمددكم ويزدكم من فضله فقال : يا روح الله كن أوّل من يأكل منها فقال : معاذ الله أن آكل منها ، ولكن يأكل منها من سألها فخافوا أن يأكلوا منها فدعا أهل الفاقة والمرض وأهل البرص والجذام والمقعدين وقال : كلوا من رزق الله لكم الهناء ولغيركم البلاء ، فأكلوا وصدروا عنها وهم ألف وثلثمائة رجل وامرأة من فقير وزمن ومريض ومبتلى كلهم شبعان والسمكة كهيئتها حين نزلت ، ثم طارت المائدة صعودا وهم ينظرون إليها حتى توارت فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى ، وندم من لم يأكل فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحا فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء أي : زالت الشمس طارت وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم ، وكانت تنزل غبّا تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ، وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمنّ والسلوى لبني إسرائيل ، وقال وهب بن منبه : أنزل الله تعالى أقراصا من شعير وحيتانا فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا جميعهم ، وقال عطية العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء ، وقال الكلبي : كان عليها خبز أرز وبقل ، وقال قتادة : كان عليها ثمر من ثمار الجنة ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم ، وقال كعب الأحبار : نزلت منكسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كلّ الطعام ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها كانت تنزل تارة كذا وتارة كذا.

قيل : لما نزلت قالوا : يا رسول الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال : يا سمكة احيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ، ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا فمسخ منهم ثلثمائة وثلاثون رجلا من ليلتهم على فراشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات يأكلون العذرة في الحشوش ، فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه‌السلام بكت وجعلت تطوف بعيسى وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤوسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا.

وفي حديث : «أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما فأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادّخروا فمسخوا قردة وخنازير» (١).

(وَ) اذكر (إِذْ قالَ اللهُ) أي : يقول لعيسى في القيامة توبيخا لقومه وإنما عبر بالماضي لتحقق وقوعه كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل ، ١] (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير حديث ٣٠٦١.

٤٧٠

اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره ، وقال السدّي : قال الله هذا القول لعيسى حين رفعه إلى السماء ؛ لأن حرف (إذ) يكون للماضي وسائر المفسرين على الأوّل ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وأدخل ألفا بينهما قالون وأبو عمرو وورش وابن كثير لم يدخلا ألفا بينهما والباقون بتحقيق الهمزتين ولا ألف بينهما وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص أمي بفتح الياء والباقون بالسكون.

فإن قيل : ما وجه هذا السؤال مع علم الله عزوجل أن عيسى عليه‌السلام لم يقله؟ أجيب : بأنه ذكر لتوبيخ قومه كما مرّ ، ولتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر : أفعلت كذا وكذا فيما يعلم أنه لم يفعله إعلاما واستعظاما لا استخبارا واستفهاما ، وأيضا أراد الله عزوجل أن يقرّ عيسى على نفسه بالعبودية فيسمع قومه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك. قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه‌السلام هذا الخطاب ارتعدت فرائصه ومفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم ثم (قالَ) وهو يرعد مجيبا لله (سُبْحانَكَ) أي : أنزهك عن أن يكون لك شريك (ما يَكُونُ) أي : ما ينبغي (لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) خبر ليس و «لي» للتبيين ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (لي) الأولى بفتح الياء والباقون بالسكون (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما) أخفيه (فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي : ما أخفيته عني من الأشياء وقوله : في نفسك للمشاكلة. وقيل : المراد بالنفس الذات وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تقرير لجملتي (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) باعتبار منطوق (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ومفهومه لأنه يدل بمنطوقه على أنه تعالى لا يعلم الغيب غيره فيكون تقريرا لقوله تعالى : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم.

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) وهو (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي : فأنا وإياهم في العبودية سواء (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي : رقيبا أمنعهم مما يقولون (ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) بالرفع إلى السماء لقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران ، ٥٥] والتوفّي أخذ الشيء وافيا والموت نوع منه قال الله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر ، ٤٢] (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ) أي : الحفيظ (عَلَيْهِمْ) أي : لأعمالهم (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من قولي وقولهم وغير ذلك (شَهِيدٌ) أي : مطلع عالم به.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أي : من أقام على الكفر منهم (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) أي : لمن آمن منهم (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي : الغالب على أمره (الْحَكِيمُ) في صنعه فإن عذبت فعدل ، وإن عفوت ففضل.

