تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

ابن حبان وصححه ، وقيل : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله لأنّ المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل ، به فكان المقابل له من اختلّ إحدى قوّتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) [النساء ، ٩٣] والمخل بالعمل جاهل ضال لقوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢].

فإن قيل : ما معنى غضب الله لأنّ الغضب ثوران النفس عند إرادة الانتقام أو تغير يحصل عند ثوران دم القلب إرادة الانتقام وهو محال في حقه تعالى؟ أجيب : بأنه إذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية فمعناه إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعل الملك إذا غضب على من تحت يده نعوذ بالله من غضبه ونسأله رضاه ورحمته.

فإن قيل : أيّ فرق بين عليهم الأولى والثانية؟ أجيب : بأنّ محل مجرور الأولى النصب على المفعولية ومحل مجرور الثانية الرفع لأنه نائب مناب الفاعل.

فإن قيل : لم دخلت لا في (وَلَا الضَّالِّينَ؟) أجيب : بأنها بمعنى غير كما قرّرته تبعا للجلال المحلي ، وأنها مزيدة كما قال الزمخشري لتأكيد ما في غير من معنى النفي ، كأنه قال : لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وللتصريح بتعلق النفي بكل من المعطوف والمعطوف عليه.

فائدة : أوّل السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذمّ للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدلّ على أنّ مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله ومطلع الآفات ورأس المخالفات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته.

فإن قيل : ما فائدة (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) إلخ بعد ذكر (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ؟) أجيب : بأنّ الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسّلام : «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لا عتدلا» (١) فقوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يوجب الرجاء الكامل وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) إلخ يوجب الخوف الكامل وحينئذ يتقوّى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حدّ الكمال وقرأ حمزة عليهم : غير المغضوب عليهم بضمّ الهاء وقفا ووصلا ، وكذا جميع ما في القرآن ، وقرأ ابن كثير : عليهم بواو ، بعد الميم في الوصل فإذا وقف أسقط الواو وكذا يفعل في كل ميم جمع بعدها حرف متحرّك ، وأمّا قالون فهو مخير في ميم الجمع إن شاء وصلها بواو كابن كثير وإن شاء لا يصلها بواو ، وأمّا ورش فإنه يصل ميم الجمع بواو وإن كان بعدها همزة قطع فيصير عنده مدّ منفصل ، وفي (وَلَا الضَّالِّينَ) مدّان لازم وعارض فاللازم هو الذي على الألف بعد الضاد قبل اللام المشدّدة ، والعارض هو الذي على الياء قبل النون ، والسنة للقارىء أن يقول بعد فراغه من الفاتحة آمين مفصولا عن الفاتحة بسكتة وهو اسم الفعل الذي هو استجب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معناه فقال : «افعل» بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وجاز مدّ ألفه وقصرها قال مجنون ليلى (٢) :

__________________

(١) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء حديث ٢١٣١.

(٢) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المجنون ص ٢١٩ ، والبيت لعمر بن أبي ربيعة في لسان العرب (أمن) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص ١٧٩ ، وإنباه الرواة ٣ / ٢٨٢ ، وشرح شذور الذهب ص ١٥١.

٢١

يا رب لا تسلبني حبها أبدا

ويرحم الله عبدا قال آمينا

أي : بالمدّ ، وقال جبير لما سأل الأسدي المسمى بفطحل (١) :

تباعد عني فطحل إذ سألته

آمين فزاد الله ما بيننا بعدا

فذكر مقصورا وكان من حقه التأخير لأنّ التأمين إنما يكون بعد الدعاء ولكن قدّمه للضرورة وليس آمين من القرآن اتفاقا بدليل أنه لم يثبت في المصاحف كما مرّت الإشارة إليه ولكن يسنّ ختم السورة به لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علمني جبريل عليه‌السلام آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة» (٢) كما رواه البيهقيّ وغيره ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه كالختم على الكتاب» (٣) كما رواه أبو داود في «سننه» وقال عليّ رضي الله تعالى عنه : آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده ، رواه الطبرانيّ وغيره لكن بسند ضعيف ، يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر : «أنه عليه الصلاة والسّلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته» (٤). وعن الحسن لا يقوله الإمام لأنه الداعي ، وعن أبي حنيفة مثله والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيه ، والمأموم يؤمن مع إمامه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول : آمين وإن الإمام يقول : آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» (٥). زاد الجرجانيّ في «أماليه» وما تأخر. وأحسن ما فسر به هذا الخبر ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة قال : صفوف أهل الأرض تلي صفوف أهل السماء ، فإذا وافق تأمين من في الأرض تأمين من في السماء غفر للعبد ، قال ابن حجر ومثل هذا لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبيّ : «ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ قال : بلى يا رسول الله قال : فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» (٦) رواه الترمذيّ وقال حسن صحيح ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ناداه مناد فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته» (٧) وما رواه البيضاويّ عن حذيفة بن اليمان أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة» (٨) حديث موضوع.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجبير بن الأضبط في تهذيب إصلاح المنطق ٢ / ٤٢ ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص ١٧٩ ، وشرح شذور الذهب ص ١٥٢ ، وشرح المفصل ٤ / ٣٤ ، ولسان العرب (فطحل) ، (أمن) ، (فحطل).

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ٩٣٨ بلفظ : «إن ختم بآمين فقد أوجب».

(٤) أخرجه أبو داود في استفتاح الصلاة باب ٥٧ ، والدارمي ١ / ٢٨٤ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ١٨٢ ، والقرطبي في تفسيره ١ / ١٢٩.

(٥) أخرجه النسائي في الافتتاح حديث ٩٢٧.

(٦) أخرجه الترمذي في التفسير حديث ٣١٢٥.

(٧) أخرجه البغوي في شرح السنة ١ / ٢٥.

(٨) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٥٦ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٣.

٢٢

سورة البقرة

مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آية

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦))

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الشعبي وجماعة : (الم) وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سرّ القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله سبحانه وتعالى ، وفائدة ذكره طلب الإيمان بها والسبب في ذلك أنّ العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش والله تعالى استأثر بعلم لا تقدر عليه عقول الأنبياء ، والأنبياء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العلماء ، والعلماء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العامّة ، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : في كل كتاب سرّ وسرّ الله في القرآن أوائل السور. وقال عليّ رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ، قال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داود إنّ لكل كتاب سرّا وإنّ سرّ القرآن فواتح السور فدعها واسأل عما سوى ذلك ، وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : معنى (الم) أنا الله أعلم ومعنى (الر) [يونس : ١] أنا الله أرى ومعنى (المر) [الرعد ، ١] أنا الله أعلم وأرى ، قال الزجاج : وهذا حسن فإنّ العرب تذكر حرفا من كلمة تريدها كقولهم (١) :

قلت لها قفي فقالت : قاف.

أي : وقفت. وقيل : هي أسماء السور وعليه إطباق أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه ، سميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط قدرتهم

__________________

(١) يروى الرجز بلفظ :

قلت لها قفي لنا قالت قاف

والرجز بلا نسبة في لسان العرب (وقف) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٧٩ ، وتاج العروس (سين).

