تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة يونس عليه‌السلام

مكية ، إلا (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) الآيتين أو الثلاث أو (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الآية مائة وتسع أو عشر آيات وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة ، وحروفها سبعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستون حرفا ، وهي أوّل المئين ، إن جعلنا براءة مع الأنفال من الطوال ، وإلا فبراءة أولاهن.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) جامع العباد بعد تفريقهم بما له من العظمة والامتنان. (الرَّحْمنِ) الذي عمهم بالإيجاد وخص منهم من شاء بالإيمان. (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بالرضوان المبيح للجنان.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

(الر) قال ابن عباس والضحاك (الر) أنا الله أرى ، (المر) أنا الله أعلم وأرى. وقيل :

٣

أنا الرب لا رب غيري. وقال سعيد بن جبير : الر وحم ونون حروف اسم الرحمن. وقد سبق الكلام على حروف الهجاء أوّل البقرة ، واتفقوا على أنّ (الر) وحده ليس آية ، واتفقوا على أنّ قوله : (طه) وحده آية ، والفرق أنّ قوله تعالى : الر لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله تعالى طه ؛ فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده ، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بفتح الراء والألف بعدها ، وورش بين اللفظين ، والباقون بالإمالة المحضة. (تِلْكَ) أي : الآيات العظيمة جدّا التي اشتملت عليها هذه السورة أو السورة ، التي تقدّمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أنّ القرآن كلام الله تعالى قد أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف. (آياتُ الْكِتابِ) أي : الذكر الجامع لكل خير وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كلّ ما في التوراة والإنجيل من ذلك فدل ذلك على صدق الآتي به قطعا ؛ لأنه لم يكن يعرف شيئا من الكتابين ولا جالس أحدا يعلمه. (الْحَكِيمِ) أي : المحكم.

وقوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ) أي : أهل مكة ، استفهام إنكار للتعجب. وقوله تعالى : (عَجَباً) خبر كان ، والعجب تغير النفس بما لا تعرف سببه مما خرج عن العادة ، ثم ذكر الحامل على العجب ؛ وهو اسم كان بقوله تعالى : (أَنْ أَوْحَيْنا) أي : إيحاؤنا (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي : من أهل مكة ومن قريش ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعرفون صدقه ونسبه وأمانته ، قيل : كانوا يقولون : العجب أنّ الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة ، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوّة ، وهو لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصر عن عظمائهم فيما يعتبر فيه إلا في المال ، وخفة المال أهون شيء في هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام قبله كذلك ، وقد قال الله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ ٣٧].

(أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) عامّة ، أي : أعلمهم مع الخوف ما أمامهم من البعث وغيره ، وأن هي المفسرة ؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) إنما عمم في الإنذار لأنه قل أن يسلم أحد من كبيرة أو صغيرة أو هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات ، وخصص البشارة إذ ليس للكافر ما يصح أن يبشر به. (أَنْ) أي : بأنّ. (لَهُمْ قَدَمَ) أي : سلف (صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق ، فقال ابن عباس : أجرا حسنا مما قدّموا من أعمالهم. وقال مجاهد : الأعمال الصالحة : صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن : عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وقال عطاء : مقام صدق لا زوال له ولا بؤس فيه. وقال زيد بن أسلم : هو شفاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم : مسجد الجامع ، وصلاة الأولى ، وحب الحصيد. وقال أبو عبيدة : كل سابق في خير أو شرّ فهو عند العرب قدم. قال الشاعر (١) :

صل لذي العرش واتخذ قدما

ينجيك يوم العثار والندم

وهو مؤنث فيقال : قدم حسنة وقدم صالحة. وقوله تعالى : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر بكسر السين وسكون الحاء على أنّ الإشارة للقرآن المشتمل

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في كتاب الأغاني ٦ / ٢٤٢.

٤

على ذلك ، والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء على أنّ الإشارة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ رَبَّكُمُ) الموجد لكم والمربي والمحسن هو (اللهُ الَّذِي خَلَقَ) أي : قدّر وأوجد (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على اتساعهما ، وكثرة ما فيهما من المنافع (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام الدنيا ، أي : في قدرها ؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس ، ولو شاء لخلقهما في لمحة ، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت. فإن قيل : إنّ اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته ، وقد يراد به النهار وحده. فما المراد؟ أجيب : بأنّ الغالب في اللغة أنه مراد باليوم اليوم بليلته ، ولما أوجد سبحانه وتعالى هذا الخلق الكبير المتباعد الأقطار ، الواسع الانتشار ، المفتقر إلى عظيم التدبير ، ولطيف التصريف والتقدير ؛ عبّر سبحانه وتعالى عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيرا إلى عظمته بأداة التراخي : (ثُمَّ اسْتَوى) أي : عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك. (عَلَى الْعَرْشِ) المتقدّم وصفه في الأعراف بالعظمة ، وليست ثم للترتيب ، بل كناية عن علوّ الرتبة ، وبعد منازلها ، ثم بيّن ذلك الاستواء بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) كله فلا يخفى عليه عاقبة أمر من الأمور ؛ لأنّ التدبير أعدل أحوال الملك ، فالاستواء كناية عنه. وقوله تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) تقرير لعظمته جل وعلا ، وردّ على من زعم أنّ آلهتهم تشفع لهم عند الله. وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له (ذلِكُمُ اللهُ) أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية (رَبَّكُمُ) أي : الذي يستحق العبادة منكم. (فَاعْبُدُوهُ) أي : وحّدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان ، فضلا عن جماد لا يضرّ ولا ينفع ، فإنّ عبادتكم مع التشريك ليست عبادة ، ولو لا فضله لم يكن لمن زلّ أدنى زلة طاعة ، وقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) قرأه حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال ، والباقون بالتشديد بإدغام التاء في الأصل في الذال ، أي : أفلا تتفكرون أدنى تفكر فينبئكم عن أنه المستحق للربوبية ، والعبادة لا ما تعبدونه.

