تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

خص هؤلاء بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيما لهم ، وقوله تعالى : (وَرُسُلاً) أي : غير هؤلاء نصب بمضمر دل عليه أوحينا إليك مثل أرسلنا (قَدْ قَصَصْناهُمْ) أي : تلونا ذكرهم (عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي : قبل إنزال هذه السورة أو هذه الآية (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أي : إلى الآن.

روي أنه سبحانه وتعالى بعث ثمانية آلاف نبيّ : أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس ، قاله الجلال المحلي في سورة غافر ، وقوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) هو منتهى مراتب الوحي أي : كلمه على التدريج شيئا فشيئا بحسب المصالح بغير واسطة ملك ، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة وخص به موسى من بين سائر الأنبياء غير نبينا ، وأما نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد فضله الله بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم.

وقوله تعالى : (رُسُلاً) بدل من رسلا قبله (مُبَشِّرِينَ) أي : بالثواب من آمن (وَمُنْذِرِينَ) أي : مخوّفين بالعذاب من كفر وقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) متعلق بأرسلنا أو بمبشرين ومنذرين أي : حجة فقال : (بَعْدَ) إرسال (الرُّسُلِ) فيقولوا : ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ، فبعثناهم لقطع عذرهم.

فإن قيل : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها يوصل إلى المعرفة؟ أجيب : بأنّ الرسل ينبهون عن الغفلة وباعثون على النظر في الأدلة فإرسالهم ضروري (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) في ملكه لا يغلب فيما يريده (حَكِيماً) في صنعه.

روي أن سعد بن عبادة قال : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحبّ إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد بالجنة» (١).

قال ابن عباس : إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم ، فزعموا أنهم لا يعرفونك ، ودخل عليهم جماعة من اليهود فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله إنكم لتعلمون أني رسول الله» فقالوا : والله ما نعلم ذلك أنزل الله عزوجل : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) أي : يبيّن نبوّتك (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) أي : من القرآن المعجز الدال على نبوّتك إن جحدوك وكذبوك (أَنْزَلَهُ) متلبسا (بِعِلْمِهِ) الخاص به وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ.

وروي أنه لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قالوا : ما نشهد لك فنزلت (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) لك أيضا (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ذلك بما قام من الحجج على صحة نبوّتك عن الاستشهاد بغيره (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : دين الإسلام بكتمهم دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم اليهود (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) عن الحق ؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ، ولأنّ المضل يكون أعرق في الضلال وأبعد من الانقلاع عنه.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (وَظَلَمُوا) نبيه بكتمان نعته (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لكفرهم وظلمهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) من الطرق.

__________________

(١) أخرجه البخاري في التفسير حديث ٤٦٣٧ ، ومسلم في اللعان حديث ١٤٩٩.

٤٠١

(إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي : الطريق المؤدي إليها (خالِدِينَ) أي : مقدرين الخلود (فِيها) إذا دخلوها وأكد ذلك بقوله : (أَبَداً) لأنّ الله لا يغفر أن يشرك به (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي : هيّنا لا يصعب عليه ولا يستعظمه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) لما قرّر من أمر النبوّة وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعد بالإجابة والوعيد على الرد (فَآمِنُوا) بالله وقوله تعالى : (خَيْراً لَكُمْ) وكذلك قوله تعالى فيما يأتي (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء ، ١٧١] منصوب بمضمر وذلك إنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال خيرا لكم أي : اقصدوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث ، وهو الإيمان والتوحيد ، وقيل : تقديره يكن الإيمان خيرا لكم. قال البيضاوي : ومنعه البصريون ؛ لأنّ كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لا بدّ منه ، ولأنه يؤدي إلى حذف الشرط وجوابه اه.

(وَإِنْ تَكْفُرُوا) بالله (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا ، فهو غني عنكم فلا يضره كفركم كما لا ينفعه إيمانكم ، ونبّه على غناه بقوله تعالى : (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو يعم ما اشتملتا عليه وما تركبتا منه (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأحوالكم (حَكِيماً) أي : فيما دبره لهم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا) أي : تجاوزوا الحد (فِي دِينِكُمْ) الخطاب للفريقين غلت اليهود في حط عيسى حتى رموه بالزنا ، والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلها ، وقيل : للنصارى خاصة ، والمراد بالكتاب الإنجيل ، فإنه أوفق لقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا) القول (الْحَقَ) أي : من تنزيهه عن الشريك والولد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها) أي : أوصلها (إِلى مَرْيَمَ) وجعلها فيها (وَرُوحٌ) أي : ذو روح (مِنْهُ) لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادّة له ، وسمى عيسى كلمة الله وكلمة منه ؛ لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير من غير واسطة أب ولا نطفة ، وقيل له : روح الله وروح منه ؛ لأنه ذو روح وجسد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ ، وإنما اخترع اختراعا من عند الله وقدرته بأن أمر جبريل ، فنفخ

٤٠٢

في جيب درعها ، فحملت به فأضيف إلى الله تعالى تشريفا له ، وليس كما زعمتم أنه ابن الله ، أو إله معه ، أو ثالث ثلاثة ؛ لأنّ الروح مركب ، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» (١)(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي : عيسى وغيره ولا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض (وَلا تَقُولُوا) كما قالت النصارى : الآلهة (ثَلاثَةٌ) الله وعيسى وأمه ، قال تعالى : (انْتَهُوا) عن ذلك وائتوا (خَيْراً لَكُمْ) من ذلك وهو التوحيد (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي : لا تعدّد فيه بوجه مّا (سُبْحانَهُ) تنزيها له (أَنْ) أي : عن أن (يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي : كما قلتم أيها النصارى ، فإنّ ذلك يقتضي الحاجة ويقتضي التركيب والمجانسة ، ثم علل ذلك بقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا ، فلا يتصوّر أن يحتاج إلى شيء منهما ، ولا إلى شيء متحيّز فيهما ، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزءا منه وولدا له ؛ لأنّ الملكية تنافي البنوة ، وعيسى وأمه كل منهما محتاج إلى ما في الوجود (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي : يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج هو إلى شيء ، فهو غني عن الولد ، فإنّ الحاجة إليه ليكون وكيلا لأبيه ، والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كاف في ذلك مستغن عمن يخلفه أو يعينه.

