تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

القيامة بالساعة لوقوعها بغتة ، أو لأنّ حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسميت بالساعة لهذا السبب ، أو لأنها على طولها عند الله تعالى كساعة واحدة ، وقوله تعالى : (أَيَّانَ) سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى (مُرْساها) قال ابن عباس منتهاها والمرسى هنا مصدر بمعنى الإرساء كقوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود ، ٤١] أي : إجراؤها وإرساؤها ، والإرساء الإثبات يقال : رسا يرسو إذا ثبت قال الله تعالى : (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات ، ٣٢] (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّما عِلْمُها) أي : متى تكون (عِنْدَ رَبِّي) أي : لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه الساعة إلا الله تعالى استأثر الله تعالى بعلمها ، فلم يطلع عليه أحدا من خلقه ، ولهذا لما سأل جبريل عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : متى الساعة ، فقال عليه الصلاة والسّلام : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» (١) قال المحققون : والسبب في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون ، كانوا على حذر منها ، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية ، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال : (لا يُجَلِّيها) أي : يظهرها (لِوَقْتِها) أي : في وقتها المعين ، فاللام بمعنى في وهو أولى من قول البيضاوي إنها للتأقيت (إِلَّا هُوَ) أي : لا يقدر على إظهار وقتها المعيّن بالإعلام والإخبار إلا هو (ثَقُلَتْ) أي : عظمت (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ثقل أمرها وخفي علمها على أهل السموات والأرض ، وكل شيء خفي فهو ثقيل شديد ، وقال الحسن : إذا جاءت ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض ، وإنما ثقلت عليهم ؛ لأنّ فيها فناءهم وموتهم ، وذلك ثقيل على القلوب وقوله تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) تأكيد أيضا لما تقدّم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا فجأة على حين غفلة من الخلق.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومنّ الساعة والرجل قد رفع الأكلة إلى فيه فلا يطعمها ، ولتقومنّ الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه» (٢) اللقحة بفتح اللام وكسرها الناقة القريبة العهد بالنتاج وقوله : يليط حوضه ، ويروى : يلوط حوضه أي : يطينه ويصلحه ، يقال : لاط حوضه يليطه ويلوطه إذا طينه ، والأكلة بضمّ الهمزة اللقمة. وفي رواية «أنّ الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم بسلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» (٣) ، رواه بمعناه الشيخان. (يَسْئَلُونَكَ) أي : يسألك قومك عن الساعة (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي : عالم بها من قولهم : أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها ، وقيل : الحفي البارّ اللطيف ومنه قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم ، ٤٧] أي : بارّا لطيفا مجيب دعائي إذا دعوته أي : يسألونك كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم ، وهذا قول الحسن ويؤيده ما روي في تفسيره : أنّ قريشا قالت لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة.

والمعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ فتحفى بهم أي : فتخصهم لأجل قرابتك بتعليم وقتها ، وتروي علمها عن غيرهم ولو أخبرت بوقتها لمصلحة علمها الله تعالى في إخبارك به لكنت مبلغه

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٥٠ ، ومسلم في الإيمان حديث ٩.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٠٦.

(٣) أخرجه الطبري في تفسيره ٩ / ٩٥ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٦٦.

٦٢١

القريب والغريب من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك.

وقيل : كأنك حفيّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره أي : إنك تكره السؤال عنها ؛ لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ولم يؤته أحدا من خلقه كقوله تعالى : (قُلْ) يا محمد (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) أي : استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا هو.

فإن قيل : قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) وقوله تعالى ثانيا : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) فيه تكرارا. أجيب : بأنه لا تكرار ؛ لأنّ السؤال الأوّل عن وقت قيام الساعة ، والثاني عن كنه ثقل الساعة وشدّتها ومهابتها ، فلا يلزم التكرار.

وقيل : ذكر الثاني للتأكيد ولما جاء به من زيادة قوله : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وعلى هذا تكرار العلماء الحذاق في كتبهم لا يحلون المكرر من فائدة ، ومنهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما‌الله تعالى.

فإن قيل : لم أجاب عن الأوّل بقوله : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) وعن الثاني بقوله : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ؟) أجيب : بأنّ السؤال الأوّل لما كان واقعا عن وقت قيام الساعة ، والثاني كان واقعا عن مقدار شدّتها ومهابتها عبر عن الجواب فيه بقوله : علم ذلك عند الله ؛ لأنه أعظم أسمائه مهابة وعظمة ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفيت معرفة علم وقت قيامها المغيب عن الخلق ، وقيل : لا يعلمون أنّ علمها عند الله وإنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.

وروي أنّ أهل مكة قالوا : يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيصة قبل أن يغلو فنشتريه ونربح فيه عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرحل عنها إلى ما قد أخصبت؟ فأنزل الله تعالى :

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ

٦٢٢

 مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

(قُلْ) لهم (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً) اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه (وَلا ضَرًّا) أي : ولا أقدر أدفع عن نفسي ضرّا نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة أو من الأرض الجدبة (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له.

وقيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من غزوة بني المصطلق عصفت ريح في الطريق ففرّت الدواب منها فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموت رفاعة بالمدينة ، وكان فيها غيظ للمنافقين وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انظروا أين ناقتي» فقال عبد الله بن أبيّ المنافق مع قومه : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولم يعرف أين ناقته؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ ناسا من المنافقين قالوا : كيت وكيت ، وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فوجدوها على ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلَوْ كُنْتُ) أي : من ذاتي (أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي : جنسه (لَاسْتَكْثَرْتُ) أي : أوجدت لنفسي كثيرا (مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي : ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع ، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب واجتناب المضارّ حتى لا يمسني سوء (إِنْ) أي : ما (أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) بالنار للكافرين (وَبَشِيرٌ) بالجنة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي : يصدّقون ، وقيل : لقوم يؤمنون متعلق بنذير وبشير ؛ لأنهم المنتفعون بهما (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي : ولم تكونوا شيئا (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي : خلقها ابتداء من تراب ، وهي آدم عليه‌السلام (وَجَعَلَ مِنْها) أي : من جسدها من ضلع من أضلاعها ، وقيل : من جنسها لقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [الشورى ، ١١] (زَوْجَها) أي : حوّاء ، قالوا : والحكمة في كونها خلقت منه أنّ الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضمّ (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي : ليأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه ، وإنما ذكر الضمير في يسكن بعد أن أنث في قوله تعالى : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ذهابا إلى معنى النفس ليناسب تذكير الضمير في قوله تعالى : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي : جامعها ، ولئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى ، والأمر بخلافه إزالة لاستيحاشه ، فكانت نسبة المؤانسة إليه أولى (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) أي : خف عليها ولم تلق منه ما يلقى الحوامل غالبا من الأذى ، أو محمولا خفيفا وهو النطفة (فَمَرَّتْ بِهِ) أي : فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت ولم يعقها عن شيء من ذلك لخفته (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي : صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها (دَعَوَا اللهَ) أي : آدم وحوّاء عليهما‌السلام (رَبَّهُما) مقسمين (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي : ولدا سويا لا عيب فيه (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي : نحن وأولادنا على نعمتك علينا ، وذلك أنهما جوّزا أن يكون غير سوي لقدرة الله تعالى على كل ما يريد لأنه الفاعل المختار.