(قالَ اللهُ) تعالى (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي : في الدنيا كعيسى فإنّ النافع ما كان حال التكليف لا صدقهم في الآخرة ، وقرأ نافع بنصب الميم على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف ، والمعنى : هذا الذي من كلام عيسى عليه‌السلام واقع يوم ينفع ، والباقون بالرفع على الخبر ، وقيل : أراد بالصادقين النبيين ، وقال الكلبي : ينفع المؤمنين إيمانهم ، وقال قتادة : متكلّمان يخطبان يوم القيامة عيسى عليه الصلاة والسّلام وهو ما قصّ الله تعالى وعدوّ الله إبليس ، وهو قوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) [إبراهيم ، ٢٢] فصدق عدوّ الله يومئذ ، وكان كاذبا فلم ينفعه صدقه.

٤٧١

قال : ولما كان عيسى صادقا في الدنيا والآخرة نفعه صدقه. ثم بيّن تعالى ثوابهم فقال : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وأكد معنى ذلك بقوله تعالى : (أَبَداً) ولما كان ذلك لا يتمّ إلا برضا الله تعالى قال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعته (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه (ذلِكَ) أي : هذا الأمر العليّ لا غيره (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وأمّا الكاذبون في الدنيا فلا ينفعهم صدقهم في ذلك اليوم كالكفار لمّا يؤمنون عند رؤية العذاب.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خزائن المطر والنبات والرزق وغيرها (وَما فِيهِنَ) من إنس وجنّ وملك وغيرهم ملكا وخلقا ، وأتى بما دون من تغليبا لغير العاقل (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب ، قال السيوطي : وخصّ العقل ذاته فليس عليها بقادر ، وقول البيضاوي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٤٧٢

سورة الأنعام

مكية ، روي أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا ونزل معها سبعون ألف ملك قد سدّوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان ربي العظيم» (١) وخرّ ساجدا ، والزجل ـ بفتح الزاي والجيم ـ : القوّة ، قال البغوي : وروي مرفوعا «من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره» (٢) ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت سورة الأنعام بمكة إلا قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فهذه الست آيات مدنيات.

ويروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا بالكتاب فكتبوها من ليلتهم إلا الست آيات ، قال بعض العلماء : واختصت هذه السورة بنوعين من الفضيلة أحدهما : أنها نزلت دفعة واحدة ، والثاني : أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة والسبب فيها أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين وهي مائة وخمسة وستون آية وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بِسْمِ اللهِ) الذي تعالت عظمته عن كل شائبة نقص فكان له كل كمال (الرَّحْمنِ) الذي عمت نعمته المحسن والمسيء فغمر الكل بالنوال (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بإتمام النعمة فهداهم بنعمة الإيصال.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨)

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥ / ٣١٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ١٢٨ ، ٢٧٥.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٤٧٣

وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

(الْحَمْدُ) هو الوصف بالجميل ثابت (لِلَّهِ) وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به أو الثناء به أو هما احتمالات قال الجلال المحلي في سورة الكهف : أفيدها الثالث ، وتقدّم الكلام على الحمد لغة واصطلاحا في أوّل الفاتحة ، وقال كعب الأحبار : هذه الآية أوّل آية في التوراة وآخر آية في التوراة (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) [الإسراء ، ١١١] إلى آخر الآية. وفي رواية أن آخر آية في التوراة آخر سورة هود ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : افتتح الله الخلق بالحمد فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وختم بالحمد فقال تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزمر ، ٧٥] وقال أهل المعاني : لفظ الحمد لله خبر ومعناه الأمر أي : احمدوا الله وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر لأنه أبلغ في البيان من حيث إنه جمع الأمرين ، ولو قيل : احمدوا الله لم يجمع الأمرين فكان قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أبلغ وإنما خص السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما ترى العباد لأنّ السماء بغير عمد ترونها فيها العبر والمنافع والأرض مسكن الخلائق وفيها أيضا العبر والمنافع ، وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهنّ لأنّ طبقاتها مختلفة الذات متفاوتة الآثار والحركات بالكواكب في سيرها وحركاتها في السرعة والبطء واستتار بعضها ببعض عند الخسوف وغيره وغير ذلك مما هو محرّر عند أهله وقدمها لشرفها قدرا وعظما ، وإن كانت الأرض أشرف من حيث إنها مسكن الأنبياء (وَجَعَلَ) أي : خلق (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي : كل ظلمة ونور وجمعها دونه لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها إذ ما من جرم إلا وله ظلّ وظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار ولا ترد الأجرام المنيرة كالكواكب لأنّ مرجع كل نير إلى النار على ما قيل : إنّ الكواكب أجرام نورانية نارية وإنّ الشهب منفصلة من نار الكواكب فصح أنّ النور من جنس النار وأن المراد بالظلمة الضلال وبالنار الهدى والهدى واحد والضلال متعدّد وتقديمها لتقدّم الإعدام على الملكات وقوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) عطف على قوله : (خَلَقَ) أي : إنه تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ثم الذين كفروا يعدلون بربهم الأوثان أي : يسوونها به في العبادة وعلى هذا ف (يعدلون) من العدل وهو التسوية ، والباء متعلقة بيعدلون أو على قوله : (الحمد لله) على معنى أنّ الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه وأنعمه من العباد ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيكفرون نعمته ، وعلى هذا ف (يعدلون) من العدول ، والباء متعلقة بكفروا ومعنى (ثم) استبعاد عدولهم بعد وضوح آيات قدرته.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي : ابتدأ خلقكم منه فإنه المادّة الأولى ، وإنّ آدم الذي هو

٤٧٤

أصل البشر خلق منه أو خلق أباكم فحذف المضاف ، قال السدّي : بعث الله جبريل عليه‌السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني فرجع جبريل عليه‌السلام ولم يأخذ قال : يا رب عاذت بك فبعث ميكائيل عليه‌السلام فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت عليه‌السلام فعاذت بالله منه فقال : أنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت : رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح الخلق من هذا الطين بيدك.

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه : خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام من تراب وجعله طينا ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا ثم خلقه وصوّره وتركه حتى كان صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه من روحه (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي : أجلا لكم تموتون عند انتهائه (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي : مضروب (عِنْدَهُ) أي : وهو أجل القيامة ، وقال الحسن : الأوّل : بين وقت الولادة إلى وقت الموت والثاني : من وقت الموت إلى البعث فإن كان الرجل برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [فاطر ، ١١] وقيل : الأول : النوم ، والثاني : الموت وقيل : الأوّل : لمن مضى ، والثاني : لمن بقي ولمن يأتي (ثُمَّ أَنْتُمْ) أيها الكفار (تَمْتَرُونَ) أي : تشكون في البعث بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر ومعنى (ثم) استبعاد أيضا كما مرّ لأن يمتروا فيه بعدما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.

(وَهُوَ اللهُ) الضمير لله والله خبره وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ بسكون الهاء من وهو والباقون بالضم وقوله تعالى : (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل : هو مستحق العبادة فيهما ومنه قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف ، ٨٤] أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما ، وقال الزجاج : فيه تقديم وتأخير تقديره : وهو الله (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) أي : ما تسرون (وَجَهْرَكُمْ) أي : ما تجهرون به بينكم في السموات والأرض ، وقيل : معناه وهو إله السموات والأرض كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف ، ٨٤] (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي : ما تعملون من خير أو شرّ فيثيب عليه أو يعاقب.

فإن قيل : الأفعال إمّا أفعال القلوب وهي المسماة بالسر وإمّا أفعال الجوارح وهي المسماة بالجهر والأفعال لا تخرج عن السرّ والجهر فقوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو غير جائز أجيب : بأنّ المراد بالسر ما يخفى وبالجهر ما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح فهو كما يقال : هذا المال كسب فلان أي مكتسبه فلا يحمل على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه.

(وَما تَأْتِيهِمْ) أي : الكفار (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) (من) الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض أي : ما يظهر لكم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي : تاركين لها وبها مكذبين.

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي : بالقرآن وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أتى به من المعجزات

٤٧٥

(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) أي : عواقب (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) بنزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره.