٢٣

عند معارضتها ، ونقضه الإمام الرازي بأنها لو كانت اسما لها لوجب اشتهارها بها وقد اشتهرت بغيرها كسورة البقرة وآل عمران وقيل : أسماء للقرآن قاله قتادة. والحكمة في الإتيان بهذه الأحرف الثلاثة أنّ الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج ، واللام من طرف اللسان وهو وسطها ، والميم من الشفة وهي آخرها ، جمع الله تعالى بينها إيماء إلى أنّ العبد ينبغي أن يكون أوّل كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى ولما تكاثر وقوع الألف واللام في تراكيب الكلام جاءتا في معظم الفواتح مكرّرتين وهي فواتح سورة البقرة وأوّل آل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة.

فإن قيل : هلا عددت هذه الأحرف بأجمعها في أوائل القرآن وما لها جاءت مفرّقة على السور؟ ، أجيب : بأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الإسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرّة ، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرّر في النفوس وتقريره.

فإن قيل : هلا جاءت على وتيرة واحدة ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف ، وطه وطس ويس وحم على حرفين ، وألم وألر وطسم على ثلاثة أحرف ، وألمص وألمر على أربعة أحرف ، وكهيعص وحمعسق على خمسة أحرف؟ أجيب : بأنّ هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرّفهم فيه على طرق شتى ومذاهب عدّة ، وكما أنّ أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك سلك بهذه الفواتح تلك المسالك.

فإن قيل : ما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ أجيب : بأنه لما كان الغرض هو التنبيه والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطا كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيدا والآخر عمرا لم يقل له : لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل بذلك.

فإن قيل : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ أجيب : بأنّ لها محلا عند من جعلها أسماء لأنها عنده كسائر الأعلام محلها يحتمل ثلاثة أوجه : إمّا الرفع بأنها مبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف أي : هذه ألم ، أو النصب بفعل مقدّر كاذكر أو اقرأ أو اتل ألم ، أو الجرّ بتقدير حذف حرف القسم.

(ذلِكَ الْكِتابُ) الذي تقرؤه يا محمد على الناس (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك في أنه من عند الله تعالى.

فإن قيل : لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ أجيب : بأن الإشارة وقعت فيه للتعظيم ولذلك قال الطيبي : أحسن ما قيل في توجيه ذلك قول صاحب «المفتاح» قال ذلك الكتاب ذهابا إلى بعده درجة وقيل : وقعت الإشارة إلى (الم) بعد ما سبق التكلم به وتقضى ، والمنقضي في حكم المتباعد ، وهذا في كل كلام يحدّث الرجل بحديث ثم يقول : وذلك ما لا شك فيه ويحسب الحاسب ثم يقول : فذلك كذا وكذا وقال تعالى : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة ، ٦٨] وقال نبي الله يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف ، ٣٧] ولأنه لما وصل من المرسل سبحانه وتعالى إلى المرسل إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا : احتفظ بذلك أي : تمسك به ، وقيل : معناه ذلك

٢٤

الكتاب الموعود إنزاله بقوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل ، ٥] أو في الكتب المتقدّمة لأن سورة البقرة مدنية كما مرّ وأكثرها احتجاج على اليهود وعلى بني إسرائيل وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسّلام إن الله يرسل محمدا وينزل عليه كتابا فقال تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) أي : الذي أخبر الأنبياء المتقدّمون بأن الله سينزله على النبيّ المبعوث من ولد إسماعيل وقيل : إنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله : وإنه في أمّ الكتاب لدينا وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أمته بذلك فغير ممتنع أن يقول تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. والكتاب مصدر سمي به المفعول للمبالغة أو فعال بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب ، وأصل الكتب الضمّ والجمع ، سمي الكتاب كتابا لأنه جمع حرف إلى حرف والكتاب جاء في القرآن على وجوه ، أحدها : الفرض قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة ، ١٧٨] (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة ، ١٨٣] (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء ، ١٠٣] وثانيها : الحجة والبرهان قال تعالى : (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الصافات ، ١٥٧] أي : برهانكم ، وثالثها : الأجل قال تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر ، ٤] أي : أجل ، ورابعها : بمعنى مكاتبة السيد رقيقه ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ) [النور ، ٣٣].

فإن قيل : كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق وكم من مرتاب فيه؟ أجيب : بأنّ الله تعالى ما نفى أن أحدا لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة ، ٢٣] فإنه لم ينف عنهم الريب بل أرشدهم إلى الطريق المزيح للريب وهو أن يجتهدوا في معارضة سورة من سوره ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة وقيل : هو خبر بمعنى النهي أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة ، ١٩٧] أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيه الريبة وهي قلق النفس واضطرابها سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة ، وفي الحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الشك ريبة والصدق طمأنينة» (١) ، رواه الترمذي لكن بلفظ فإنّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة وصححه ، ومعناه : اترك ما فيه شك إلى ما لا شك فيه فإذا ارتابت نفسك في شيء فاتركه أو اطمأنت إليه فافعله فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية الطاهرة.

تنبيه : جملة النفي خبر مبتدؤه ذلك و (هُدىً) خبر ثان أي هاد (لِلْمُتَّقِينَ) الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار. وتخصيص المتقين بالذكر تشريفا لهم ولأنهم هم المنتفعون بالهدى كما قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات ، ٤٥] وقال تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس ، ١١] وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذرا لكل الناس لأنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره.

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ٢٥١٨.

٢٥

ولها ثلاث مراتب :

الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح ، ٢٦].

والثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم ، وهذا التجنب هو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) [المائدة ، ٦٥] [الأعراف ، ٩٦] وعلى هذا قول عمر بن عبد العزيز : التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.

والثالثة : أن يتنزه عما يشغل سرّه عن الحق تعالى وهذه هي التقوى الحقيقية المطلوبة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران ، ١٠٢] وقال ابن عمر : التقوى أن لا ترى نفسك خيرا من أحد. قرأ ابن كثير : فيه هدى ، فيصل الهاء من فيه بياء في الوصل لأنها مكسورة وقبلها ساكن فإن كانت هاء الكناية مضمومة وقبلها ساكن وصلها بواو فإن كان قبلها متحرّك وبعدها متحرّك فجميع القرّاء يصلونها مكسورة بياء ويصلونها مضمومة بواو ، فمثال المكسورة به أن يوصل ، ومثال المضمومة قال له صاحبه وهو وما أشبه ذلك ، فإن كان قبلها متحرّك وبعدها ساكن فالجميع على عدم الصلة مثال ذلك به الله وله الملك وما أشبه ذلك ، ويدغم أبو عمرو الهاء في الهاء بخلاف عنه ، وكذا كل مثلين ما لم يكن الحرف المدغم تاء متكلم مثل : كنت ترابا أو تاء مخاطب مثل أفأنت تكره الناس أو منوّنا مثل : سميع عليم أو مشدّدا مثل : فتمّ ميقات ربه.

