تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

أنتم عليها (إِنِّي عامِلٌ) على حالتي التي أنا عليها والمعنى : اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) غدا في القيامة (مَنْ) موصولة مفعول العلم (تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي : العاقبة المحمودة في الدار الآخرة أنحن أم أنتم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) أي : يسعد (الظَّالِمُونَ) أي : الكافرون.

(وَجَعَلُوا) أي : كفار مكة (لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ) أي : خلق (مِنَ الْحَرْثِ) أي : الزرع (وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) وذلك أنّ المشركين كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا وللأوثان نصيبا فما جعلوه لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها فإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردّوه إلى الأوثان وقالوا : إنها محتاجة وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به وإذا هلك شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله فذلك قوله تعالى : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ) أي : ما جعلوه لها من الحرث والأنعام (فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أي : لجهته فلا يعطونه للمساكين ولا ينفقونه على الضيفان (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) وفي قوله تعالى : (مِمَّا ذَرَأَ) تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا مع الخالق تعالى في خلقه جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له. وفي قوله تعالى : (بِزَعْمِهِمْ) تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به ، وقرأ الكسائي برفع الزاي والباقون بالنصب (ساءَ) أي : بئس (ما يَحْكُمُونَ) حكمهم هذا.

(وَكَذلِكَ) أي : ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) أي : بالوأد خشية الإملاق (شُرَكاؤُهُمْ) من الجن أو من السدنة أي : الخدمة ، وقرأ غير ابن عامر بفتح الزاي والياء ونصب لام قتل وكسر دال أولادهم وشركاؤهم بالواو مضمومة الهمزة على أنه فاعل ، وقرأ ابن عامر بضم الزاي وكسر الياء ورفع لام قتل ونصب دال أولادهم وشركائهم بالياء مكسورة الهمزة بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما بمفعوله قال البيضاوي تبعا للزمخشري : وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورة الشعر. اه.

وقد أنكر جماعة على الزمخشري في ذلك بأن القراءة المذكورة صحيحة متواترة وتركيبها صحيح في العربية فلا يجوز الطعن فيها ولا في ناقلها. قال التفتازاني : وهذا على عادته يطعن في متواتر القراآت السبع ويسند الخطأ تارة إليهم كما هنا وتارة إلى الرواية عنهم وكلاهما خطأ لأنّ القراآت متواترة ، وكذا الروايات عنهم ، وأطال في بيان ذلك وقال ابن مالك في كافيته : إضافة المصدر إلى الفاعل مفصولا بينهما بمفعول المصدر جائزة في الاختيار إذ لا محذور فيها مع أنّ الفاعل كجزء من عامله فلا يضر فصله وإضافة القتل إلى الشركاء لأمرهم (لِيُرْدُوهُمْ) أي : ليهلكوهم بذلك الفعل الذي أمروهم به ، والإرداء في اللغة الإهلاك ، وقال ابن عباس : ليردوهم ، في النار (وَلِيَلْبِسُوا) أي : وليخلطوا (عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) قال ابن عباس : ليدخلوا عليهم الشك في دينهم وكانوا على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسّلام فوضعوا لهم هذه الأصنام وزينوها لهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) عصمة هؤلاء من ذلك القبيح الذي زين لهم (ما فَعَلُوهُ) فجميع الأشياء بمشيئته وإرادته (فَذَرْهُمْ) أي : اتركهم يا محمد (وَما يَفْتَرُونَ) أي : وما يختلقون من الكذب على الله فإن الله لهم بالمرصاد ، وفي ذلك تهديد لهم كما مرّ.

٥٢١

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦))

(وَقالُوا) أي : المشركون سفها وجهلا (هذِهِ) إشارة إلى قطعة من أموالهم عينوها لآلهتهم (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) أي : حرام محجور عليه لا يصل أحد إليه وهو وصف يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات (لا يَطْعَمُها) أي : لا يأكل منها (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) أي : من خدمة الأوثان والرجال دون النساء (بِزَعْمِهِمْ) أي : لا حجة لهم فيه (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) أي : فلا يركبونها كالبحائر والسوائب والحوامي (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) أي : عند ذبحها وإنما كانوا يذكرون عليها اسم الأصنام ، وقيل : لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل خير لأنّ العادة لما جرت بذكر الله على الخير ذم هؤلاء على ترك فعل الخير ونسبوا ما فعلوه إلى الله تعالى (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي : اختلاقا وكذبا أنه أمرهم بها (سَيَجْزِيهِمْ) أي : بوعد صادق لا خلف فيه (بِما) أي : بسبب ما (كانُوا يَفْتَرُونَ.)

