تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

عليه ؛ لأنّ اللفظ عام فيجب أن يتناول الكل وإن كانت الآية نزلت في واقعة معينة لكن عموم اللفظ لا يبطل بخصوص السبب.

تنبيه : الفرق بين المصير والمرجع أنّ المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع فإنه قد يوافق المبدأ ، وقرأ شعبة (رِضْوانَ) بضم الراء والباقون بالكسر.

وقوله تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ) مبتدأ وخبر أي : الفريقان درجات ولا بد من تأويل في الأخبار بالدرجات عن هم ؛ لأنها ليست إياهم فيجوز أن يكون جعلوا نفس الدرجات مبالغة ، والمعنى : إنهم متفاوتون في الجزاء على كسبهم كما أنّ الدرجات متفاوتة فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة أي : هم مثل الدرجات في التفاوت ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي : ذوو درجات أي : أصحاب منازل ورتب في الثواب والعقاب (عِنْدَ اللهِ) فلمن اتبع رضوانه الثواب ولمن باء بسخطه العقاب (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي : عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي : أنعم على من آمن مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجه هذه المنة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ، ١٠٧].

فإن قيل : لم خصهم بالنعمة مع أن البعثة عامّة؟ أجيب : بأنهم هم المنتفعون بها كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : من جنسهم عربيا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به ويشرفوا به لا ملكا ولا عجميا وقرىء شاذا من أنفسهم بفتح الفاء أي : من أشرفهم ؛ لأنه كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم وقد خطب أبو طالب لما تزوّج صلى‌الله‌عليه‌وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إنّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. ولم أذكر في التفسير قراءة شاذة إلا هذه لكونها في شرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقراءة السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي : القرآن بعدما كانوا جهالا لم يسمعوا الوحي (وَيُزَكِّيهِمْ) أي : ويطهرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والأعمال (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي : القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي : السنة من بعدما كانوا من أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم كما قال تعالى : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي : قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : بين ظاهر.

(أَوَلَمَّا) أي : حين (أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) بأحد بقتل سبعين منكم (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) ببدر بقتل سبعين وأسر سبعين (قُلْتُمْ) متعجبين (أَنَّى) أي : من أين لنا (هذا) القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينا ، والجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري (قُلْ) لهم (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي : هو مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز ، فإن الوعد كان مشروطا بالثبات في المركز والمطاوعة في الأمر ، وعن علي رضي الله تعالى عنه لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم.

روى عبيدة السلماني عن علي رضي الله تعالى عنه قال : «جاء جبريل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ

٣٠١

الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء من الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدّموا ـ أي : الأسارى ـ فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عددهم ، فذكر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لا بل نأخذ منهم فداهم فنتقوّى به على قتال أعدائنا ويستشهد منا عدّتهم ، فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر» (١) وهذا معنى قوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي : بأخذكم الفداء واختياركم للقتل (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على النصر وعلى منعه وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى.

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي : جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي : فهو كائن بقضائه وإرادته ودخلت الفاء في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط نحو الذي يأتيني فله درهم (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) وقد تقدّم أنّ معنى وليعلم الله كذا أي : يميز أو يظهر للناس ما كان في علمه.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) قال الواحدي : يقال نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الإيمان وأضمر خلافها. قال أبو عبيدة : مشتق من نافقاء اليربوع ؛ لأنّ جحر اليربوع له بابان القاصعاء والنافقاء فإن طلب من أيهما كان يخرج من الآخر فقيل للمنافق : إنه منافق وهم اسم إسلامي ؛ لأنه صنع لنفسه طريقين إظهار الإسلام وإضمار الكفر فمن أيهما طلب خرج من الآخر وقوله تعالى : (وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على نافقوا أي : وليعلم الذين قيل لهم لما انصرفوا عن القتال وقالوا : لم نلق

__________________

(١) انظر الترمذي في السير حديث ١٥٦٧.

٣٠٢

أنفسنا في القتل فرجعوا ، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه وكانوا ثلاثمائة من جملة الألف الذين خرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الكفار (أَوِ ادْفَعُوا) عنا أي : إن كان في قلبكم حب الإيمان فقاتلوا للدين ، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم ، وقال السدي وابن جريج : ادفعوا عنا العدوّ بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا ؛ لأنّ الكثرة أحد أسباب الهيبة.

روي عن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره : لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوّهم قيل : وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال : لقوله تعالى : (أَوِ ادْفَعُوا) أراد أكثروا سوادهم واختلفوا في القائل فقال الأصم : إنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعوهم إلى القتال وقيل : أبو جابر الأنصاري قال لهم : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدوّ (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ) أي : نحسن (قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) فيه قال تعالى تكذيبا لهم : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم إذ قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم (أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي : لانقطاعهم وارتدادهم وكلامهم ، فإنّ ذلك أوّل إمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. وقيل : المعنى على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان بما أظهروه من خذلانهم للمؤمنين وكانوا قبل أقرب إلى الإيمان من حيث الظاهر.

تنبيه : فضلوا هنا على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين ، ولو لا ذلك لم يجز تقول زيد قاعدا أفضل منه قائما أو زيد قاعدا اليوم أفضل منه قاعدا غدا ولو قلت : زيد اليوم قاعدا أفضل منه اليوم قاعدا لم يجز (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي : يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطىء قلوبهم ألسنتهم بالإيمان فهم وإن كانوا يظهرون الإيمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر.