ثم وصف المتقين بما هو شأنهم بقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي : يصدّقون بما غاب عنهم من البعث والجزاء والجنة والنار والصراط والميزان ، والإيمان لغة التصديق وشرعا قيل : التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالتوحيد والنبوّة والبعث والجزاء ومجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدّثين والمعتزلة والخوارج والأصح أنه التصديق وحده ، ويدل له أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة ، ٢٢] وقال : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل ، ١٠٦] وقال : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة ، ٤١] وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات ، ٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة ، ١٧٨] فلو لم يكن الإيمان التصديق فقط بل هو وترك المعاصي لم يكونوا مؤمنين.

فإن قيل : قال الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وغيره : إنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ، أجيب : بأن ذلك محمول على الإيمان الكامل. وقرأ ورش والسوسي بإبدال الهمزة الساكنة في يؤمنون واوا وكذا يقرأ حمزة في الوقف (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهيآتها يقال : قام بالأمر وأقامه إذا أتى به يعطي حقوقه لأنّ الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة كالخشوع والإقبال على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون ، ولذلك ذكر في سياق المدح (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء ، ١٦٢] وفي معرض الذمّ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) [الماعون ، ٤] والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ الوحدان كقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [البقرة ، ٢١٣] يعني : الكتب ، والصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)

٢٦

[التوبة ، ١٠٣] أي : ادع لهم ، وفي الشرع اسم لأفعال وأقوال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. وقرأ ورش بتغليظ اللام في الصلاة حيث جاء (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : أعطيناهم (يُنْفِقُونَ) يخرجون المال في طاعة الله فرضا كان أو نفلا ، ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانها بالصلاة لأنهما يذكران معا في القرآن ويحتمل أن يراد به الإنفاق مما منحهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده ما رواه الطبرانيّ في «الأوسط» مرفوعا : «مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه» (١) وإلى هذا ذهب من قال : ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون. والرزق بالكسر في اللغة : الحظ ، قال الله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) ـ أي : حظكم ونصيبكم ـ من القرآن (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة ، ٨٢] وأمّا بالفتح فهو مصدر بمعنى إعطاء الحظ كما أنه بالكسر يكون مصدرا أيضا كما قيل به في قوله تعالى : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) [النحل ، ٧٥] وفي العرف اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والرقيق ، والمعتزلة لما استحالوا من الله أن يمكن من الحرام لأنه تعالى منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا : الرزق لا يتناول الحرام ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال الصرف الطيب وأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) [يونس ، ٥٩] وأجاب أهل السنة عما ذكر بأن الإسناد التعظيم والتحريض على الإنفاق والذم بتحريم ما لم يحرم واختصاص ما رزقهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق له بما رواه ابن ماجة وغيره من حديث صفوان بن أمية قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءه عمرو بن قرّة فقال : يا رسول الله إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال : «لا آذن لك ولا كرامة ، كذبت أي عدوّ الله لقد رزقك الله حلالا طيبا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله» (٢) وبأنه لو لم يكن رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا وليس كذلك لقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود ، ٦].

تنبيه : تقديم رزقناهم على ينفقون للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه في حق من لم يصبر على الإضافة وإلا فليس بإسراف فقد تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله ولم ينكر عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي : القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، وإنما عبر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد فيكون مجازا باعتبار تسمية الكل باسم البعض أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع فيكون استعارة باعتبار تشبيه غير المتحقق بالمتحقق ، وفي كل من هذين الوجهين جمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز عند الإمام الشافعي رضي الله عنه (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي : التوراة والإنجيل وغيرهما من سائر الكتب السابقة على القرآن والإيمان بالإنزالين جملة فرض عين وبالأوّل دون الثاني تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ولكن على الكفاية لأنّ وجوبه على كل أحد يوجب الحرج ويشوش المعاش ، وهذه الآية في المؤمنين من

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط ١ / ٢١٣.

(٢) أخرجه ابن ماجه في الحدود حديث ٢٦١٣.

٢٧

أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله.

فائدة : الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب أنزل على السيد شيث ستون صحيفة وعلى السيد إبراهيم ثلاثون وعلى السيد موسى قبل التوراة عشر فهذه مائة والأربعة الأخرى التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم ، واختلف القرّاء في مدّ وقصر ما أنزل فقالون والدوري عن أبي عمرو يمدّان ويقصران ، وابن كثير والسوسي يقصران بلا خلاف وباقي القرّاء وهم ورش وعاصم وحمزة والكسائي يمدّون بلا خلاف ويتفاوتون في طول المدّ فأطولهم مدّا ورش وحمزة ودونهما عاصم ودونه ابن عامر والكسائي وهكذا كل مدّ منفصل (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي : يعلمون أنها كائنة لأنّ اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه قاله الإمام الرازي ، ولذلك لا يوصف به العلم القديم ولا العلوم الضرورية فلا يقال تيقن الله كذا ولا تيقنت أنّ الكل أكبر من الجزء.

فائدة : سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا وهي تأنيث الآخر صفة الدار وبدليل قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [القصص ، ٨٣] قرأ ورش الآخرة بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث جاء وكذا الأرض ، وقد أفلح ، ومن آمن ، وما أشبه ذلك.

(أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (عَلى هُدىً) أي : رشد (مِنْ رَبِّهِمْ) ونكر هدى للتعظيم فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره وأكد تعظيمه بأنّ الله مانحه والموفق له.

تنبيه : جميع القرّاء يمدّون أولئك بلا خلاف لأنه متصل لكن مرتبة ابن كثير وأبي عمرو دون مرتبة ابن عامر والكسائي في المتصل والمنفصل ، وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة والكاف للخطاب كما في حرف ذلك (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الفائزون بالجنة والناجون من النار كرّر فيه اسم الإشارة تنبيها على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحد من الاختصاصين وأن كلا منهما كاف في تمييزهم بها عن غيرهم فلا يحتاجون فيه إلى مجموعهما.

فإن قيل : لم وسط العاطف بين هاتين الجملتين دون قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف ، ١٧٩]؟ أجيب : بأن الجملتين هنا مختلفتان باختلاف المسندين فيهما إذ على هدى من ربهم والمفلحون وإن تناسبتا تعلقا مختلفتان مفهوما ووجودا ومقصودا لأن الهدى في الدنيا والفلاح في العقبى وإثبات كل منهما مقصود في نفسه بخلاف كالأنعام والغافلون فإنهما وإن اختلفا مفهوما قد اتحدا مقصودا ووجودا إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة في الغفلة في الدنيا فناسب العطف في الأوّل دون الثاني.

تنبيه : تأمّل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتى بناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسط الفصل لإظهار قدرهم والترغيب في اقتضاء أثرهم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحا لأنه يشق الأرض فهم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة.

ولما ذكر الله تعالى خاصة عباده وخاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح عقبهم بذكر أضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الكفر لغة : ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح وهو

٢٨

الستر ومنه قيل : للزراع والليل كافر ولكمام الثمر كافور ، وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به ، وينقسم إلى أربعة أقسام : كفر إنكار ، وكفر جحود ، وكفر عناد ، وكفر نفاق ، فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به ، وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يقرّ بلسانه ككفر إبليس واليهود قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة ، ٨٩] وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول (١) :

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذار مسبة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

وأمّا كفر النفاق فهو أن يقرّ باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الأقسام من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء ، ٤٨ ـ ١١٦].