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) أي : أجنة البحائر والسوائب وقوله تعالى : (خالِصَةٌ) حلال (لِذُكُورِنا) أي : خاصة بهم دون الإناث كما قال تعالى : (وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) أي : النساء ، وحذف الهاء من (محرم) إما حملا على اللفظ أو تخفيفا لأنّ المراد ب (خالصة) المبالغة (وَإِنْ يَكُنْ) أي : ما في بطونها (مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) أي : الذكور والإناث فيه سواء أي : أنّ ما ولد منها حيا فهو للذكور دون الإناث وما ولد منها ميتا أكله الذكور والإناث جميعا ، وقرأ ابن عامر وشعبة بالتأنيث في تكن والباقون بالتذكير ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ميتة بالرفع على أنّ تكن تامة والباقون بالنصب على أنها ناقصة (سَيَجْزِيهِمْ) الله (وَصْفَهُمْ) أي : سيكافئهم على وصفهم بالكذب على الله تعالى بالتحليل والتحريم (إِنَّهُ) أي : الله (حَكِيمٌ) في صنعه (عَلِيمٌ) بخلقه.

٥٢٢

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً) أي : جهلا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت في ربيعة ومضر وبعض من العرب من غيرهم كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة السبي والفقر ، وكان بنو كنانة لا يفعلون ذلك وسبب حصول هذه السفاهة هو قلة العلم بل عدمه بأنّ الله هو رازق أولادهم لا هم لأنّ الجهل كان غالبا عليهم قبل بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا سموا جاهلية ، وسبب هذا الخسران أنّ الولد نعمة عظيمة أنعم الله تعالى بها على الوالد فإذا تسبب في إزالة هذه النعمة وإبطالها فقد استوجب الذم وخسر في الدنيا والآخرة ، أما خسارته في الدنيا فقد سعى في نقص عدده وإزالة ما أنعم الله تعالى به عليه وأما خسارته في الآخرة فقد استوجب بذلك العذاب العظيم ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) وتفضل به عليهم رحمة لهم من تلك الأنعام والغلات بغير شرع ولا نفع بوجه (افْتِراءً) أي : تعمدا للكذب (عَلَى اللهِ) وهذا أيضا من أعظم الجهالة لأنّ الجراءة على الله والكذب عليه من أعظم الذنوب والكبائر ولهذا قال تعالى : (قَدْ ضَلُّوا) أي : في فعلهم عن الحق والرشاد (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي : إلى طريق الحق والصواب في فعلهم.

روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً) إلى قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.)

وروي عن مهدي بن ميمون أنه قال : سمعت أبا رجاء العطاردي يقول : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا : منصل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه في رجب.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) أي : خلق (جَنَّاتٍ) أي : بساتين (مَعْرُوشاتٍ) أي : مبسوطات على الأرض كالبطيخ والقثاء (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) بأن ارتفعت على ساق كالنخل وشجر الرمان ، وقال الضحاك : كلاهما في الكرم خاصة لأنّ منه ما يعرش بأن يبقى على وجه الأرض منبسطا ومنه ما لم يعرش بأن يرتفع على ساق ، وقيل : المعروشات ما عرشه الناس في البساتين ، واهتموا به فعرشوه من كرم وغيره ، وغير المعروشات هو ما أنبته الله تعالى في البراري والجبال من كرم أو شجر (وَ) أنشأ (النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي : ثمره وحبه في الهيئة والطعم منها الحلو والحامض والجيد والرديء ، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه ، أو للنخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه ، أو للجميع على تقدير كل ذلك أو كل واحد منها ، ومختلفا حال مقدرة لأنه لم يكن كذلك عند الإنشاء ، وقرأ نافع وابن كثير بجزم الكاف ، والباقون بالرفع (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً) أي : ورقهما (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي : في طعمهما ، وقيل : متشابهين في المنظر مختلفين في الطعم.

ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على عباده من خلق هذه الجنات المحتوية على أنواع الثمار ذكر ما هو المقصود الأصلي وهو الانتفاع بها فقال تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أي : كل واحد من ذلك (إِذا أَثْمَرَ) أي : ولو قبل نضجه وهذا أمر إباحة وأما قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فالأمر فيه للوجوب والآية مدنية والحق : هو الزكاة المفروضة والأمر بإتيانها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخره عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتنقيه ، وقيل : الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة فالحق : ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد وكان

٥٢٣

ذلك واجبا حتى نسخه افتراض العشر ونصف العشر ، وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم من ثمره والباقون بنصبهما ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح حاء حصاده والباقون بكسرها ومعناهما واحد (وَلا تُسْرِفُوا) أي : بإعطاء كله فلا يبقى لعيالكم شيء.