فائدة : اتفق القراء على إدغام تاء التأنيث الساكنة في الدال.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) أي : جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدنا وقوّة وعقلا ، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكورا وإناثا (جَعَلا) أي : النوعان من أولادهما الذكور والإناث ؛ لأنّ صالحا صفة للولد وهو الجنس ، فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير ، فكأنه قيل : فلما آتاهما أولادا صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان (لَهُ شُرَكاءَ) أي : بعضهم أصناما وبعضهم نارا وبعضهم شمسا وبعضهم غير ذلك ، وقيل : جعل أولادهما له شركاء (فِيما آتاهُما) أي : فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، ويدل عليه قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

٦٢٣

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي : الأصنام.

فإن قيل : كيف وحد (يَخْلُقُ ،) ثم جمع فقال : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ؟) أجيب : بأنّ لفظ ما يقع على الواحد والاثنين والجمع ، فوحد بحسب ظاهر اللفظ ، وجمع باعتبار المعنى.

فإن قيل : كيف جمع الواو والنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس؟ أجيب : بأنه لما اعتقد عابدوا الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع على ما يعتقدونه ، وقيل : لما حملت حوّاء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما يدريك ما في بطنك؟ ولعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج؟ فخافت من ذلك وذكرت لآدم فهمّا منه ، وهو بضمّ الهاء وتشديد الميم من الهم وهو هنا الحزن ، ثم عاد إليها وقال : إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله على أن يجعله خلقا مثلك ، ويسهل عليك خروجه فسميه عبد الحارث ، وكان اسم إبليس حارثا في الملائكة ، ففعلت ولما ولدته سمته عبد الحارث.

فإن قيل : قد قال البيضاويّ : وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء ، ويحتمل أن يكون الخطاب في خلقكم لآل قصيّ من قريش ، فإنهم خلقوا من نفس قصيّ وكان له زوج من جنسها عربية قرشية فطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد شمس وعبد مناف وعبد قصيّ وعبد الدار ، ويكون الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما اه أجيب : بأنه نظر في ذلك إلى الظاهر وإلا فقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميه عبد الحارث فإنه يعيش ، فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» (١) رواه الحاكم وقال : صحيح ، والترمذيّ وقال حسن غريب.

وروي عن ابن عباس أنه قال : كانت حواء تلد لآدم فتسميه : عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس فقال : إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث ، فسمياه فعاش ، وجاء في حديث «خدعهما إبليس مرتين : مرّة في الجنة ومرّة في الأرض» (٢) ، وهو قول كثير كمجاهد وسعيد بن المسيب وهذا كما قال البغويّ : ليس إشراكا في العبادة ، ولا أنّ الحارث ربهما فإنّ آدم كان نبيا معصوما من الشرك ولكن قصد إلى أنّ الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمّه ، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به إنه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود هذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على وجه أنّ الضيف يملكه قال الشاعر (٣) :

وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا

ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا

وتقول للغير : أنا عبدك ، قال الرازي : ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان عبد ودود فلان ، وقال يوسف عليه‌السلام لعزيز مصر : (إِنَّهُ رَبِّي) [يوسف ، ٢٣] ولم يرد به معبوده كذلك هذا فقوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ابتداء كلام ، وأريد به إشراك أهل مكة ، وقرأ نافع وشعبة : «شركا» بكسر الشين وسكون الراء وألف منونة بعد الكاف في الوصل وفي الوقف بغير تنوين أي : شركة ، والباقون بضمّ الشين وفتح الراء وبعد الكاف ألف بعدها همزة مفتوحة.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير حديث ٣٠٧٧.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ٧ / ٣٣٨ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٦ / ٢٢٤٣.

(٣) البيت بلا نسبة في ديون الحماسة ٢ / ٣٩.

٦٢٤

فإن قيل : المطاع إبليس فكيف يعير بالجمع؟ أجيب : بأنّ من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين ، هذا إن حملت هذه الآية على القصة المشهورة ، أمّا إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل.

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي : الأصنام (لَهُمْ) أي : لعابديهم (نَصْراً) أي : لا تقدر على النصر لمن أطاعها أو عبدها ، ولا تضر من عصاها ، والمعبود الذي تجب عبادته يكون قادرا على إيصال النفع والضر ، وهذه الأصنام ليست كذلك ، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها؟ (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي : وهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها مكروها ، فإنّ من أراد كسرها قدر عليه ، وهي لا تقدر على دفعه عنها. والاستفهام للتوبيخ.

ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي : المشركين (إِلَى الْهُدى) أي : إلى الإسلام (لا يَتَّبِعُوكُمْ) أي : لأنّ الله تعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلوا الهداية ، وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة ، والباقون بفتح التاء مشدّدة وكسر الباء الموحدة (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) إلى الهدى (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي : ساكتون عن دعائهم ، فهم في كلا الحالتين لا يؤمنون.

وقيل : الضمير في تدعوهم للأصنام أي : إنّ هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع من دعاها إلى خير وهدى ، وذلك أنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في شدّة وبلاء تضرّعوا إلى أصنامهم ، وإذا لم يكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا فقيل لهم : لا فرق بين دعائكم إلى الأصنام وسكوتكم عنها ، فإنها عاجزة في كل حال.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي : تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ) أي : مملوكة (أَمْثالُكُمْ) فهي لا تملك ضرّا ولا نفعا.