تنبيه : احتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي نحو : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة ، ٦] (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) [الحجر ، ٩] (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) [نوح ، ١] على حدوث القرآن لاستدعاء ما جاء فيه بلفظ الماضي سابقية المخبر عنه والقديم يستحيل أن يكون مسبوقا بغيره فأجاب أهل السنة : بأن ما جاء فيه بلفظ الماضي مقتضى تعلق الحكم بالخبر عنه وحدوث مقتضى التعلق لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله كما في عمله تعالى فإنه قديم ومقتضى تعلقه بغيره حادث والحاصل أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق وهو الكلام اللفظيّ حدوث الكلام النفسيّ. (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) أي : متساو لديهم (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي : خوّفتهم وحذرتهم أم لا والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير فكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشدّ تأثيرا في النفس من حيث إن دفع الضرر أهمّ من جلب النفع فإذا لم ينفع فيهم الإنذار كانت البشارة بعدم النفع أولى (لا يُؤْمِنُونَ) بما جئت به وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله تعالى كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما فلا تطمع في إيمانهم ، واحتجّ بهذه الآية من جوّز تكليف ما لا يطاق فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان فلو آمنوا وقع الخلف في كلامه تعالى وهو محال والحق أن التكليف بالممتنع لذاته جائز عقلا غير واقع بخلاف التكليف بالممتنع لغيره كالذي تعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه فإنه جائز وواقع اتفاقا.

تنبيه : هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمة فقالون وأبو عمرو يسهلان الثانية ويدخلان بينهما ألفا وكذا ورش وابن كثير إلا أنهما لم يدخلا ألفا بينهما ولورش وجه آخر وهو أن يبدل الثانية حرف مدّ ، وهشام له وجهان : تسهيل الهمزة الثانية وتحقيقها مع إدخال ألف بينهما والباقون بالتحقيق والقصر وجميع القرّاء يحققون الأولى.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ

__________________

(١) البيتان من الكامل ، وهما في ديوان أبي طالب ص ٦٨ ، ولسان العرب (كفر) ، وتاج العروس (كفر).

٢٩

لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

ثم ذكر سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : طبع واستوثق فلا يدخلها إيمان ولا خير ، والختم : الكتم ، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له (وَعَلى سَمْعِهِمْ) أي : مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق ، وقوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) أي : أعينهم (غِشاوَةٌ) مبتدأ وخبر أي : على أعينهم غطاء من عند الله تعالى فلا يبصرون الحق وعبر الله تعالى عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) [النحل ، ١٠٨] وبالإغفال في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) [الكهف ، ٢٨] وبالإقساء في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) [المائدة ، ١٣] وهذه الهيئة من حيث إنّ الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه تعالى ومن حيث إنها مسببة عما اقترفوه بدليل قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء ، ١٥٥] وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [المنافقون ، ٣] وردت الآية مظهرة عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم.

فإن قيل : لم وحد السمع دون القلوب والأبصار؟ أجيب : بأنه على حذف مضاف مثل وعلى حواس سمعهم كمواضعه كما مرّ تقديره أو باعتبار الأصل فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تثنى ولا تجمع والأبصار جمع بصر وهو إدراك العين وقد يطلق مجازا على القوّة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع ، قال البيضاويّ : ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشدّ مناسبة للختم والتغطية وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق القلب ويراد به العقل والمعرفة ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق ، ٣٧] أي : عقل ، وأمال أبو عمرو ألف أبصارهم وكذا كل ألف بعدها راء مكسورة متطرّفة وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي : قوي دائم في الآخرة وهذا وعيد وبيان لما يستحقونه ، والعذاب كلّ ما يعيي الإنسان ويشق عليه ، وقال الخليل : العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش وإنما وصف العذاب بالعظيم دون الكبير لأن العظيم فوقه ، لأنّ العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير ، وإذا كان الحقير مقابلا للعظيم والصغير ، للكبير كان العظيم فوق الكبير لأنّ العظيم لا يكون حقيرا والكبير قد يكون حقيرا كما أنّ الصغير قد يكون عظيما ، وتنكير الغشاوة والعذاب للتنويع لأنهما لما قرنا بالختم على القلوب كان المعنى نوعا عظيما منه أي : على أبصارهم غشاوة ليس وما يتعارفه الناس وهو التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلا الله.

ونزل في المنافقين حكاية لحالهم قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) أمال أبو عمرو الألف قبل السين المكسورة إمالة محضة ، وهكذا كل ألف مثلها والباقون بالفتح (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أجمع المفسرون على أنّ ذلك وصف المنافقين ، قالوا : صنف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا وثلث بالصنف الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم ، وهذا الصنف أخبث الكفرة

٣٠

وأبغضهم إلى الله تعالى لأنهم مع مشاركتهم للكفار الأصليين في أنهم جاهلون بالقلب كاذبون باللسان من حيث إنهم ينسبون إلى الله تعالى ما هو بريء منه كالولد ، والزوجة ، والشريك زادوا عليهم بأمور منكرة منها أنهم قصدوا التلبيس ورضوا لأنفسهم بسمة الكذب ولبسوا الكفر على المسلمين فخلطوا به خداعا واستهزاء ولذلك طوّل الله في بيان خبثهم وجهلهم واستهزائهم وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم أنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار. واللام في الناس للجنس ومن موصوفة لا للعهد وكأنه قال تعالى : ومن الناس ناس يقولون ، وقيل : للعهد والمعهود ، هم الذين كفروا ، ومن موصولة مراد بها ابن أبيّ وأصحابه ونظراؤه فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس.

فإن قيل : خصت من بالموصوفة على تقدير الجنس ، وبالموصولة على تقدير العهد ، أجيب : بأنّ الجنس لإبهامه يناسب الموصوفة لتنكيرها ، والعهد لتعيينه يناسب الموصولة لتعريفها واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادّعاء بأنهم اختاروا الإيمان من المبدأ والمعاد وإئذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق وهو عدم التصديق بالقلب لأنّ القوم كانوا يهودا وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا كلا إيمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وأنّ الجنة لا يدخلها غيرهم ، وأنّ النار لن تمسهم إلا أياما معدودة وغير ذلك ، ويرون المسلمين أنهم آمنوا مثل إيمانهم ، وفي تكرير الباء ادّعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام ، والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة بطرفين (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) لإبطانهم الكفر ، وهذا إنكار لما ادّعوا إثباته ، ووحد الضمير في يقول نظرا إلى لفظة من لأنها صالحة للتثنية والجمع والواحد وجمع فيما بعدها نظرا إلى معناها.