(أَلَمْ يَرَوْا) أي : في أسفارهم إلى الشام وغيرها (كَمْ) خبرية بمعنى كثيرا (أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي : أمّة من الأمم الماضية ، وعلى هذا القرن : الجماعة من الناس وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدّة من الزمان قيل : إنها عشرة أعوام ، وقيل : عشرون ، وقيل : ثلاثون ، وقيل : أربعون ، وقيل : خمسون ، وقيل : ستون ، وقيل : سبعون ، وقيل : ثمانون ، وقيل : تسعون ، وقيل : مائة.

لما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد الله بن بشر المازني : «تعيش قرنا» (١) فعاش مائة سنة وقيل : مائة وعشرون فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : جعلنا لهم فيها مكانا بالقوّة والسعة وقررناهم فيها (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي : ما لم نجعل لكم من السعة والقوّة فيه التفات عن الغيبة ، والمعنى : لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمودا وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) هي المطر (عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي : متتابعا (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي : تحت مساكنهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي : بسبب ذنوبهم بتكذيبهم الأنبياء فلم يغن ذلك عنهم شيئا (وَأَنْشَأْنا) أي : أحدثنا (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) بدلا منهم.

فإن قيل : ما فائدة ذكر أنشأنا قرنا آخرين بعدهم؟ أجيب : بأنه ذكر للدلالة على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده فهو قادر على أن يفعل ذلك بكم.

ونزل لما قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد : يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً) أي : مكتوبا (فِي قِرْطاسٍ) أي : رق كما اقترحوه (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أبلغ من عاينوه لأنه أنفى للشك (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ) أي : ما (هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : تعنتا وعنادا كما قالوا في انشقاق القمر.

(وَقالُوا لَوْ لا) أي : هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مَلَكٌ) يكلمنا أنه نبي كقوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان ، ٧] (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) بحيث عاينوه كما اقترحوا فلم يؤمنوا (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي : لحق إهلاكهم فإنّ سنة الله تعالى جرت فيمن قبلهم أنهم إذا جاءهم مقترحهم فلم يؤمنوا به يهلكهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي : لا يمهلون لتوبة أو معذرة.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي : المنزل إليهم (مَلَكاً لَجَعَلْناهُ) أي : الملك (رَجُلاً) أي : على صورته ليتمكنوا من رؤيته إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك في صورته وإنما رآه كذلك الأفراد من الأنبياء لقوّتهم القدسية وقوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) جواب محذوف أي : ولو أنزلناه وجعلناه رجلا للبسنا أي : لخلطنا عليهم بجعلنا إياه رجلا ما يخلطون على أنفسهم وعلى غيرهم فيقولون : ما هذا إلا بشر مثلكم وإنما كان تلبيسا لأنهم لبسوا على ضعفتهم في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ٦ / ٣٩١.

٤٧٦

فقالوا : إنما هو بشر مثلكم ولو رأوا الملك رجلا للحقهم من اللبس مثل ما لحق الضعفاء منهم فيكون اللبس نقمة من الله وعقوبة لهم على ما كان منهم من التخليط في السؤال واللبس على الضعفاء.

وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يرى من قومه (فَحاقَ) قال الربيع بن أنس : فنزل ، وقال عطاء : فحل ، وقال الضحاك : فأحاط (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي : من أولئك الرسل (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك.

(قُلْ) لهم (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : أوقعوا السير للاعتبار فيها ولا تغتروا بإمهالكم وتمكينكم (ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) أي : آخر أمر (الْمُكَذِّبِينَ) الرسل من هلاكهم بالعذاب فإنكم إذا شاهدتم تلك الآثار كمل لكم الاعتبار بهم.