فإن قيل : كيف وصفها بأنها عباد مع أنها جماد؟ أجيب : بأنّ المشركين لما ادّعوا أنّ الأصنام تضرّ وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة ، فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتا لهم وتوبيخا ولذلك قال : (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في كونها آلهة ، ولم يقل :

فادعوهنّ فليستجبن ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ ،) ولم يقل : التي ، وبأنّ هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين ؛ لأنهم لما نحتوها بصورة الإناسي قال لهم : إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم ، فلا يستحقون عبادتكم كما إنه لا يستحق بعضكم عبادة بعض ، فلم جعلتم أنفسكم عبيدا ، وجعلتموها آلهة وأربابا.

ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم بقوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ) أي : بل أ(لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ) أي : بل أ(لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ) أي : بل أ(لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) وهذا الاستفهام إنكاري أي : ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم ، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالا منهم؟ إذ لا يليق بالإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الأرذل ، ونظير هذا قول إبراهيم الخليل عليه‌السلام لأبيه : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم ، ٤٢] وقد تعلق بعض الجهال بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى ، فقال : إنّ الله تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلا على عدم إلهيتها ، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله لكان عدمها دليلا على عدم الإلهية ، وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى.

٦٢٥

أجيب : بأن المقصود من هذه الآية بيان أنّ الإنسان أفضل وأحسن حالا من الصنم ؛ لأنّ الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة ، والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة ، فكان الإنسان أفضل وأكمل حالا من الصنم ، فاشتغال الأفضل الأكمل بحال الأخس الأدون جهل ، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال (قُلِ ادْعُوا) أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ادعوا (شُرَكاءَكُمْ) أي : إلى هلاكي (ثُمَّ كِيدُونِ) قال الحسن : كانوا يخوّفونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآلهتهم فقال الله تعالى له : قل لهم ادعوا شركاءكم ثم كيدون أي : ليظهر لكم أنها لا قدرة لها على إيصال المضارّ إليّ بوجه.

وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلا ووقفا ، وهشام له فيها وجهان : الإثبات والحذف ، وصلا ووقفا ، والباقون يحذفونها وصلا ووقفا. ثم تهكم عليهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (فَلا تُنْظِرُونِ) أي : فأعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم ، فإنكم لا تقدرون على ذلك ، وعلل عدم قدرتهم على ذلك بقوله :

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) الذي يتولى حفظي ونصري هو الله (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين وهو القرآن (وَهُوَ) أي : الله سبحانه (يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي : بنصره وحفظه ، فلا يضرهم عداوة من عاداهم ، قال ابن عباس : يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئا ولا يعصونه ، فمن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلا عن أنبيائه وفي هذا مدح للصالحين ، وأنّ من تولاه الله تعالى بحفظه لا يضره شيء ، وعن عمر بن عبد العزيز أنه ما كان يدخر لأولاده شيئا ، فقيل له فيه ، فقال : ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين ، فإن كان من الصالحين فوليه هو الله تعالى ، ومن كان الله تعالى له وليا فلا حاجة له إلى مالي ، وإن كان من المجرمين فقد قال الله تعالى : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ومن رده الله تعالى لم أكن مشتغلا بمهماته (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي : الله (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي : فكيف أبالي بهم؟

فإن قيل : هذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدّمة فما الفائدة في تكريرها؟ أجيب : بأنّ الأوّل مذكور على جهة التقريع ، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين ، وهذه الأصنام ليست كذلك ، فلا تكون صالحة للإلهية (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي : الأصنام (إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) دعاءكم (وَتَراهُمْ) يا محمد (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي : يقابلونك كالناظر (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) لأنهم صوّروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه ، وقال الحسن : المراد بهذا المشركون ، ومعناه إن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم ؛ لأنّ آذانهم قد صمت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون أي : ببصائر قلوبهم.

ولما بيّن تعالى أن الله هو الذي يتولاه ، وإنّ الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار بين ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس بقوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) أي : اقبل الميسور من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسّس وذلك مثل قبول الاعتذار ، ويدخل في ذلك ترك التشديد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية ، ويدخل فيه أيضا التخلق مع الناس بالخلق الطيب وترك الغلظة والفظاظة ، قال تعالى : (كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران ،

٦٢٦

١٥٩] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» (١) وقال الشاعر (٢) :

خذي العفو مني تستديمي مودّتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وقال عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال عليه الصلاة والسّلام : يا جبريل ما هذا؟ قال : لا أدري حتى أسأل ، ثم رجع فقال : «إنّ الله تعالى يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك» (٣)(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي : بالمعروف قال عطاء : بلا إله إلا الله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي : فلا تقابلهم بالسفه ، وذلك مثل قوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان ، ٦٣] وذلك سلام المتاركة ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح» (٤) ، وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله بعثني بمكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» (٥).

قال أبو زيد لما نزل قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف يا رب والغضب» فنزل (وَإِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة (يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) أي : وسوسة وقوله تعالى : (فَاسْتَعِذْ) أي : فاستنجد (بِاللهِ) جواب الشرط وجواب الأمر محذوف أي : يدفعه عنك.

تنبيه : احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية ، وقالوا : لو لا أنه يجوز من النبي الإقدام على المعصية والذنب لم يحتج إلى الاستعاذة ، وأجيب عن ذلك بأجوبة : الأول إنّ معنى هذا الكلام إن حصل في قلبك نزغ فاستعذ بالله كما أنه تعالى قال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر ، ٦٥] ولم يدل ذلك على أنه أشرك الثاني على تقدير أنه لو حصل وسوسة من الشيطان لكن الله تعالى قد عصم قلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبولها وثباتها في قلبه وإنما القادح لو قبل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوسة والآية لا تدل على ذلك.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من إنسان إلا ومعه شيطان» (٦) وفي رواية : «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : «وإياي إلا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وفي رواية : «لكنه أسلم بعون الله فلقد أتاني فأخذت بحلقه ولو لا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحا» (٧) قال النووي : يروى بفتح الميم وضمها فمن ضمها معناه فأسلم أنا من شره وفتنته ومن فتحها قال معناه : إنّ القرين أسلم أي : صار مسلما

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم حديث ٦٩ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٣٢ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٨٣٥.

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (عفا) ، وتاج العروس (عفا).