تنبيه : إضافة القول إلى الأفواه تصوير لنفاقهم ، فإنّ إيمانهم موجود في أفواههم فقط وبهذا انتفى كونه للتأكيد ، كما قيل به لتحصيل هذه الفائدة وقال ابن عادل : والظاهر أنّ القول يطلق على اللساني وعلى النفساني فتقييده بأفواههم تقييد لأحد محمليه اللهمّ إلا أن يقال إطلاقه على النفساني مجاز (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) أي : عالم بما في ضمائرهم وبما يخلو به بعضهم إلى بعض فإنه يعلم ذلك مفصلا بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملا بإمارات وجوّزوا في موضع.

(الَّذِينَ قالُوا) ألقاب الإعراب الثلاثة : الرفع والنصب والجرّ ، فالرفع من ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون مرفوعا على خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين ، الثاني : أنه بدل من واو يكتمون ، الثالث : إنه مبتدأ والخبر قوله (قُلْ فَادْرَؤُا) ولا بد من حذف عائد تقديره قل لهم فادرؤا ، والنصب من ثلاثة أوجه أيضا : أحدها : النصب على الذمّ أي : أذم الذين قالوا ، الثاني : أنه بدل من الذين نافقوا ، الثالث : إنه صفة لهم ، والجرّ من وجهين : أحدهما أنه بدل من الضمير في بأفواههم ، والثاني : أنه بدل من الضمير في قلوبهم. كقول الفرزدق (١) :

على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم

بجرّ حاتم على أنه بدل من الهاء في جوده وضن مبني للمفعول وهو بالماء أي : ولو أن حاتما مستقرّا في القوم كائنا على جوده ، وهم بتلك الحالة لبخل بالماء (لِإِخْوانِهِمْ) أي : لأجل إخوانهم

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الفرزدق ٢ / ٢٩٧ ، ولسان العرب (حتم) ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٨٦ ، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص ٣١٧ ، وشرح المفصل ٣ / ٦٩ ، واللمع ص ١٧٤ ، ٢٦٦.

٣٠٣

من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب أو في سكنى الدار أو في عداوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى : (وَقَعَدُوا) حال مقدّرة بقد أي : قالوا : قاعدين عن القتال (لَوْ أَطاعُونا) في القعود (ما قُتِلُوا) كما لم نقتل. واختلف في قائل ذلك ، فقال أكثر المفسرين : هو ابن أبي وأصحابه ، وقول الأصم هذا لا يجوز ؛ لأنّ ابن أبي خرج مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهاد يوم أحد وهذا القول واقع ممن تخلف فيه نظر لاحتمال أنّ المراد بالقعود القعود عن القتال لا عن الخروج إلى القتال (قُلْ :) لهم (فَادْرَؤُا) أي : ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن القعود ينجي منه لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة ولا بد لكم أن يتعلق بكم بعضها.

وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة : سبعون منافقا.

فإن قيل : ما وجه هذا الاستدلال فإن التحرز عن القتل ممكن وأمّا التحرز عن الموت فغير ممكن؟ أجيب : بأن الكل بقضاء الله وقدره فلا فرق بين الموت والقتل وفي قوله تعالى : (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) استهزاء بهم أي : إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا ، ونزل في شهداء أحد كما رواه الحاكم : وكانوا سبعين رجلا : أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شاس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار.

(وَلا تَحْسَبَنَ) أي : ولا تظنن (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : لأجل دينه والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد (أَمْواتاً بَلْ) هم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : ذوو زلفى منه فليس المراد القرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه لعدم مناسبة المقام له بل بمعنى القرب شرفا ورتبة.

قال البيضاوي وقيل : نزلت في شهداء بدر أي : وكانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين ، قال شيخنا القاضي زكريا : وهو غلط إنما نزل فيهم آية البقرة (يُرْزَقُونَ) من ثمار الجنة.

روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسّلام قال : «أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش» (١).

وروي أنّ الله تعالى يطلع عليهم ويقول : سلوني ما شئتم فيقولون : يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئا قالوا : نسألك أن تردّ أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك لما رأوا من النعيم ، كما قال تعالى :

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله والتمتع بنعيم الجنة (وَيَسْتَبْشِرُونَ) أي : ويفرحون (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فلذلك يستبشرون (مِنْ خَلْفِهِمْ) أي : الذين من خلفهم زمانا أو رتبة وأبدل من الذين (إِنَّ) أي : بأن (لا خوف عليهم) أي : الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة والمعنى : إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا خلفهم

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد حديث ٢٥٢٠ ، وابن ماجه حديث ٢٨٠١.

٣٠٤

من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة لا يكدّرون بخوف وقوع محذور ولا بحزن فوات محبوب وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة والجدّ في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه ؛ لأنّ الله تعالى مدحهم على ذلك.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) لما بين تعالى أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بين هنا أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم لذلك أعاد لفظ الاستبشار.

فإن قيل : أليس ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار فلزم التكرار؟ أجيب : بأن الاستبشار هو الفرح التامّ فلا يلزم التكرار بأنّ المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة والفرق بين النعمة والفضل أن النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد.