روي أنّ ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فنزلت (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي : المتجاوزين ما حدّ لهم ، وفي ذلك وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء ، قال مجاهد : الإسراف ما قصرت به عن حق الله تعالى وقال : لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل أنفقه في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ، ولو أنفق درهما واحدا أو مدا في معصية كان مسرفا.

وقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ) عطف على جنات أي : وأنشأ من الأنعام (حَمُولَةً) أي : صالحة للحمل عليها كالإبل الكبار والبغال (وَفَرْشاً) أي : تصلح للحمل كالإبل الصغار والعجاجيل والغنم سميت فرشا لأنها كالفرش للأرض لدنوها منها ، وقيل : هو ما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي : مما أحله لكم من هذه الأنعام والحرث (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي : طرائقه في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية ، وقرأ قنبل وابن عامر وحفص والكسائي بضم الطاء والباقون بالسكون (إِنَّهُ) أي : الشيطان (لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي : بين العداوة.

وقوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي : أصناف بدل من حمولة وفرشا والزوج لغة : الفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه فيطلق لفظ الزوج على الواحد كما يطلق على الاثنين فيقال للذكر : زوج ، وللأنثى : زوج (مِنَ الضَّأْنِ) زوجين (اثْنَيْنِ) أي : ذكر وأنثى والضأن ذوات الصوف من الغنم والذكر ضائن والأنثى ضائنة والجمع ضوائن (وَمِنَ الْمَعْزِ) زوجين (اثْنَيْنِ) أي : ذكر وأنثى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح العين والباقون بالسكون والمعز والمعزى جمع لا واحد له من لفظه وهي ذوات الشعر من الغنم ، وقال البغوي : جمع الماعز معيز وجمع الماعزة مواعز (قُلْ) يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكورا أو إناثا أو مختلطة تارة ونسبوا ذلك لله تعالى (آلذَّكَرَيْنِ) من الضأن والمعز (حَرَّمَ) الله عليكم (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) منهما (أَمَّا) أي : أم حرم ما (اشْتَمَلَتْ) أي : انضمت (عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) ذكرا كان أو أنثى (نَبِّئُونِي) أي : أخبروني (بِعِلْمٍ) عن كيفية ذلك بأمر معلوم من جهة الله تعالى على تحريم ما حرمتم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم والاستفهام للإنكار والمعنى : من أين جاء التحريم فإن كان من قبل الذكورة فجميع الذكور حرام وإن كان من قبل الأنوثة فجميع الإناث حرام أو من قبل اشتمال الرحم فالزوجان حرام فمن أين التخصيص.

تنبيه : اتفق القراء على أنّ في همزة الوصل وهي التي بين همزة الاستفهام ولام التعريف وجهين وهما البدل والتسهيل والبدل هو مدها مبدلة والتسهيل هو أن تقصرها مسهلة.

(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) ذكرا أو أنثى (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) كذلك (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الذين اختلفوا جهلا وسفها (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) الله عليكم (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) منهما (أَمَّا) أي : أم حرّم ما (اشْتَمَلَتْ) أي : انضمت (عَلَيْهِ أَرْحامُ) الأنثيين ذكرا كان أو أنثى (أَمْ كُنْتُمْ) أي : بل أكنتم (شُهَداءَ) أي : حاضرين (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) أي : حين وصاكم بهذا التحريم إذا أنتم لا تؤمنون بي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا بالمشاهدة والسماع فكيف تثبتون هذه الأحكام

٥٢٤

وتنسبونها إلى الله تعالى.

ولما احتج عليهم بهذه الحجة وبيّن أنه لا سند لهم في ذلك قال تعالى : (فَمَنْ) أي : لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) أي : تعمد (عَلَى اللهِ كَذِباً) كعمرو بن لحي فإنه أوّل من بحر البحائر وسيب السوائب وغير دين إبراهيم عليه‌السلام ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقته أو ابتدأ شيئا لم يأمر الله به ولا رسوله ونسب ذلك إلى الله تعالى لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص فكل من أدخل في دين الله ما ليس منه فهو داخل في هذا الوعيد (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : لا يرشد ولا يوفق من كذب عليه وأضاف إليه ما لم يشرع لعباده.

