تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

بهما كما آخذت به من قبلنا ، قال الكلبي : كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطؤوا عجلت لهم العقوبة ، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (١).

فإن قيل : النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ أجيب : بأنّ المراد بذكرهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) [الكهف ، ٦٣] والشيطان لا يقدر على فعل النسيان وإنما يوسوس فتكون وسوسته سببا للتفريط الذي منه النسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته وذكره بلفظ الدعاء على معنى التحدّث بنعمة الله فيه ، قال الله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى ، ١١] (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي : لا تكلفنا أمرا يثقل علينا حمله (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أي : بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك قاله «الكشاف» قال البيضاوي : وخمسين صلاة في اليوم والليلة ونسبها غيره من المفسرين إلى اليهود ولا تنافي بينهما إذ المراد من بني إسرائيل هم اليهود منهم فلا يرد على هذا ما قيل إنّ بني إسرائيل لم يفرض عليهم خمسون صلاة قبل ولا خمس صلوات مع أنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ) أي : قوّة (لَنا بِهِ) من البلاء والعقوبة ومن التكاليف التي لا تفي به الطاقة البشرية وهو يدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه ، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفهول ثان لا للمبالغة (وَاعْفُ عَنَّا) أي : امح ذنوبنا (وَاغْفِرْ لَنا) أي : استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة بها (وَارْحَمْنا) وتعطف بنا وتفضل علينا فإننا لا ننال العمل بطاعتك ولا نترك معصيتك إلا برحمتك (أَنْتَ مَوْلانا) أي : سيدنا ومتولي أمورنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم فإن من حق المولى أن ينصرموا إليه على الأعداء أو المراد بالكافرين عامة الكفر.

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) قال الله تعالى : (قد غفرت لكم) وفي قوله : (لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال : لا أؤاخذكم (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) قال : لا أحمل عليكم (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال : لا أحملكم (وَاعْفُ عَنَّا) إلخ .. قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين وكان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال : آمين.

وروى مسلم وغيره أنه «صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعا بهذه الدعوات قيل له عقب كل كلمة : قد فعلت» (٢) وعن عبد الله أنه قال : لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها ، ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم ، ١٦] قال : فراش من ذهب قال : وأعطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في الطلاق باب ١٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٠٣٠٧.

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٧ / ٢٠٥ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ١٢.

٢٢١

المقحمات» (١) وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنزل الله تعالى آيتين أوّلهما آمن الرسول من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» (٢) والكتابة باليد تمثيل وتصوير لإثباتهما وتقديرهما بألفي سنة تصوير لقدمهما ؛ لأنّ مثل هذا يقال لطول الزمان لا للتحديد.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبيّ قبلي» (٣). وروي عنه أنه قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (٤) أي : عن قيام الليل أو عن كل ما يسوءه وهذا يردّ قول من استنكر أن يقال سورة البقرة ، وقال : ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة كما قال عليه الصلاة والسّلام : «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها ، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة» قيل : وما البطلة؟ قال : «السحرة» (٥) أي : أنهم مع حذقهم لا يوفقون لتعليمها أو التأمّل في معانيها أو العمل بما فيها ، وسموا بطلة لانهماكهم في الباطل أو لبطالتهم عن أمر الدين ، والفسطاط الخيمة أو المدينة الجامعة سميت به السورة لاشتمالها على معظم أصول الدين وفروعه والإرشاد إلى كثير من مصالح العباد ونظام المعاش ونجاة المعاد. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : أنه رمى الجمرة ثم قال : من ههنا والذي لا إله إلا هو رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف والممتحنة والمجادلة.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فلا يقربها شيطان» (٦) انتهى.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٧٣ ، والترمذي في التفسير حديث ٣٢٧٦ ، والنسائي في الصلاة حديث ٤٥١.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ٣ / ٤٣٣ ،

(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٨٧ ، ٤٢٢ ، ٥ / ١٥١ ، ١٨٠.

(٤) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤٠٠٨ ، ومسلم في المسافرين حديث ٨٠٧ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٣٩٧ ، والترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٨٨١ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٣٦٨.

(٥) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٨٠٤ ، والدارمي في فضائل القرآن باب ١٣ ، ١٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٤٩ ، ٢٥١ ، ٢٥٥ ، ٢٥٧ ، ٣٤٨ ، ٣٥٢ ، ٣٦١.

(٦) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٨٨٢ ، والدارمي في فضائل القرآن حديث ٣٣٨٧.

٢٢٢

سورة آل عمران

مدنية باتفاق وآياتها مائتان أو إلا آية وثلاثة آلاف

وأربعمائة وثمانون كلمة وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بِسْمِ اللهِ) الذي له صفات الكمال فاستحق التفرد بالألوهية (الرَّحْمنِ) الذي سرت رحمته خلال الوجود فشملت كل موجود بالكرم والجود (الرَّحِيمِ) لمن توكل عليه بالعطف إليه وقوله تعالى :

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥))

(الم) تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لم يقطع أحد من القراء السبعة هذه الهمزة التي في الله في الوصل ، وإذا

٢٢٣

وقف على ألم يبدأ بالهمزة ، ولكل من القراء مدّ على الميم ووصل في الوصل وإنما فتح الميم لالتقاء الساكنين كما هو مذهب سيبويه وجمهور النحاة.