فإن قيل : لم قال يستبشرون من غير عطف؟ أجيب : بأنه تأكيد للأوّل ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيان متعلق الاستبشار الأول (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) لما ذكر إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء بين أنّ ذلك ليس مخصوصا بهم بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب ، فإنّ الله تعالى يوصل ثوابه إليه ولا يضيعه وقوله تعالى :

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي : دعاءه مبتدأ (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) بأحد وخبر المبتدأ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بطاعته (وَاتَّقَوْا) مخالفته (أَجْرٌ عَظِيمٌ) هو الجنة.

روي أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال : «لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد» (١) وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر.

روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ثم إنّ المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى وذلك لكثرة الجراحات فيهم وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة ، فمرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد ، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أنّ الله قد أعفاك فيهم ، ثم خرج من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط قال : ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت.

تنبيه : من في الذين أحسنوا منهم للتبيين مثلها في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) [الفتح ، ٢٩] لأنّ الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم وقوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ١٠٢.

٣٠٥

(الَّذِينَ) بدل من الذين قبله أو نعت (قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) أي : الجموع ليستأصلوكم (فَاخْشَوْهُمْ.)

روي أنّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن شاء الله» فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مرّ الظهران فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال : يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وإنّ هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن لا أخرج إليه ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جراءة ، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحبّ إلي من أن يكون من قبلي ، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يد سهل بن عمرو ويضمنها ، فقال له نعيم : يا أبا يزيد أتضمن لي ذلك وأنطلق إلى محمد وأثبطه؟ قال : نعم ، فخرج نعيم حتى أتى المدينة ، فوجد الناس يجهزون لميعاد أبي سفيان فقال : أين تريدون؟ فقالوا : واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها ، فقال : بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقراركم ، فلم يفلت منكم أحد إلا شريدا فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد ، فكره بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخروج ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي ولو لم يخرج معي أحد» فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل ولم يلتفتوا إلى ذلك القول كما قال تعالى : (فَزادَهُمْ) ذلك القول (إِيماناً) أي : تصديقا بالله ويقينا (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي : كافينا أمرهم (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي : المفوّض إليه الأمر هو حتى وافوا بدرا الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم يريدون أن يرهبوا المسلمين فيقول المسلمون : حسبنا الله ونعم الوكيل وهذه هي الكلمة التي قالها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حين ألقي في النار ، حتى بلغوا بدرا وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان ثمان ليال ولم يلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أحدا من المشركين ووافوا السوق وكان معهم تجارات فباعوها واشتروا أدما وزبيبا وأصابوا الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى :

(فَانْقَلَبُوا) أي : انصرفوا (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي : بعافية لم يلقوا عدوّا (وَفَضْلٍ) أي : تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي : لم يصبهم أذى ولا مكروه ، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق.

تنبيه : الناس الأول المثبطون والآخرون أبو سفيان وأصحابه.

فإن قيل : المثبط هو أبو نعيم فكيف قيل : الناس؟ أجيب : بأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ويلبس البرد وما له إلا فرس واحد ، وبرد واحد ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يثبطون مثل تثبيطه بل قيل : إنهم كانوا جماعة فقد مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم.

فإن قيل : كيف زادهم القول إيمانا؟ أجيب : بأنهم لما سمعوا ذلك وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم كما يزداد

٣٠٦

الإيمان والإيقان بتناصر الحجج ، ولأن خروجهم على أثر التثبيط إلى وجه العدو طاعة عظيمة والطاعات تزيد الإيمان فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا : يا رسول الله إنّ الإيمان يزيد وينقص قال : «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» (١). وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزدد إيمانا ، وعنه رضي الله تعالى عنه : «لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه بإيمان هذه الأمّة لرجح به» (٢)(وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدوّ بالحفظ على كل من يسوءهم وإصابة النفع من ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل وفيه تحسر المتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.

(إِنَّما ذلِكُمُ) أي : المثبط أو أبو سفيان (الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أي : القاعدين عن الخروج مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يخوّفكم أولياءه وهم أبو سفيان وأصحابه ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ) في مخالفة أمري فجاهدوا مع رسولي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس ، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا ، والباقون بالحذف وقفا ووصلا.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي : يقعون فيه وقوعا سريعا حرصا عليه ، وهم المنافقون من المتخلفين أو قوم ارتدوا عن الإسلام أي : لا تهتم لكفرهم (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بفعلهم وإنما يضرّون به أنفسهم ، وقرأ نافع يحزنك بضمّ الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله تعالى في الأنبياء (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء ، ١٠٣] فإنه على فتح الياء وضمّ الزاي فيه والباقون كذلك في الكل من حزنه لغة في أحزنه (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) أي : نصيبا (فِي الْآخِرَةِ) أي : الجنة فلذلك خذلهم وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر (وَلَهُمْ) مع حرمان الثواب (عَذابٌ عَظِيمٌ) في النار.

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أي : أخذوه بدله (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) بكفرهم (شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم وكرّر ذلك للتأكيد أو هو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين أو ارتدوا من الأحزاب.