فإن قيل : كيف طابق قوله وما هم بمؤمنين قولهم : آمنا بالله فإنّ الأوّل في ذكر شأن الفعل لا الفاعل والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل فكان المطابق له وما آمنوا؟ أجيب : بأنه إنما عدل إلى ذلك لردّ كلامهم بأبلغ وجه وآكده لأنّ إخراج ذواتهم عن عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان ولذلك أكد النفي بالباء ونظيره قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة ، ٣٧] هو أبلغ من قولك : وما يخرجون منها ، وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء ، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به وهو قوله تعالى : (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنّ وما هم بمؤمنين جوابه ، والآية تدل على أنّ من ادّعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا لأنّ من تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) إذ أظهروا خلاف ما أبطنوه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية ويحقنوا دماءهم ويحفظوا أموالهم ، وأصل الخدع في اللغة الإخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع ، فالمخادع أظهر خلاف ما يضمر والمخادعة تكون بين اثنين وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية ولأنهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إمّا مخادعة رسوله أو أوليائه على حذف المضاف لأنهم لم يعتقدوا أنّ الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله تعالى فعلم أنّ خداعهم مع الله ليس المراد ظاهره كما في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف ، ٨٢] أي : أهلها أو على أنّ معاملة الرسول معاملة الله تعالى من

٣١

حيث إنه خليفته كما قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء ، ٨٠] (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح ، ١٠] وأمّا أنّ صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر وصنيع الله معهم من إجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجا لهم وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم وإجراء حكم الإسلام مجاراة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين ، ويحتمل أن يراد بيخادعون يخدعون لأنه بيان ليقول أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه إلا أنه أخرج في زنة فاعل للمبالغة فإن الزنة لما كانت للمغالبة والفعل متى غولب فيه كان أبلغ منه إذا جاء بلا مغالبة معارض استصحبت الزنة ما ذكر من المبالغة وقال الجلال المحلي : والمخادعة هنا من واحد كعاقبت اللص وذكر الله فيها تحسين. (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأنّ وبال خداعهم راجع عليهم فيفتضحون في الدنيا باطلاع نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة والنفس ذات الشيء وحقيقته. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضمّ الياء وفتح الخاء وألف بعدها وكسر الدال ، وقرأ الباقون وهم عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وما يخدعون بفتح الياء وسكون الخاء ولا ألف بعدها وفتح الدال ولا خلاف بين القرّاء في الكلمة الأولى وهي يخادعون الله فالجميع قرؤوا بضمّ الياء وفتح الخاء وألف بعدها وكسر الدال وأمّا الرسم في الموضعين فبغير ألف (وَما يَشْعُرُونَ) أي : لا يحسون بمعنى لا يعلمون أنّ خداعهم لأنفسهم لتمادي غفلتهم جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على موؤف الحواس وهو المصاب بآفة.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شك ونفاق لأن ذلك يمرض قلوبهم أي : يضعفها ، والمرض حقيقة هو فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمال أفعالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والبغض وحب المعاصي لأنها مانعة من نيل الفضائل أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية ، والآية تحتمل الحقيقة والمجاز وعلى المجاز اقتصر أكثر المفسرين لأنه أبلغ من الحقيقة (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بما أنزل من القرآن لأنه كلما أنزل آية كفروا بها فازدادوا شكا ونفاقا وإسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث إنه خلقها وأوجدها وإلى السورة في قوله تعالى : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً) [التوبة ، ١٢٥] لكونها سببا ، وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف التي بعد الزاي محضة ، والباقون بالفتح (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم بفتح اللام وصف به العذاب للمبالغة إذ الألم إنما هو للمعذب حقيقة لا للعذاب فنسبة الألم إلى العذاب مجاز ويجوز كسر لام مؤلم كسميع بمعنى مسمع وعليه فنسبة الأليم إلى العذاب حقيقة (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمّ الياء وفتح الكاف وتشديد الذال أي : بتكذيبهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون الكاف وتخفيف الذال أي : بكذبهم في قولهم : آمنا لأنّ الإيمان التصديق بالقلب والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به ، قال البيضاويّ تبعا للزمخشري : وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب على الكذب وما روي أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسّلام كذب ثلاث كذبات أي : لما روى البخاريّ ومسلم في حديث الشفاعة «فيقول إبراهيم : إني كذبت ثلاث كذبات» (١) وذكر

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٥٨ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٧١ ، والترمذي في التفسير حديث ٣١٤٨.

٣٢

قوله في الكوكب : هذا ربي ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله : إني سقيم ، فالمراد التعريض أي : وهو اللفظ المشار به إلى جانب والغرض جانب آخر ، وقيل : هو خلاف التصريح وهو تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر وسمي تعريضا لما فيه من التعريض عن المطلوب ، ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به ، انتهى. وهذا ليس على إطلاقه فإن من الكذب ما هو مباح وما هو مندوب وما هو واجب وما هو حرام لأن الكلام وسيلة إلى المقصود فكل مقصود محمود إن أمكن التوصل إليه بالصدق ، فالكذب فيه حرام ، وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحا ، ومندوب إن كان المقصود مندوبا ، وواجب إن كان المقصود واجبا ، وفي حديث الطبرانيّ في «الكبير» «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثا ، الرجل يكذب في الحرب فإن الحرب خدعة ، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها ، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما» (١) ، وفي حديث في «الأوسط» «الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دينه» (٢).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي : لهؤلاء فهو عطف تفسير على يكذبون فمحله نصب لكونه معطوفا على خبر كان ، فيكون جزءا من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم ، أو على يقول ، فلا محلّ له من الإعراب لكونه معطوفا على صلة من فلا يكون جزءا من السبب ، والقائل هو الله تعالى أو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعض المؤمنين ، (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر والتعويق عن الإيمان ، والفساد خروج الشيء عن الاعتدال ، والصلاح ضدّه ، والفساد يعمّ كل ضارّ ، والصلاح يعمّ كل نافع ، وكان من إفسادهم في الأرض إثارة الحروب والفتن بمخادعة المسلمين ، ومعاونة الكفار المتمحض كفرهم على المسلمين فإن ما ذكر يؤدّي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث ، ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإنّ الإخلال بالشرائع والإعراض عنها وما يوجب القتل والاختلاط ويخل بنظام العالم لا أن ذلك إفساد لأن الإفساد جعل الشيء فاسدا وصنيعهم لم يكن كذلك ، فقوله تعالى : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) مجاز باعتبار المآل أي : لا تفعلوا ما يؤدّي إلى الفساد وليس معنى الإفساد هنا الإتيان بالفساد ليصح حمل الكلام على الحقيقة ، نبه على ذلك السعد التفتازاني (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) جواب لإذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك فإن شأننا ليس إلا الإصلاح وإن حالتنا متمحضة عن شوائب الفساد لأن (إِنَّما) تفيد قصر ما دخله على ما بعده مثل إنما زيد منطلق وإنما ينطلق زيد ، وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر ، ٨].

قال الله تعالى يردّ عليهم أبلغ ردّ : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) أي : بما ذكر (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) أي : لا يفطنون بمعنى لا يعلمون أنهم هم المفسدون بذلك أي : لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح ، وقيل : لا يعلمون ما أعدّ الله لهم من العذاب ووجه الأبلغية في ذلك تصديره بألا المنبهة على تحقيق ما بعدها فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤٥٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٨١ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٥٢٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٢٩٠.