فإن قيل : أصل التقاء الساكنين الكسر فلم عدل عنه؟ أجيب : بأنهم لو كسروا لكان ذلك مفضيا إلى ترقيق لام الجلالة والمقصود تفخيمها للتعظيم فأوثر الفتح لذلك كما حركوها في نحو من الله ، وأيضا فقبل الميم ياء وهي أخت الكسرة وقبل هذه الياء كسرة ، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات فحركوها بالفتح ، وأمّا سقوط الهمزة فواضح وبسقوطها التقى الساكنان وقيل : إنّ هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين بل هي حركة نقل أي : نقلت حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو (قَدْ أَفْلَحَ) [المؤمنون ، ١] في قراءة ورش وهذا مذهب الفرّاء وجرى عليه الزمخشريّ وأطال الكلام فيه ورده أبو حيان بما يطول ذكره وقوله تعالى (اللهُ) مبتدأ وما بعده خبره وقوله تعالى : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) نعت له والحيّ هو الفعال الدراك والقيوم هو القائم بذاته والقائم بتدبير خلقه.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة ، ٢٥٥] وفي آل عمران (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفي طه (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)(١) [طه ، ١١١] ونقل البندنيجي عن أكثر العلماء أن الاسم الأعظم هو الله قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما : نزلت هذه الآية في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد صاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة حبرهم دخلوا مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات والحارث بن كعب يقول من ورائهم : ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم ، فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوهم يصلوا إلى المشرق» فكلم السيد والعاقب ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلما قالا قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاثة أشياء دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما للصليب وأكلكما الخنزير» قالوا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعا في عيسى ، فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟» قالوا : بلى قال : «ألستم تعلمون أنّ ربنا حيّ لا يموت وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟» قالوا : بلى قال : «ألستم تعلمون أنّ ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟» قالوا : بلى قال : «فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟» قالوا : لا قال : «ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟» قالوا : بلى قال : «فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علمه الله؟» قالوا : لا قال : «فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب» قالوا : بلى قال : «ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبيّ ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث» قالوا : بلى قال : «وكيف يكون هذا كما زعمتم؟» فسكتوا فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها».

(نَزَّلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) أي : القرآن متلبسا (بِالْحَقِ) أي : بالصدق في أخباره أو

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في الدعاء حديث ٣٨٥٦.

٢٢٤

بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال أي : محقا (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : قبله من الكتب.

فإن قيل : كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه؟ أجيب : بأن تلك الأخبار لغاية ظهورها وكونها موجودة سماها بهذا الاسم (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) جملة على موسى عليه الصلاة والسّلام (وَالْإِنْجِيلَ) جملة على عيسى عليه الصلاة والسّلام.

(مِنْ قَبْلُ) أي : قبل تنزيل القرآن ، واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أو لا يدخلانهما لكونهما أعجميين فلا يناسب كونهما مشتقين ، ورجح هذا الزمخشري وقال : قالوا لأنّ هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين وقوله تعالى : (هُدىً) حال بمعنى هاديين من الضلالة ولم يثنه ؛ لأنه مصدر (لِلنَّاسِ) أي : على العموم إن قلنا : متعبدون بشرع من قبلنا وهو رأي وإلا فالمراد بالناس قومهما وإنما عبر في التوراة والإنجيل بأنزل وفي القرآن بنزل المقتضى للتكرير ؛ لأنهما أنزلا دفعة واحدة بخلافه. وقيل : إن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة ومن سماء الدنيا منجما في ثلاث وعشرين سنة فحيث عبر فيه بأنزل أريد الأول أو ينزل أريد الثاني.

فإن قيل : يردّ الأوّل بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) وبقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [البقرة ، ٤] وبقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف ، ١] وبقوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) [الإسراء ، ١٠٥] ويرد الثاني بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان ، ٣٢] أجيب : بأن القول بذلك جرى على الغالب (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي : الكتب الفارقة بين الحق والباطل وذكره بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها ، فكأنه قال : وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ولم يجمع ؛ لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران وقيل : القرآن وكرّر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيما وإظهارا لفضله من حيث إنه يشاركهما في كونه وحيا منزلا وتمييز بأنه معجز يفرق به بين المحق والمبطل.

وقيل : أراد الكتاب الرابع وهو الزبور كما قال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [النساء ، ١٦٣] قال الزمخشريّ : وهو ظاهر ولما قرّر سبحانه جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد زجرا للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) من القرآن وغيره (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بسبب كفرهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي : غالب على أمره فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده (ذُو انْتِقامٍ) ممن عصاه والنقمة عقوبة المجرم أي : يعاقبه عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) كائن (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لعلمه بما يقع في العالم من كليّ وجزئيّ.

فإن قيل : لم خصهما بالذكر مع أنه عالم بجميع الأشياء أجيب : بأنه تعالى إنما خصهما به ؛ لأنّ البصر لا يتجاوزهما.

فإن قيل : لم قدّم الأرض على السماء؟ أجيب : بأنها إنما قدمت ترقيا من الأدنى إلى الأعلى وهذه الآية كالدليل على كونه حيا.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي : من ذكورة وأنوثة ، وبياض

٢٢٥

وسواد ، وحسن وقبح ، وتمام ونقص ، وغير ذلك كالدليل على القيومية والاستدلال على أنه تعالى عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره ، وفي هذا ردّ على وفد نجران من النصارى حيث قالوا : عيسى ولد الله واستدلوا على ذلك بأمور منها : العلم ، فإنه كان يخبر عن الغيوب ، ويقول لهذا إنك أكلت في دارك كذا ، ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا ، ومنها القدرة وهي أنّ عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا ، فكأنه تعالى يقول : كيف يكون ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أب المصوّر ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجرا للنصارى عن قولهم التثليث فقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه وفيه إشارة إلى كمال القدرة ، فقدرته تعالى أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء (الْحَكِيمُ) في صنعه. وفيه إشارة إلى كمال العلم فعلمه أكمل من علم عيسى بالغيوب ، وأنّ علم عيسى ببعض الصور ، وقدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلها بل على أنّ الله أكرمه بذلك إظهارا لمعجزته وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعا عدم الإلهية ؛ لأنّ الإله هو الذي يكون قادرا على كل الممكنات عالما بجميع الجزئيات والكليات.

قال عبد الله بن مسعود : «حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك ـ أو قال : يبعث إليه الملك ـ بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد وقال : وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (١).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا رب شقي أم سعيد فيكتبان فيقول : أي رب ذكر أو أنثى فيكتبان فيكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص» (٢).

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) أي : القرآن (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) أحكمت عبارتها بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه فهي واضحات الدلالة (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام ويحمل المتشابهات عليها وترد إليها ولم يقل أمّهات الكتاب ؛ لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة وكلام الله واحد. وقيل : كل آية منهنّ أمّ الكتاب كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون ، ٥٠] أي : كل واحد منهما آية وقوله تعالى : (وَأُخَرُ) نعت لمحذوف تقديره وآيات أخر (مُتَشابِهاتٌ) أي : محتملات لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص والنظر.