ونزل في مشركي مكة كما قاله مقاتل أو في قريظة أو النضير كما قاله عطاء : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي) أي : نمهل (لَهُمْ) بتطويل الأعمار (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) بكثرة المعاصي (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي : ذو إهانة.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أيّ الناس خير؟ قال : «من طال عمره وحسن عمله» قيل : فأيّ الناس شرّ؟ قال : «من طال عمره وساء عمله» (٣) وقرأ حمزة : ولا تحسبن الذين كفروا ولا تحسبن

__________________

(١) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ٢٥.

(٢) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٣٢٣ ، ٧ / ٥٧٢ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٤ / ١٥١٨ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٢٣٤.

(٣) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٣٠ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٨٨ ، ٥ / ٤٠ ، ٤٣ ، ٤٧ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٥٠ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٣٧١ ، والحاكم في المستدرك ١ / ٣٣٩.

٣٠٧

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بالتاء فيهما على الخطاب ، والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) أي : ليترك (الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيها الناس من اختلاط المسلم بغيره (حَتَّى يَمِيزَ) أي : يفصل (الْخَبِيثَ) أي : المنافق (مِنَ الطَّيِّبِ ،) واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبيّ : قالت قريش : يا محمد تزعم أنّ من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان ، وأنّ من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن؟ فنزلت وقال السديّ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عرضت عليّ أمّتي في صورتها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن ومن يكفر» فبلغ ذلك المنافقين ، فقالوا استهزاء : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعده ونحن معه وما يعرفنا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام على المنبر وحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا نبأتكم به» فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي يا رسول الله؟ قال : «حذافة» فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيا فاعف عنا عفا الله تعالى عنك ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فهل أنتم منتهون؟» ثم نزل عن المنبر فنزلت.

فإن قيل : لمن الخطاب في أنتم؟ أجيب : بأنه للمصدّقين جميعا من أهل النفاق والإخلاص كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعا حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فيختبر بها بواطنكم ويستدلّ بها على عقائدكم ففعل ذلك يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ حمزة والكسائي يميز بضم الياء وفتح الميم وتشديد الياء بعد الميم مع كسرها ، والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء بعد الميم (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات أو ينصب له ما يدل عليها (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي : بصفة الإخلاص أو بأن تعلموا أنّ الله وحده مطلع على الغيب وتعلموا أنهم عباد مجتبون لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم.

روي أنّ الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن ومن يكفر فنزلت الآية (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) حق الإيمان (وَتَتَّقُوا) النفاق (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي : لا يقادر قدره.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ) أي : بخلهم (خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ) أي : بخلهم (شَرٌّ لَهُمْ) لاستجلاب العقاب إليهم ، واختلفوا في المراد بهذا البخل ، فقال أكثر العلماء : المراد به منع الواجب واستدلوا بوجوه : أحدها : أنّ الآية دالة على الوعيد الشديد وذلك لا يليق إلا بالواجب وثانيها : أنّ الله تعالى ذمّ البخل ، والتطوّع لا يذمّ على تركه وثالثها : قال عليه الصلاة والسّلام : «وأي داء أدوأ من البخل» (١) ، وتارك التطوّع لا يليق به هذا الوصف وإنفاق الواجب على أقسام منها : إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين تلزمه مؤنتهم ومنها : الزكوات ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدوّ يقصد أنفسهم وأموالهم فيجب عليهم إنفاق الأموال على من

__________________

(١) أخرجه البخاري في الخمس حديث ٣١٣٧.

٣٠٨

يدفعهم عنهم ومنها : دفع ما يسدّ رمق المضطرّ.

(سَيُطَوَّقُونَ) أي : سوف يطوّقون (ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) اختلفوا في هذا الوعيد ، فقال ابن عباس وابن مسعود : يجعل ما منعه من الزكاة حية يطوّقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه وتنقر رأسه تقول : أنا مالك. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الآية» (١) ، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ـ أو الذي لا إله غيره أو كما حلف ـ ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدّي حقها إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت عليه أخراها ردّت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس» (٢) وقال مجاهد : معنى سيطوّقون سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة أي : يؤمرون بأداء ما منعوا فلا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخا وقيل : إنّ هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوّته وأراد بالبخل كتمان العلم كما في سورة النساء : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء ، ٣٧] ومعنى قوله : على هذا سيطوّقون أي : يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام ، ٣١] وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في معناه وجهان أحدهما : أنّ له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فهو الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ونحوه قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد ، ٧] والثاني : وبه قال الأكثرون : إنّ معناه أنه يفنى أهل السموات والأرض ويفنى الأملاك ولا مالك لها إلا الله فجرى هذا مجرى الوراثة ، قال ابن الأنباري : يقال : ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه ، وقال تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل ، ١٦] لأنه انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) [البقرة : ٢٣٤] من المنع والإعطاء (خَبِيرٌ) فيجازيكم به ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الزكاة حديث ١٤٠٣ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٤٨٢.

(٢) أخرجه الترمذي في الزكاة حديث ٦١٧ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٤٤٠.