روي أنّ وفد نجران قالوا : يا رسول الله لم تعيب صاحبنا؟ قال : «ومن صاحبكم؟» قالوا : عيسى قال : «وأيّ شيء أقول؟» قالوا : تقول إنه عبد الله قال : «إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله» قالوا : بلى ، فنزل قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ») أي : يتكبر ويأنف (الْمَسِيحُ) أي : الذي زعمتم إنه إله (أَنْ) أي : عن أن (يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) فإنّ عبوديته له شرف يتباهى به وإنما المذلة والاستنكاف في عبودية غيره وقوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي : عند الله عطف على المسيح أي : ولا تستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله ، وهذا من أحسن الاستطراد ذكر للرد على من زعم إنها آلهة أو بنات الله كما ردّ بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم ، فلا حجة فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء كما زعمه بعض المعتزلة قائلا بأنّ المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه.

قال الطيبي : وإنما تنهض الحجة على النصارى إذا سلموا أن الملائكة أفضل من عيسى ودونه خرط القتاد ، فكيف والنصارى رفعوا درجة عيسى إلى الإلهية ، فظهر أن ذكر الملائكة للاستطراد كما ردّ على النصارى وأنه من باب التتميم لا من باب الترقي اه. أو من باب الترقي في الخلق لا في المخلوق كما قاله البقاعي ، قال : لأن الملائكة أعجب خلقا من عيسى في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى ، ولا ما يجانس عضو البشر فكانوا لذلك أعجب خلقا من آدم عليه الصلاة والسّلام أيضا أو في القوّة ؛ لأنهم أقوى من عيسى ؛ لأنهم يقتلعون الجبال ويأتون بالمياه العظيمة والعبادات الدائمة المستمرّة (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) أي : يطلب الكبر عن ذلك قال الراغب : الاستنكاف تكبر في أنفة والاستكبار بخلافه (فَسَيَحْشُرُهُمْ) أي : المستكبرين وغيرهم (إِلَيْهِ جَمِيعاً) في الآخرة بوعد لا يخلف فيجازيهم.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تصديقا لإقرارهم بالإيمان (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي :

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٣٥ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٨.

٤٠٣

ثواب أعمالهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) عن عبادته (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي : مؤلما هو عذاب النار بما وجدوا من لذاذة الترفع والتكبر (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ) أي : حالا ولا مآلا (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره (وَلِيًّا) يدفعه عنهم (وَلا نَصِيراً) يمنعهم منه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : كافة أهل الكتاب وغيرهم (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : حجة نيرة واضحة مفيدة لليقين التام وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) أي : واضحا في نفسه موضحا لغيره وهو القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه ، فلم يبق لكم عذر ولا علة ، وقيل : المراد بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ) أي : بوعد لا خلف فيه (فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) أي : ثواب عظيم هو رحمته لهم لا بشيء استوجبوه (وَفَضْلٍ) أي : إحسان زائد عليه (وَيَهْدِيهِمْ) أي : في الدنيا والآخرة (إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : طريقا مستقيما وهو الإسلام والطاعة في الدنيا والجنة في الآخرة.

(يَسْتَفْتُونَكَ) أي : في الكلالة حذف لدلالة الجواب عليه.

روي أن جابر بن عبد الله قال : «عادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب عليّ من وضوئه فعقلت وقلت : يا رسول الله لمن الميراث وإنما يرثني كلالة» (١) فنزل : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وقد تقدّم معنى الكلالة وحكم الآية في أوّل السورة وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الإخوة للأب والأم أو للأب ، وقوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ) هو مرفوع بفعل يفسره (هَلَكَ) أي : مات (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) أي : ولا والد وهو الكلالة ، قال الأصبهاني عن الشعبي : اختلف أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في الكلالة فقال أبو بكر : هو ما عدا الوالد ، وقال عمر : ما عدا الوالد والولد ثم قال عمر : إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر وقوله تعالى : (وَلَهُ أُخْتٌ) يحتمل الحال والعطف والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة والذي لأم لا يكون عصبة والولد يشمل الذكر والأنثى فإنّ الأخت وإن ورثت مع البنت قد لا ترث النصف وذلك عند تعدد البنت (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ) أي : هذا الأخ للميت (يَرِثُها) أي : إن ماتت هي وبقي هو جميع مالها (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) فإن كان لها ولد ذكر فلا شيء له أو أنثى فله ما فضل عن نصيبها ولو كانت الأخت أو الأخ من الأم ففرضه السدس كما مرّ أوّل السورة (فَإِنْ كانَتَا) أي : الأختان (اثْنَتَيْنِ) أي : فصاعدا لأنها نزلت في جابر وقد مات عن أخوات (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) أي : الأخ (وَإِنْ كانُوا) أي : الورثة (إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ) منهم (مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) أي : ولم يكلكم في بيانه إلى بيان غيره ، وقال مرغبا مرهبا (إِنِ) أي : كراهة أن (تَضِلُّوا) وقيل : لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين ، وقيل : يبيّن الله لكم ضلالكم أي : الذي من شأنكم أي : إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات ومنه الميراث.

روي عن البراء رضي الله تعالى عنه أنه قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت قال

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه.

٤٠٤

السيوطي أي : من الفرائض خاتمة سورة النساء يستفتونك الآية.

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنّ آخر آية نزلت آية الربا ، وآخر سورة نزلت : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر ، ١].

وروي عنه أنّ آخر آية نزلت قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة ، ٢٨١].

وروي بعدما نزلت سورة النصر عاش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها عاما ، فنزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها ستة أشهر ثم نزل في طريق حجة الوداع (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) فسميت آية الصيف ثم نزل هو واقف بعرفة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فعاش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها إحدى وثمانين يوما ، ثم نزلت آية الربا ، ثم نزلت : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة ، ٢٨١] فعاش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما ، وقول البيضاويّ تبعا للزمخشري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدّق على كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ورث ميراثا ، وأعطي من الأجر كمن اشترى محرّرا أي : رقيقا وحرّره ، وبرىء من الشرك ، وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يتجاوز عنهم» (١) ، حديث موضوع.

__________________

(١) الحديث ذكره الزمخشري في تفسيره ١ / ٨٩.

٤٠٥

سورة المائدة

مدنية ، مائة وعشرون آية أو اثنتان أو ثلاث وكلماتها

ألفان وثمانمائة وأربع كلمات وحروفها أحد عشر ألفا

وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِسْمِ اللهِ) الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل (الرَّحْمنِ) الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه فنعمته أتم نعمة وأشمل (الرَّحِيمِ) الذي خص خلص عباده بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي : التي عقدها الله تعالى على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب والعقد العهد الموثق شبه بعقد الحبل

٤٠٦

ونحوه قول الحطيئة (١) :

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا

والعناج حبل يشدّ في أسفل الدلو ثم يشدّ إلى العراقي ليكون عونا له ، والكرب الحبل الذي يشدّ في وسط العراقي والعرقوتان الخشبتان المعترضتان على الدلو كالصليب وقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) تفصيل للعقود لأنّ العقود مجملة فهو شامل لجميع العقود لأنّ ذلك أمهات التكاليف وجميع ما في هذه السورة من الأحكام تفصيل لذلك.