(إِلَيْهِ) تعالى (مَرْجِعُكُمْ) أي : رجوعكم بالموت والنشور حالة كونكم (جَمِيعاً) لا يتخلف منكم أحد ، فاستعدّوا للقائه. وقوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ) مصدر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لنفسه ؛ لأن قوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وعد من الله ، وقوله تعالى : (حَقًّا) أي : صدقا لا خلف فيه مصدر آخر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لغيره ، وهو ما دل عليه وعد الله. (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي : يحييهم ابتداء. (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : ثم يميتهم ثم يحييهم. وفي هذا دليل على الحشر والنشر والمعاد ، وصحة وقوعه ، وردّ على منكري البعث ووقوعه ؛ لأنّ القادر على خلق هذه الأجسام المؤلفة ، والأعضاء المركبة على غير مثال سبق ، قادر على إعادتها بعد تفريقها بالموت والبلى ، فيركب تلك الأجزاء المتفرقة تركيبا ثانيا ، ويخلق الإنسان الأوّل مرّة أخرى ، فإذا ثبت القول بصحة المعاد والبعث بعد الموت ؛ كان المقصود منه إيصال الثواب للمطيع ، والعقاب للعاصي ، وهو قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل ، لا ينقص من أجورهم شيئا. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) وهو ماء حار قد انتهى حرّه (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) أي : بالغ في الإيّلام. (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي : بسبب كفرهم.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) أي : ذات ضياء (وَالْقَمَرَ نُوراً) أي : ذا نور ، وخص الشمس بالضياء ؛ لأنها أقوى وآكد من النور ، وخص القمر بالنور ؛ لأنه أضعف من الضياء ، لأنّ الشمس نيرة في ذاتها ، القمر نير بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها. وقرأ قنبل بهمزة مفتوحة

٥

ممدودة بعد الضاد ، والباقون بياء مفتوحة ، والضمير في قوله تعالى : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) يرجع إلى الشمس والقمر ؛ ، أي : قدّر مسير كل واحد منهما منازل ، أو قدّره ذا منازل ، أو يرجع إلى القمر فقط ، وتخصيصه بالذكر لسرعة مسيره ومعاينة منازله ، وإناطة أحكام الشرع به ، ولذلك علله بقوله تعالى : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي : حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرّفاتكم ؛ لأنّ الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة ، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية ، كما قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) [التوبة : ٣٦].

فائدة : منازل القمر ثمانية وعشرون منزلا ، وأسماؤها : السرطان ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والزبرة ، والصرفة ، والعوّا ، والسماك ، والغفر ، والزباني ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدلو المقدّم ، وفرغ الدلو المؤخر ، وبطن الحوت. وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي اثنا عشر برجا : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت. فلكل برج منزلان وثلث ، فينزل القمر في كل ليلة منها منزلا ، فيستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين ، وإن كان تسعا وعشرين فليلة واحدة ، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل ويكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوما ، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها ، وانتفاع الخلق بضوء الشمس ، وبنور القمر عظيم ، فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى هذه الفصول الأربعة ، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم ، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل ، والنهار يكون زمانا للتكسب وللطلب ، والليل يكون زمانا للراحة.

(ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) المذكور. (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : لم يخلق ذلك باطلا ولا عبثا ـ تعالى الله عن ذلك ـ إظهارا لقدرته ، ودلائل وحدانيته. ونظيره قوله تعالى في آل عمران : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩١]. وقال تعالى في سورة أخرى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص ، ٢٧]. (يُفَصِّلُ) أي : يبين (الْآياتِ) أي : الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة بيانا شافيا. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنهم المنتفعون بالتأمّل فيها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالياء ، والباقون بالنون.

ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإلهية والتوحيد بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأعراف : ٥٤] ، وثانيا بأحوال الشمس والقمر ، استدل ثالثا بقوله تعالى : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : بالمجيء والذهاب ، والزيادة والنقصان ، ورابعا بقوله تعالى : (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ) من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك. (وَ) ما خلق الله في (الْأَرْضِ) من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك.

فائدة : أقسام الحوادث في هذا العالم محصورة في أربعة أقسام ، أحدها : الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة ، ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار ، ويدخل فيها أيضا أحوال البحار والصواعق والزلازل والخسف ، وثانيها : أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة ،

٦

وثالثها : اختلاف أحوال النبات ، ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات ، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى : (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ) [يونس : ٦]. والاستقصاء في شرح هذه الأحوال لا يدخل تحت الحصر ، بل كل ما ذكر العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب.

(لَآياتٍ) أي : دلالات على قدرته تعالى. (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) الله فإنه يحملهم على التفكر والتذكر ، وخصهم بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون بها. قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أنّ الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها ، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم ، بل جعلها لهم دار عمل ، وإذا كان كذلك فلا بدّ من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء ، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد.

ولما أقام الله سبحانه وتعالى الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحمن ، وعلى صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم ، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ؛ شرع في شرح أحوال من يكفر بها ، وشرح أحوال من يؤمن بها ، وقد ابتدأ بأوّلها ووصفه بأربع صفات مبتدئا بأوّلها بقوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يخافونه لإنكارهم البعث ، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها ، فهم مكذّبون بالثواب والعقاب والرجاء ، يكون بمعنى الخوف ، وبمعنى الطمع ، فمن الأوّل قول العرب : فلان لا يرجو فلانا ، بمعنى لا يخافه ، ومنه قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي (١) :

إذ لسعته النحل لم يرج لسعها

أي : لم يخفها. ومن الثاني قولهم : فلا يرجو فلانا ، ، أي : يطمع فيه ، والمعنى : لا يطمعون في ثوابنا ، والصفة الثانية والثالثة : قوله تعالى : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) فيعملون لها عمل المقيم فيها مع ما يشاهدونه من سرعة زوالها منهمكين في لذاتها وزخارفها ، وسكنوا فيها سكون من لا ينزع عنها ، والصفة الرابعة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) أي : دلائل وحدانيتنا (غافِلُونَ) تاركون النظر فيها ، بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء ، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدّة بعدهم عن طلب الاستعداد بالسعادات الأخروية ، ويحتمل أنّ الصفة الأخيرة لفريق آخر ، ويكون المراد بالأوّلين : من أنكر البعث ، ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، وبالآخر : من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له ، ولما وصفهم الله تعالى بتلك الصفات قال : (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الشرك والمعاصي ، ولما شرح أحوال المنكرين الجاحدين ذكر تعالى شرح من يؤمن بها فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك

__________________

(١) عجزه :

وخالفها في بيت نوب عواسل

والبيت من الطويل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ١٤٤ ، ولسان العرب (نوب) ، (خلف) ، (رجا) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٤٨٩ ، وتاج العروس (خلف) ، (رجا) ، وكتاب العين ٥ / ١٧٧ ، ٨ / ٣٧٩.