٣٠٩

لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) قال الحسن ومجاهد لما نزل قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة ، ٢٤٥] قالت اليهود : إنّ الله فقير ويستقرض منا ونحن أغنياء ، وذكر الحسن : أنّ قائل هذه المقالة حييّ بن أخطب ، وقال عكرمة والسديّ ومقاتل ومحمد بن إسحاق : «كتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أبي بكر الصدّيق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا ، فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد أناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أشيع ، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فآمن وصدّق وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب ، فقال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أنّ ربنا يستقرض من أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني ، فإن كان ما تقول حقا فإنّ الله إذن لفقير ونحن أغنياء وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا ما أعطانا الربا يعني في قوله : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لو لا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ الله ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : «ما حملك على ما صنعت؟» فقال : يا رسول الله إنّ عدوّ الله قال قولا عظيما زعم أنّ الله فقير وهم أغنياء فغضبت لله فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله عزوجل ردّا على فنحاص وتصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) الآية».

وهذا لا يدل على أنّ غيره لم يقل ذلك ؛ لأنّ الآية دالة على أنّ القائل جماعة لقوله تعالى :

٣١٠

الذين قالوا : (سَنَكْتُبُ) أي نأمر بكتب (ما قالُوا) من الإفك والفرية في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه ونحوه وإنا له كاتبون أو سنحفظه في علمنا لا نهمله ؛ لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله واستهزاء بالله والرسول ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء كما قال تعالى : (وَقَتْلَهُمُ) أي : وسنكتب قتلهم (الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) وفي نظمه به تنبيه على أنه ليس أوّل جريمة ارتكبوها وأنّ من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول (وَنَقُولُ) أي : الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : النار وهي بمعنى المحرق كما يقال عذاب أليم أي : مؤلم وقرأ حمزة : سيكتب بالياء المثناة تحت بعد السين مضمومة وفتح التاء بعد الكاف وضمّ اللام من قتلهم وبالياء في ويقول والباقون بالنون بعد السين مفتوحة وضمّ التاء بعد الكاف ونصب اللام من قتلهم وبالنون في ونقول ويقال لهم : إذا ألقوا في النار.

(ذلِكَ) أي : العذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من الافتراء وقتل الأنبياء وغير ذلك من المعاصي وعبر بالأيدي عن الأنفس ؛ لأنّ أكثر أعمالها بهنّ (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ) أي : بذي ظلم (لِلْعَبِيدِ) فيعذبهم بغير ذنب.

فإن قيل : ظلام للمبالغة المقتضية للتكثير فهو أخص من ظالم ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعمّ أجيب : بأنه لما قوبل بالعبيد وهم كثيرون ناسب أن يقابل الكثير بالكثير وبأنه إذا نفى الظلم الكثير ينفى القليل ؛ لأنّ الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه فيمن يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أترك وبأن ظلام للنسب كما قدّرته في الآية الكريمة ، كما في بزاز وعطار أي : لا ينسب إليه ظلم البتة وقوله تعالى : (الَّذِينَ) نعت للذين قبله (قالُوا) لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تزعم أنّ الله بعثك بالحق رسولا وأنزل عليك كتابا وأن نؤمن بك أي : وقالوا (إِنَّ اللهَ) قد (عَهِدَ إِلَيْنا) أي : أمرنا وأوصانا في كتبه (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) أي : لا نصدّق رسولا أنه قد جاء من عند الله (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) أي : حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل ، فيكون دليلا على صدقه والقربان كل ما يتقرّب به العبد إلى الله من نسيكة وعمل صالح وكانوا إذا قرّبوا قربانا أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وهفيف فتأكل ذلك القربان وتأكل الغنيمة. ومعنى أكلها أن تحيل ذلك إلى طبعها بالإحراق فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يتقبل بقي على حاله وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم ؛ لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات في ذلك سواء ، وقال السديّ : هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط آخر وهو أنّ الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدّقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم (قُلْ) لهم يا محمد (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) أي : بالمعجزات (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان كزكريا ويحيى فقتلتموهم (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) والخطاب لمن في زمن نبينا وإن كان الفعل لأجدادهم لرضاهم به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنكم تؤمنون بالرسل عند الإتيان بذلك.

ثم قال الله تعالى تسلية لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تكذيب قومه واليهود : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أي : المعجزات (وَالزُّبُرِ) أي : الصحف كصحف إبراهيم (وَالْكِتابِ) أي : التوراة والإنجيل (الْمُنِيرِ) أي : الواضح فاصبر كما صبروا ، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام ، وقرأ ابن عامر وبالزبر بالباء الموحدة والباقون بغير باء بعد

٣١١

الواو ، وقرأ هشام وبالكتاب بالباء الموحدة بعد الواو والباقون بغير باء وقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) زيادة تأكيد في تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبالغة في إزالة الحزن عن قلبه ، فإنّ من علم أن عاقبته إلى الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان.

روي أنّ الله تعالى لما خلق آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها أن يردّ فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا يدفن في التربة التي أخذ منها ، ولأنّ بعد هذه الدار دارا يتميز فيها المحسن من المسيء والمحق من المبطل ويجازى كلّ بما يستحقه كما قال تعالى : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أي : جزاء أعمالكم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ (فَمَنْ زُحْزِحَ) أي : بعد (عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) بالنجاة ونيل المراد والفوز بالظفر بالبغية بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : العيش فيها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي : الباطل يتمتع به قليلا ثم يفنى.

روي أنّ الله تعالى يقول : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» اقرؤوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة ، ١٧] وإنّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة ، ٣٠] ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرؤوا إن شئتم (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) الآية» (١).

وروي : «من أحبّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤتي الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه» (٢) أي : يفعل بهم ما يحبّ أن يفعل به.

وقوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَ) جواب قسم محذوف تقديره والله لنبلونّ وحذف منه نون الرفع لتوالي النونات والواو ضمير الجمع وحذفت واو الرفع لالتقاء الساكنين أي : لتختبرنّ (فِي أَمْوالِكُمْ) بالفرائض فيها والجوائح (وَ) في (أَنْفُسِكُمْ) بالعبادات والبلاء والأسر والجراح وغير ذلك (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : اليهود والنصارى (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي : مشركي العرب (أَذىً كَثِيراً) وذلك أنهم كانوا يقولون : عزير ابن الله والمسيح ابن الله وثالث ثلاثة وكانوا يطعنون في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكل ما يقدرون عليه وهجاه كعب بن الأشرف وكانوا يحرضون الناس على مخالفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجمعون العساكر لمحاربته ويثبطون المسلمين عن نصرته (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك (وَتَتَّقُوا) الله (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : من صواب التدبير والرشد الذي ينبغي لكل عاقل أن يقدم عليه ، واختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقال ابن جريج والكلبيّ ومقاتل : نزلت في أبي بكر وفنحاص وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص اليهودي ليستمدّه وكتب إليه كتابا لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع إليّ فجاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال : احتاج ربك إلى أن نمدّه فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف فتذكر أبو بكر قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكف عنه ، فنزلت وقال الزهري : نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شعره ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أصحابه في شعره ويتشبب بنساء المسلمين.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسيره حديث ٣٠١٣.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ١٦١ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ٦ / ١٦.

٣١٢

تنبيه : في الآية تأويلان : أحدهما : المراد بالمصابرة أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على الابتلاء في النفس والمال وتحمل الأذى وترك المعارضة والمقاتلة وذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين كقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه ، ٤٤] وقال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية ، ١٤] وقال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان ، ٧٢] وقال تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ، ٣٥] وقال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت ، ٣٤] ، قال الواحدي : وهذا قبل نزول آية السيف ، وقال القفال : والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحد والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول عليه الصلاة والسّلام من طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة. التأويل الثاني : إنّ المراد الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم ، فالصبر عبارة عن احتمال المكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي.

(وَ) اذكر (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي : العهد عليهم في التوراة أي : على علمائهم (لَتُبَيِّنُنَّهُ) أي : الكتاب (لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بالياء في الفعلين على الغيبة ؛ لأنّ أهل الكتاب المخاطبين بذلك غيب ، والباقون بالتاء على الخطاب حكاية لمخاطبتهم (فَنَبَذُوهُ) أي : طرحوا الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي : لم يعملوا به ولم يلتفتوا إليه ونقيض هذا جعله نصب عينيه (وَاشْتَرَوْا بِهِ) أي : أخذوا بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا وأعراضها من سفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف فوتها عليهم وقوله تعالى : (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) العائد محذوف تقديره يشترونه ، قال قتادة رضي الله تعالى عنه : «هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة» ، وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : لو لا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدّثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (١) وقال أبو الحسن بن عمارة رضي الله تعالى عنه : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدّثني فقال : أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت : إمّا أن تحدّثني وإمّا أن أحدّثك فقال : حدّثني فقلت : حدّثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال : سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدّثني أربعين حديثا.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي : فعلوا من إضلال الناس (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) بما أوتوا من علم التوراة و (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من التمسك بالحق وهم على ضلال وهذا أيضا من جملة أذاهم ، لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البرّ والصدق والتقوى ولا شك أنّ الإنسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر عليها.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه ، وأروه أنهم قد صدقوا وفرحوا بما فعلوا فأطلع الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أي :

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في المقدمة حديث ٣٦٥.

٣١٣

لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ناجين من العذاب وقيل : هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به ، وقيل : هم المنافقون فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة ويجوز أن يكون شاملا لكل من يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد بما ليس فيه وقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد (بِمَفازَةٍ) أي : مكان ينجون فيه (مِنَ الْعَذابِ) في الآخرة بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم فيها وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة والباقون بالكسر ، ومفعولا تحسب الأولى دل عليهما مفعولا الثانية على قراءة التحتانية وعلى الفوقانية حذف الثاني فقط ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : فلا يحسبنهم بالياء على الغيبة وضم الباء الموحدة والباقون بالتاء على الخطاب وفتح الباء الموحدة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة كما تقدّم.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملك أمرهما وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات وغير ذلك (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما من العجائب (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالمجيء والذهاب والزيادة والنقصان (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحة على قدرته تعالى : وباهر حكمته (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر ، وفي النصائح الصغار : املأ عينيك من زينة هذه الكواكب ، وأجلها في جملة هذه العجائب متفكرا في قدرة مقدرها متدبرا حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر ويحال بينك وبين النظر. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها : أخبريني بأعجب ما رأيت من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب أتاني ليلة فدخل في لحافي حتى التصق جلده بجلدي ثم قال : «يا عائشة هل لك أن تأذني الليلة في عبادة ربي؟» فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه ، فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فقال : «يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟» ثم قال : «وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ ثم قال : ـ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» (١).

وروي : «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها» (٢) ، وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : إنّ في خلق السموات والأرض ، وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة ، فعبدها فتى من فتيانهم

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ٤٧ ، ١١٩ ، ١٠ / ٦٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ١١١.