(٣) أخرجه ابن حجر في فتح الباري ٨ / ٣٠٦.

(٤) أخرجه الترمذي في البر حديث ٢٠١٦.

(٥) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ١٨٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣١٩٤٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٤٥.

(٦) روي الحديث بلفظ : «ما من أحد إلا وله شيطان». أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٤٧٢.

(٧) أخرجه مسلم في القيامة حديث ٢٨١٤.

٦٢٧

فلا يأمرني إلا بخير الثالث : أنّ الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره أي : وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل ، ٩٨] (إِنَّهُ سَمِيعٌ) للقول (عَلِيمٌ) بالفعل ، وفي الآية دليل على أنّ الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة فكأنه تعالى قال : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معنى الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ) أي : أصابهم (طائِفٌ) أي : شيء ألمّ بهم (مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) عقاب الله وثوابه (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) الحق من غيره ، فيرجعون.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بياء ساكنة بعد الطاء والباقون بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة (وَإِخْوانُهُمْ) أي : وإخوان الشياطين من الكفار (يَمُدُّونَهُمْ) أي : يمدّهم الشياطين (فِي الغَيِ) أي : يزيدونهم في الضلالة بالتزيين والحمل عليها (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي : لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها ، وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين ؛ لأنّ المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر ، والكافر مستمرّ في ضلاله لا يتذكر ولا يرعوي (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ) أي : أهل مكة (بِآيَةٍ) أي : مما اقترحوها كقولهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء ، ٩٠] (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي : هلا تقولتها من عند نفسك كسائر ما تقرؤه ، فإنهم كانوا يقولون : إنّ هذا الإفك مفترى ، تقول العرب : اجتبيت الكلام اختلقته وافتعلته وأنشأته من عندك ، وهلا طلبتها من ربك منزلة عليك مقترحة؟ قال الله تعالى : (قُلْ :) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي : ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور إنما أنتظر الوحي ، فكل شيء أكرمني به قلته ، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح.

ثم بيّن أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض ؛ لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة ، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة ، فكان طلب الزيادة من باب التعنت ، فذكر في وصف القرآن ألفاظا ثلاثة أوّلها قوله : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : هذا القرآن فيه حجة وبرهان ، وأصل البصائر الأبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان ، ولما كان القرآن سببا لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب.

وثانيها : (وَهُدىً) أي : وهو هدى.

وثالثها : (وَرَحْمَةٌ) أي : وهو رحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.)

فإن قيل : ما الفرق بين هذه المراتب الثلاث؟ أجيب : بأنهم متفاوتون في درجات العلوم ، فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد ، وهم أصحاب عين اليقين ، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر ، وهم أصحاب علم اليقين ، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين ، وهم أصحاب حق اليقين ، فالقرآن في حق القسم الأوّل ، وهم السابقون بصائر ، وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى ، وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة.

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) أي : عن الكلام (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمرتم به من أوامره ، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب قوم إلى

٦٢٨

أنها نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات.

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن ، وقال قوم : نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام.

وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة ، وقال الكلبي : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار ، وعن ابن مسعود أنه سمع ناسا يقرؤون مع الإمام فلما انصرفوا قال : أما آن لكم أن تفقهوا (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) كما أمركم الله ، وهذا قول الحسن والزهري : إن الآية نزلت في القرآن في الصلاة.

وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد : إنّ الآية نزلت في الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة ، وقال عمر بن عبد العزيز : الإنصات لكل واعظ ، وقيل : معناه وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له وأنصتوا ، وقيل : معنى فاستمعوا له فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه ، قال البغوي : والأوّل أولاها وهو أنها في القراءة في الصلاة لأنّ الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة ، قال البيضاوي : وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقا وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف ، اه. أي : مردود بخبر الصحيحين : «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» (١).

وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما ، والمراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة الله تعالى جل جلاله ؛ لأنّ الذكر باللسان إذا كان عاريا عن ذكر القلب كان عديم الفائدة ؛ لأنّ فائدة الذكر حضور القلب وإشعاره عظمة المذكور تعالى ، قال الرازي : سمعت بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحدا من المريدين بالخلوة والذكر أمره أربعين يوما بالخلوة والتصفية ، ثم عند استكمال هذه المدّة وحصول التصفية الكاملة يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين ، ويقول للمريد : اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء ، فكل اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثره وعظم تشوّقه ، فاعلم أنّ الله تعالى إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه ، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب ، اه.

وقيل : ذلك أمر للمأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام من قراءة الفاتحة كما هو مذهب الشافعي رحمه‌الله تعالى (تَضَرُّعاً) أي : تذللا (وَخِيفَةً) أي : خوفا منه.

فائدة : إنما قال تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) ولم يقل : واذكر إلهك ولا غيره من الأسماء وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه ربا ، وأضاف نفسه إليه ، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان ، والمقصود منه أن يصير العبد فرحا مسرورا مبتهجا عند سماع هذا الاسم ، لأنّ لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل ، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام إنعام الله تعالى عليه ، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامه كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٧٥٦ ، ومسلم في الصلاة حديث ٣٩٤ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٨٢٢ ، والترمذي في الصلاة حديث ٢٤٧ ، والنسائي في الافتتاح حديث ٩١٠ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٨٣٧.

٦٢٩

[إبراهيم ، ٣٤] فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء ، فإذا سمع بعد ذلك قوله : (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) عظم الخوف وحينئذ يحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف ، وعنده يكمل الإيمان كما قال عليه الصلاة والسّلام : «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» (١) وهذا جرى عليه بعضهم في حالة الصحة ، فيكون الخوف والرجاء مستويان.

والذي جرى عليه الغزالي وهو التحقيق أنه إن قوي رجاؤه يقوى جانب الخوف والعكس بالعكس ، وأما حال المرض فيكون جانب الرجاء أرجح ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال : «كيف تجدك»؟ قال : أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يجتمعان في قلب مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف» (٢)(وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي : ومتكلما كلاما فوق السر ودون الجهر أي : قصدا بينهما ، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص (بِالْغُدُوِّ) جمع غدوة ، وقيل : إنه مصدر (وَالْآصالِ) جمع أصيل ، وهو ما بين صلاة العصر إلى الغروب ، وإنما خص هذين الوقتين بالذكر ؛ لأنّ الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو آخر الموت إلى اليقظة التي هي كالحياة فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم ، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أوّل أعماله ذكر الله تعالى ، وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب الذكر ؛ لأنها حالة تشبه الموت ، ولعله لا يقوم من تلك النومة ، فيكون موته على ذكر الله تعالى ، وهو المراد من قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله.