٧

الدنيا وطلب الآخرة ، والأعمال المذمومة مما يكون بالضدّ من ذلك. (يَهْدِيهِمْ) أي : يرشدهم. (رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي : بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة ، أو لما يريدونه في الجنة ، أو لإدراك الحقائق ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» (١). وقال مجاهد : المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة ، فيقول : أنا عملك. فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة ، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة ، فيقول : أنا عملك ، فينطلق به حتى يدخله النار» (٢). ومفهوم ترتّب الهداية على الإيمان ، والعمل الصالح قد دلّ على أنّ سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح ، لكن دل منطوق قوله جل وعلا : (بِإِيمانِهِمْ) [يونس : ٩]. على استقلال الإيمان بالسببية ، وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف ، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم ، وهي أربعة الأولى : قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي : يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين ، والأنهار تجري من بين أيديهم ، ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم ، ونظيره قوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم : ٢٤] فهي ما كانت قاعدة عليه ، ولكن المعنى : بين يديك ، وكذا قوله : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف ، ٥١] ، أي : بين يدي فكذا هنا.

الثانية قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها) قال بعض المفسرين : ، أي : طلبهم لما يشتهون في الجنة أن يقولوا : (سُبْحانَكَ) أي : ننزهك من كل سوء ونقيصة. (اللهُمَ) أي : يا الله ، فإذا ما طلبوا بين أيديهم على موائد ، كل مائدة ميل في ميل ، على كل مائدة سبعون ألف صحفة ، في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا ، فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله تعالى ، فذلك قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.) وأن المراد بقوله (سُبْحانَكَ اللهُمَ) اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله تعالى ، والثناء عليه بما هو أهله ، وفي هذا الذكر سرورهم وابتهاجهم وكمال لذاتهم وهذا أولى ، ويدل عليه ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ، ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخطون. قالوا : فما بال الطعام؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك ، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» (٣) ، أي : يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقا.

الثالثة : قوله تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ) فيما بينهم وتحية الملائكة لهم (فِيها) أي : الجنة (سَلامٌ) وتأتيهم الملائكة أيضا من عند ربهم بالسلام. قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤]. وقال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].

الرابعة : قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي : وآخر دعائهم. (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : أن يقولوا ذلك ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، وقد ذكرنا أنّ بعض المفسرين حمل التسبيح

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٤٠٣ ، ٣ / ٤٤٩ ، ٧ / ٣٢٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٣٧٢ ، والقرطبي في تفسيره ١٣ / ٣٦٢ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ١٠ / ١٥.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره ١١ / ٨٨.

(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٣٥ ، والدارمي في الرقاق حديث ٢٧٢٧.

٨

والتحميد على أحوال أهل الجنة بسبب المأكول والمشروب ، فإنهم إذا اشتهوا شيئا قالوا : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) [يونس ، ١٠] فيحصل ذلك الشيء ، فإذا فرغوا منه قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة ، ٢] فترتفع الموائد عند ذلك.

قال الرازي : وهذا القائل ما رقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب ، وحقيق بمثل هذا الإنسان أن يعدّ في زمرة البهائم ، وأما المحققون فقد تركوا ذلك. اه. ولا تنبغي هذه المبالغة ، فقد قاله البغوي ، وتبعه جماعة من المفسرين. وقال الزجاج : أعلم الله أنّ أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه ، ويختمون بشكره والثناء عليه. قال البيضاوي : المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءه مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال ، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات ، أو الله تعالى ، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام.

ولما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا ، واطمأنوا بها ، وكانوا عن آيات الله غافلين ؛ بيّن أن من غفلتهم أنّ الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلا منهم وسفها بقوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) أي : ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم بالشر فيما لهم فيه مضرة ومكروه (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) أي : كما يحبون أن يعجل لهم إجابتهم بالخير (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي : لأهلكهم ، ولكن يمهلهم. نزلت في النضر بن الحارث حين قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، ويدل عليه قوله تعالى : (فَنَذَرُ) أي : فنترك. (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ) أي : في تمردّهم وعتوهم. (يَعْمَهُونَ) أي : يتردّدون متحيرين. وقال ابن عباس : هذا في قول الرجل عند الغضب لأهله وولده : لعنكم الله ، لا بارك الله فيكم. وقال قتادة : هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له فيه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، إنما أنا بشر ، فأيّ المؤمنين آذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها إليّ يوم القيامة» (١).

فإن قيل : قابل التعجيل في الآية بالاستعجال ، وكان مقتضى النظم أن يقابل التعجيل بالتعجيل والاستعجال بالاستعجال ، أجيب : بأنّ تقدير الكلام : ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالا كاستعجالهم بالخير ، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه ، وقال في «الكشاف» : أصل هذا الكلام : ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم بالخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم ، حتى كان استعجالهم بالخير تعجيل لهم.

ولما حكى تعالى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب ، بين أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال بقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) أي : الكافر (الضُّرُّ) أي : المرض والفقر (دَعانا لِجَنْبِهِ) أي : على جنبه مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) وفائدة التردّد تعميم الدعاء لجميع الأحوال

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣٩٠ ، ٣ / ٣٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٢٦٦ ، وعبد الرزاق في المصنف ٢٠٢٩٣ ، ٢٠٢٩٤.