(قُلْ) لهم (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا وهو سؤال تبكيت (قُلْ لِلَّهِ) إن لم يقولوه لا جواب غيره لأنه المتعين للجواب بالاتفاق إذ لا يمكنهم أن يذكروا غيره (كَتَبَ) أي : قضى (عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) تفضلا منه وإحسانا ، فالرحمة تعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته والعلم بتوحيده بنصب الأدلة وإنزال الكتب والإمهال على الكفرة والعصاة والمذنبين ولو شاء لسلط عليهم المضار وجعل عيشهم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي تعيش فيها الحيوانات.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما قضى الله الخلق كتب كتابا عنده فوق عرشه : إنّ رحمتي غلبت غضبي» وفي رواية «سبقت غضبي» (١) وفي رواية «إنّ لله تعالى مئة رحمة واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» (٢).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم عليه سبي فإذا امرأة من السبي قد غلب ثديها إذ وجدت صبيا في السبي أخذته وألصقته ببطنها وأرضعته فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه»؟ فقلنا : لا والله يا رسول الله فقال : «الله أرحم بعباده من هذه بولدها» (٣) وقوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) استئناف واللام لام القسم أي : والله ليجمعنكم (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : في يوم القيامة وإلى بمعنى في أو ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم ، وقيل : بدل من الرحمة بدل البعض فإن من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم (لا رَيْبَ) أي : لا شك (فِيهِ) أي : اليوم أو الجمع ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في موضع نصب على الذم أو رفع على الخبر أي : وأنتم الذين خسروا أنفسهم بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية أو مبتدأ خبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.)

فإن قيل : الفاء تدل على أنّ عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم مع أنّ الأمر على العكس؟ أجيب : بأنّ إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان.

وقوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ) أي : حل (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) عطف على (لله) أي : له كل

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٢٢ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٨٩.

(٢) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٢٧٥٢ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٩٣.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٥٩٩٩ ، ومسلم في التوبة حديث ٢٧٥٤.

٤٧٧

شيء من حيوان وغيره لأنه خالقه ومالكه وقيل له : ما سكن فيهما أو تحرّك واكتفى بأحد الضدّين عن الآخر (وَهُوَ السَّمِيعُ) أي : لكل ما يقال (الْعَلِيمُ) أي : بكل ما يفعل فلا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.

ونزل لما دعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دين آبائه : (قُلْ) لهم (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أي : ربا ومعبودا وناصرا ومعينا وهو استفهام ومعناه الإنكار أي : لا أتخذ غير الله وليا (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خالقهما ابتداعا من غير سبق ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : إني فطرتها أي : ابتدأتها (وَهُوَ يُطْعِمُ) أي : يرزق (وَلا يُطْعَمُ) أي : ولا يرزق ، وصف سبحانه وتعالى ذاته بالغنى عن الخلق باحتياجهم إليه لأنّ من كان من صفته أن يطعم الخلق لاحتياجهم إليه ولا يطعم لاستغنائه عنهم وجب أن يتخذ ربا وناصرا ووليا (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لله من هذه الأمّة لأنّ النبيّ سابق أمّته في الدين والدين وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة بسبب اختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : وقيل لي : يا محمد لا تكونن من المشركين أي : في عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم ، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سؤالهم أن يكون على دين آبائه.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بعبادة غيره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب.

وقوله تعالى : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) العذاب (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة ، قرأه أبو بكر وحمزة والكسائيّ بفتح الياء وكسر الراء على البناء للفاعل والضمير لله تعالى والمفعول محذوف ، وقرأه الباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول فالضمير للعذاب (فَقَدْ رَحِمَهُ) ربه تعالى أي : أراد به الخير (وَذلِكَ) أي : الصرف أو الرحمة (الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي : النجاة الظاهرة.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) أي : ببلاء كمرض وفقر والضرّ اسم جامع لما ينال الإنسان من ألم ومكروه وغير ذلك مما هو في معناه (فَلا كاشِفَ) أي : لا رافع (لَهُ إِلَّا هُوَ) لا غيره (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) أي : بصحة وغنى والخير اسم جامع لكل ما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور وغير ذلك (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الخير والضر وهذه الآية وإن كانت خطابا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي عامة لكل أحد والمعنى وإن يمسسك الله بضرّ أيها الإنسان فلا كاشف لذلك الضر إلا هو وإن يمسسك بخير أيها الإنسان فهو على كل شيء قدير من رفع الضرر وإيصال الخير ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : أهدي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه فسار بي مليا ثم التفت إليّ فقال لي : «يا غلام» فقلت : لبيك يا رسول الله قال : «أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» (١). وفي رواية : «اعلم أنّ النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأنّ مع العسر يسرا» (٢)

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة حديث ٢٥١٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٩٣ ، و ٣٠٣ ، و ٣٠٧.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٣٠٧.