فائدة : روي عن ابن مسعود قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها قوله تعالى : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وتمام الطهر في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) الآية (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) [المائدة : ١٠٣] وقوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) وزيد عليها تاسع عشر وهو قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ليس للآذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة وأما في سورة الجمعة فهو مخصوص بالجمعة وهو في هذه السورة عام في جميع الصلوات والبهيمة كل حيّ لا يميز أي : من شأنه أنه لا يميز فلا يدخل في ذلك المجنون ونحوه ، والأنعام : الإبل والبقر والغنم وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الظباء وبقر الوحش.

تنبيه : إضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان كقولك : ثوب خز ومعناه البهيمة من الأنعام.

فإن قيل : لم أفرد البهيمة وجمع الأنعام؟ أجيب : بإرادة الجنس وقوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي : تحريمه في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) الآية استثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلا والتحريم عرض من الموت ونحوه وقوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حال من ضمير لكم وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في محلّي جمع حرام وهو المحرم (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق لا يجب عليه مراعاة مصلحة ولا حكمة كما تقوله المعتزلة ، فلا يسئل عن تخصيص ولا تفصيل فما فهمتم حكمته فذاك وما لا فكلوه إليه وارغبوا في أن يلهمكم حكمته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) جمع شعيرة : وهي اسم ما أشعر أي : جعل شعارا وعلما للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج ، يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر ، وقيل : معالم دينه ، وقيل : فرائضه التي حدّها لعباده (وَلَا) تحلوا (الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي : بالقتال فيه قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة ، ٣٦] وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، فيجوز أن يكون ذلك إشارة إلى جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس لأنّ الأشهر كلها في الحرمة سواء ، ولكن قال

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان الحطيئة ص ١٦ ، ولسان العرب (كرب) ، (عنج) ، وتاج العروس (كرب) ، (عنج) ، ومقاييس اللغة ٥ / ١٧٤ ، وتهذيب اللغة ١ / ١٩٧ ، ٣٧٩ ، ١٠ / ٢٠٧.

٤٠٧

الزمخشريّ : والشهر الحرام شهر الحج (وَلَا) تحلوا (الْهَدْيَ) أي : بالتعرّض له وهو ما أهدي إلى الحرم من النعم (وَلَا) تحلوا (الْقَلائِدَ) أي : صاحب القلائد من الهدي ، وعبر بها مبالغة في تحريمها أو القلائد أنفسها ، والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرّض للهدي ، والقلائد جمع قلادة وهي ما قلّد به الهدي من نعل أو غيره ليعلم به أنه هدي فلا يتعرّض له (وَلَا) تحلوا (آمِّينَ) أي : قاصدين (الْبَيْتَ الْحَرامَ) لزيارته أي : بأن تقاتلوهم.

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) وهو الثواب (وَرِضْواناً) أي : وأن يرضى عنهم والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين ، أي : لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم تعظيما لهم واستنكارا أن يتعرّض لمثلهم ، وقيل : معناه يبتغون من الله رزقا بالتجارة ورضوانا بزعمهم لأنهم كانوا يظنون ذلك فوصفوا به بناء على ظنهم ولأنّ الكافر لا نصيب له في الرضوان كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ، ٤٩] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان المسلمون والمشركون يحجون جميعا فنهى الله تعالى المسلمين أن يمنعوا أحدا عن حج البيت بقوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) فعلى الأوّل الآية محكمة قال الحسن : ليس في المائدة منسوخ ، وعلى الثاني قال البيضاوي : فالآية منسوخة أي : لما فيها من حرمة القتال في الشهر الحرام ، ومن حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام والأوّل منسوخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ، ٥] والثاني بقوله تعالى : (يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة ، ٢٨] فقوله : منسوخ منزل على هذا ، لكن إذا قلنا بشمول آمين للمسلمين والمشركين إنما يكون النسخ في حق المشركين خاصة وهو في الحقيقة تخصيص لا نسخ ففي تسميته نسخا تسمح ، وقرأ شعبة بضم الراء والباقون بالكسر.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ) أي : من الإحرام وقوله تعالى : (فَاصْطادُوا) أمر إباحة أباح لهم الاصطياد بعد حظره عليهم كأنه قيل : وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا كما في قوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة ، ١٠] (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي : يحملنّكم أو يكسبنّكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي : شدّة بغضهم ، وقرأ ابن عامر وشعبة بسكون النون بعد الشين والباقون بنصبها وقوله تعالى : (أَنْ صَدُّوكُمْ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن الشرطية والباقون بفتحها أي : لأجل أن صدوكم في عام الحديبية أو غيره (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وقوله تعالى : (أَنْ تَعْتَدُوا) أي : يشتد عدوكم عليهم بأن تنتقموا منهم بالقتل وغيره ، ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يتعدّى إلى واحد وإلى اثنين ككسب (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي : بفعل ما أمرتم به (وَلا تَعاوَنُوا) فيه حذف إحدى التاءين في الأصل (عَلَى الْإِثْمِ) أي : المعاصي للتشفي (وَالْعُدْوانِ) أي : التعدي في حدود الله للانتقام (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : خافوا عقابه بأن تطيعوه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالفه فانتقامه أشد.

وقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي : أكلها بيان ما يتلى عليكم والميتة ما فارقته الروح من غير ذكاة شرعية (وَالدَّمُ) أي : المسفوح قال تعالى : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) قال العلماء : الغذاء يصير جزءا من جوهر المتغذي ولا بد أن يحصل للمتغذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء ، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المنهيات فحرّم أكله على الإنسان لئلا يتكيّف بتلك الكيفية ، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في

٤٠٨

المنهيات ، وأورثهم عدم الغيرة فإنّ الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي له ولا يتعرّض له لعدم الغيرة.

(وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي : رفع الصوت به لغير الله بأن ذبح على اسم غيره ، والإهلال :

رفع الصوت ومنه يقال : فلان أهل بالحج إذا لبى وكانوا يقولون عند الذبح : باسم اللات والعزى ، قال ابن عادل : وقدم هنا لفظ الجلالة في قوله لغير الله به وأخرت في البقرة لأنها هناك فاصلة أو تشبه الفاصلة بخلافها هنا لأنّ بعدها معطوفات (وَالْمُنْخَنِقَةُ) وهي التي ماتت بالخنق سواء أفعل بها ذلك آدميّ أم اتفق لها ذلك (وَالْمَوْقُوذَةُ) وهي التي وقذت أي : ضربت حتى ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) أي : الساقطة من علو بان سقطت من جبل أو مشرف أو في بئر فماتت ، ولو رمى صيدا في الهواء بسهم فأصابه فسقط على الأرض ومات حلّ لأنّ الوقوع على الأرض من ضرورته وإن سقط على جبل أو شجر ثم تردى منه فمات لم يحل لأنه من المتردية إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء فيحل كيفما وقع لأنّ الذبح قد حصل قبل التردية.