٩

أو لأصناف المضار ، والمعنى : أنّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه فإنه يتضرّع إلى الله تعالى في إزالته عنه ، وفي دفعه عنه ، وذلك يدل على أنه ليس صادقا في طلب الاستعجال (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) أي : أزلنا عنه ما نزل به ، (مَرَّ) أي : مضى على ما كان عليه من الكفر ، (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) أي : كأنه ، فأسقط الضمير على سبيل التخفيف ، ونظيره قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) [يونس ، ٤٥]. (إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ.) قال الحسن : نسي ما كان دعا الله فيه ، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه ، وإنما حمل الإنسان في هذه الآية على الكافر ؛ لأنّ العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة ، وقول بعضهم : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد هو الكافر مردود ، فقد قال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : ١]. وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢]. وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [ق ، ١٦] وأما المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة ، وجب عليه رعاية أمور :

أوّلها : أن يكون راضيا بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه ، وإنما وجب عليه ذلك ؛ لأنّه تعالى مالك على الإطلاق ، وملك بالاستحقاق ، فله أن يفعل في ملكه ما شاء ، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق ، وهو منزه عن فعل العبث ، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب ، فيجب عليه الصبر وترك القلق ، فإن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل ، وإن أزالها عنه فهو فضل.

وثانيها : أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى ، والثناء عليه بدلا عن الدعاء ، كان أفضل لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله تعالى : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» (١) ، ولأنّ الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق والاشتغال بالدعاء ، اشتغال بطلب حظ النفس ، ولا شك أنّ الأوّل أفضل.

وثالثها : أنه تعالى إذا أزال عنه تلك البلية وجب عليه أن يبالغ في الشكر ، وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء ، وأحوال الشدّة والرخاء ، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء ، وحينئذ يكون المؤمن على الضدّ من الكافر ؛ لأنّ الكافر منهمك في الشهوات ، والإعراض عن العبادات. كما قال تعالى : (كَذلِكَ) أي : مثل ما زين لهؤلاء الكافرين هذا العمل القبيح. (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي : المشركين (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من القبائح لإعراضهم عن الذكر واتباعهم الشهوات ، وإنما سمي الكافر مسرفا ؛ لأنّه أتلف نفسه بتضييعها في عبادة الأوثان ، وأتلف ماله في البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والمزين هو الله تعالى ؛ لأنه مالك الملك ، والخلق كلهم عبيده يتصرّف فيهم كيف شاء ، وقيل : هو الشيطان وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك ، وإلا فهو أخس وأحقر.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) أي : الأمم الماضية. (مِنْ قَبْلِكُمْ) يا أهل مكة. (لَمَّا ظَلَمُوا) أي : حين أشركوا ، وقوله تعالى : (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بالحجج الدالة على صدقهم ، حال من الواو بإضمار قد أو عطف على ظلموا. (وَما) أي : والحال أنهم ما (كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي : وما استقام لهم أن يؤمنوا ، ولو جاءتهم كل آية لعلمه تعالى بأنهم يموتون على كفرهم ، واللام لتأكيد النفي. (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الجزاء العظيم وهو إهلاكهم لما كذبوا رسلهم (نَجْزِي الْقَوْمَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٩٢٦.

١٠

الْمُجْرِمِينَ) أي : نجزيكم يا أهل مكة بتكذيبكم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوضع المظهر موضع المضمر للدّلالة على كمال جرمهم ، وأنهم أعلام فيه.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) أي : أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا (خَلائِفَ) جمع خليفة (فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر (لِنَنْظُرَ) ونحن أعلم بكم من أنفسكم في علم الشهادة لإقامة الحجة. (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) من خير أو شر فنجازيكم به ، وقد مرّ نظائر هذا ، ومنه قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الدنيا خضرة حلوة ، وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» (١). وقال قتادة : صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا ، فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار. قال الزجاج : وموضع كيف نصب بقوله تعملون ، أي : لا معمول ننظر ؛ لأنها حرف استفهام ، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ؛ لأنّ له صدر الكلام فلا يتقدمه عامله ، وظاهر كلامه أنّ كيف مفعول لتعملون ، وجمهور النحاة على أنه حال من ضمير تعملون.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي : وإذا قرئ على هؤلاء المشركين. (آياتُنا) أي : القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد حالة كون تلك الآيات (بَيِّناتٍ) أي : ظاهرات تدل على وحدانيتنا وصحة نبوّتك. (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) أي : لا يخافون عذابنا ، ولا يرجون ثوابنا ؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ، وكل من كان منكرا للبعث بعد الموت ؛ فإنه لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا. (ائْتِ) أي : من عندك (بِقُرْآنٍ) أي : كلام مجموع جامع لما نريد. (غَيْرِ هذا) في نظمه ومعناه. (أَوْ بَدِّلْهُ) بألفاظ أخرى ، والمعاني باقية ، وقد كانوا عالمين بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلهم في العجز عن ذلك ، ولكنهم قصدوا أن يأخذ في التغيير حرصا على إجابة مطلوبهم ، فيبطل مدعاه أو يهلك ، واختلف في هذا القائل.

فقال قتادة : هم مشركو أهل مكة. وقال مقاتل : هم خمسة نفر : عبد الله بن أمية الجمحي ، والوليد بن المغيرة ، ومكدر بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري ، والعاصي بن عامر بن هشام ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت تريد أن نؤمن بك فأت بقرآن ليس فيه ترك لعبادة اللات

__________________

(١) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٢٧٤٢ ، والترمذي في الفتن حديث ١٢٩١ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠٠٠.

١١

والعزى ومناة ، وليس فيه عيبها ، وإن لم ينزله الله فقل أنت من عند نفسك أو بدله ، فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، أو مكان حرام حلالا ، أو مكان حلال حراما ، ولما كان كأنه قيل فما ذا أقول لهم؟ قال الله تعالى : (قُلْ) لهم (ما يَكُونُ) أي : ما يصح (لِي) ولا يتصوّر بوجه من الوجوه (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ) أي : قبل (نَفْسِي) وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر ، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء والباقون بالسكون (أَنْ) أي : ما (أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) فيما آمركم به أو أنهاكم عنه ، أي : لا آتي بشيء ولا أذر شيئا من نحو ذلك إلا متبعا لوحي الله تعالى وأوامره ، إن نسخت آية تبعت النسخ ، وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل ، وليس إليّ تبديل ولا نسخ (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي : بتبديله (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو لي وإني بفتح الياء ، والباقون بالسكون.

(قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين طلبوا منك تغيير القرآن وتبديله (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) أي : لو شاء الله لم ينزل هذا القرآن ، ولم يأمرني بقراءته عليكم (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي : ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بقصر الهمزة بعد اللام جواب لو ، أي : لأعلمكم به على لسان غيري ، والباقون بالمدّ المنفصل. وقوله تعالى : (فَقَدْ لَبِثْتُ) أي : مكثت قراءة نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء عند التاء والباقون بالإدغام (فِيكُمْ عُمُراً) سنين أربعين (مِنْ قَبْلِهِ) أي : قبل أن يوحى إليّ هذا القرآن لا أتلوه ولا أعلمه ، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذا القرآن معجز خارق للعادة.

وتقريره : أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أوّل عمره إلى ذلك الوقت ، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتابا ، ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد ، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه ، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ، ودقائق علم الأحكام ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قصص الأوّلين ، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء ، وكل من له عقل سليم ، فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنّ مثل هذا الكتاب العظيم على من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتابا ، ولم يمارس مجادلة ، أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي من الله تعالى ، لا من مثلي ، وهذا جواب عمّا دسوه تحت قولهم (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) من إضافة الإفتراء إليه.

تنبيه : أقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن أوحي إليه بمكة ثلاث عشرة سنة ، ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين ، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال النووي : ورد في عمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث روايات : إحداها : أنه توفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ستين سنة. والثانية : خمس وستون سنة. والثالثة : ثلاث وستون سنة ، وهي أصحها وأشهرها ، وتأوّلوا رواية ستين بأنّ راويها اقتصر فيها على العقود ، وترك الكسر ، ورواية الخمس أيضا متأوّلة ، وحصل فيها اشتباه ، ولما أقيمت الدلائل على أنّ هذا القرآن من عند الله وجب أن يقال : إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه من منكر ذلك كما قال تعالى : (فَمَنْ) أي : لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) أي : تعمد (عَلَى اللهِ كَذِباً) أي : أيّ كذب كان من شريك أو ولد أو غير ذلك ، وكأنّ الأصل مبنيّ على تقدير أن يكون هذا القرآن من عند الله ، ولكنه

١٢

وضع هذا الظاهر مكانه تعميما وتعليقا للحكم بالوصف (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي : دلائل توحيده فكفر بها كما فعلتم أنتم ، وذلك من أعظم الكذب ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ) أي : الشأن (لا يُفْلِحُ) بوجه من الوجوه (الْمُجْرِمُونَ) أي : المشركون تأكيد لما سبق من هذين الوصفين

(وَيَعْبُدُونَ) أي : هؤلاء المشركون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره (ما لا يَضُرُّهُمْ) أي : إن لم يعبدوه (وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي : إن عبدوه ، وهو الأصنام ؛ لأنها حجارة وجماد لا تضرّ ولا تنفع ، والكافرون قادرون على التصرف فيها تارة بالإصلاح وتارة بالإفساد ، وإذا كان العابد أصلح حالا من المعبود كانت العبادة باطلة ؛ لأنّ العبادة أعظم أنواع التعظيم ، فلا تليق إلا بمن يضرّ وينفع ، بأن يثيب على الطاعة ، ويعاقب على المعصية ، وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة يعبدون العزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة. (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ) أي : الأصنام التي نعبدها. (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ونظيره قوله تعالى إخبارا عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ، ٣]. وقيل : إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم ، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله. قال الرازي : ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله. اه. ولكن تعظيمهم لهؤلاء ليس كتعظيم الكفار ، وفي هذه الشفاعة قولان :

أحدهما : أنهم يزعمون أنها تشفع لهم فيما يهمهم من أمور الدنيا في إصلاح معايشهم. قاله الحسن ؛ لأنهم كانوا لا يعتقدون بعث الموتى.

والثاني : أنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الآخرة إن يكن بعث ، قاله ابن جريج عن ابن عباس ، وكأنهم كانوا شاكين فيه ، وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة موجدهم الضارّ النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضرّ ولا ينفع ، على توّهم أنه ربما يشفع لهم. قال النضر بن الحارث : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى. وقوله تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين (أَتُنَبِّئُونَ) أي : تخبرون (اللهِ) وهو العالم بكل شيء المحيط بكل محيط. (بِما لا يَعْلَمُ) أي : لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات ، استفهام إنكار تهكم بهم ، وبما ادّعوه ومن المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأن الذي أنبؤوا به باطل غير منطو تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه. وقوله تعالى : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد لنفيه ؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم ، وهذا على طريق الإلزام ، والمقصود نفي علم الله بذلك الشفيع ، وأنه لا وجود له ألبتة ؛ لأنه لو كان موجودا لكان معلوما لله تعالى وحيث لم يكن معلوما لله تعالى ، وجب أن لا يكون معلوما موجودا ، وهذا مثل مشهور في العرب ، فإنّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول : ما علم الله ذلك مني ؛ ومقصوده أنه ما حصل ذلك الشيء منه قط ولا وقع. (سُبْحانَهُ) أي : تنزيها له عن كل شيء فيه شائبة نقص. (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ما مصدرية أو موصولة ، أي : عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب ، لقوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ) والباقون بالياء على الغيبة ، فكأنه قيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل أنت : سبحانه وتعالى عما يشركون ، ويجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى هو الذي نزه نفسه عما قالوه ، فقال : سبحانه وتعالى عما يشركون. ولما أقام تعالى الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بيّن السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد بقوله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً)