وقيل : إنما خصا بالذكر ؛ لأنّ الصلاة بعد صلاة الصبح ، وبعد صلاة العصر مكروهة ، واستحب للعبد أن يذكر الله تعالى فيهما ليكون في جميع أوقاته مشتغلا بما يقرّبه إلى الله تعالى من صلاة وذكر ، وقيل : إنّ أعمال العباد تصعد أوّل النهار وآخره ، فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر ، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب ، فاستحب له الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله بالذكر وختامه بالذكر.

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي : الملائكة المقرّبين بالفضل والكرامة (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي : لا يتكبرون (عَنْ عِبادَتِهِ) لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي : وينزهونه عن جميع النقائص ، ويقولون : سبحان الله ربنا (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي : ويخضعون له بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره ، وفي هذا إشارة إلى أنّ الأعمال تنقسم إلى قسمين : أعمال القلوب وأعمال الجوارح ، فأعمال القلوب هي تنزيه الله تعالى عن كل ما سواه ، وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله : (وَيُسَبِّحُونَهُ) وعبر عن أعمال الجوارح بقوله : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ليوافق الملائكة المقرّبين في عبادتهم ، وعن معدان قال : سألت ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : حدّثني حديثا ينفعني الله به قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة» (٣) ، وفي رواية قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ١٣٣ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٢٩٦.

(٢) أخرجه الترمذي في الجنائز حديث ٩٨٣ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٦١.

(٣) أخرجه الترمذي في الصلاة حديث ٣٨٨ ، والنسائي في التطبيق حديث ١١٣٩ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٤٢٣.

٦٣٠

سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» (١) ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت صلاة» (٢) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» (٣) والحديث الذي ذكره البيضاوي تبعا للزمخشري وهو : «من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس سترا وكان آدم شفيعا له يوم القيامة» (٤) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٤٨٨.

(٢) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ١٠٧٩ ، ومسلم في المساجد حديث ٥٧٥ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٤١٢.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٨١ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٠٥٢.

(٤) أخرجه بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ٢٨٦.

٦٣١

سورة الأنفال

مدنية ، وقيل : إلا (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيات السبع فمكية ، وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية ، وألف وخمس وسبعون كلمة ، وخمسة آلاف وثمانون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بِسْمِ اللهِ) الذي له العظمة الظاهرة والحكمة الباهرة (الرَّحْمنِ) الذي عم جميع خلقه بنعمه المتواترة (الرَّحِيمِ) الذي خص من أراد من عباده بما يرضيه فكان حامده وشاكره.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))

(يَسْئَلُونَكَ) يا أشرف الخلق يا محمد (عَنِ الْأَنْفالِ) أي : الغنائم لمن هي؟ وكيف مصرفها؟ وإنما سميت الغنيمة نفلا ؛ لأنها عطية من الله تعالى وفضل منه كما يسمى به ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه (قُلِ) يا محمد لهم (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) يجعلانها حيث شاءا وأكثر المفسرين أن سبب نزولها اختلاف المسلمين في غنائم بدر كيف تقسم؟ فقال الشبان : هي لنا ؛ لأنا باشرنا القتال ، وقال الشيوخ : كنا ردأ لكم ولو انكشفتم لفئتم إلينا ،

٦٣٢

فنزلت ، وقيل : شرط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن كان له غنا ـ وهو بفتح الغين المعجمة والمد النفع ـ أن ينفله فسار شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، ثم طلبوا نفلهم ، وكان المال قليلا ، فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردأ أي : عونا لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم على السواء ، رواه الحاكم في المستدرك ، وعن عبادة بن الصامت : نزلت فينا معاشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإصلاح ذات البين ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إنه قال : لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير ، وقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، وأتيت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستوهبته منه فقال : هذا ليس لي ولا لك اطرحه في القبض ، وهو بفتحتين : ما قبض من الغنائم فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي اذهب فخذه» (١) وقيل : إنها نزلت فيما يصل من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو أمة أو متاع ، فهو للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع فيه ما يشاء.

واختلفوا هل هذه الآية منسوخة أو لا؟ فقال مجاهد وعكرمة : هي منسوخة بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال ، ٤١] الآية فكانت الغنائم يومئذ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنسخها الله تعالى بالخمس ، وقال بعضهم : هي ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه وذلك أن الغنائم كانت حراما على الأمم الذين من قبلنا في شرائع أنبيائهم ، وأباحها الله تعالى بهذه الآية لهذه الأمة ، وجعلها ناسخة لشرع من قبلنا ، ثم نسخت بآية الخمس ، وقال عبد الله بن زيد بن أسلم : هي ثابتة غير منسوخة ، ومعنى الآية : قل الأنفال لله وللرسول يضعها حيث أمره الله تعالى ، وقد بيّن الله تعالى مصارفها في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية.

فإن قيل : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول؟ أجيب : بأنّ معناه أن حكم الغنيمة مختص بالله ورسوله بأمر الله يقسمها على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الله تعالى فيها وليس الأمر في قسمها مفوّضا إلى رأي أحد (فَاتَّقُوا اللهَ) بطاعته ، واتركوا مخالفته واتركوا المخاصمة والمنازعة في الغنائم (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : وأصلحوا الحال فيما بينكم بالمودّة وترك النزاع وتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمركم به وينهاكم عنه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا ، فإنّ الإيمان يقتضي ذلك.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي : الكاملون في الإيمان (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) أي : وعيده (وَجِلَتْ) أي : خافت وخضعت ورقت (قُلُوبُهُمْ) أي : أنّ المؤمن إنما يكون مؤمنا كاملا إذا كان خائفا من الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [المعارج ، ٢٧] وقوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون ، ٢].

فإن قيل : إنه تعالى قال هنا : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وفي آية أخرى (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) [الرعد ، ٢٨] فكيف الجمع بينهما؟ أجيب : بأنه لا منافاة بينهما ؛ لأنّ الوجل هو خوف العقاب ، والاطمئنان إنما يكون من اليقين وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، وهذا مقام الخوف والرجاء ، وقد

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٧٨.