(٢) أخرجه الهيثمي في الزوائد ٥ / ١٢٥ ، ٨ / ١٤٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٧٣ ، والطبراني في الأوسط ٦ / ٦٨.

٣٣

النفي أفادت تحقيقا وبأنّ المقرّرة للنسبة وتعريف الخبر وتوسط ضمير الفصل والاستدراك بلا يشعرون.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) هذا من تمام النصح والإرشاد فإنّ كمال الإيمان بمجموع أمرين : الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله : لا تفسدوا والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله : (آمِنُوا. كَما آمَنَ النَّاسُ) أي : كإيمان الناس الكاملين في الإنسانية الموافق باطنهم فيه لظاهرهم العاملين بقضية العقل ، فاللام في الناس للجنس فإنّ اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه ، أو للعهد ، والمراد به الرسول ومن معه ، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. وقرأ هشام والكسائي : قيل ، بإشمام القاف وهو أن تضم القاف قبل الباء ، ولورش في الهمزة من آمنوا وآمن المدّ والتوسط والقصر (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) أي : الجهال ، فاللام في السفهاء للعهد وهم من تقدّم ، أو لجنس السفهاء بأسرهم وإنما سفهوهم لاعتقاد فساد رأيهم ، أو لتحقير شأنهم فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه.

قال الله تعالى ردا عليهم أبلغ رد : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أنهم سفهاء بما فعلوه من إبطان غير ما أظهروه ، ووجه الأبلغية في تجهيلهم أنّ الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر.

فإن قيل : كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم : أنؤمن كما آمن السفهاء؟ أجيب : بأنّ هذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بذلك والسفه خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل والعلم يقابله.

فإن قيل : لم عبر في هذه الآية بلا يعلمون وفي التي قبلها بلا يشعرون؟ أجيب : بأنّ التعبير بلا يعلمون أكثر مطابقة لذكر السفه لأن السفه جهل فطابقه العلم ولأنّ أمر الإيمان أخروي يحتاج إلى دقة نظر ، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يعلمون ، وأمر البغي والفساد دنيوي فهو كالمحسوس لا يحتاج إلى دقة نظر ، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يشعرون ، ويشعر مضارع شعر ، يقال : شعرت كذا ، أي : حسست به أو أدركته ، أي : فطنت له ، وقد استعمل بالمعنى الأوّل في قوله : (وَما يَشْعُرُونَ) وفي الثاني بقوله : (لا يَشْعُرُونَ) كما يعلم مما به قررته في الآيتين ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي : السفهاء ألا ، بتحقيق الهمزتين ، وكذا كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا ، والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وبإبدال الثانية واوا خالصة.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

٣٤

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) اللقاء المصادفة وهي الاجتماع من غير مواعدة يقال : لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته ، وأصل لقوا لقيوا حذف الضمة للاستثقال ثم الياء لالتقائها ساكنة مع الواو (قالُوا آمَنَّا) أي : كإيمانكم (وَإِذا خَلَوْا) منهم ورجعوا (إِلى شَياطِينِهِمْ) أي : الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم المظهرون كفرهم وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر ، أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي : في الدين والاعتقاد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية ومماثلي الشياطين بالجملة الاسمية المؤكدة بأنّ لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان ، وقصدوا بالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه ، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق ورغبة فيما خاطبوا به المؤمنين ولا توقع رواج ادّعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : نسخر بهم بإظهارنا الإسلام لأنّ المستهزىء بالشيء المستخف به مصرّ على خلافه فهذا تأكيد لما قبله أو بدل منه لأنّ من حقر الإسلام فقد عظم الكفر ، أو استئناف فكأنّ الشياطين قالوا لهم لما قالوا : إنا معكم ، إن صح ذلك : فما بالكم توافقون المؤمنين وتدّعون الإيمان فأجابوا بذلك.

تنبيه : بين سبحانه وتعالى بهذه الآية معاملة المنافقين مع المؤمنين والكفار ، روى الواحديّ وغيره ولكن بسند ضعيف «أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة فقال لقومه : انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال : مرحبا بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال : مرحبا بسيد بني عديّ الفاروق القويّ في دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أخذ بيد عليّ رضي الله تعالى عنه فقال : مرحبا بابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وختنه» (١) أي : ـ زوج بنته عند العامّة وعند العرب كل من كان من قبل المرأة ـ وكل منهما صحيح هنا ، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. وما صدّر به قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) فمسوق لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي : يجازيهم على استهزائهم ، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة بسيئة ، إما لمقابلة اللفظ باللفظ أو لكونه مماثلا له في القدر ومثل هذا يسمى مشاكلة أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم أو يعاملهم معاملة المستهزىء ، أما في الدنيا فبإجراء أحكام الإسلام عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة مع التمادي في الطغيان ، وأمّا في الآخرة فبأن يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب وذلك قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين ، ٣٤] وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أنه تعالى تولى مجازاتهم ولم يحوج المؤمنين أن يعارضوهم وأنّ استهزاءهم لا يبالي به لحقارتهم (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) أي : في ضلالاتهم (يَعْمَهُونَ) يتردّدون متحيرين ، والطغيان بالضم والكسر تجاوز الحدّ في العصيان والغلوّ في الكفر ، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه ، قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ) [الحاقة ، ١١] قال البيضاوي : والعمه في البصيرة كالعمى في البصر وهو التحير في الأمر يقال : رجل عامه وعمه وأرض عمهاء لا منار لها اه. وظاهر كلامه اختصاص

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ، في تفسير الآية ١٣ من سورة البقرة.

٣٥

العمه بالبصيرة والعمى بالبصر وهو ما ذكره ابن عطية فبينهما تباين ، وقال الإمام وغيره : العمه في البصيرة والعمى عام فيها وفي البصر ، فبينهما عموم مطلق وأمال الدوري عن الكسائي ألف طغيانهم إمالة محضة وفتحها الباقون.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي : اختاروها عليه واستبدلوها به. وأصل الشراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمنا وبذله اشتراء وإلا فالثمن ما دخلت عليه الباء فباذله مشتر وآخذه بائع ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعا في غيره ، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها واختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى ، وأمال ألف الهدى حمزة والكسائي محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) أي : ما ربحوا فيها. والتجارة : التصرف بالبيع والشراء ، والربح الفضل على رأس المال ، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على سبيل الاتساع لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب للربح والخسران واتفق القرّاء على إدغام التاء في التاء وكذا كل مثلين الأوّل منهما ساكن (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق التجارة فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوصلون به إلى إدراك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين عن الربح فاقدين للأصل.