فإن قيل : لم جعل بعضه متشابها وهلا كان كله محكما؟ أجيب : بأن في المتشابه من الابتلاء حكمة عظيمة وهي التمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه وليظهر فيها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها فينالوا بها ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٠٨ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٤٣ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٠٨ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٧٦.

(٢) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٤٤.

٢٢٦

وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها والتوفيق بينها وبين المحكمات الدرجات العلى عند الله.

فإن قيل : لم فرق هنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكما في موضع آخر فقال (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود ، ١] وجعل كله متشابها في موضع آخر فقال (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر ، ٢٣] أجيب : بأنه حيث جعل الكل محكما فمعناه أنّ آياته حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ. وحيث جعل الكل متشابها فمعناه أنّ آياته يشبه بعضها بعضا في صحة المعنى وجزالة اللفظ.

تنبيه : أخر جمع أخرى وإنما لم ينصرف ؛ لأنه وصف معدول عن الأخريات ففيه الوصف والعدل وهما علتان يمنعان الصرف (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي : ميل عن الحق كالمبتدعة (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي : فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي : وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أي : الذي يجب أن يحمل عليه (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي : الذين ثبتوا وتمكنوا فيه وسئل مالك بن أنس عن الراسخين في العلم قال : العالم العامل بما علم المتبع. وقال غيره : هو من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله تعالى ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه.

تنبيه : اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم : الواو في قوله (وَالرَّاسِخُونَ) واو العطف أي : أنّ تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) وهذا قول مجاهد والربيع وعلى هذا يكون قوله : (يَقُولُونَ) حالا معناه والراسخون في العلم قائلين : آمنا به ، وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله : والراسخون واو الاستئناف وتم الكلام عند قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وهو قول أبي بن كعب وعائشة وغيرهما وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحدا من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، وعدد الزبانية ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسّلام ونحوها والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به ، وفي المحكم بالإيمان به والعمل. وقال عمر بن عبد العزيز في هذه انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنا به قال في «الكشاف» : والأوّل هو الأوجه اه.

ووجهه شيخنا القاضي زكريا بقوله : لأنّ المتشابه على الثاني يصير الخطاب به كالخطاب بالمهملات اه.

ومع هذا فالوجه هو الثاني ؛ لأنه أشبه بظاهر الآية ويدل له وجوه : أحدها أنه ذمّ طالب المتشابه بقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الآية وثانيها : أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون : آمنا به وقال في أوّل البقرة : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة ، ٢٦] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح ؛ لأنّ كل من عرف شيئا على سبيل التفصيل فلا بد أن يؤمن به وثالثها : لو كان قوله والراسخون معطوفا لصار قوله : يقولون آمنا به ابتداء وهو بعيد عن الفصاحة ، وكان الأولى أن يقال وهم يقولون أو يقال ويقولون.

فإن قيل : في تصحيحه وجهان : الأوّل : أن يقولون خبر مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون

٢٢٧

بالتأويل يقولون آمنا. الثاني : أن يكون يقولون حالا من الراسخون. أجيب : بأنّ الأوّل مدفوع بأنّ تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى ، والثاني أنّ ذا الحال هو الذي تقدّم ذكره وهم الراسخون فوجب أن يكون قوله : آمنا به حالا من الراسخون لا من الله وذلك ترك للظاهر ، ورابعها : قوله تعالى : (كُلٌ) أي : من المحكم والمتشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله وبما لم يعرفوا تفصيله ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة ، وخامسها : نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يسع أحدا جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير تعرفه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ، وسئل مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه ، ٥] فقال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.

فإن قيل : ما الفائدة في لفظ عند ، ولو قال كل من ربنا لحصل المقصود؟ أجيب : بأنّ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد.

فإن قيل : لم حذف المضاف إليه من كل؟ أجيب : بأنّ دلالته على المضاف إليه قوية فالأمن من اللبس بعد الحذف حاصل (وَما يَذَّكَّرُ) بإدغام التاء في الأصل في الذال أي : ما يتعظ بما في القرآن (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : أصحاب العقول.

تنبيه : وجه اتصال هذه الآية وأوّلها (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) بما قبلها وأوّلها (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) أنه لما بين أنه قيوم وهو القائم بمصالح الخلق والمصالح قسمان : جسماني وروحاني ، فالجسماني أشرفها تعديل البنية على أحسن شكل وهو المراد بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) وأمّا الروحاني فأشرفها العلم وهو المراد بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ.)

ولما حكى سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : آمنا به حكى أنهم يقولون : (رَبَّنا لا تُزِغْ) أي : لا تمل (قُلُوبَنا) عن طريق الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) وفقتنا لدينك والإيمان بالحكم والمتشابه. قال عليه الصلاة والسّلام : «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه ـ أي : القلب على الحق ـ وإن شاء أزاغه عنه» (١) رواه الشيخان وغيرهما ، وقيل : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا وعلى هذا اقتصر الزمخشري ووجه بأنّ ما ذكر كناية أو مجاز إذ لا تحسن من الله الإزاغة ليشمل نفيها وهذا بناء على مذهبه من الاعتزال ، وأمّا مذهب أهل السنة فالزيغ والهداية خلق الله تعالى وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهمّ يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك» (٢) وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا وبطنا» (٣)(وَهَبْ لَنا) أي : اعطنا (مِنْ لَدُنْكَ) أي : من عندك (رَحْمَةً) أي : توفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى أو مغفرة للذنوب (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) لكل سؤل وفيه دليل على أنّ الهدى والضلال من الله تعالى وأنه

__________________

(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٥٤ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٩٩.

(٢) أخرجه الترمذي حديث ٢١٤ ، ٣٥٢٢ ، ٣٥٨٧ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٩٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٨٢.

(٣) أخرجه ابن ماجه في المقدمة حديث ٨٨.

٢٢٨

متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء ما.