٦٣٣

اجتمعا في آية واحدة وهي قوله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الزمر ، ٢٣] عند رجاء ثواب الله.

قال أهل التحقيق : الخوف على قسمين : خوف العقاب وهو خوف العصاة ، وخوف الجلال والعظمة ، وهو خوف الخواص ؛ لأنه تعالى غني بذاته عن كل الموجودات وما سواه من المخلوقات محتاجون إليه ، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني هابه وخافه ، وليست تلك الهيبة من العقاب بل مجرد علمه بكونه غنيا عنه وكونه محتاجا إليه يوجب تلك المهابة وذلك الخوف ، وأما العصاة فيخافون عقابه ، والمؤمن إذا ذكر الله وجل قلبه وخافه على قدر مرتبته (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أي : تصديقا ويقينا ؛ لأن زيادة الإيمان بزيادة التصديق وذلك على وجهين :

الوجه الأوّل : وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي إن كل من كانت عنده الدلائل أكثر وأقوى كان أزيد إيمانا ؛ لأنّ عند حصول كثرة الدلائل وقوّتها يزول الشك ويقوى اليقين ، فتكون معرفته بالله أقوى ، فيزداد إيمانه ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسّلام : «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح» (١).

الوجه الثاني : وهو أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ، ولما كانت التكاليف متوالية في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلما تجدد تكليف كانوا يزدادون تصديقا وإقرارا ، ومن المعلوم أن من صدّق إنسانا في شيئين كان أكثر ممن يصدّقه في شيء واحد ، فقوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) معناه : أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد ، فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق.

فإن قيل : إن تلك الآيات لا توجب الزيادة وإنما الموجب هو سماعها أو معرفتها أجيب : بأن ذلك هو المراد من الآية ، واختلفوا هل الإيمان يقبل الزيادة والنقصان أو لا؟ فالذين قالوا : إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي قالوا : لا يقبل الزيادة ولا النقصان ، والذين قالوا : إنه مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل قالوا : يقبل الزيادة والنقصان ، واحتجوا بهذه الآية من وجهين :

الأوّل : أنّ قوله تعالى : (زادَتْهُمْ إِيماناً) يدل على أنّ الإيمان يقبل الزيادة ، ولو كان عبارة عن التصديق فقط لما قبل الزيادة ، وإذا قبل الزيادة فقد قبل النقص.

الوجه الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أوصافا متعدّدة من أحوال المؤمنين ، ثم قال بعد ذلك : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) وذلك يدل على أنّ تلك الأوصاف داخلة في مسمى الإيمان ، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» (٢) ففي الحديث دليل على أنّ للإيمان أدنى وأعلى ، فيكون قابلا للزيادة والنقص ، وقال عمير بن حبيب : إن للإيمان زيادة ونقصانا ، قيل له : فما زيادته وما نقصانه فقال : إذا ذكرنا الله وحمدناه ، فذلك زيادته ، وإذا

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٣٢٣ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٤ / ١٥١٨ ، والبيهقي في شعب الإيمان ١ / ٦٩.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ٥٧ ، ٥٨ ، وأبو داود في السنة باب ١٤ ، والنسائي في الإيمان باب ١٦ ، وابن ماجه في المقدمة باب ٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤١٤ ، ٤٤٢.

٦٣٤

سهونا وغفلنا فذلك نقصانه ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : إنّ للإيمان فرائض وشرائط وحدودا وسننا فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، ثم وصف الله تعالى المؤمنين الكاملين بصفة أخرى ثالثة ، وهي الاتكال عليه بقوله تعالى : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي : يفوّضون جميع أمورهم إليه لا يرجون غيره ، ولا يخافون سواه ؛ لأنّ المؤمن إذا كان واثقا بوعد الله تعالى ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره ، وهذا الحال مرتبة عالية ودرجة شريفة ، وهي أنّ الإنسان بحيث يصير لا يبقى له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله تعالى ، وهذه الصفات الثلاث مرتبة على أحسن صفات الترتيب ، فإنّ المرتبة الأولى هي الوجل عند ذكر الله ، والمرتبة الثانية هي الانقياد لمقامات تكاليفه ، والمرتبة الأخيرة الانقطاع بالكلية عما سوى الله والاعتماد بالكلية على فضل الله بل الغنى بالكلية عما سوى الله ، ثم إنّ هذه المراتب الثلاث أحوال معتبرة في القلوب والبواطن ، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر فقال :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : الذين يؤدّونها بحقوقها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : أعطيناهم (يُنْفِقُونَ) في طاعة الله ؛ لأنّ رأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها بذل النفس في الصلاة ، وبذل المال في مرضاة الله ، ويدخل في ذلك صلاة الفرض والنفل والزكاة والصدقات والإنفاق في الجهاد والإنفاق على المساجد والقناطر ، ثم قال تعالى :

(أُولئِكَ) أي : الموصوفون بهذه الصفات الخمسة (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ومحاسن أفعال الجوارح التي المعيار عليها ، وهي الصلاة والصدقة و (حَقًّا) مصدر مؤكد للجملة التي هي (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كقوله : هو عبد الله حقا ، أي : أحق ذلك حقا.

تنبيه : اختلف العلماء في أنه هل للشخص أن يقول : أنا مؤمن حقا ، أو لا؟ فقال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، ولا يقول : أنا مؤمن حقا ، وقال أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه : الأولى أن يقول : أنا مؤمن حقا ، ولا يجوز أن يقول : إن شاء الله تعالى ، واستدل للأوّل بوجوه :

الأوّل : أن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ليس على سبيل الشك ، ولكن الشخص إذا قال :

أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب ، فإذا قال : إن شاء الله تعالى زال ذلك العجب ، وحصل الانكسار له.

الثاني : إنّ الله تعالى ذكر في أوّل الآية ما يدل على الحصر وهو قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) هم كذا وكذا وكلمة إنما تفيد الحصر ، وذكر في آخر الآية قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) وهذا أيضا يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ، ثم إنّ الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ، فكان الأولى له أن يقول : إن شاء الله تعالى ، وعن الحسن أنّ رجلا سأله : أمؤمن أنت؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا مؤمن بها ، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية فلا أدري أنا منهم أم لا؟ وقال سفيان الثورّي : من زعم أنه مؤمن حقا عند الله ، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ، وهذا إلزام منه أي : كما لا نقطع أنه من أهل الجنة قطعا ، فلا نقطع أنه مؤمن حقا.