ولما بين سبحانه وتعالى فساد طريقة أهل الجاهلية وما كانوا عليه من التحريم والتحليل من عند أنفسهم واتباع أهوائهم فيما أحلوه وحرموه من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في ذلك وبين أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي سماوي وشرع نبوي فقال تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الجهلة الذين يحللون ويحرمون من عند أنفسهم (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) أي : طعاما محرّما مما حرمتموه.

فائدة : (في ما أوحي إليّ) (في) مقطوعة من (ما) في الرسم (عَلى طاعِمٍ) أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى (يَطْعَمُهُ) أي : يتناوله أكلا أو شربا أو داء أو غير ذلك (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) أي : ذلك الطعام (مَيْتَةً) وهي كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة تكون بالتأنيث والباقون بالتذكير ورفع ميتة ابن عامر على أنّ كان هي التامة ، وعلى هذه القراءة يكون قوله تعالى : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) عطفا على (أن) مع ما في حيزه أي : إلا وجود ميتة أو دما مسفوحا أي : مصبوبا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ) أي : الخنزير (رِجْسٌ) أي : نجس فالضمير يعود على المضاف إليه لأنّ اللحم دخل في قوله (مَيْتَةً) وحينئذ ففي الآية دلالة على نجاسة الخنزير وهو حي فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى ثم إني رأيت البقاعي في تفسيره جرى على ذلك وقوله تعالى : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي : ذبح على اسم غيره عطف على (لحم خنزير) وما بينهما اعتراض للتعليل.

تنبيه : ظاهر الآية أنّ المحرمات محصورة في هذه الأربعة وأنه لا يحرم شيء من سائر المطعومات والحيوانات غيرها وهي الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح على اسم غير الله تعالى ، ويروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهم لأنه ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرّمات إلا بوحي وثبت أنّ الله تعالى نص في هذه الآية على هذه الأربعة أشياء وقال تعالى في (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة ، ١٧٣] و (إنما) تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة للآية المكية في الحكم ولكن الذي ذهب إليه جمهور العلماء أنّ التحريم لا يختص بهذه فقط بل المحرّم ما كان بنص كتاب أو سنة ، وقد وردت السنة بتحريم أشياء غير ذلك منها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطيور وورد النهي عن أكل الهر وأكل ثمنه ويحرم أيضا كل ما أمر بقتله كالحدأة والغراب الأبقع أو نهي عن قتله كالهدهد والخفاش وما لا نص فيه بتحريم أو تحليل أو بما يدل على أحدهما كالأمر بالقتل والنهي عنه إن استطابته عرب ذوو يسار وطباع سليمة حال رفاهية حل وإن استخبثوه فلا يحل فإن اختلفوا في استطابته اتبع الأكثر فإن استووا فقريش لأنهم قطب العرب وفيهم الفتوّة فإن اختلفت أو لم تحكم بشيء اعتبر الأشبه به من الحيوانات فإن استوى الشبهان أو لم يوجد ما يشبهه

٥٢٥

فحلال لهذه الآية وما جهل اسمه عمل بتسمية العرب له مما هو حلال أو حرام.

ولما حرّم الله تعالى هذه الأشياء أباح أكلها عند الاضطرار بقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي : حصل له جوع خشي منه التلف (غَيْرَ باغٍ) أي : على مضطر مثله (وَلا عادٍ) أي : ولا متجاوز قدر الضرورة ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بضم النون في الوصل والباقون بالكسر (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ) لا يؤاخذه بالأكل (رَحِيمٌ) به حيث أباح له ذلك.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) أي : اليهود واليهود : علم على قوم موسى عليه الصلاة والسّلام وسموا به اشتقاقا من هادوا أي : مالوا إما عن عبادة العجل وإما عن دين موسى عليه‌السلام أو من هاد إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير لكثرة انتقالهم عن مذاهبهم وقيل : لأنهم يتهوّدون أي : يتحرّكون عند قراءة التوراة وقيل : معرب من يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة ثم نسب إليه فقيل : يهودي ثم حذف الياء في الجمع فقيل : يهود (حَرَّمْنا) أي : بسبب ظلمهم عليهم (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أي : ما هو كالإصبع للآدمي من دابة أو طير وكان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلما ظلموا حرّم عليهم فعم التحريم كل ذي ظفر بدليل قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء ، ١٦٠] (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) أي : التي هي ذوات الأظلاف (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) أي : الصنفين والمراد شحم الجوف وهو الثروب قال الجوهري : هو شحم قد غشي الكرش والأمعاء رقيق ثم استثنى من الشحوم ما ذكره بقوله : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي : إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما (أَوِ الْحَوايا) أي : ما حملته الحوايا وهي الأمعاء التي هي متعاطفة ملوية جمع حوية فوزنها فعائل كسفينة وسفائن ، وقيل : جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء فهو فواعل (أَوْ مَا اخْتَلَطَ) أي : من الشحوم (بِعَظْمٍ) مثل شحم الإلية فإن ذلك لا يحرم عليهم.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عام الفتح وهو بمكة : «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال : «لا هو حرام» أي : بيعها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك : «قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومهما أجملوه أي : أذابوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه» (١)(ذلِكَ) أي : التحريم العظيم وهو تحريم الطيبات (جَزَيْناهُمْ) به (بِبَغْيِهِمْ) أي : بسبب مجاوزتهم الحدود (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي : في الإخبار عما حرمنا عليهم وعن بغيهم.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا

__________________

(١) أخرجه البخاري في البيوع حديث ٢٢٣٦ ، ومسلم في المساقاة حديث ١٥٨١ ، وأبو داود في البيوع حديث ٣٤٨٦ ، والنسائي في البيوع حديث ٤٦٦٩.

٥٢٦

تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ) أي : اليهود يا محمد فيما أخبرناك به عنهم (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) أي : بتأخير العذاب عنكم فلم يعاجلكم بالعقوبة في ذلك تلطفا بدعائهم إلى الإيمان (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي : عقابه (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) إذا جاء وقته وقيل : ذو رحمة واسعة للمطيعين وذو بأس شديد للمجرمين.

وقوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إخبار عن مستقبل وقوع مخبره يدل على إعجازه ، ولما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) أرادوا أن يجعلوا قولهم : لو شاء الله ما أشركنا حجة لهم على إقامتهم على الشرك وقالوا : إن الله قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن فيه حتى لا نفعله فلو لا أنه رضي ما نحن فيه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك فقال الله تعالى تكذيبا لهم : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من كفار الأمم الماضية (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي : عذابنا ويستدل أهل القدر بهذه الآية يقولون : إنهم لما قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) كذبهم الله ورد عليهم فقال : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وأجاب أهل السنة : بأن التكذيب ليس في قولهم لو شاء الله ما أشركنا بل ذلك القول صدق ولكن في قولهم : إن الله أمرنا بها ورضي ما نحن عليه كما أخبر تعالى عنهم في سورة الأعراف (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف ، ٢٨] فالرد عليهم في هذا كما قال تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف ، ٢٨] والدليل على أنّ التكذيب ورد فيما قلنا لا في قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) قوله تعالى : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بالتشديد ولو كان (كذلك) خبرا من الله عن كذبهم في قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) لقال : كذب الذين من قبلهم بالتخفيف وكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب ، وقال الحسين بن الفضل : لو ذكروا هذه المقالة تعظيما وإجلالا لله تعالى ومعرفة منهم لما عابهم بذلك لأنّ الله تعالى قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) [الأنعام ، ١٠٧] وقال تعالى : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام ، ١١١] والمؤمنون يقولون ذلك ولكنّ المشركين قالوا تكذيبا وتحريضا وجدلا من غير معرفة بالله وبما يقولون نظيره قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف ، ٢٠] قال الله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف ، ٢٠] وقد علم من ذلك أن أمر الله تعالى بمعزل عن مشيئته وإرادته فإنه مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته فإنّ مشيئته لا تكون عذرا لأحد.

٥٢٧

(قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين ما ذكر (هَلْ عِنْدَكُمْ) أيها الجهلة (مِنْ عِلْمٍ) أي : من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم من تحريم ما حرمتم وأنّ الله راض بشرككم (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي : فتنظروه لنا وتبينوه لنا كما بينا لكم خطأكم (إِنْ) أي : ما (تَتَّبِعُونَ) في ذلك (إِلَّا الظَّنَ) أي : فيما أنتم عليه ولا علم عندكم (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي : وما أنتم في ذلك كله إلا تكذبون وتقولون على الله تعالى الباطل.

(قُلْ) لهم حين عجزوا عن إظهار الحجة (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي : التامة على خلقه بإنزال الكتب وإرسال الرسل ، قال الربيع بن أنس : لا حجة لأحد عصى الله وأشرك به على الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده (فَلَوْ شاءَ) الله هدايتكم (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء هداية بعض وضلال بعض آخر فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه لا يسأل عما يفعل.