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) أي : تجمعهم (لِيَوْمٍ) أي : في يوم (لا رَيْبَ) أي : لا شك (فِيهِ) أي : في وقوعه وما فيه من الحشر والجزاء وهو يوم القيامة فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي : موعده بالبعث يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ، وأن يكون من كلام الراسخين فيكون فيه التفات عن الخطاب وكأنهم لما طلبوا من ربهم الصون عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ووعدك حق فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ومن وفقته وهديته ورحمته بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.

تنبيه : احتج الوعيدية بهذه الآية على القطع بوقوع وعيد الفساق قالوا : لأنّ الوعيد داخل تحت لفظ الوعد لقوله تعالى : (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف ، ٤٤] والوعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد. وأجيب : بأنا لا نسلم القول بالقطع بوقوع وعيد الفساق مطلقا بل ذلك مشروط بعدم العفو كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاق فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه توعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ويكون قوله : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) كقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران ، ٢١] وكقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ، ٤٩] فيكون من باب التهكم ، وذكر الواحدي في «البسيط» أنه يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ؛ لأنّ خلف الوعيد كرم عند العرب لأنهم يمدحون بذلك كما قال القائل (١) :

إذا وعد السرّاء أنجز وعده

وإن وعد الضرّاء فالعفو مانعه

وقال الآخر أيضا (٢) :

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

ولما حكى الله سبحانه وتعالى دعاء المؤمنين وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدّة عقابهم بقوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو عام في الكفرة ، وقيل : المراد بهم وفد نجران أو اليهود أو مشركو العرب (لَنْ تُغْنِيَ) أي : لن تنفع ولن تدفع (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : من عذابه وقيل : من رحمته أو من طاعته على معنى البدلية قاله البيضاوي : أي : على أنّ من للبدل والمعنى لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئا أي : بدل رحمته وطاعته. قال أبو حيان : وإثبات البدلية جمهور النحاة تأباه (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي : حطبها وفي ذلك كمال العذاب ؛ لأنّ كماله أن يزول عنه ما ينتفع به ثم يجتمع عليه الأسباب المؤلمة ، فالأوّل هو المراد بقوله

__________________

(١) البيت من الطويل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لعامر بن الطفيل في ديوانه ص ٥٨ ، ولسان العرب (ختأ) ، (وعد) ، (ختا) ، وتاج العروس (ختأ) ، وبلا نسبة في إنباه الرواة ٤ / ١٣٩ ، ومراتب النحويين ص ٣٨.

٢٢٩

تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) فإن المرء عند الشدّة يفزع إلى المال والولد ؛ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها في دفع النوائب ، فبين تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا وإذا تعذر عليه الانتفاع بالمال والولد وهما أقرب الطرق فما عداه بالتعذر أولى ونظيره (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء ، ٨٨ ، ٨٩] ، وأمّا الثاني من أسباب كمال العذاب وهو اجتماع الأسباب المؤلمة فهو المراد بقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) وهذا هو النهاية في العذاب ، فإنه لا عذاب أعظم من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس.

وقوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) إمّا استئناف مرفوع المحلّ خبر لمبتدأ مضمر تقديره دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون ، وإمّا متصل بما قبله أي : لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك أو توقد النار بهم كما توقد النار بآل فرعون وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عطف على آل فرعون فيكون في محل جر وقيل : استئناف فيكون في محل رفع على الابتداء والخبر ، وقوله تعالى : (كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) وعلى الأوّل تكون هذه الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى : (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة.

«ولما أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع وقال : يا معشر اليهود احذروا من الله تعالى أن ينزل بكم مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا : يا محمد لا يغرّنك أنك لقيت أقواما أغمارا أي : جهالا جمع غمر لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس» (١) نزل.

(قُلْ) يا محمد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية ، وقد وقع ذلك بقتل قريظة وإجلاء النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم (وَتُحْشَرُونَ) في الآخرة (إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي : الفراش والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس المهاد جهنم. وفي هذه الآية إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع خبره على موافقته فكان هذا إخبارا بالغيب فكان معجزة ولهذا لما نزلت هذه الآية قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم» (٢) وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.

فإن قيل : أي فرق بين القراءتين من جهة المعنى؟ أجيب : بأنّ معنى قراءة التاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم فهو إخبار بما سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم ما أخبره به من وعيد بلفظه كأنه قال : أد إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) أي : عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون.

فإن قيل : لم لم يقل قد كانت ؛ لأنّ الآية مؤنثة؟ أجيب : بأنه إنما ذكر الفعل للفصل بينه وبين الاسم المؤنث بلكم فإن الفصل مسوغ لذلك مع المؤنث الحقيقي كقوله (٣) :

إنّ امرأ غره منكنّ واحدة

بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الخراج حديث ٣٠٠١.

(٢) أخرجه البغوي في تفسيره ١ / ٤١٥.

(٣) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٧٤ ، والخصائص ٢ / ٤١٤ ، والدرر ٦ / ٢٧١ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٢٤ ، ولسان العرب (غرر) ، واللمع ص ١١٦.

٢٣٠

قال الفرّاء : وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه والخطاب لمشركي قريش وقيل : لليهود وقيل : للمؤمنين (فِي فِئَتَيْنِ) أي : فرقتين (الْتَقَتا) يوم بدر (فِئَةٌ) مؤمنة (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : طاعته وهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف (وَ) فئة (أُخْرى كافِرَةٌ) تقاتل في سبيل الشيطان وهم مشركو مكة وقوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) قرأ نافع بالتاء على الخطاب أي : ترى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويوقنوا بالنصر الذي وعدهم به في قوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال ، ٦٦] بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال ، ٦٥] والباقون بالياء على الغيبة أي : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين وكانوا تسعمائة وخمسين أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر.