٦٣٥

الثالث : أنّ قوله : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى للتبرّك ، فهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (١) مع العلم القطعيّ بأنه لاحق بأهل القبور.

الرابع : أنّ المؤمن لا يكون مؤمنا حقا إلا إذا ختم له بالإيمان ، ومات عليه ، وهذا لا يحصل إلا عند الموت ، فلهذا السبب حسن أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة.

الخامس : أنّ ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ألا ترى أنه تعالى قال : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح ، ٢٧] وهو تعالى منزه عن الشك والريب ، فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليما منه لعباده فالأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله تعالى حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان ، واستدلّ الثاني بوجهين :

الأول : أنّ المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرّك ، ولا يجوز أن يقول أنا متحرّك إن شاء الله تعالى ، وكذا في القول في القائم والقاعد فكذا هنا.

الثاني : أنه تعالى قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فقد حكم الله لهم بكونهم مؤمنين حقا ، فكان قوله : إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله تعالى لهم به ، وذلك لا يجوز ، وأجاب الأوّل عن قولهم : المتحرّك لا يجوز أن يقول : أنا متحرك إن شاء الله تعالى بالفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمنا وبين وصفه بكونه متحركا إذ الإيمان يتوقف حاله على الخاتمة ، والحركة فعل للإنسان نفسي ، فحصل الفرق بينهما ، وعن قولهم : إنه تعالى قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فحكم لهم بكونهم مؤمنين حقا إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة على الحقيقة ، ونحن لا نعلم ذلك ، فثبت حينئذ أنّ الصواب مع أصحاب القول الأوّل : (لَهُمْ) أي : للموصوفين بتلك الصفات (دَرَجاتٌ) أي : منازل في الجنة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) بعضها أعلى من بعض ؛ لأنّ المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ بتلك الأوصاف المذكورة ، فلهذا تتفاوت منازلهم في الجنة على قدر أعمالهم. قال عطاء : جات الجنة يرتفعون فيها بأعمالهم ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام» (٢) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في الجنة مائة درجة لو أنّ العالمين اجتمعوا في إحداهنّ لوسعتهم» (٣)(وَمَغْفِرَةٌ) أي : لما فرط منهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أعدّ لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده.

فإن قيل : أليس المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل ، وحرمانه منها فإنه يتألم قلبه ويتنغص عيشه وذلك يحيل كون الثواب رزقا حسنا؟ أجيب : بأنّ استغراق كل أحد في سعادته الحاضرة تمنعه من حصول النظر إلى غيره ، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم.

وقوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج واختلفوا في تقدير ذلك ، فقال المبرد : تقديره الأنفال لله والرسول وإن كرهوا كما أخرجك ربك من

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنائز حديث ١٠٣ ، ١٠٤.

(٢) أخرجه الترمذي في صفة الجنة حديث ٢٥٣١.

(٣) أخرجه الترمذي في صفة الجنة باب ٤.

٦٣٦

بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له.

قال الرازي : وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة في هذا الموضع ، وقال عكرمة : تقديره فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإنّ ذلك خير لكم كما أنّ إخراج محمد من بيته خير لكم ، وإن كرهه فريق منكم ، وقال الكسائيّ : الكاف متعلق بما بعده ، وهو قوله : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ،) والتقدير كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه ، وقيل : الكاف بمعنى على تقديره امض على الذي أخرجك ربك ، وقيل : الكاف بمعنى إذ تقديره واذكر إذ أخرجك ربك من بيتك بالحق (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) الخروج والجملة حال من كاف أخرجك ، وقيل : كما خبر مبتدأ محذوف أي : هذه الحالة في كراهتهم لها مثل إخراجك في حال كراهتهم ، وقد كان خيرا لهم ، فكذلك هذه أيضا ، وذلك أنّ أبا سفيان قدم بعير من الشام في أربعين راكبا منهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهريّ ، وفيها تجارة كثيرة ، فأخبر جبريل عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم لقيّ العير لكثرة المال وقلة العدوّ ، فلما سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ وبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أنّ محمدا وأصحابه قد خرجوا لعيرهم ، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة ، وكانت عاتكة أخت العباس بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رأت رؤيا فقالت لأخيها العباس : إني رأيت عجبا رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس قد اجتمعوا عليه ، ورأيت كأنّ ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها ورمى أي : رمى بها إلى فوق فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة ، فقال العباس : اكتميها فلا تذكريها لأحد ، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان صديقا له ، فذكرها له واستكتمه فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش ، قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا قال : فلما فرغت من طوافي أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل : يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه الفتنة فيكم؟ قلت : وما ذاك ، قال : الرؤيا التي رأت عاتكة ، قلت : وما رأت؟ قال : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث فنتربص بكم الثلاث فإن بك ما قالت حقا فسيكون وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب ، قال العباس : فو الله ما كان مني إليه كبير أمر إلا أني جحدت ذلك وأنكرته أن لا تكون عاتكة رأت شيئا ، ثم تفرقنا ، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت ، قال : قلت : والله ما كان مني إليه من شيء وايم الله تعالى لأتعرّضن له فإن عاد لأكفينكنه ، قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، وأنا حديد مغضب أرى أنّ قد فاتني منه أمر أحبّ أن أدركه منه قال : فدخلت المسجد ، فرأيته قال : فو الله إني لأمشي نحوه لأتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان أبو جهل رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ قال : قلت : ماله لعنه الله أكان هذا فرقا مني أن أشاتمه قال : فإذا هو سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو وهو

٦٣٧

يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره ، وقد حوّل رحله وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش هذه أموالكم مع أبي سفيان ، وقد عرض لها محمد وأصحابه ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء ، وهو بالمدّ : الإسراع منصوب على الإغراء أي : الزموا الإسراع على كل صعب وذلول أي : أسرعوا مجتمعين ولا تقفنّ لأن تختاروا للركوب ذلولا دون صعب عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل لا في العير ولا في النفير فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس ، فقال : والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمدا لم يصب العير فإنا قد أعضضناه فمضى بهم إلى بدر ، وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة ، ونزل جبريل عليه‌السلام وقال : يا محمد إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريشا ، فاستشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، وقال : ما تقولون؟ إنّ القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول ، فالعير أحبّ إليكم أم النفير؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ ، فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ردّد عليهم ، وقال : إنّ العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدوّ فقام عند غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا الكلام وأمالاه إلى المضيّ إلى العدوّ ، ثم قام سعد بن عبادة ، فقال : انظر أمرك فاقض فو الله لو سرت إلى عدن أبين ، وهي مدينة معروفة باليمن ، وأبين بوزن أبيض اسم رجل من حمير عدن بها أي : أقام ، ما تخلف عنك رجل من الأنصار.