١٣

أي : جميعا على الدين الحق وهو دين الإسلام. وقيل : على الضلال في فترة الرسل ، واختلف القائلون بالأوّل أنهم متى كانوا كذلك.؟ فقال ابن عباس ومجاهد : كانوا على دين الإسلام من لدن آدم إلى أن قتل قابيل هابيل. وقال قوم : إلى زمن نوح ، وكانوا عشرة قرون. ثم اختلفوا في عهد نوح فبعث الله تعالى إليهم نوحا. وقال آخرون : كانوا على دين الإسلام من زمن نوح بعد الغرق حيث لم يذر الله على الأرض من الكافرين ديّارا إلى أن ظهر الكفر فيهم. وقال آخرون : من عهد إبراهيم عليه‌السلام إلى زمن عمرو بن لحي ، وهذا القائل قال : المراد من الناس في قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) العرب خاصة. (فَاخْتَلَفُوا) بأن ثبت بعض وكفر بعض. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهو تأخير الحكم إلى يوم القيامة ، وقيل : تلك الكلمة هي قوله سبحانه : «سبقت رحمتي غضبي» (١). فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال ، وإمهاله إلى وقت الوجدان (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : الناس بنزول العذاب في الدنيا دون يوم القيامة (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الدين بإهلاك المبطل ، وإبقاء المحق ، وكان ذلك فصلا بينهم (وَيَقُولُونَ) أي : كفار مكة (لَوْ لا) أي : هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي : غير ما جاء به كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد (فَقُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين (إِنَّمَا الْغَيْبُ) أي : ما غاب عن العباد أمره (لِلَّهِ) أي : هو المختص بعلمه ، ومنه الآيات فلا يأتي بها إلا هو وإنما عليّ التبليغ (فَانْتَظِرُوا) أي : نزول ما اقترحتموه. وقيل : نزول العذاب إن لم يؤمنوا (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي : لما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحودكم الآيات ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر ، بديعة في الآيات ، رقية المسلك بين المعجزات مع عجزكم عن معارضته بتبديل أو غيره ، فأيّ عناد أعظم من هذا.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥))

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ) أي : كفار مكة (رَحْمَةً) أي : صحة وسعة (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ) أي : شدّة وبلاء (مَسَّتْهُمْ) سلط الله تعالى القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم ، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد ، وعاش الناس بعد ذلك فلم يتعظوا بذلك ، بل

__________________

(١) الحديث أخرجه الحميدي في مسنده ١١٢٦ ، وابن أبي عاصم في السنة ١ / ٢٧٠ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٥٥٦ ، ١٠ / ٥٥٨.

١٤

رجعوا إلى العناد والكفر كما قال تعالى : (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) بالاستهزاء والتكذيب ، وقيل : لا يقولون هذا من رزق الله ، إنما يقولون : سقينا بنوء كذا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله تعالى ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها فيصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا» (١) والنوء عند العرب : هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره (قُلِ اللهُ) أي : قل لهم يا محمد الله (أَسْرَعُ مَكْراً) منكم ، أي : أعجل عقوبة وأشدّ أخذا وأقدر على الجزاء. ومعنى الوصف بالأسرعية : أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم والمكر إخفاء الكيد وهو من الله تعالى ، أمّا الاستدراج أو الجزاء على المكر ، فإنهم لما قابلوا نعمة الله بالمكر قابل مكرهم بأشد منه ، وهو إمهالهم إلى يوم القيامة. (إِنَّ رُسُلَنا) أي : الحفظة الكرام الكاتبين (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) لأنهم وكلوا بكم قبل كونكم نطفا ، ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما تفعلونه ، ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه ، وأمّا هو سبحانه وتعالى فإنه إذا قضى قضاء لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا بإطلاعه فكيف بغيرهم ، وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره علم أنه لا يدعهم يدبرون كيدا إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم ، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بالرفع ، ثم أخذ سبحانه وتعالى يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الآية قبلها ؛ لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح ، يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي فقال : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) أي : يحملكم على السير في كل وقت تسيرون فيه لا تقدرون على الانفكاك عنه ويمكنكم منه ، (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : يسبب لكم أسبابا توجب سيركم فيهما. وقرأ ابن عامر بعد الياء الأولى بنون ساكنة بعدها شين معجمة مضمومة ، والباقون بسين مهملة مفتوحة بعدها ياء مكسورة مشدّدة.

ولما كان العطب بسير البحر أظهر مع أنّ السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات بيّنه معرضا عن ذكر البر بقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ) أي : كونا لا براح لكم منه. (فِي الْفُلْكِ) أي : السفن ، فإن قيل : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر مع أنّ الكون في الفلك متقدّم لا محالة على التسيير في البحر؟ أجيب : بأنه لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير ، بل تقدير الكلام كأنه قيل : هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا ، ولفظ الفلك يطلق على الواحد وعلى الجمع ، فإن أريد الواحد كان كبناء قفل ، أو الجمع كان كبناء حمر ، والمراد هنا الجمع لقوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي : بمن فيها ، وعدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح والالتفات في الكلام عن الغيبة إلى الحضور والعكس في فصيح كلام العرب. (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي : لينة الهبوب. (وَفَرِحُوا بِها) أي : بتلك الريح وبالفلك الجارية بها ، وقوله تعالى : (جاءَتْها) جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة بمعنى تلقتها (رِيحٌ عاصِفٌ) أي : شديدة الهبوب فأزعجت سفينتهم وأساءتهم (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ) أي : وجاء ركاب السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من ضراب الماء في البحر. وقيل : هو شدّة حركة الماء واختلاطه. (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي :

__________________

(١) أخرجه الحميدي في مسنده ٩٧٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٦٤ ، وابن كثير في تفسيره ٨ / ٢٣ ، والطبري في تفسيره ٢٧ / ١٢٠.

١٥

يعتاد مجيء الموج منه فأرجف قلوبهم. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي : فظنوا أنّ الهلاك قد أحاط بهم وسدت عليهم مسالك الخلاص ، كمن أحاط بهم العدوّ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ) أي : من غير اشتراك به (لَهُ الدِّينَ) أي : الدعاء ؛ لأنهم لا يدعون حينئذ غيره ؛ لأنّ الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ويصير منقطعا عن جميع الخلق ، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعا إلى الله تعالى. وقوله تعالى : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على إرادة القول أو مفعول دعوا ؛ لأنه من جملة القول ، أي : لنكونن من الشاكرين لك بالإيمان والطاعة على إنعامك علينا بانجائنا مما نحن فيه من هذه الشدّة.