فإن قيل : هذا مناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال ، ٤٤] أجيب : بأنه قللهم أوّلا حتى اجترؤوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا إمدادا من الله تعالى للمؤمنين في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين (رَأْيَ) أي : في رأي (الْعَيْنِ) أي : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات وقد نصرهم الله تعالى مع قلتهم (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) أي : يقوي (بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) نصره كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَعِبْرَةً) أي : عظة (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي : لذوي البصائر أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) أي : ما تشتهيه النفس ، وتدعو إليه ، والمزين هو الله تعالى للابتلاء كقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ) [الكهف ، ٧] أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع الإنساني أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله وقيل : الشيطان هو المزين ، وذهب إليه المعتزلة واستدلوا بقول الحسن : الشيطان والله زينها لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها ، وإنما سميت شهوات مبالغة وإيماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحيوا شهواتها كقوله تعالى : (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) [ص ، ٣٢] والشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ثم بيّن ذلك بقوله تعالى : (مِنَ النِّساءِ) إنما بدأ بهنّ لأنهنّ حبائل الشيطان (وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار وهو المال الكثير قيل : ملء مسك ثور أي : ملء جلده وعن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه : القنطار مائة ألف دينار. وقال ابن عباس والضحاك : ألف ومائتا مثقال (الْمُقَنْطَرَةِ) أي : المجمعة. وقال السديّ : المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير. وقال الفرّاء : المضعفة فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) قيل : سمي الذهب ذهبا ؛ لأنه يذهب ولا يبقى والفضة فضة ؛ لأنها تنفض أي : تتفرّق (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) أي : الحسان ، وقال سعيد بن جبير : هي الراعية يقال : أسام الخيل وسوّمها والخيل جمع لا واحد له من لفظه واحدها فرس كالقوم والنساء (وَالْأَنْعامِ) جمع النعم وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه (وَالْحَرْثِ) أي : الزرع (ذلِكَ)

٢٣١

أي : ما ذكر من النساء وما بعده (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : يتمتع به فيها ثم يفنى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي : المرجع وهو الجنة فينبغي الرغبة فيما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية دون غيره من الشهوات الناقصة الفانية.

فإن قيل : المآب قسمان : الجنة وهي في غاية الحسن والنار وهي خالية عن الحسن كما قال تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً) [النبأ ، ٢١] أجيب : بأنّ المقصود بالذات هو الجنة ، وأمّا النار فمقصودة بالعرض والمقصود بالآية الترهيب في الدنيا والترغيب في الآخرة.

(قُلْ) يا محمد لقومك (أَأُنَبِّئُكُمْ) أأخبركم (بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) أي : المذكور من الشهوات وهذا استفهام تقريري.

تنبيه : هنا همزتان مختلفتان من كلمة : الأولى مفتوحة والثانية مضمومة ، قرأ قالون بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل بينهما ألفا وورش يسهل الثانية من غير إدخال ألف وينقل حركة الهمزة الأولى إلى اللام من قل فتصير اللام مفتوحة والثانية مضمومة ، وابن كثير كورش إلا أنه لا ينقل الحركة إلا في لفظ القرآن وقرآن ، وأبو عمرو يسهل الثانية ويدخل بينهما ألفا كقالون وله وجه آخر وهو عدم إدخال ألف بينهما ، والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي : مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم كما تقول : هل أدلك على رجل عالم عندي رجل عالم من صفته كيت وكيت ويجوز أن تتعلق اللام بخير وترتفع جنات على هو جنات (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الحيض وغيره مما يستقذر من النساء وقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) قرأه شعبة بضم الراء ، والباقون بكسرها وهما لغتان : الكسر لغة الحجاز والضم لغة تميم. وقيل : بالكسر اسم وبالضم مصدر وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير ، في يديك فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (١).

تنبيه : قد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله لقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) [التوبة ، ٧٢] وأوسطها الجنة ونعيمها (وَاللهُ بَصِيرٌ) أي : عالم (بِالْعِبادِ) أي : بأعمالهم فيجازي كلا منهم بعمله أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم جنات وقوله تعالى :

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٤٩ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٢٩ ، والترمذي في صفة الجنة حديث ٢٥٥٥.

٢٣٢

الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩))

(الَّذِينَ) نعت للذين اتقوا أو للعباد أو بدل من الذين قبله (يَقُولُونَ) يا (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) أي : صدّقنا (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي : استرها علينا وتجاوز عنا (وَقِنا عَذابَ النَّارِ.)

تنبيه : في ترتيب سؤال المغفرة وما عطف عليها وسيلة على مجرّد الإيمان دليل على أنّ مجرّد الإيمان كاف في استحقاق المغفرة والاستعداد لأسبابها وأسباب ما عطف عليها وقوله تعالى : (الصَّابِرِينَ) أي : على الطاعة وعن المعصية وعلى البأساء والضرّاء نعت (وَالصَّادِقِينَ) أي : في إيمانهم وأقوالهم قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السرّ والعلانية (وَالْقانِتِينَ) أي : المطيعين لله (وَالْمُنْفِقِينَ) أي : المتصدّقين (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) أي : أواخر الليل كأن يقولوا : اللهمّ اغفر لنا خصت بالذكر ؛ لأنها وقت الغفلة ولذة النوم ، وفي هذا كما قال البيضاوي : حصر لمقامات السالك على أحسن الترتيب أي : الذكرى فإنّ معاملته مع الله إمّا توسل وإمّا طلب ، والتوسل إمّا بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما ، وإمّا بالبدن وهو إمّا قولي وهو الصدق وإمّا فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة ، وإمّا بالمال وهو الإنفاق في سبيل الخير وإمّا الطلب فالاستغفار ؛ لأنّ المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها انتهى.

وتوسيط الواو بين الصابرين وما بعده للدلالة على استقلال كل واحد منها وكما لهم فيها أو لتغاير الموصوفين بالصفات. وتخصيص الأسحار ؛ لأن الدعاء فيها أقرب من الدعاء في غيرها إلى الإجابة ؛ لأنّ العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والعقل أجمع لمعاني الألفاظ التي ينطق بها لا سيما للمتهجد قيل : إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون ، وعن الحسن كانوا يصلون في أوّل الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار فذا نهارهم وهذا ليلهم. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينزل الله إلى سماء الدنيا ـ أي : أمره ـ كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له

٢٣٣

من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له» (١).

وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه : يا بنيّ لا تكن أعجز من هذا الديك يصوّت في الأسحار وأنت نائم على فراشك. وعن زيد بن أسلم أنه قال : هم الذين يصلون الصبح في جماعة. وعبر بالسحر لقربه من الصبح.