(٢) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ٦٤.

٣١٤

فلم تظله ، فقالت أمه : لعل فرطة فرطت منك في مدتك فقال : ما أذكر؟ قالت : لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر قال : لعل ، قالت : فما أوتيت إلا من ذاك.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ) نعت لما قبله أو بدل (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي : مضطجعين أي : يذكرونه دائما على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين ؛ لأنّ الإنسان قلّ أن يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث.

وروى الطبرانيّ وغيره : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» (١). وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هذا في الصلاة يصلي قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب ، وعن عمران بن حصين قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صلاة المريض فقال : «يصلي قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب» (٢).

تنبيه : قياما وقعودا حالان من فاعل يذكرون وعلى جنوبهم حال أيضا فيتعلق بمحذوف ، والمعنى يذكرون قياما وقعودا ومضطجعين فعطف الحال المؤوّلة على الصريحة عكس الآية الأخرى وهي قوله : دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما حيث عطف الصريحة على المؤوّلة (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله تعالى ويعرفون أنّ لهما مدبرا حكيما. قال بعض العلماء : الفكرة تذهب الغفلة ، وتحدث في القلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متى» (٣) ـ أي : تفضيلا يؤدي إلى تنقيصه وإلا فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد ولد آدم ـ فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض. قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله تعالى الذي هو عمل القلب ، لأنّ أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا عبادة كالتفكر» (٤) أي : لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق لكن الحديث رواه البيهقيّ وغيره وضعفوه وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أنّ لك ربا وخالقا اللهمّ اغفر لي فنظر الله تعالى إليه فغفر له» (٥) رواه الثعلبيّ بسند فيه من لا يعرف قال البيضاوي : وهذا دليل واضح على شرف علم أصول الدين وفضل أهله وقوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) على إرادة القول أي : يتفكرون قائلين ذلك ، وهذا إشارة إلى الخلق بمعنى المخلوق من السموات والأرض أو إلى السموات والأرض ؛ لأنهما في معنى المخلوق والمعنى ما خلقته عبثا وضائعا من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه ودليلا يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٢٠ / ٣٢٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٨٨٦.

(٢) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ١١١٧ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٩٥٢ ، والترمذي في الصلاة حديث ٣٧١ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٢٢٣.

(٣) أخرجه القاضي عياض في الشفاء ١ / ٢٦٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٢ / ١٠٥.

(٤) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٨٣ ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ٤ / ٢٢١.

(٥) أخرجه القرطبي في تفسيره ٤ / ٣١٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ١١١ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ٦٤.

٣١٥

تنبيه : نصب باطلا على الحال من هذا وهي حال لا يستغنى عنها لو حذفت لاختل الكلام وهي كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [الدخان ، ٣٨] وقيل : على إسقاط حرف الخفض وهو الباء والمعنى ما خلقتهما بباطل بل بحق وقدرة (سُبْحانَكَ) أي : تنزيها لك عن العبث وهو معترض بين قوله (رَبَّنا) وبين قوله (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي : للاختلال بالنظر في خلق السموات والأرض والقيام بما يقتضيه قال أبو البقاء : ودخلت الفاء لمعنى الجزاء والتقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا قال ابن عادل : ولا حاجة إليه بل التسبب فيها ظاهر تسبب عن قولهم (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) طلبهم وقاية النار.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) أي : للخلود فيها (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي : أهنته (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي : للكافرين فيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بتخصيص الخزي بهم (مِنْ أَنْصارٍ) أي : أنصار فمن زائدة زيدت لتأكيد النفي.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي) أي : يدعو الناس (لِلْإِيمانِ) أي : إليه وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن العظيم (أَنْ) أي : بأن (آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) به.

فإن قيل : أي فائدة في الجمع بين مناديا وينادي؟ أجيب : بأنه ذكر المبدأ مطلقا ثم مقيدا بالإيمان تفخيما لشأن المنادي ؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان ونحوه قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام وذلك أنّ المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب أو لإغاثة المكروب أو نحو ذلك وكذا الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي وغير ذلك ، فإذا قلت : ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي : الكبائر منها (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أي : الصغائر منها أو يكون ذلك من باب التعميم والاستيعاب كقوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ولأنّ الإلحاح والمبالغة في الدعاء أمر مطلوب (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي : مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم وهم الأنبياء والصالحون وفيه تنبيه على إنهم يحبون لقاء الله تعالى «ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه» (١) ، رواه الشيخان.

(رَبَّنا وَآتِنا) أي : أعطنا (ما وَعَدْتَنا) به (عَلى) ألسنة (رُسُلِكَ) من الرحمة والفضل وسؤالهم ذلك ، وإن كان وعده تعالى لا يتخلف سؤال أن يجعلهم من مستحقيه ؛ لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة ، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها وتكرير ربنا مبالغة في التضرّع. وفي الآثار : من حزبه أي أصابه أمر فقال : ربنا خمس مرات أنجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد (وَلا تُخْزِنا) أي : ولا تعذبنا ولا تفضحنا ولا تهنا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي : الموعد بإثابة المؤمن وإجابة الداعي ، وعن ابن عباس : الميعاد البعث بعد الموت.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) دعاءهم وهو أخص من أجاب ؛ لأنه يفيد حصول جميع المطلوب لكثرة مبانيه ؛ لأنّ كثرة المباني تدل على كثرة المعاني ويتعدّى بنفسه وباللام (أَنِّي) أي : بأني (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) وقوله تعالى : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان عامل (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي : يجمع ذكركم وأنثاكم أصل واحد فكل واحد منكم من الآخر أي : الذكور من الإناث والإناث من

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٠٧ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٦٨٣ ، والترمذي في الجنائز حديث ١٠٦٦ ، والنسائي في الجنائز حديث ١٨٣٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٦٤.