تنبيه : دخلت الهاء في هذه الكلمات لأنّ المنخنقة هي الشاة المنخنقة كأنه قيل : حرّمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة والمتردية وخصّت الشاة لأنها من أعمّ ما يأكل الناس والكلام يخرّج على الأعمّ ويكون المراد الكل ، وأما الهاء في قوله تعالى : (وَالنَّطِيحَةُ) وهي التي تنطحها أخرى فتموت فللنّقل من الوصفية إلى الاسمية وإلا فكان من حقها أن لا تدخلها تاء التأنيث كقتيل وجريح ، وما في قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) بمعنى الذي وعائده محذوف أي : وما أكله السبع ولا بد من حذف ، ولهذا قال الزمخشريّ : وما أكل بعضه السبع وهذا يدل على أنّ جوارح الصيد إذا أكلت ما اصطادته لم يحل أكله.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) استثناء متصل أي : إلا ما أدركتم ذكاته وصار فيه حياة مستقرة من ذلك فهو حلال ، وقيل : الاستثناء مخصوص بما أكل السبع وقيل : الاستثناء منقطع أي : ولكن ما ذكيتم من غيرها فحلال أو فكلوه ، وكأنّ هذا القائل رأى أنها وصلت بهذه الأسباب إلى الموت أو إلى حالة قريبة منه فلم تفد تذكيتها عنده شيئا ، وقيل : الاستثناء من التحريم لا من المحرّمات أي : حرّم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال فيكون الاستثناء منقطعا أيضا ، وأقلّ الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع الحلقوم والمريء وكمالها أن يقطع الودجين معهما ، وهما عرقان في صفحتي العنق ويجوز بكل محدد يجرح من حديد أو قصب أو زجاج أو غيره إلا السن والظفر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر» (١).

وقوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) في محل رفع عطفا على الميتة أي : وحرم عليكم ذلك والنصب واحد الأنصاب ، وهي حجارة ، كانت حول الكعبة يذبح عليها تقربا إليها وتعظيما لها ، وقيل : هي الأصنام لأنها تنصب لتعبد ، وعلى : بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأنصاب ، وقيل : هو جمع والواحد نصاب ويدل للأوّل قول الأعشى (٢) :

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشركة حديث ٢٤٨٨ ، ومسلم في الأضاحي حديث ١٩٦٨ ، وأبو داود في الضحايا حديث ٢٨٢١ ، والترمذي في الأحكام حديث ١٤٩١ ، وابن ماجه في الذبائح حديث ٣١٧٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الأعشى ص ١٨٧ ، والأزهية ص ٢٧٥ ، وتذكرة النحاة ص ٧٢ ، والدرر

٤٠٩

وذا النصب المنصوب لا تعبدنه

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) في محل رفع أيضا فكان عطفا على الميتة أي : وحرم عليكم ذلك والأزلام جمع زلم بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام قدح بكسر القاف صغير وهو سهم لا ريش له ولا نصل ، وذلك أنهم كانوا إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الآخر نهاني ربي ، والثالث غفل أي : لا سمة عليه فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أداروها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام ، وقيل : هو قسمة الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) إشارة إلى ما ذكر تحريمه أي : خروج عن الطاعة ، وقيل : إشارة إلى الاستقسام وكونه فسقا ؛ لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر بعلمه علام الغيوب ، وقد قال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل ، ٦٥] وضلال باعتقاد أنّ ذلك طريق إليه وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله عزوجل إن كان أراد بربي الله وما يدريه أنّ الله أمره أو نهاه ، فالكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وجهالة وشرك إن أراد به الصنم.

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ) لم يرد به يوما بعينه وإنما أراد الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، وقيل : الألف واللام للعهد ، قيل : أراد يوم نزولها ، وقيل : نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، وقيل : هو يوم دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة سنة تسع ، وقيل : ثمان ، وقوله تعالى : (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) فيه قولان أحدهما : يئسوا من أن يحلوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة ، والثاني : يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم فترتدّوا عنه بعد طمعهم في ذلك ، لما رأوا من قوته ؛ لأنه تعالى كان وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان بقوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة ، ٣٣] فحقق ذلك النصر وأزلل الخوف (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أن يظهروا عليكم (وَاخْشَوْنِ) أجمع القرّاء السبعة على حذف الياء بعد النون لحذفها في الرسم أي : وأخلصوا الخشية لي وحدي فإنّ دينكم قد اكتمل بدره وجل عن انمحاق محله وقدره ورضي به الآمر ومكّنه على رغم أنوف الأعداء وهو قادر وذلك قوله تعالى مسوقا مساق التعليل :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي : الذي أرسلت به أكمل خلقي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رجلا من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية من كتابكم تقرأونها لو علينا معاشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال : أي أية؟ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة ، أشار عمر إلى أنّ ذلك اليوم كان عيدا ، قال ابن عباس : كان ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس ، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.

وروي أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك

__________________

٥ / ١٤٩ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، والكتاب ٣ / ٥١٠ ، ولسان العرب (نصب) ، (سبح) ، (نون) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٤٠.

٤١٠

يا عمر؟» قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا فإذا كمل فلم يكمل شيء إلا نقص قال : «صدقت» (١) ، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاش بعدها أحدا وثمانين يوما ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل وكانت هجرته في الثاني عشر منه ، فقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي : الفرائض والسنن والحدود والجهاد والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض وهذا معنى قول ابن عباس ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك ، وقيل : أظهرت دينكم وأمّنتكم من عدوّكم.

فإن قيل : قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يقتضي أنّ الدّين كان ناقصا قبل ذلك وذلك يوجب أنّ الدين الذي كان عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر عمره كان ناقصا ، وإنما وجد الدّين الكامل في آخر عمره مدّة قليلة. أجيب : بأنّ الدين لم يكن ناقصا بل كان أبدا كاملا وكانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالما في أوّل وقت المبعث بأنّ ما هو كامل في هذا اليوم ، ليس بكامل في الغد ولا مصلحة فيه ، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت ، وكان ينزل بعد العدم ، وأمّا في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبدا كان كاملا إلا أنّ الأوّل كمال إلى زمان مخصوص ، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلهذا قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بإكماله ، وقيل : بدخول مكة آمنين ورضيت أي : اخترت لكم الإسلام دينا من بين الأديان ، وهو الذي عند الله لا غير قال الله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران ، ٨٥].

وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو إن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامّة والإسلام المرضي ، والمعنى : فمن اضطرّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات (فِي مَخْمَصَةٍ) أي : مجاعة (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) أي : مائل (لِإِثْمٍ) أي : معصية بأن يأكل ذلك تلذّذا ومجاوزا حدّ الرخصة كقوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [البقرة ، ١٧٣] (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) له ما أكل (رَحِيمٌ) به في إباحته فلا يؤاخذه ومن المائل إلى الإثم قاطع الطريق ونحوه فلا يحل له الأكل مما ذكر قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون فمن اضطرّ في الوصل والباقون بالضم.

(يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) من الطعام وإنما أتى بقوله لهم بلفظ الغيبة لتقديم ضمير الغيبة في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ) ولو قيل في الكلام : ماذا أحلّ لنا لكان جائزا على حكاية الجملة كقولك : أقسم زيد ليضربن ولأضربن بلفظ الغيبة والتكلم ، إلا أنّ ضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوه كما أن لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها وما ذا مبتدأ وأحلّ لهم خبره كقولك : أي شيء أحلّ لكم منها؟ فقال تعالى : (قُلْ) لهم (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي : ما ليس بخبيث منها وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد ولا مستقذر من ذي الطباع السليمة ، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرّمونه على أنفسهم من السائبة وما معها وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ١٤٠ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٣٢٦.

٤١١

وقوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) معطوف على الطيبات أي : أحلّ لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف للعلم به والجوارح جمع جارحة من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين ، والهاء للمبالغة سميت بذلك لأنّ الجرح الكسب لأنها تكسب الصيد ، ومنه قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام ، ٦٠] أي : كسبتم أو لأنها تجرح الصيد غالبا ، وقوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) حال من ضمير علمتم أي : حال كونكم معلّمين هذه الكواسب الصيد والمكلب المؤدّب الجوارح ومغريها مأخوذ من الكلب بسكون اللام وهو الحيوان النابح ؛ لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فأخذ من لفظه لكثرته في جنسه أو لأنّ السبع يسمى كلبا ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عتبة بن أبي لهب حين أراد سفر الشام فغاظ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبيّ : «اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» (١) فأكله الأسد ، وقوله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَ) حال ثانية من ضمير علمتم أو استئناف.

فإن قيل : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ أجيب : بأنّ فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح فقيها عالما بالشرائط المعتبرة في الشرع لحل الصيد ، وفي هذا فائدة جليلة وهي أنّ على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدّهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، وإن احتاج في ذلك إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل فكم من أخذ من غير متقن قد ضيّع أيامه وعض عند لقاء التحارير أنامله (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) أي : من علم التكليب لأنه إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) أي : الجوارح مستقرّا إمساكها (عَلَيْكُمْ) أي : على تعليمكم وإن قتلته بأن لم تأكل منه بخلاف غير المعلّمة فلا يحل صيدها وشروط التعليم فيها ثلاثة أشياء : إذا أرسلت استرسلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكته ولم تأكل منه ، وأقل ما يعرف به ذلك ثلاث مرات فإن أكلت منه فليس مما أمسكن على صاحبها فلا يحل أكله كما في حديث الصحيحين ، وإن أكل منه فلا تأكل منه ، إنما أمسك على نفسه. وعن علي رضي الله تعالى عنه : إذا أكل البازي فلا تأكل وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء وبعضهم لا يشترط ذلك في سباع الطير ؛ لأن تأدبها إلى هذا الحدّ متعذر وقال آخرون : لا يشترط مطلقا وفي هذا الحديث إنّ صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلم من الجوارح.

(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) في هذه الكناية ثلاثة أوجه أحدها : أنها تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل كأنه قيل : واذكروا اسم الله عليه على الأكل ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سمّ الله وكل مما يليك» (٢) الثاني : أنها تعود إلى ما علمتم أي : اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه» (٣) الثالث : أنها تعود إلى ما

__________________

(١) أخرجه القاضي عياض في الشفاء ١ / ٦٣٢ ، وابن حجر في فتح الباري ٤ / ٣٩ ، والقرطبي في تفسيره ١٧ / ٨٢ ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١٦٣.

(٢) أخرجه البخاري في الأطعمة حديث ٥٣٧٦ ، ومسلم في الأشربة حديث ٢٠٢٢ ، والترمذي في الأطعمة حديث ١٨٥٧ ، ابن ماجه في الأطعمة حديث ٣٢٦٧ ، والدارمي في الأطعمة حديث ٢٠١٩.

(٣) أخرجه الزيلعي في نصب الراية ٤ / ٣١٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٩ / ٢٣٧.

٤١٢

أمسكن أي : اذكروا اسم الله تعالى على ما أدركتم ذكاته مما أمسكت عليكم الجوارح (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : في محرماته (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيؤاخذكم بما جل ودق.

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ) الكلام فيه كالكلام فيما قبله (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي : المستلذات (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي : ذبائح اليهود والنصارى ، ومن دخل في دينهم قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حِلٌ) أي : حلال (لَكُمُ) فأمّا من دخل في دينهم بعد المبعث فلا تحل ذبيحتهم ، ولو ذبح يهوديّ أو نصرانيّ على اسم غير الله تعالى كالنصراني يذبح على اسم المسيح لم تحل ذبيحته ، وأما المجوس فقد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في تقريرهم بالجزية دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» (١) رواه الإمام مالك (وَطَعامُكُمْ) إياهم (حِلٌّ لَهُمْ) فلا عليكم أن تطعموهم ولا تبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) أي : الحرائر (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم اليهود والنصارى أي : حل لكم أن تنكحوهنّ وإن كنّ حربيات. وقال ابن عباس : لا تحل الحربيات وأما الإماء المسلمات فيحل نكاحهنّ في الجملة بخلاف الإماء الكتابيات فلا يحل نكاحهنّ عندنا ويحل عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى.

(إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : مهورهنّ فتقييد الحلّ بإتيانها لتأكيد وجوبها والحث على الأولى وإنّ من تزوّج امرأة وعزم أن لا يعطي صداقها كان في صورة الزاني ، وورد فيه حديث وتسميته بالأجر يدل على أنه لا حدّ لأقلّه كما أن أقل الأجر في الإجارة لا يتقدّر (مُحْصِنِينَ) أي : قاصدين الإعفاف والعفاف. وقيل : متزوّجين (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي : معلنين بالزنا بهنّ (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أي : مسرّين بالزنا منهنّ ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى قال الشعبي : الزنا ضربان : السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنا سرا والله تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الإحصان وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة ، ٢٢١] فبقي على التحريم ما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهنّ من جميع المشركات ، حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام ، وقرأ الكسائي بكسر صاد المحصنات والباقون بنصبها.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) اختلف المفسرون في معناه فقال ابن عباس ومجاهد : ومن يكفر بالإيمان أي : بالله الذي يجب الإيمان به وإنما حسن هذا المجاز ؛ لأنه يقال : رب الإيمان ورب الشيء على سبيل المجاز ، وقال الكلبي : ومن يكفر بالإيمان أي : بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله لأنّ الإيمان من لوازمها وإطلاق الشيء على لازمه مجاز مشهور ، وقال قتادة : إنّ ناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية : (وَمَنْ يَكْفُرْ) بما أنزل الله في القرآن فهو كذا وكذا فسمي القرآن إيمانا ؛ لأنه مشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان ، والمراد من ذلك أن يأتي بشيء يصير به مرتدا (فَقَدْ حَبِطَ) أي : فسد (عَمَلُهُ) الصالح قبل ذلك إن اتصل ذلك بالموت بدليل قوله تعالى : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ

__________________

(١) أخرجه مالك في الزكاة حديث ٤٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٩ / ١٨٩ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٣ / ٢٢٤ ، ١٢ / ٢٤٣ ، وعبد الرزاق في المصنف ١٠٠٢٥ ، ١٩٢٥٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٢٢٩.

٤١٣

مِنَ الْخاسِرِينَ) وقوله تعالى في آية أخرى : (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) [البقرة ، ٢١٧] أمّا من أسلم قبل الموت فإنّ ثوابه يفسد دون عمله فلا يجب عليه إعادة حج قد فعله ولا صلاة قد صلاها قبل الردّة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي : أردتم القيام إليها كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل ، ٩٨] عبرّ عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، وظاهر الآية الكريمة يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا ، لكن صدّ عنه الإجماع لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال له عمر : صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال : «عمدا فعلته» (١) ، فقيل : هو مطلق أريد به التقييد والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وقيل : الأمر فيه للندب وقيل : كان ذلك أوّل الأمر ثم نسخ قال البيضاوي : وهو ضعيف لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» (٢)(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) أي : أمروا الماء عليها ، ولا يجب الدّلك خلافا لمالك رضي الله تعالى عنه (وَ) اغسلوا (أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) أي : معها إن وجدت وقدرها إن فقدت ، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صفة وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد» (٣) إلخ .. وللإجماع أو أن (إلى) في الآية بمعنى مع كما في قوله

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الطهارة حديث ٦١ ، والنسائي في الطهارة حديث ١٣٣.

(٢) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٢ / ٢٥٢.

(٣) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٢٤٦.

٤١٤

تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران ، ٥٢] ويزدكم قوّة إلى قوّتكم أو يجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب مجازا إلى المرفق مع جعل إلى غاية للغسل الداخلة هنا في المغيّا بقرينة الإجماع والاحتياط للعبادة ، والمعنى اغسلوا أيديكم من رؤوس الأصابع إلى المرافق ، أو تجعل باقية على حقيقتها إلى المنكب مع جعل إلى غاية للترك المقدّر فتخرج الغاية والمعنى اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق ، والمرافق جمع مرفق بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة وهو مفصل ما بين العضد والمعصم ولو قطع بعض ما يجب غسله وجب غسل الباقي ؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، وإن قطع من المرفق فإن سلّ عظم الذراع وبقي العظمان المسميان برأس العضد وجب غسل رأس عظم العضد ؛ لأنه من المرفق وهو مجموع العظمين والإبرة الداخلة بينهما وإن قطع من فوق المرفق ندب غسل باقي عضده.

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) أي : ببعضها. لما روى مسلم «إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته» (١) واكتفى بمسح البعض لأنه المفهوم من المسح عند إطلاقه ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية وهي الشعر الذي بين النزعتين والاكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر لأنها دونه والباء إذا دخلت على متعدّد كما في الآية تكون للتبعيض أو على غيره كما في قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج ، ٢٩] تكون للالصاق.

فإن قيل : صيغة الأمر بمسح الرأس والوجه في التيمم واحدة فهلا أوجبتم التعميم أيضا؟ أجيب : بأن المسح ثم بدل للضرورة فاعتبر ببدله ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه.

فإن قيل : المسح على الخف بدل فهلا وجب تعميمه كمبدله؟ أجيب : بقيام الإجماع على عدم وجوبه ، ولا فرق بين أن يمسح على بشرة الرأس أو شعرها ولو شعرة واحدة في حدّ الرأس ؛ لأنّ ذلك يصدق عليها مسمى الرأس عرفا إذ الرأس اسم لما رأس وعلا وقوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ) قرأه نافع وابن عامر وحفص والكسائي بنصب اللام عطفا على وجوهكم. وقيل : على أيديكم والباقون بالكسر على الجوار ومنهم من عطف على المجرور على قراءة الجرّ والممسوح ليفيد مسح الخف ، وعطف على المنصوب على قراءة النصب على المغسول ليفيد غسل الرجل المتجرّدة منه فيفيد كل من القراءتين غير ما أفادته الأخرى وقوله تعالى : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وهم العظمان الناتئان في كل رجل من جانبين عند مفصل الساق والقدم دل على دخولهما في الغسل ما دل على دخول المرفقين فيه وقد مرّ.

تنبيه : الفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح فيه دليل على وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ولو قطع بعض القدم وجب غسل الباقي وإن قطع فوق الكعب فلا فرض عليه ، وندب غسل الباقي كما مرّ في اليد ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات.

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) من جماع وغيره (فَاطَّهَّرُوا) أي : بالغسل لجميع البدن ؛ لأنه أطلق ولم يخص الأعضاء كما في الوضوء (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) أي : مرضا يضره الماء (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي : مسافرين سفرا مباحا طويلا أو قصيرا (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أي : الموضع المطمئن من

__________________

(١) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٢٧٤.

٤١٥

الأرض الذي يقضي فيه حاجته الإنسان التي لا بد منها سمي باسمه الخارج للمجاورة. قيل : وفي ذلك حكمة وهي شدة عجز الإنسان ليكف عن إعجابه وكبره وترفعه وفخره كما حكي أنّ بعض الأمراء لقي بعض البله فلم يفسح له فغضب وقال : كأنك لم تعرفني! فقال : بلى والله إني لأعرفك أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة ، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية وحقق الباقون الهمزتين معا.