(مَثَلُهُمْ) أي : شبههم وصفتهم في نفاقهم (كَمَثَلِ الَّذِي) بمعنى الذين بدليل سياق الآية ونظيره (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر ، ٣٣] ، وقوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة ، ٦٩] أو قصد به جنس المستوقد أو الفوج الذي (اسْتَوْقَدَ) أي : أوقد (ناراً) في ظلمة لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل وهو بيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في معرض المشاهد المحسوس زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم ، قال البيضاوي : والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها. اه. والأكثر على أنّ استوقد هنا بمعنى أوقد كما قدرته لا بمعنى طلب الوقود (فَلَمَّا أَضاءَتْ) أي : أنارت النار ، وأضاء لازم ومتعدّ ، يقال : أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره (ما حَوْلَهُ) أي : المستوقد فأبصر واستدفأ وأمن ما يخافه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أي : أطفأه وهذا جواب لما وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى ، إما لأن الكل بفعله أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه وأمسكه وما أخذه الله تعالى وأمسكه فلا مرسل له ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف قرّر ذلك وأكده بقوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فذكر الظلمة التي هي عدم النور وانطماسه بالكلية ، وكيف جمع الظلمة ، وكيف نكرها ، وكيف أتبعها بما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله : (لا يُبْصِرُونَ) وظلماتهم : ظلمة الكفر ؛ وظلمة النفاق ؛ وظلمة يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم ، أو ظلمة الضلال ؛ وظلمة سخط الله ؛ وظلمة

٣٦

العقاب السرمدي ، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمات متراكمة ، والآية وهي قوله : (مَثَلُهُمْ) إلخ مثل ضربه الله لإيمان المنافقين من حيث إنه يعود عليهم بحقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد ومشاركة المسلمين في المغانم والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها ، هذا هو الوارد ، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس ، وقيل : مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى وأضاعه ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيرا متحسرا تقريرا وتوبيخا لما تضمنه قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) إلخ .. ويدخل تحت عموم ما تضمنته الآية هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة أو ارتدّ عن دينه بعدما آمن. وقرأ ورش بترقيق راء يبصرون.

هم (صُمٌ) عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول ، وأصل الصمم صلابة من اجتماع الأجزاء ومنه قيل : حجر أصم وقناة صماء وصمام القارورة سمي به فقدان حاسة السمع لأنّ سببه أن يكون باطن الصماخ مجتمعا لا تجويف فيه يشتمل على هواء يسمع الصوت بتموّجه (بُكْمٌ) خرس عن الخير فلا يقولونه ، والخرس في الأصل عدم القدرة على النطق (عُمْيٌ) عن طريق الهدى فلا يرونه ، والعمى في الأصل عدم البصر عما من شأن أن يبصر ، وقد يقال لعدم البصيرة (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي : لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه أو عن الضلالة التي اشتروها.

(أَوْ) مثلهم (كَصَيِّبٍ) فهو معطوف على الذي استوقد أي : كمثل أصحاب صيب لقوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) و (أَوْ) في الأصل للتساوي للشك ، ثم اتسع فيها فأطلق للتساوي من غير شك مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، وقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان ، ٢٤] فإنه يفيد التساوي في حسن المجالسة في المثال الأول ووجوب العصيان في الثاني ومن ذلك قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ومعناه بقرينة السياق أنّ قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيتهما شئت وإن كان الثاني أبلغ كما قاله الزمخشري ، قال : لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته ، والصيب أصله صيوب من صاب يصوب وهو النزول ، يقال للمطر وللسحاب ، والآية تحتملهما ، أي : ينزل (مِنَ السَّماءِ) ذلك فإن قدّرت الصيب بالمطر فالمراد بالسماء السحاب وإنّ قدرته بالسحاب فالمراد السماء بعينها والسماء كل ما علاك وأظلك وهي من أسماء الأجناس فيكون واحدا وجمعا (فِيهِ) أي : الصيب ، وقيل : السماء (ظُلُماتٌ) جمع ظلمة فإن أريد بالصيب المطر فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وإن أريد به السحاب فظلماته سواده وتكاثفه مع ظلمة الليل (وَرَعْدٌ) وهو صوت يسمع من السحاب قال البيضاوي : والمشهور أنّ سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقها الريح من الارتعاد (وَبَرْقٌ) وهو ما يلمع من السحاب من برق الشيء بريقا ، هذا ما جرى عليه الجوهري وغيره ، وهو المناسب هنا وإن أطلق الرعد على الملك أيضا فهو مشترك بين الصوت المذكور والملك الثابت في الأحاديث ، ففي بعضها : أنه ملك موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب بسوقه إلى حيث شاء الله وصوته ما يسمع ، وفي بعضها : أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه ، وفي بعضها : أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه ، وفي بعضها : أنه ملك مسمى به وهو الذي تسمعون صوته (يَجْعَلُونَ) أي : أصحاب الصيب

٣٧

(أَصابِعَهُمْ) أي : أناملها وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة لما في ذلك من الإشعار بدخول أصابعهم فوق المعتاد فرارا من شدّة الصوت (فِي آذانِهِمْ) وقوله : (مِنَ الصَّواعِقِ) متعلق بيجعلون أي : من أجلها يجعلون وهو جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه ويقال لكل عذاب مهلك : صاعقة وقيل : الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء. روي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال : «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» (١). وأمال الدوريّ عن الكسائي الألف التي بعد الذال في آذانهم إمالة محضة ، والباقون بالفتح. وقوله تعالى : (حَذَرَ الْمَوْتِ) نصب على العلة كقول الشاعر (٢) :

واغفر (أي : أستر) عوراء الكريم ادخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

قال البيضاوي : والموت زوال الحياة ، زاد في «الطوالع» : عما من شأنه الحياة وفيه تساهل إذ يلزم منه أن يكون الجنين قبل حلول الحياة فيه ميتا ، والأظهر كما في «شرح المواقف» أن يقال : عدم الحياة عما اتصف بها بالفعل فبينهما تقابل العدم والملكة على التفسيرين ، وقيل : عرض يضادّها فبينهما تقابل التضاد لقوله تعالى : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك ، ٢] فجعل الموت مخلوقا والعدم لا يخلق وردّ بأنّ الخلق بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإعدام مقدّرة ولو سلم بأنه بمعنى الإيجاد فالمعنى خلق أسباب الموت والحياة وبذلك علم أنّ القول الأوّل هو المعتمد وكلام أئمة اللغة طافح به وحاصله أنّ الموت مفارقة الروح الجسد وما ورد في الأحاديث من أنه جسم ، حيث قيل في بعضها : إنه كبش ، وفي بعضها : إنه على صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات فمؤوّل بأنه لم يقصد بالموت فيها حقيقته بل قصد أنه يصوّر بصورة كبش كما في خبر الشيخين وغيرهما «أنه يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار» (٣) إلخ ... (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) علما وقدرة فلا يفوتونه كما لا يفوت المحاط ، به المحيط لا يخلصهم الخداع والحيل ، وقيل : مهلكم دليله قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) [يوسف ، ٦٦] أي : تهلكوا ، والجملة اعتراضية لا محل لها ، قال أبو حيان : لأنها دخلت بين هاتين الجملتين ، وهما يجعلون أصابعهم ويكاد البرق وهما من قصة واحدة ، ويميل ورش الألف بعد الكاف بين بين وكذا الكافرين حيث جاء ، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالإمالة المحضة فيهما حيث جاء ، والباقون بالفتح.