(شَهِدَ اللهُ) أي : بين لخلقه بالدلائل وإنزال الآيات (أَنَّهُ لا إِلهَ) أي : لا معبود بحق في الوجود (إِلَّا هُوَ) قال الكلبيّ : «قدم حبران من أحبار الشام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له : أنت محمد؟ قال : نعم قالا له : وأنت أحمد؟ قال : أنا محمد وأحمد قالا : فإنا نسألك عن شيء ، فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدّقناك فقال لهما : سلا قالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عزوجل ، فأنزل الله هذه الآية فأسلم الرجلان». وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، وخلق الله الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة ، فشهد لنفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا أرض ولا برّ ولا بحر فقال : شهد الله أنه لا إله إلا هو (وَ) شهد بذلك (الْمَلائِكَةُ) أي : أقرّوا بذلك (وَ) شهد بذلك (أُولُوا الْعِلْمِ) أي : بالإيمان بذلك والاحتجاج عليه.

فإن قيل : ما المراد بأولي العلم الذين عظمهم الله تعالى هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟ أجيب : بأنّ المراد بهم أنهم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل والتوحيد من الأنبياء والمؤمنين وفيه دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله وقوله تعالى : (قائِماً) أي : بتدبير مصنوعاته حال من الله وإنما جاز إفراده تعالى بها لعدم اللبس ، وإن اختلف في جاءني زيد وعمرو راكبا فقد منعه الزمخشري وتبعه البيضاويّ وجوّزه أبو حيان وقال : يحمل على الأقرب كما في الوصف في نحو جاءني زيد وعمرو الطويل أو حال من هو والعامل فيها معنى الجملة أي : تفرّد (بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل وقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كرّر للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبني عليه قوله تعالى : (الْعَزِيزُ) أي : في ملكه (الْحَكِيمُ) أي : في صنعه فيعلم أنه الموصوف بهما ، وقدم العزيز ؛ لأن العزة تلائم الوحدانية والحكمة تلائم القيام بالقسط فأتى بهما لتقرير الأمرين على ترتيب ذكرهما ورفعهما على البدل من الضمير الأوّل أو الثاني أو على الخبر المحذوف.

وعن أبي غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش ، وكنت أختلف إليه ، فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة فقام من الليل يتهجد فمرّ بهذه الآية ، أي : شهد الله إلى آخرها ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة إن الدين عند الله الإسلام قالها مرارا قلت : لقد سمع فيها فصليت معه وودّعته ثم قلت : إني سمعتك تردّدها فما بلغك فيها؟ قال : والله لا أحدّثك بها إلى سنة فمكثت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة فقال : حدّثني أبو وائل عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ١١٤٥ ، ومسلم في المسافرين حديث ٧٥٨ ، والترمذي في الصلاة حديث ٤٤٦.

٢٣٤

عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» (١) ، روى هذا الحديث الطبراني والبيهقيّ لكن بسند ضعيف.

وقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ) أي : المرضي (عِنْدَ اللهِ) هو (الْإِسْلامُ) جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي : لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو الشرع المبعوث به الرسل كما قال تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة ، ٣] وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران ، ٨٥] وقرأ الكسائي بفتح الهمزة إن قيل على أنه بدل من أنه إلخ .. بدل اشتمال وضعفه أبو حيان ؛ لأن فيه فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي قال : والصواب أنه معمول للحكيم بإسقاط الجار أي : الحكيم بأن الدين ، والباقون بكسرها على الاستئناف (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي : من اليهود والنصارى وقيل : من أرباب الكتب المتقدّمة في دين الإسلام فقال قوم : إنه حق. وقال قوم : إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقا أو في التوحيد فثلثت النصارى. وقالت اليهود : عزير ابن الله وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوّة فينا من قريش ؛ لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بالتوحيد أنه الحق الذي لا محيد عنه (بَغْياً) أي : ما كان الاختلاف وتظاهر هؤلاء بمذهب وهؤلاء بمذهب إلا حسدا (بَيْنَهُمْ) وطلبا للرياسة. وقيل : هو اختلاف في نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعد ما جاءهم العلم ببيان بعثته في كتبهم حيث آمن به بعض وكفر به بعض وقيل : هو اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ومنهم من آمن بعيسى ولم يؤمن ببقية الأنبياء وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي : المجازاة له وعيد لمن كفر منهم.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي : جادلك الذين كفروا يا محمد في الدين (فَقُلْ) لهم (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي : أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيهما لغيره شركا بأن أعبده ولا أدعو إلها معه يعني : أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبت عندكم صحته كما ثبت عندي ، وما جئت بشيء مبتدع حتى تجادلوني فيه وخص الوجه بالذكر لشرفه فهو تعبير عن جملة الشخص بأشرف أجزائه الظاهرة وقوله تعالى : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على التاء في أسلمت وحسن للفاصل ويجوز كما قال في «الكشاف» أن تكون الواو بمعنى مع فيكون مفعولا معه أي : نظرا إلى أن المشاركة بين المتعاطفين في مطلق الإسلام أي : الإخلاص لا فيه بقيد وجهه حتى يمتنع ذلك لاختلاف وجهيهما (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) أي : الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) أي : فهل أسلمتم ما أسلمت أنا فقد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضي حصوله لا محالة ، أم أنتم بعد على الكفر وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته هل فهمتها؟ وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ؛ لأن المنصف إذا انجلت له الحجة لم يتوقف إذعانا للحق وكذلك في هل فهمتها؟ توبيخ بالبلادة. وقيل : المراد بالاستفهام هنا الأمر أي : أسلموا كما قال تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة ، ٩١] أي : انتهوا (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي : نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من

__________________

(١) أخرجه البغوي في شرح السنة ١ / ٣٣٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ١٢ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ١٩ ، والقرطبي في تفسيره ٤ / ٤٢.