(قُلْ) لهم (هَلُمَ) أي : أحضروا (شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ) لكم (أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) أي : ما تقدّم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أنّ الله أمرهم به ، وهلم اسم فعل لا يتصرّف يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين ، وعند بني تميم فعل مؤنث ويثنى ويجمع (فَإِنْ شَهِدُوا) أي : فإن تجرؤوا على الشهادة كذبا (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي : فاتركهم ولا تسلم لهم فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) إنما وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها (وَ) لا تتبع أهواء (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) التي هي دار الجزاء فإنهم لو جوّزوها ما اجترؤوا على ذلك (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي : يشركون فيجعلون له عديلا.

(قُلْ) لهم (تَعالَوْا) أي : أقبلوا علي (أَتْلُ) أي : أقرأ (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) وذلك أنهم سألوا وقالوا : أي الذي حرم الله؟ فأمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم ذلك.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ) والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك؟ أجيب : بأنّ موضع (أن) رفع أي : هو أن لا تشركوا ، وقيل : نصب واختلفوا في وجهه فقيل : معناه حرّم عليكم أن تشركوا و (لا) صلة كقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف ، ١٢] أي : ما منعك أن تسجد ، وقيل : تم الكلام عند قوله : (حَرَّمَ رَبُّكُمْ) ثم قال : (عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) على وجه الإغراء ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون هذا محمولا على المعنى أي : أتل عليكم تحريم الشرك وجائز أن يكون على معنى أوصيكم أن لا تشركوا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي : فأحسنوا بهم إحسانا ، وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي : من أجل فقر تخافونه ، والمراد بالقتل وأد البنات وهنّ أحياء وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك وحرمه عليهم وقوله تعالى : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) منع لموجبية ما كانوا يفعلونه لأجله واحتجاج عليهم لأنّ الله تعالى إذا تكفل برزق الوالد والولد وجب على الوالد القيام بحق الولد وتربيته والاتكال في أمر الرزق على الله (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) أي : سائر المعاصي (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي : علانيتها وسرها ، وقيل : المراد الزنا علانيته وسره وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فحرم الله عزوجل الزنا في السر والعلانية ، وأجاب الأوّل بأنّ السبب إذا كان خاصا لا يمنع من حمل اللفظ على العموم ثم صرح بالقتل لشدة

٥٢٨

أمره بالتخصيص بعد التعميم فقال : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) عليكم قتلها (إِلَّا بِالْحَقِ) وهي التي أبيح قتلها بردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان وهو الذي يوجب الرجم أو نحو ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» (١) وقوله تعالى : (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر مفصلا (وَصَّاكُمْ بِهِ) أي : أمركم به وأوجبه عليكم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : تتدبرون ما في هذه التكاليف من الفوائد والمنافع فإنّ كمال العقل هو التدبر.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي : بنوع من أنواع عمل فيه أو غيره (إِلَّا بِالَّتِي) أي : بالخصلة التي (هِيَ أَحْسَنُ) بماله كحفظه وتنميته وتثميره ويستمرّ ذلك (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) وهو سن يبلغ به أوان حصول عقله عادة وهو البلوغ بالسن أو الاحتلام أو عقل يحصل به رشده.

وقيل : الأشدّ من الثماني عشر إلى ثلاثين سنة ، وقيل : إلى أربعين ، وقيل : إلى ستين (وَأَوْفُوا) أي : أتموا (الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي : العدل من غير تفريط ولا إفراط (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : طاقتها في إيفاء الكيل والميزان لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه ولا يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عليه بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه ، وذكره عقب الأمر معناه : أنّ إيفاء الحق عسر فعليكم بما في وسعكم وما وراء الوسع معفوّ عنه (وَإِذا قُلْتُمْ) أي : في حكم ، أو شهادة ، أو غير ذلك (فَاعْدِلُوا) فيه بالصدق (وَلَوْ كانَ) المقول له أو عليه (ذا قُرْبى) أي : من ذوي قرابتكم (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي : ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع (ذلِكُمْ) أي : الذي ذكر في هذه الآيات (وَصَّاكُمْ) بالعمل (بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : تتعظون فتأخذون بما أمرتكم به ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.