(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) بالذكر أو غيره أمنيتم أم لا وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين اللام والميم والباقون بالألف (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) بعد طلبه لفقده حسا أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره (فَتَيَمَّمُوا) أي : اقصدوا (صَعِيداً) أي : ترابا (طَيِّباً) أي : طهورا خالصا (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) مع المرفقين (مِنْهُ) بضربتين والباء للإلصاق وبينت السنة أنّ المراد استيعاب العضوين بالمسح وتقدّم مثل هذه الآية في النساء في البيضاوي ، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة.

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ) في الدين (مِنْ حَرَجٍ) أي : ضيق بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الأحداث والذنوب فإنّ الوضوء يكفر الذنوب (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ببيان شرائع الدين (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه فيثيبكم ، قال البيضاوي : والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود وإنّ آلتيهما مائع وجامد وموجبهما حدث أصغر أو أكبر ، وإنّ المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر ، وإنّ الموعود عليه تطهير الذنوب وإتمام النعمة.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي : في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، وفي غير ذلك من جميع النعم ليذكركم المنعم ويرغبكم في شكره ، لأنّ كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وقال تعالى : (نِعْمَةَ اللهِ) ولم يقل نعم الله ؛ لأنّ هذا الجنس لا يقدر عليه إلا الله لأنّ نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون من الآفات وإيصال الخيرات في الدنيا والآخرة لا يعلمه إلا الله تعالى وإن المراد التأمل في هذا النوع من حيث إنه ممتاز عن نعمة غيره.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ) يشعر بسبق النسيان وكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات؟ أجيب : بأنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد فصار غاية ظهورها وكثرتها سببا لوقوعها في محل النسيان (وَ) اذكروا (مِيثاقَهُ) أي : عقده الوثيق (الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) أي : بواسطة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره والمنشط : مفعل من النشاط وهو الأمر الذي ينشط له والمكره : مفعل من الكره وهو الأمر الذي تكرهه النفس وأضاف الميثاق الصادر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى نفسه كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] وأكد ذلك بأنكم التزمتموه (إِذْ) أي : حين (قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) وفي ذلك تذكير بما أوجب الله له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليكم من الشكر بهدايته لكم إلى الإسلام ثم حذركم عن نقض تلك العهود بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : في ميثاقه أن تنقضوه (إِنَّ اللهَ) الذي له صفات الكمال (عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم (بِذاتِ الصُّدُورِ) أي :

٤١٦

بما في القلوب فبغيره أولى فيجازيكم عليها فضلا عن جليات أعمالكم ، وقيل : المراد بالميثاق هو الذي أخذه الله منهم حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا : بلى قاله مجاهد وقيل : المراد به الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله على التوحيد والشرائع قاله السدي ، وأدغم أبو عمرو القاف في واثقكم في الكاف بخلاف عنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) أي : مجتهدين في القيام (لِلَّهِ) تعالى بحقوقه (شُهَداءَ) أي : متيقظين محضرين أفهامكم غاية الإحضار بحيث لا يشذّ عنها شيء مما تريدون الشهادة به (بِالْقِسْطِ) أي : العدل (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي : ولا يحملنكم (شَنَآنُ) أي : شدّة بغض (قَوْمٍ) أي : الكفار (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيا مما في قلوبكم (اعْدِلُوا) أي : تحروا العدل واقصدوه في كل شيء (هُوَ) أي : العدل (أَقْرَبُ) من تركه (لِلتَّقْوى) لكونه لطفا فيها وفيه تنبيه عظيم على أنّ وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.

تنبيه : يؤخذ من هذا أن التكاليف مع كثرتها محصورة في نوعين : التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فقوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) إشارة إلى التعظيم لأمر الله ومعنى القيام هو أن تقوم لله بالحق في كل ما يلزمك وقوله تعالى : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان ، الأوّل : قال عطاء : لا تخاف في شهادتك أهل ودك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. الثاني : أمرهم بالصدق في أفعالهم وأقوالهم ، وتقدّم نظير هذه الآية في النساء ، إلا أنّ هناك قدم لفظة القسط وهنا أخرّها ، قال ابن عادل : فكان الغرض من ذلك ـ والله أعلم ـ أنّ آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة والتي هنا : جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ بالأمر بالقيام به ؛ لأنه أردع للمؤمنين ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه. وقال البيضاوي : وتكرير هذا الحكم إمّا لاختلاف السبب كما قيل : إنّ الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود ولمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان بألسنتهم (وَعَمِلُوا) تصديقا لهذا الإقرار (الصَّالِحاتِ) وحذف ثاني مفعولي وعد استغناء بقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) فإنه استئناف يبينه. وقيل : الجملة في موضع المفعول فإنّ الوعد ضرب من القول ؛ لأنه لا ينعقد إلا به فكأنه قال : وعدهم هذا القول والأجر العظيم : هو الجنة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : النار التي اشتدّ توقدها فاشتدّ احمرارها فلا يراها أحد إلا أحجم عنها فيلقون فيها ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب وهذا من عادة الله سبحانه وتعالى أنه يتبع حال أحد الفريقين حال الفريق الآخر وفاء بحق الدعوة وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطييب لقلوبهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) رسمت نعمت هنا بالتاء فوق فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء وفي الوصل الجميع بالتاء.

٤١٧

روي أنّ المشركين رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا وذلك بعسفان وهو واد بينه وبين مكة مرحلتان في غزوة ذي أنمار فلما صلّوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا : إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها فنزل جبريل عليه‌السلام بصلاة الخوف ، رواه مسلم (١) وغيره والآية إشارة إلى ذلك.

وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بني قريظة ومعه الخلفاء الأربعة يستقرضهم أي : يطلب منهم مالا قرضا لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين ، لكن في رواية البيهقي أنّ المقتولين كانا معاهدين لا مسلمين وأن الخروج كان لبني النضير لا إلى قريظة فقالوا : نعم يا أبا القاسم وكانوا قد عاهدوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فقالوا : قد آن لك أن تأتينا أو تسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحش : أنا ، فجاء إلى رحا عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده فنزل جبريل عليه‌السلام فأخبره فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راجعا إلى المدينة ثم دعا عليا وقال : «لا تبرح مقامك فمن خرج عليك من أصحابي فسأل عني فقل : توجه إلى المدينة» ففعل ذلك حتى تناهوا إليه ثم تبعوه ، وقيل : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون بها فعلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي فسل سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك مني؟ قال : «الله» فأسقطه جبريل من يده فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «من منعك مني؟» فقال : لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله فنزلت (٢).

(إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) ليفتكوا بكم يقال : بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به قال تعالى : (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الممتحنة ، ٢] ومعنى بسط اليد مدّها إلى المبطوش به ، ألا ترى إلى قولهم : فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي : منعها أن تمد إليكم ورد مضرتها عنكم (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع أموركم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فإنه الكافي لإيصال الخير ودفع الشر.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : العهد الموثق بما أخذ عليكم من السمع والطاعة (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) أي : شاهدا على كل سبط نقيب يكفلهم بالوفاء بما عليهم الوفاء به كما بعثنا منكم ليلة العقبة اثني عشر نقيبا وأخذنا منكم الميثاق على ما به كمال الإسلام والنقيب الذي ينقب عن أحوال القوم كما قيل له : عريف لأنه يتعرّفها ومن ذلك المناقب وهي الفضائل لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها.

روي أنّ بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحاء ـ بالمدّ ـ أرض الشام وكان سكنها الكنعانيون الجبابرة وقال : إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها وجاهدوا فيها ، وإني ناصركم وأمر موسى صلوات الله وسلامه عليه أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به يوثقه عليهم واختار النقباء وأخذ الميثاق على

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٢) انظر البخاري في الجهاد حديث ٢٩١٠ ، ومسلم في المغازي حديث ٤١٣٩.

٤١٨

بني إسرائيل وتكفل له بهم النقباء وسار بهم ، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراما عظيما وقوّة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدّثوا قومهم ، وقد نهاهم موسى عليه‌السلام أن يحدّثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهودا ويوشع بن نون من سبط افراثيم بن يوسف وكانا من النقباء (وَقالَ) لهم (اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي : بالعون والنصرة (لَئِنْ) لام قسم (أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) التي هي وصلة العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) التي تقرّب العبد إلى الله عزوجل (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) أي : بجميع الرسل (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي : نصرتموهم وقيل : التعزير التعظيم وقيل : هو الثناء بخير قاله يونس وهو قريب من الثاني.

فإن قيل : لم أخرّ الإيمان بالرسل عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدّم عليهما؟ أجيب : بأنّ اليهود كانوا مقرّين بأنه لا بدّ في حصول النجاة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرّين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنّ بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا بدّ من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود وإلا لم يكن لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) داخل تحت إيتاء الزكاة فما فائدة إعادته؟ أجيب : بأنّ المراد بالزكاة الواجبة وبالقرض الصدقة المندوبة وخصها تنبيها على شرفها وقرضا يحتمل المصدر والمفعول به ، ولما كان الإنسان محل النقصان فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صلاح العمل قال : سدّ الجواب القسم المدلول عليه باللام في لئن مسد جواب الشرط (لَأُكَفِّرَنَ) أي : لأسترنّ (عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي : فعلكم الذي من شأنه أن يسوء (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ) فضلا ورحمة مني (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : من شدّة الريّ (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق (مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَ) أي : ترك وضيع (سَواءَ السَّبِيلِ) أي : أخطأ طريق الحق والسواء في الأصل الوسط.

فإن قيل : من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضلّ سواء السبيل ، أجيب : بأنّ الضلال بعد أظهر وأعظم لأنه الكفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره لأنه قد يكون له قبل ذلك شبهة يتوهم له معذرة ، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار دال قد عند الضاد والباقون بالإدغام وقد تقدّم ولما نقضوا الميثاق مرّة بعد مرّة بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء وكتمهم صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدّم في سورة البقرة.

قال تعالى : (فَبِما) ما مزيدة للتأكيد (نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) قال عطاء : أبعدناهم من رحمتنا ، وقال الحسن ومقاتل : مسخناهم قردة وخنازير وقال ابن عباس : ضربنا الجزية عليهم (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي : لا تلين لقبول الإيمان وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بعد القاف وتشديد الياء بمعنى رديئة من قولهم درهم قسي إذا كان مغشوشا وهو أيضا من القسوة فإنّ المغشوش فيه يبس وصلابة والباقون بألف بعد القاف وتخفيف الياء وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) استئناف لبيان قسوة قلوبهم فإنه لا قسوة أشد من تغيير كلام الله تعالى والافتراء عليه (وَنَسُوا حَظًّا) أي : نصيبا نافعا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي : من التوراة على أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم الصلاة والسّلام تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاتهم به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه وقيل معناه : إنهم حرّفوها فزلّت لشؤمهم أشياء منها عن حفظهم وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية وقيل : تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من

٤١٩

الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان نعته (وَلا تَزالُ) أي : بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق فهو خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تَطَّلِعُ) أي : تظهر (عَلى خائِنَةٍ) أي : خيانة (مِنْهُمْ) بنقض العهد وغيره لأنّ ذلك من عادتهم وعادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) لم يخونوا وهم الذين آمنوا منهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي : امح ذنبهم ذلك (وَاصْفَحْ) أي : أعرض عن ذلك أصلا ورأسا إن تابوا وآمنوا وعاهدوا والتزموا الجزية وقيل : مطلق ونسخ بآية السيف وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تعليل للأمر بالصفح وحث عليه وتنبيه على أنّ العفو عن الكافر الخائن إحسان فضلا عن العفو عن غيره.

روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن الأعصم.

وفي رواية البخاري أنه رجل من بني زريق حليف لليهود وكان منافقا حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهنّ وذلك أشدّ السحر ، ثم إنّ الله تعالى شفاه وأعلمه أنّ السحر في بئر ذروان فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها : أفلا أخرجته؟ فقال : «لا أمّا أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرّا فأمرت به فدفنته» (١) وهو في معجم الطبرانيّ الكبير وهذا لفظه ، وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال : «كان رجل يدخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعقد له عقدا فجعله في بئر رجل من الأنصار فأتاه ملكان يعودانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما : أتدري ما وجعه؟ قال فلان الذي يدخل عليه عقد له عقدا فألقاه في بئر فلان الأنصاري فلو أرسل رجلا لوجد الماء أصفر فبعث رجلا فأخذ العقد فحلها فبرىء ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يذكر له شيئا منه ولم يعاتبه» (٢) ، وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ امرأة يهودية سمّت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألها عن ذلك فقالت : أردت لأقتلك فقال : «ما كان الله ليسلطك على ذلك ـ أو قال ـ عليّ» قالوا : أفلا نقتلها؟ قال : «لا» قال أنس : فما زلت أعرفها في لهوات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانظر إلى عفوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقتد به» (٣) ، وفي ذلك غاية العفو والإحسان امتثالا لأمر ربه تعالى ، وقيل : فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم.

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الطب حديث ٥٧٦٦ ، ومسلم في السحر حديث ٢١٨٩ ، وابن ماجه في الطب حديث ٣٥٤٥.

(٢) أخرجه الهيثمي في المجمع الزوائد ١٠٦٩٠.

(٣) أخرجه مسلم في السّلام حديث ٢١٩٠ ، وأبو داود في الديات حديث ٤٥٠٨.

٤٢٠