٤٧٨

«ولن يغلب عسر يسرين» (١). وفي رواية : «فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلق أن ينفعوك بما لم يقضه لك الله لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه» (٢).

(وَهُوَ الْقاهِرُ) أي : القادر الذي لا يعجزه شيء مستعليا (فَوْقَ عِبادِهِ) فهم مقهورون تحت قدرته وكل من قهر شيئا فهو مستعل عليه بالقهر والغلبة (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في خلقه (الْخَبِيرُ) ببواطنهم كظواهرهم.

ونزل لما قالت قريش للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا ما يشهد لك.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

(قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون نبوّتك من قومك (أَيُّ شَيْءٍ) بيني وبينكم (أَكْبَرُ شَهادَةً) تمييز محوّل عن المبتدأ (قُلِ اللهُ) أكبر شهادة إن لم تقولوه لا جواب غيره ثم ابتدأ (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي : هو شهيد بيني وبينكم ويحتمل أن يكون الله شهيدا هو

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٥٢٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٩٤٦ ، وابن حجر في فتح الباري ٧ / ٧١٢ ، والطبري في تفسيره ٣٠ / ١٥١ ، والقرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٠٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٢١٣.

(٢) أخرجه البغوي في شرح السنة ٢ / ١٢٣ ، والطبراني في المعجم الكبير ١١٥٦٠.

٤٧٩

الجواب لأنه تعالى إذا كان هو الشهيد كان أكبر شيء شهادة (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ) يا أهل مكة (بِهِ) أي : القرآن واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة وقوله تعالى : (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير المخاطبين أي : لأنذركم به يا أهل مكة ومن بلغه من الإنس والجنّ إلى يوم القيامة وهو دليل على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم يبلغه قال محمد بن كعب القرطبيّ : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال أنس بن مالك : لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله تعالى.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار» (١). وفي رواية «نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها فربّ مبلغ أوعى من سامع» (٢). وفي رواية «فربّ حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (٣) وقال مقاتل : من بلغه القرآن من الجنّ والإنس فهو نذير له وقوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) استفهام إنكاري قل : يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوّتك واتخذوا آلهة غيري إنكم أيها المشركون لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها (قُلْ) لهم (لا أَشْهَدُ) بما تشهدون به أنّ مع الله آلهة أخرى بل أجد ذلك وأنكره (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له وبذلك أشهد (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) معه من الأصنام ، وفي الآية دليل على إثبات التوحيد ونفي الشريك لأنّ كلمة إنما تفيد الحصر فثبت بذلك إيجاب التوحيد والتبري من كل معبود سوى الله تعالى.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي : التوراة والإنجيل وهم علماء اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ) أي : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنعته وصفته (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) من بين الصبيان.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال عمر رضي الله تعالى عنه : إنّ الله تعالى أنزل على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة هذه الآية فكيف هذا؟ فقال عبد الله بن سلام : قد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشدّ معرفة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابني فقال له عمر : كيف ذلك؟ فقال : أشهد أنه رسول الله حقا ولا أدري ما تصنع النساء (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من أهل الكتاب والمشركين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) به لما سبق لهم من الفضاء بالشقاء.

(وَمَنْ) أي : لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كقولهم : الملائكة بنات الله واتخذ الله ولدا (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) الآتي بها الرسل كالقرآن وغيره من المعجزات (إِنَّهُ) أي : الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي : لا ينجح القائلون على الله الكذب والمفترون عليه الباطل.

(وَ) اذكر (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي : أهل الكتاب والمشركين وغيرهم ومعبوداتهم وهو يوم القيامة (ثُمَّ نَقُولُ) توبيخا (لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي : سموا شيئا من دوننا إلها وعبدوه من الأصنام أو عزيرا أو المسيح أو الظلمة أو النور أو غير ذلك (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي : آلهتكم التي جعلتموها

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٦١ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٦٩ ، والدارمي في المقدمة حديث ٥٤٢.

(٢) أخرجه أبو داود في العلم حديث ٣٦٦٠ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٥٨ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٣٦.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٨٣ ، وانظر الحاشية السابقة.

٤٨٠