(وَأَنَّ هذا) الذي وصيتكم به (صِراطِي مُسْتَقِيماً) والإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوّة وبيان الشريعة ، وقرأ ابن عامر بتخفيف النون والباقون بالتشديد ، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف وفتحها الباقون على تقدير اللام ، وفتح الياء من صراطي ابن عامر وسكنها الباقون ، وتقدّم مذهب قنبل في الصراط بالسين ومذهب خلف في إشمام الصاد (فَاتَّبِعُوهُ) أي : بغاية جهدكم لأنه الجامع للعباد على الحق الذي فيه كل خير (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي : الطرق المخالفة لدين الإسلام (فَتَفَرَّقَ) فيه حذف إحدى التاءين أي : فتميل (بِكُمْ) أي : هذه الطرق المضلة (عَنْ سَبِيلِهِ) أي : طريقه التي ارتضاها لعباده وبها أوصى (ذلِكُمْ) أي : الأمر العظيم من اتباعه (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الضلال والتفرق عن الحق.

روي «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خط خطا» ثم قال : «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال : «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، وقرأ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ»)(٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الديات حديث ٦٨٧٨ ، ومسلم في القسامة حديث ١٦٧٦ ، والترمذي في الديات حديث ١٤٠٢ ، والنسائي في التحريم حديث ٤٠١٦.

(٢) أخرجه الدارمي في المقدمة حديث ٢٠٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٣٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٢٧٣.

٥٢٩

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة.

فإن قيل : ثم للترتيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن أجيب : بأنّ (ثم) لترتيب الإخبار أي : ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب فدخل ثم لترتيب الخبر لا لتأخير النزول ، وقوله تعالى : (تَماماً) حال أي : لم ينقص الكتاب عما يصلحهم شيئا (عَلَى) الوجه (الَّذِي أَحْسَنَ) أي : أتى بالإحسان فأثبت الحسن وجمعه بما بين من الشرع وبما حمى طوائف أهل الأرض به من الإهلاك العام.

روي أنّ الله تعالى لم يهلك قوما هلاكا عامّا بعد نزول التوراة ، وقيل : تماما على المحسنين من قوم موسى فيكون (الذي) بمعنى من أي : على من أحسن من قومه وكان فيهم محسن ومسيء ، وقيل : الذي أحسن هو موسى عليه‌السلام أي : إتماما للنعمة عليه لإحسانه بالعبادة أو (الذي) بمعنى ما أي : ما أحسن ، وقوله تعالى : (وَتَفْصِيلاً) عطف على تماما أي : وبيانا (لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : يحتاج إليه في الدين (وَهُدىً) أي : فيه هدى من الضلالة (وَرَحْمَةً) أي : إنزاله عليهم رحمة لهم (لَعَلَّهُمْ) أي : بني إسرائيل (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي : بالبعث والجزاء (يُؤْمِنُونَ) أي : ليكون حالهم ـ بعد إنزال الكتاب لما يرون من حسن شرائعه وفخامة كلامه وجلالة أمره ـ حال من يرجو أن يجدد الإيمان في كل وقت بلقاء ربه وليذكروا ما أنعم به عليهم من إخراجهم من مصر من العبودية والرق.

(وَهذا) أي : القرآن (كِتابٌ) أي : عظيم (أَنْزَلْناهُ) إليكم أي : بلسانكم حجة عليكم (مُبارَكٌ) أي : كثير الخير والنفع والبركة (فَاتَّبِعُوهُ) أي : اتبعوا ما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام (وَاتَّقُوا) الكفر (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : بواسطة اتباعه وهو العمل بما فيه.

ثم بيّن تعالى المراد من إنزاله فقال : (أَنْ) أي : كراهة أن (تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) أي : التوراة والإنجيل (عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) أي : اليهود والنصارى (وَإِنْ كُنَّا) أي : وقد كنا و (إن) هي المخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة بينها وبين النافية في خبر كان أي : وإنه كنا (عَنْ دِراسَتِهِمْ) قراءتهم لكتابهم قراءة مردودة (لَغافِلِينَ) أي : لا نعرف حقيقتها ولا ثبت عندنا حقيقتها ولا هي بلساننا.