(يَكادُ الْبَرْقُ) يقرب لأن كاد من أفعال المقاربة وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لحصول سببه لكنه لم يوجد إما لفقد شرط أو لعروض مانع وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلا مضارعا تنبيها على أنه المقصود بالقرب (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) يختلسها ، والخطف : الأخذ بسرعة (كُلَّما أَضاءَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ٣٤٥٠ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٠٠ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٣٦٢ ، والحاكم في المستدرك ٤ / ٢٨٦.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحاتم الطائي في ديوانه ص ٢٢٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٥ ، والكتاب ١ / ٣٦٨ ، ولسان العرب (عور) ، واللمع ص ١٤١.

(٣) أخرجه البخاري في التفسير حديث ٤٧٣٠ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٤٩ ، والترمذي في التفسير حديث ٣١٥٦.

٣٨

لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي : ضوئه (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي : وقفوا متحيّرين فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفاتها أنّ الساري لا يمكنه المشي فيها ، ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم في آذانهم من هوله ، وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدّة توقده. فهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه ، فالمطر : القرآن ، لأنه حياة القلوب كما أنّ المطر حياة الأبدان ، والظلمات : ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك ، والرعد : ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار ، والبرق : ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة ، والكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه ولإزعاج ما في القرآن من الحجج قلوبهم ، وإنما قال الله تعالى مع الإضاءة : كلما ومع الإظلام إذا ، لأنهم حرّاس على المشي كلما صادفوا منه فرصة مما يحبون انتهزوها ولا كذلك التوقف فيما يكرهون. ومعنى قاموا : وقفوا ، كما مرّ ، ومنه قامت السوق إذا ركدت ، أي : سكنت ، ويقال : قامت السوق بمعنى : نفقت ، فهو من الأضداد. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) بمعنى : أسماعهم (وَأَبْصارِهِمْ) الظاهرة كما ذهب بالباطنة ، أي : ولو شاء أن يذهب بسمعهم بشدّة صوت الرعد وأبصارهم بلمعان البرق لذهب بهما فحذف المفعول وهو أن يذهب لدلالة الجواب وهو لذهب عليه ، ولقد تكاثر حذف المفعول في شاء وأراد إذا وقعا في حيز الشك كما هنا لدلالة الجواب على ذلك المحذوف حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب ، كقول القائل (١) :

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليك ولكن ساحة الصبر أوسع

وأتى فيه بالمفعول لأنّ بكاء الدم مستغرب ونصب دما لتضمنه معنى الصب ولو من حروف الشرط ، قال البيضاوي : وظاهرها الدلالة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه. اه. وهذا مذهب ابن الحاجب ، وأمّا مذهب الجمهور وهو الأصح فإنها في الأصل لانتفاء الثاني لانتفاء الأوّل ، فمعنى لو جئتني أكرمتك أن انتفاء الإكرام لانتفاء المجيء ، وقيل : إنها لمجرّد الربط كان ومن ثم قال التفتازاني أنّ لو هنا لمجرّد الشرط بمنزلة أن لا بمعناها الأصلي وفائدة هذه الجملة الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه وهو أنه تعالى أمهل المنافقين فيما هم فيه ليتمادوا في الغيّ والفساد ليكون عذابهم أشدّ وللتنبيه على أنّ تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى وأنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي : يشاؤه ، (قَدِيرٌ) كالتصريح بما ذكر والتقرير له والشيء يختص بالموجود فلا يطلق على المعدوم.

فإن قيل : لو اختص الشيء بالموجود لما تعلقت به القدرة لأنها الصفة المؤثرة على وفق الإرادة وتأثيرها الإيجاد وإيجاد الموجود محال فالذي تعلقت به القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء ، أجيب : بأن المحال إيجاد الموجود بوجود سابق وهو غير لازم ، واللازم إيجاد موجود هو أثر ذلك الإيجاد وليس بمحال ، والقدرة هو التمكن من إيجاد الشيء ، وقيل : صفة مقتضى التمكن ، وقيل : قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل وقدرة الله تعالى عبارة عن نفي العجز عنه ، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، والقدير الفعال لما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في دلائل النبوة للجرجاني ١ / ١٣٤.

٣٩

تعالى ، واشتقاق القدير من القدرة لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدار قوّته أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته ، وفي ذلك دليل على أنّ الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران ، وأنّ مقدور العبد مقدور الله تعالى خلافا لأبي علي وأبي هاشم لأنه شيء وكل شيء مقدور ، واحتج بعض الفرق بأن هذه الآية تدل على أن الله تعالى ليس بشيء ، قال : لأنها تدل على أنّ كل شيء مقدور لله تعالى والله سبحانه وتعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئا ، واحتج أيضا على ذلك بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى ، ١١] قال : لو كان هو تعالى شيئا فهو تعالى مثل مثل نفسه فكان يكذب قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فوجب أن لا يكون شيئا حتى لا يناقض هذه الآية.

واعلم أنّ هذا الخلاف في الاسم لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، واحتج أصحابنا بوجهين : الأوّل قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام ، ١٩] والثاني قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ، ٨٨] والمستثنى داخل في المستثنى منه فوجب أن يكون شيئا ، وأجيب عن قوله : إنّ هذه الآية تدل على أن الله تعالى قادر على نفسه بأنّ تخصيص العام جائز في الجملة وأيضا تخصيص العام جائز بدليل العقل.

فإن قيل : إذا كان اللفظ موضوعا للكل ثم إنه تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذبا وذلك يوجب الطعن في القرآن ، أجيب : بأنّ لفظ الكل كما أنه مستعمل في المجموع فقد يستعمل مجازا في الأكثر فإذا كان ذلك مجازا مشهورا في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذبا. ورقق ورش الراء من قدير وصلا ووقفا ، وباقي القراء بالترقيق وقفا لا وصلا.

ولما عدّ سبحانه وتعالى فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم أقبل تعالى عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) تحريكا للسامع وتنشيطا له واهتماما بأمر العبادة وتفخيما لشأنها وجبرا لمشقة العبادة بلذة المخاطبة ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلا له منزلة البعيد ، إمّا لعظمته كقول الداعي : يا رب ويا ألله وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، أو لغفلته وقلة فهمه ، أو للاعتناء بالمدعوّ له وزيادة الحث عليه ، ولفظ الناس يعم الموجودين وقت النزول لفظا ومن سيوجد تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود ، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسّلام أنّ مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل وإن قال الإمام الرازي : الأقرب أنه لا يتناوله لأن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) صرف خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز وتناوله له لدليل منفصل وهو ما تواتر من دينه عليه الصلاة والسّلام أنّ أحكامه ثابتة في حق من سيوجد إلى قيام الساعة.

فإن قيل : روي عن عقبة والحسن وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن كل شيء نزل فيه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فمكي و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فمدني ، فكيف تكون هذه السورة مكية وقد نزلت

٤٠