٣١٦

الذكور وقيل : المراد وصلة الإسلام وهذه الجملة وهي بعضكم من بعض معترضة بين عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى وما فصل به عمل عامل من قوله : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) إلخ .. بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله تعالى عباده العاملين.

روي أنّ أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : «يا رسول الله أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت» (١) وقوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي : من مكة إلى المدينة (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله تعالى بدينهم من دار الفتنة واضطروا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشؤوا (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي : ديني (وَقاتَلُوا) الكفار (وَقُتِلُوا) في الجهاد ، وقرأ حمزة والكسائي بتقديم قتلوا وتأخير قاتلوا وشدد ابن كثير وابن عامر التاء من قتلوا للتكثير (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي : أسترها بالمغفرة (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً) أي : أثيبهم بذلك إثابة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : تفضلا منه تعالى فهو مصدر مؤكد لما قبله ؛ لأنّ قوله تعالى : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) في معنى لأثيبنهم (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي : الجزاء. ولما كان المشركون في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون ، وقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد نزل.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ) أي : تصرف (الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) للتجارات وأنواع المكاسب والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد منه غيره وقوله تعالى :

(مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف أي : ذلك التقلب متاع قليل يتمتعون به في الدنيا يسيرا ويغني فهو قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» (٢) رواه مسلم ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : «جئت فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال : «ما يبكيك؟» فقلت : يا رسول الله إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله فقال : «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» (٣)(ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي : مصيرهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي : الفراش هي.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ) أي : مقدرين الخلود (فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو ما يعد للضيف ونصبه على الحال من جنات لتخصيصها بالوصف

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير حديث ٣٠٢٣.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٥٨ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٢٣ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٠٨.

(٣) أخرجه البخاري في التفسير حديث ٤٩١٣ ، ومسلم في الطلاق حديث ١٤٧٩ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٥٣.

٣١٧

والعامل فيها معنى الظرف (وَما) أي : والذي (عِنْدِ اللهِ) من الثواب لكثرته ودوامه (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يتقلب فيه الكفار من متاع الدنيا لقلته وسرعة زواله.

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) فقال جابر وابن عباس وأنس : نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه الصلاة والسّلام للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» فقالوا : ومن هو؟ قال : «النجاشي» فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبّر عليه أربع تكبيرات واستغفر له ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصرانيّ لم يره قط وليس على دينه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١) ، وقال عطاء : نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن جريج : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي : القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) أي : التوراة والإنجيل وقوله تعالى : (خاشِعِينَ) حال من ضمير يؤمن مراعى فيه معنى من لأنها في معنى الجمع أي : متواضعين (لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ) أي : لا يستبدلون (بِآياتِ اللهِ) التي عندهم في التوراة والإنجيل من نعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا بأن يكتموها خوفا على الرياسة كما فعل غيرهم من اليهود (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي : ثواب أعمالهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وهو ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) وقوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لنفوذ علمه في كل شيء فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر بحساب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على مشاق الطاعة وما يصيبكم من الشدائد وعن المعاصي (وَصابِرُوا) أي : غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب فلا يكونوا أشد صبرا منكم (وَرابِطُوا) أي : أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين للغزو قال الله تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال ، ٦٠].

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» (٢).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة» (٣)(وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع أحوالكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : تفوزون بالجنة وتنجون من النار وقال بعض العلماء : اصبروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا له الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء.

روى الطبريّ لكن بإسناد ضعيف : «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٣٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ١١٣ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٣ / ١١٧١.

(٢) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٩١٣ ، والنسائي في الجهاد حديث ٣١٦٧.

(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ٥ / ٣٣٧.

٣١٨

الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس» (١) أي : تغيب وما رواه البيضاويّ تبعا للزمخشري وتبعهما ابن عاد من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أمانا على جسر جهنم» (٢) فهو من الأحاديث الموضوعة على أبي بن كعب في فضائل السور فليتنبه لذلك ويحذر منه ، وقد نبه أئمة الحديث قديما وحديثا على ذلك وعابوا على من أورده من المفسرين في تفاسيرهم والله تعالى أعلم.

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ٢٩٣ ، و ٢٩٩ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ١ / ٥١٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٥٤٣.

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١١ / ١١٠٠٢.

٣١٩

سورة النساء

مدنية ، مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية وثلاثة آلاف

وخمس وأربعون كلمة وستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بِسْمِ اللهِ) الظاهر الملك العلام (الرَّحْمنِ) الذي عم عباده بالإنعام (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل ولايته بدار السّلام وقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب يعم المكلفين من أولاد آدم من الذكور والإناث الموجودين منهم في زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب وغيرهم ، وقيل : يختص بالعرب منهم لقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي

٣٢٠