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) أي : هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدّة التي كانوا فيها إجابة لدعائهم (إِذا هُمْ يَبْغُونَ) أي : فأجاؤوا الفساد وسارعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي (فِي الْأَرْضِ) أي : جنسها (بِغَيْرِ الْحَقِّ.) فإن قيل : البغي لا يكون بحق فما معنى قوله بغير؟ أجيب : بأنه قد يكون بحقّ كاستيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم ، وقطع أشجارهم ، كما فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببني قريظة ، فإنّ ذلك إفساد بحق. قال صاحب «المفردات» : البغي على ضربين : أحدهما : غير محمود وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وإلى الشبهة ، والآخر : كفعل المسلمين ما ذكر (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ) أي : ظلمكم (عَلى أَنْفُسِكُمْ) يعود وباله عليها خاصة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم ، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة» (١). وروي «ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا : البغي ، وعقوق الوالدين» (٢). وعن ابن عباس : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه (٣) :

يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة

فاربع فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندك منه أعاليه وأسفله

وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر. وعلى تقدير الانتفاع بالبغي هو عرض زائل كما قال تعالى : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة ، وهي مدّة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها. (ثُمَّ إِلَيْنا) بعد البعث (مَرْجِعُكُمْ) في القيامة (فَنُنَبِّئُكُمْ) أي : فنخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها. وقرأ حفص متاع بنصب العين على أنه مصدر مؤكد ، أي : تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، والباقون بالرفع على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : ذلك متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم.

ولما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أتبعه بمثل

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه حديث ٤٢١٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٥٤٦٥ ، ٤٥٥٤٩ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٣٤٣.

(٢) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ١ / ٤٨ ، والبخاري في التاريخ الكبير ١ / ١٦٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٥٤٥٨.

(٣) البيتان لابن عباس في تفسير الكشاف للزمخشري ٢ / ٣٢٤.

١٦

عجيب ضربه لمن يبغي في الأرض ، ويغتر بالدنيا ، ويشتدّ تمسكه بها ، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة ، والتأهب لها ، بقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها. والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) وحقق أمره وبينه بقوله تعالى : (مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي : بسببه (نَباتُ الْأَرْضِ) أي : اشتبك بعضه ببعض ، والاختلاط : تداخل الأشياء بعضها في بعض (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) من الحبوب والثمار ونحو ذلك (وَ) مما يأكل (الْأَنْعامُ) من الحشيش ونحوه (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) أي : حسنها وبهجتها من النبات (وَازَّيَّنَتْ) بإظهار ألوان زهرها من أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الزهور ، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين ، وأصل ازينت تزينت أبدلت التاء زايا وأدغمت في الزاي (وَظَنَّ أَهْلُها) أي : أهل تلك الأرض (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي : متمكنون من تحصيل جذاذها وحصادها (أَتاها أَمْرُنا) أي : قضاؤنا من البرد والحرّ المفرط أو غيره (لَيْلاً أَوْ نَهاراً) أي : في الليل أو في النهار (فَجَعَلْناها) أي : زرعها (حَصِيداً) أي : كالمحصود بالمناجل. وقوله تعالى : (كَأَنْ) مخففة ، أي : كأنها (لَمْ تَغْنَ) أي : لم تكن (بِالْأَمْسِ) تلك الزروع والأشجار قائمة على ظهر الأرض ، وحذف المضاف من (فَجَعَلْناها) ومن (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) للمبالغة.

تنبيه : تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوها :

الأوّل : أنّ عاقبة هذه الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه ؛ لأنّ الغالب أنّ المتمسك بالدنيا إذا وضع قلبه عليها وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت ، وهو معنى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام ، ٤٤] أي : خاسرون الدنيا ، وقد أنفقوا أعمارهم فيها ، وخاسرون من الآخرة مع أنهم توجهوا إليها.

الثاني : أنه تعالى بيّن أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة محمودة فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد ، مع أنّ المنافع التي تحصل فيها مخلوطة بالمضار والمتاعب ، فإنّ سعادة الدنيا غير خالصة من الآفات ، بل هي ممزوجة بالبليات ، والاستقراء يدل عليه ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. فقيل : يا رسول الله ، وما هو؟ قال : سرور يوم بتمامه» (١).

الثالث : أن مالك ذلك البستان لما عمره بإتعاب النفس ، وكد الروح ، وعلق قلبه على الانتفاع به ، فإذا حصل ذلك السبب المهلك صار العناء الشديد الذي تحمّله في الماضي سببا لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل ، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات ، فكذا حال من وضع قلبه على الدنيا ، وأتعب نفسه في تحصيلها ، فإذا مات وفاته كل ما فات صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا سببا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.

(كَذلِكَ) أي : مثل هذا التفصيل الذي ذكرناه (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : نبينها (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لأنهم المنتفعون بها ، ولما نفّر تعالى الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبّهم

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

١٧

في الآخرة بقوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا) أي : يعلق دعاءه على سبيل التجدّد والاستمرار بالمدعوين (إِلى دارِ السَّلامِ.) قال قتادة : السّلام هو الله ، وداره الجنة ، وسمي سبحانه وتعالى بالسلام ؛ لأنه واجب الوجود لذاته ، فقد سلم من الفناء والتغير ، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته ، ومن الافتقار إلى الغير ، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [محمد ، ٣٨] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر ، ١٥]. وقيل : السّلام بمعنى السلامة. وقيل : المراد بالسلام الجنة ، سميت الجنة دار السّلام ؛ لأنّ أهلها يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، والملائكة تسلم عليهم. قال الله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد ، ٢٣ ، ٢٤] ومن كمال رحمته وجوده وكرمه على عباده أن دعاهم إلى الجنة التي هي دار السّلام ، وفيه دليل على أنّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ؛ لأنّ العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم ، ولا يصف إلا عظيما. وقد وصف الله تعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه. وعن جابر قال : جاءت ملائكة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو نائم فقالوا : إنّ صاحبكم هذا مثله كمثل رجل بنى دارا ، وجعل فيها مائدة ، وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المائدة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المائدة ، والدار الجنة ، والداعي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَ) الله (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من عباده بما يخلق في قلبه من الهداية (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو دين الإسلام ، عمّ سبحانه وتعالى بالدعوة أوّلا إظهارا للحجة ، وخص بالهداية ثانيا إظهارا للقدرة ؛ لأنّ الحكم له في خلقه. وقال الجنيد : الدعوة عامة ، والهداية خاصة ، بل الهداية عامة والصحبة خاصة ، بل الصحبة عامة والاتصال خاص. وقيل : يدعو بالآيات ، ويهدي للحقائق والمعارف. وقيل : الدعوة لله والهداية من الله. وقال بعضهم : لا تنفع الدعوة لمن لم يسبق له من الله الهداية.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

١٨

(٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢))