٢٣٥

الضلال إلى الهدى ، ومن الظلمة إلى النور فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب : أسلمنا ، فقال لليهود : «أتشهدون أنّ عيسى كلمة الله وعبده ورسوله؟ فقالوا : معاذ الله. وقال للنصارى : أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبدا» فقال عزوجل (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : عن الإسلام لم يضرّوك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي : فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى وقد بلغت وليس إليك الهداية (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي : عالم بمن يؤمن ، وبمن لا يؤمن فيجازي كلا منهم بعمله ، وهذا قبل الأمر بالقتال.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل (مِنَ النَّاسِ) وهم اليهود قتل أوّلهم الأنبياء وقتلوا أتباعهم ، ومن في عصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به وقصدوا قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لكن الله تعالى عصمهم.

وعن أبي عبيدة بن الجرّاح قلت : «يا رسول الله أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر» (١). وروي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم وخبر إن (فَبَشِّرْهُمْ) أي : أعلمهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم وذكر البشارة تهكم بهم.

فإن قيل : لم أدخل الفاء في خبر إن مع أنه لا يقال أن زيدا فقائم أجيب : بأن الموصول متضمن معنى الشرط فكأنه قيل : الذين يكفرون فبشرهم بمعنى من يكفر فبشرهم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي : ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فلا يعتدّ بها لعدم شرطها (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي : مانعين عنهم العذاب.

(أَلَمْ تَرَ) أي : تنظر (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) أي : حظا (مِنَ الْكِتابِ) أي : التوراة أو جنس الكتب السماوية ومن للتبعيض أو البيان ، قال البيضاوي : وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير انتهى. أمّا التعظيم فظاهر وهو ما اقتصر عليه الزمخشريّ ، وأمّا التحقير ففيه نظر إذ النصيب المراد به الكتاب أو بعضه لا حقارة فيه وقد يقال : إن تحقيره بالنسبة إليهم حيث لم يعملوا به (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الداعي هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتاب الله القرآن أو التوراة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المدارس ـ أي : موضع صاحب دراسة كتبهم ـ على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عزوجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت؟ قال : دين إبراهيم فقالا له : إن إبراهيم كان يهوديا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله عزوجل هذه الآية».

وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنّ رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجوا أن تكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم ، فقال له النعمان بن أوفى وعديّ بن عمرو : جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بيني وبينكم التوراة» قالوا : قد أنصفتنا قال : «فمن أعلمكم بالتوراة؟» قالوا : رجل يقال له عبد الله بن صوريا فأرسلوا إليه فدعا رسول الله

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ١٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٧٢.

٢٣٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب فقال له : اقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له ابن سلام : يا رسول الله قد جاوزها وقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى اليهود أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت حبلى تتربص حتى تضع ما في بطنها ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باليهوديين فرجما فغضب اليهود وانصرفوا فأنزل الله عزوجل هذه الآية (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ)(١) وأتى بثم لاستبعاد توليهم مع علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله تعالى واجب لا للتراخي في الزمان إذ لا تراخي فيه. وقوله تعالى : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي : عن قبول حكمه جملة حالية من فريق وإنما ساغ لتخصيصه بالصفة.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من التولي والإعراض (بِأَنَّهُمْ قالُوا) أي : بسبب قولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي : قالوا ذلك بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لهذا الاعتقاد المائل والطمع الفارغ عن حصول المطموع فيه وهو الخروج من النار بعد أيام قليلة وهي أربعون يوما مدّة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ) والغرور هو الإطماع فيما لا يحصل منه شيء (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : من أن النار لن تمسهم إلا أياما قلائل أو أن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو أنه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم.

تنبيه : في دينهم متعلق بغرّهم ولا يصح تعلقه بيفترون خلافا للسيوطي ؛ لأن ما قبل الموصول لا يتعلق بما بعده.

(فَكَيْفَ) حالهم أو فكيف صنعهم (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ) أي : في يوم (لا رَيْبَ) أي : لا شك (فِيهِ) وهو يوم القيامة وفي ذلك استعظام لما يحيق بهم في الآخرة.

روي أن أوّل راية أي : علم ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم يؤمر بهم إلى النار (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) أي : من أهل الكتاب وغيرهم جزاء (ما كَسَبَتْ) أي : عملت من خير أو شر وفي ذلك دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار وإن دخلها ؛ لأن توفية إيمانه وعمله لا يكون في النار ولا قبل دخولها فإذا هي بعد الخلاص إن دخلها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي : بنقص حسنة أو زيادة سيئة.

تنبيه : ذكر ضمير وهم لا يظلمون وجمعه باعتبار معنى كل نفس ؛ لأنه في معنى كل إنسان ، ولما فتح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم أولم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم! فأنزل الله سبحانه وتعالى.

(قُلِ اللهُمَ) أي : يا الله والميم عوض عن ياء النداء ولذلك لا يجتمعان ، والتعويض من خصائص هذا الاسم كما اختص بدخولها عليه مع لام التعريف وقطع همزته وكما اختص بدخول تا القسم عليه وأمّا قولهم : ترب الكعبة فنادر (مالِكَ الْمُلْكِ) أي : مالك العباد وما ملكوا قال الله تعالى في بعض الكتب المنزلة : أنا الله ملك الملوك ومالك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة ، وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. وهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما تكونوا يولى عليكم» (٢)

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الحدود حديث ٤٤٥٠.

(٢) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ١٤٩٧٢ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ١٨٤ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٢٤٢.