ثم قال المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه‌السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «أشيروا عليّ أيها الناس» وهو يريد الأنصار ؛ لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : «أجل» ، قال : قد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فو الله الذي بعثك بالحق نبيا لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقي بنا عدوّنا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعلّ الله تعالى يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبسطه قول سعد رضي الله عنه ، قال : سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا ، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدّثه عن أهل بدر قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول : «هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى ، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى» قال عمر فو الذي بعثه بالحق نبيا ما أخطأ الحدود التي حدّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى انتهى إليهم فقال : «يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا فإني وجدت ما وعدني الله حقا» فقال عمر : كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ، فقال : «ما أنتم أسمع لما أقول لهم منهم غير أنهم لا

٦٣٨

يستطيعون أن يردوا عليّ شيئا» (١).

وروي أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء ، فناداه العباس وهو في وثاقه أي : قيده وكان العباس حينئذ مأسورا مقيدا لا يصلح ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك فكانت الكراهة من بعضهم لقوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ.)

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) أي : القتال (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) إنك لا تصنع شيئا إلا بأمر ربك (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليه أي : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه وذلك أنّ المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك ، وقالوا : لم يعلمنا أنا نلقى العدوّ فنستعد للقائهم ، وإنما خرجنا لطلب العير ، إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان ، وفيه إيماء إلى أنّ مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم.

(وَإِذْ) أي : واذكر إذ (يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) أي : العير أو النفير ، وإحدى ثاني مفعولي «يعدكم» وقد أبدل منها (أَنَّها لَكُمْ) بدل اشتمال (وَتَوَدُّونَ) أي : تريدون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) أي : القوة والشدة والسلاح وهي العير (تَكُونُ لَكُمْ) لقلة عددها وعددها إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارسا بخلاف النفير لكثرة عددهم وعددهم.

وقرأ أبو عمرو بادغام التاء في التاء بخلاف عنه (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي : يظهره (بِكَلِماتِهِ) أي : بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة ، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي : يستأصلهم ، والمعنى أنكم تريدون أن تصيبوا مالا ، ولا تلقوا مكروها والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق ، وما يحصل لكم من فوز الدارين (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي : يثبت الإسلام (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي : يمحق الكفر (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي : المشركون ذلك.

فإن قيل : قوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بعد قوله : (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) يشبه التكرار أجيب : بأنّ المعنيين متباينان وذلك أنّ الأوّل لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت ، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة على غيرها ونصره عليها.

(إِذْ) أي : واذكر إذ (تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) واستغاثتهم أنهم لما عملوا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون ربنا انصرنا على عدوّك أغثنا يا غياث المستغيثين.

وعن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسّلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمئة أي وبضعة عشر ، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه ، وأخذه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه ، وقال : يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك.

وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء ، والباقون بالإدغام ، (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي) أي : بأني فحذف الجارّ وسلط عليه استجاب فنصب محله (مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٧٣ ، والنسائي في الجنائز حديث ٢٠٧٤.

٦٣٩

مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي : متتابعين يردف بعضهم بعضا ، وقرأ نافع بفتح الدال ، وقيل : بالفتح والكسر ، والباقون بالكسر ، وعدهم بالألف أوّلا ، ثم صارت ثلاثة آلاف ، ثم خمسة آلاف كما في آل عمران ، فقيل : نزل جبريل عليه‌السلام في خمسمائة ملك على الميمنة ، وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، وميكائيل عليه‌السلام على الميسرة ، وفيها عليّ رضي الله تعالى عنه في صور الرجال عليهم عمائم بيض وثياب بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم ، فقاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين.

وروي أنّ أبا جهل قال لابن مسعود من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال : من الملائكة ، فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم.

وروي أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتدّ في طلب رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه ، فنظر إلى المشرك وقد خرّ مستلقيا وشق وجهه ، فحدّث الأنصاري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «صدقت ذاك من مدد السماء الثالثة ، فقتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين» (١) ، وعن أبي داود المازنيّ تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.

وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : «قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف».

وقيل : إنهم لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم ، فإنّ جبريل عليه‌السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط ، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح عليه‌السلام بصيحة واحدة ، وقيل : يدلّ على هذا قوله تعالى :

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) لكم أي : وما جعل الإرداف بالملائكة إلا بشرى لكم (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم ، والصحيح أنهم قاتلوا يوم بدر ، ولم يقاتلوا فيما سواه لما تقدّم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : لا من عند غيره ، وأما إمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوها فهي وسايط لا تأثير لها ، فلا تحسبوا أن النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها ، وفي ذلك تنبيه على أنّ الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله ، ولا يثق بغيره ، فإنّ الله تعالى بيده النصر والإعانة. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي : إنه تعالى قويّ منيع لا يقهره شيء ولا يغلبه غالب بل هو يقهر كلّ شيء ويغلبه (حَكِيمٌ) في تدبيره ونصره ينصر من يشاء ويخذل من يشاء من عباده.

(إِذْ) أي : واذكر إذ (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) وهو النوم الخفيف (أَمَنَةً) أي : أمنا مما حصل لكم من الخوف من عدوّكم (مِنْهُ) أي : من الله تعالى ؛ لأنهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عددهم وعددهم وقلة المسلمين وقلة عددهم ، وعطشوا عطشا شديدا ألقى الله عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة وزال عنهم الكلال والعطش ، وتمكنوا من قتال عدوّهم كان ذلك النوم نعمة في حقهم ؛ لأنه كان خفيفا بحيث لو قصدهم العدوّ لعرفوا وصوله إليهم وقدروا على دفعه عنهم.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : النعاس في القتال أمنة من الله تعالى ، وفي الصلاة

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ١٧٦٣.

٦٤٠