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي : بالإيمان (الْحُسْنى) وهي الجنة (وَزِيادَةٌ) وهي النظر إليه تعالى في الآخرة ، كما في الحديث الصحيح : «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئا هو أحب إليهم منه» (١). والزمخشري في «كشافه» قال في هذا : وزعمت المشبهة والمجبرة ؛ لأنّ المعتزلة ينكرون الرؤية ، ويردّ عليهم قول الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ، ٢٢ ، ٢٣] فأثبت الله لأهل الجنة أمرين أحدهما : النضارة وهي حسن الوجوه ، وذلك من نعيم الجنة. والثاني : النظر إلى الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الحسنى الحسنة ، والزيادة عشرة أمثالها. وعن الحسن : عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد : الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم ، فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم ، ولا مانع من أن تفسر الزيادة بذلك كله ؛ إذ لا تنافي فيها والفضل واسع. (وَلا يَرْهَقُ) أي : يغشى (وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) أي : سواد (وَلا ذِلَّةٌ) أي : كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان. (أُولئِكَ) أي : هؤلاء الذين وصفهم الله هم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وقوله تعالى : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع ولا زوال فيها ولا انقراض ، بخلاف الدنيا وزخارفها.

ولما بين تعالى حال الفضل فيمن أحسن بيّن حال العدل فيمن أساء بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) أي : الشرك (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) منهم (بِمِثْلِها) بعدل الله من غير زيادة ، وفي ذلك إشارة إلى الفرق بين السيئات والحسنات ؛ لأنّ الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة تفضلا منه تعالى وتكرّما. وأما السيئة فإنه يجازي عليها بمثلها عدلا منه تعالى (وَتَرْهَقُهُمْ) أي : تغشاهم (ذِلَّةٌ) عكس أهل الجنة (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي : مانع يمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) أي : ألبست (وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) لفرط سوادها وظلمتها. وقرأ ابن كثير والكسائي بسكون الطاء ، أي : جزء ، والباقون بفتحها جمع قطعة ، أي : أجزاء (أُولئِكَ) أي : هؤلاء الأشقياء (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يتمكنون من مفارقتها.

(وَ) اذكر (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) أي : الفريقين الناجين والهالكين ، العابدين منهم والمعبودين ، من كل جانب وناحية إلى موقف الحساب حال كونهم (جَمِيعاً) لا يتخلف منهم أحد وهو يوم القيامة والحشر الجمع بكره إلى موقف واحد (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) أي : الزموا مكانكم لا تبرحوا منه حتى تنظروا ما يفعل بكم ، وقوله تعالى : (أَنْتُمْ) تأكيد للضمير المستتر في

__________________

(١) أخرجه بلفظ قريب منه ، مسلم في الإيمان حديث ١٨١ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣١٠٥ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٨٧.

١٩

الفعل المقدّر ليعطف عليه (وَشُرَكاؤُكُمْ) أي : من كنتم تعبدونه من دون الله (فَزَيَّلْنا) أي : فرّقنا (بَيْنَهُمْ) أي : بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا ، وذلك حين تبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده ، وقيل : فرّقنا بينهم وبين المؤمنين كما في آية (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس ، ٥٩] والأوّل أنسب بقوله تعالى : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) لهؤلاء المشركين (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) أي : إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أندادا فأطعتموهم ، واختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء. فقال بعضهم : الملائكة واستشهدوا بقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ ، ٤٠]. ومنهم من قال : هي الأصنام ، والدليل عليه : أنّ هذا الخطاب مشتمل على الوعيد والتهديد ، وذلك لا يليق بالملائكة المقرّبين ، وسموا شركاء ؛ لأنهم جعلوا نصيبا من أموالهم لتلك الأصنام فصيروهم شركاء لأنفسهم في تلك الأموال ، ثم اختلفوا في هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام فقال بعضهم : إنّ الله تعالى خلق الحياة والعقل والنطق فيها فقدرت على ذكر هذا الكلام. وقال آخرون : إنّ الله تعالى خلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى سمع منها ذلك الكلام. والأوّل أظهر ؛ لأنّ ظاهر قوله تعالى : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هو الشركاء.

فإن قيل : إذا أحياها الله تعالى هل يبقيها أو يفنيها؟ أجيب : بأنّ الكل محتمل فإنّ الله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء ، وأحوال القيامة غير معلومة إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن وعلى لسان أنبيائه. وقال بعضهم : المراد بهؤلاء الشركاء كل من عبد من دون الله من إنس وملك وجنّ وشمس وقمر وصنم ، وهذا أظهر ، وعلى هذا والأوّل سموا شركاء ؛ لأنّ الله تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله تعالى : (مَكانَكُمْ) صاروا شركاء في هذا الخطاب ، ولما قال لهم شركاؤهم ذلك قالوا : بل كنا نعبدكم فقال شركاؤهم :

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) فإنّه تعالى العالم بكنه الحال. (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) أي : لم نأمر بها ولم نعلم بها ، وعلى القول بأنها الأصنام فتقول : ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ، فإنها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور البتة.

تنبيه : إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بين الخفيفة والنافية. (هُنالِكَ) أي : في ذلك الموقف من المكان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال (تَبْلُوا) أي : تختبر (كُلُّ نَفْسٍ) طائعة وعاصية (ما أَسْلَفَتْ) أي : ما قدّمت من عمل فتعاين نفعه وضرّه يؤدّي إلى سعادة أو شقاوة. وقرأ حمزة والكسائي بتاءين من التلاوة ، أي : تقرأ ذكر ما قدّمت أو من التلو فيتبع كل شخص عمله فيقوده إلى الجنة والنار والباقون بعد التاء باء موحدة من البلوى وهو الاختبار (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ) أي : إلى جزائه إياهم عما أسلفوا فلم يكن لهم قدرة على قصد غيره. (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي : ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة ولا التفات إلى سواه من تلك الأباطيل ، بل انقطع رجاؤهم من كل ما يدعونه في الدنيا وهو المراد بقوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي : ذهب وبطل وضاع. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : يتعمدون كذبه من أنّ معبوداتهم شركاء ، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلا غير حق.

ولما بيّن فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل على فساد هذا المذهب بحجج :

الحجة الأولى : قوله تعالى : (قُلْ) أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ

٢٠