٢٣٧

(تُؤْتِي) أي : تعطي (الْمُلْكِ) أي : في الدنيا (مَنْ تَشاءُ) من خلقك (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) منهم ، وقيل : المراد بالملك النبوّة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم ، وقال الكلبيّ : تؤتي الملك لمحمد وأصحابه وتنزعه من أبي جهل وصناديد قريش ، وقيل : تؤتيه لآدم وذرّيته وتنزعه من إبليس وجنوده (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) من خلقك ، وقيل : محمدا وأصحابه حتى دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) منهم وقيل : أبا جهل وأصحابه حزت رؤوسهم وألقوا في القليب ، وقيل : تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية ، وقيل : تعز من تشاء بالقناعة وتذل من تشاء بالحرص والطمع ، وقيل : تعز من تشاء بالتهجد وتذل من تشاء بتركه (بِيَدِكَ) أي : بقدرتك (الْخَيْرُ) أي : والشر ، واقتصر على الأوّل لمسارعة الأدب في الخطاب أو اكتفى بذكر أحد المقابلين كما في قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل ، ٨١] أي : والبرد أو ؛ لأن الكلام وقع فيه إذ روى البيهقيّ وغيره : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خط الخندق وقطع لكل عشر أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبره فجاء وأخذ المعول منه فضربها ضربة فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها ـ أي : المدينة ـ فكأنّ بها مصباحا جاء في جوف بيت مظلم فكبر وكبر المسلمون وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ـ أي : في بياضها وصفرتها وانضمام بعضها إلى بعض ، واللابتان حرّتان يكتنفانها والحرّة كل أرض ذات حجارة سوداء كأنها محترقة من الحرّ ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل أنّ أمّتي ظاهرة على كلها أي : الأراضي التي أضاءت ـ فأبشروا ، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم أيها المؤمنون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب ـ أي : المدينة ـ قصور الحيرة وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق ـ أي : الخوف ـ فنزلت» (١). ونبه أيضا على أن الشرّ بيده بقوله : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والشرّ شيء ثم عقب ذلك ببيان قدرته على تعاقب الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله فقال :

(تُولِجُ) أي : تدخل (اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات (وَتُولِجُ) أي : تدخل (النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة ، والنهار تسع ساعات فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر ، وقال الحسن وعطاء : تخرج المؤمن من الكافر ، وتخرج الكافر من المؤمن فالمؤمن حيّ الفؤاد والكافر ميت الفؤاد قال الله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام ، ١٢٢] وقال الزجاج : تخرج النبات الغض الطريّ من الحب اليابس وتخرج الحب اليابس من النبات الحيّ النامي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة : (الْمَيِّتِ) بسكون الياء والباقون بكسر الياء مشدّدة.

(وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : رزقا واسعا. عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران شهد الله إلى قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ، قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) إلى قوله (بِغَيْرِ حِسابٍ) معلقات ما بينهنّ وبين الله عزوجل حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك؟ قال الله عز

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ٢ / ٩٢.

٢٣٨

وجل بي حلفت لا يقرأكنّ أحد دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان فيه ولأسكننه حظيرة قدسي ولأنظرن إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين مرّة ولأقضينّ له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ولأعيذنه من كل عدوّ وحاسد ولأنصرنه منه» (١).

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) يوالونهم. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار يرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر وقوله تعالى : (مِنْ دُونِ) أي : غير (الْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأنّ في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : يوالي الكفرة (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ) أي : من ولاية الله (فِي شَيْءٍ) يصح أن يسمى ولاية شرعية فإنّ ولاية المتعاديين لا يجتمعان لما بينهما من التضاد كما قال القائل (٢) :

فليس أخي من ودّني رأي عينه

ولكن أخي من ودّني في المغايب

تودّ عدوّي ثم تزعم أنني

صديقك ليس النوك عنك بعازب

بعين مهملة وزاي أي : بغائب والنوك بضم النون الحمق والجنون ثم استثنى فقال : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي : إلا أن تخافوا منهم مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب كما قال عيسى عليه الصلاة والسّلام : كن وسطا ـ أي : في معاشرتهم ومخالفتهم ـ وامش جانبا ـ أي : من موافقتهم فيما يأمرون ويذرون ـ وهذا قبل عزة الإسلام ويجري في بلد ليس قويا فيها ، قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في بدء الإسلام قبل استحكام الدين وقوّة المسلمين وأمّا اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوّهم (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ) أي : يخوّفكم (نَفْسَهُ) أن يغضب عليكم إن واليتموهم (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي : المرجع فيجازيكم فلا تتعرّضوا للسخط بمخالفة أحكامه وموالاة أعدائه وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه فلا يبالي عنده بما يحذر من الكفرة.

(قُلْ) لهم يا محمد (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) أي : قلوبكم من موالاة الكفار أو غيرها بما لا يرضى الله (أَوْ تُبْدُوهُ) أي : تظهروه (يَعْلَمْهُ اللهُ) ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به وقال الكلبيّ : إن تسرّوا ما في قلوبكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التكذيب أو تظهروه بحربه وقتاله يعلمه الله (وَ) هو الذي (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سرّكم وعلانيتكم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو قادر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) لأنّ نفسه متصفة بعلم ذاتي يحيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية تعمّ المقدورات بأسرها فلا تعصوه إذ ما من معصية إلا وهو مطلع عليها لا محالة قادر على العقاب بها ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله بأن يوكل من يتجسس عن مواطن أموره لأخذ حذره منه كل الحذر فما بال من علم أن العالم الذي يعلم السر وأخفى

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١ / ١٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٠٥٦ ، وابن السني في عمل اليوم والليلة ١٢٢.

(٢) البيتان بلا نسبة في المستطرف ١ / ٢٧٣.

٢٣٩

مهيمن عليه وهو آمن. اللهمّ إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك ونسألك اليقظة من سنة الغفلة.

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥))

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) نصب يوم بمضمر نحو اذكر وقوله تعالى : (وَما عَمِلَتْ) أي : عملته (مِنْ سُوءٍ) مبتدأ خبره (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها) أي : النفس (وَبَيْنَهُ) أي : السوء (أَمَداً بَعِيداً) أي : غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها ، وكرّر سبحانه وتعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ،) قال البيضاوي : للتأكيد والتذكير وقال التفتازاني : الأحسن ما قيل أنّ ذكره أوّلا للمنع من موالاة الكافرين وثانيا للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشرّ وقوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) إشارة إلى أنه تعالى : إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة إصلاحهم. وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي رؤوف بقصر الهمزة والباقون بالمدّ وورش على أصله في المدّ والتوسط والقصر ونزل في اليهود والنصارى حيث قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه.

(قُلْ) لهم يا محمد (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وقف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وهم يسجدون لها فقال : «يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل» (١) فقالت له قريش : إنما نعبدها حبا لله تعالى ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فقال الله تعالى : قل لهم يا محمد إن كنتم تحبون الله وتعبدون الأصنام لتقرّبكم إليه فاتبعوني يحببكم الله

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٢٤٠