(أَوْ تَقُولُوا) أي : أيها العرب لم نكن عن دراستهم غافلين بل كنا عالمين بها ولكنه لا يجب اتباع الكتاب إلا على المكتوب إليه فلم نتبعه و (لَوْ أَنَّا) أهلنا لما أهلوا له حتى (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) أي : جنسه (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي : لما لنا من الاستعداد بوفور العقل وحدة الأذهان واستقامة الأفكار واعتدال الأمزجة والإذعان للحق (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : القرآن فيه بيان وحجة واضحة تعرفونها على لسان رجل منكم تعرفون أنه أولاكم بذلك (وَهُدىً) من الضلالة لمن تدبره (وَرَحْمَةٌ) أي : وهو رحمة ونعمة أنعم بها عليكم فتأمّلوا فيه واعملوا به (فَمَنْ) أي : لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ) أي : أعرض (عَنْها) فضل وأضل (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا) ولا يتوبون (سُوءَ الْعَذابِ) أي : شدّته (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي : بسبب إعراضهم.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ

٥٣٠

عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

(هَلْ يَنْظُرُونَ) أي : ما ينظر هؤلاء المكذبون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي : لقبض أرواحهم أو بالعذاب ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي : أمره بالعذاب (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ) أي : علامات (رَبُّكَ) الدالة على الساعة كطلوع الشمس من مغربها ، وعن حذيفة والبراء بن عازب : «كنا نتذاكر الساعة إذ طلع علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما تتذاكرون؟ قلنا : كنا نتذاكر الساعة ، فقال : «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ودابة الأرض وخسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونارا تخرج من عدن» (١)(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهو طلوع الشمس من مغربها كما في حديث الصحيحين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) صفة نفسا (أَوْ) نفسا لم تكن (كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي : طاعة لا ينفعها توبتها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدا الله مبسوطتان لمسيء الليل ليتوب بالنهار ولمسيء النهار ليتوب بالليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (٢) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» (٣) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله جعل بالمغرب بابا مسيرة عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله» (٤) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث إذا خرجن فلا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها» (٥).

(قُلِ انْتَظِرُوا) بعض هذه الأشياء (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ذلك وحينئذ لنا الفوز عليكم ولكم الويل (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي : بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وافترقوا فيه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة» (٦) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححاه وفي بعض الروايات قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال :

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفتن حديث ٢٩٠١ ، وأبو داود في الملاحم حديث ٤٣١١ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠٤١.

(٢) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ١٠٢٥٢ ، وابن أبي شيبة في المصنف ١٣ / ١٨١ ، وابن أبي عاصم في السنة ١ / ٢٧٣ ، ٢٧٤.

(٣) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٢٧٠٣.

(٤) أخرجه الترمذي في الدعوات حديث ٣٥٣٦.

(٥) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٥٨ ، والترمذي في التفسير حديث ٣٠٧٢.

(٦) أخرجه أبو داود حديث ٤٥٩٦ ، وابن ماجه حديث ٣٩٩٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ١٠ / ٢٠٨ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٨ / ٧٠.

٥٣١

«ما أنا عليه وأصحابي» وقرأ حمزة بتخفيف الراء وألف قبلها والباقون بتشديدها ولا ألف (وَكانُوا شِيَعاً) أي : فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة كأهل الكتاب فإنهم ابتدعوا في دينهم بدعا أو صلتهم إلى تكفير بعضهم بعضا فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض وكالمجوس الذين فرّقوا دينهم باعتقاد أن الإله اثنان : النور والظلمة وعبدوا الأصنام والنجوم وجعلوا لكل نجم قسما يتوسل به في زعمهم إليه ، وقيل : هم أهل البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمّة.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة : «يا عائشة إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا هم أهل البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمّة» (١) وعن العرباض بن سارية قال : «صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبح فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا قال : «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنّ من يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (٢). وروي : «إنّ أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشر الأمور محدثاتها» (٣)(لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي : من السؤال عنهم فلا تتعرّض لهم (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) يتولى جزاءهم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) فيجازيهم به وهذا منسوخ بآية السيف.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي : عشر حسنات أمثالها فضلا من الله تعالى (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي : جزاءها قضية للعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي : بنقص الثواب وزيادة العقاب ، وما ذكر في أضعاف الحسنات هو أقل ما عد من الأضعاف فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عزوجل» (٤) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فله سيئة مثلها وأغفر ومن تقرّب مني شبرا تقرّبت منه ذراعا ومن لقيني بقراب أهل الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة» (٥) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تبارك وتعالى : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة وإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» (٦) وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : الآية في غير الصدقات من الحسنات ، فأمّا الصدقات فإنها تضاعف سبعمائة ضعف.

(قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج ، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون ، وقوله

__________________

(١) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٢٩٨٦.

(٢) أخرجه أبو داود في السنة حديث ٤٦٠٧ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٧٦ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٤٢.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦٠٩٨ ، والنسائي في العيدين حديث ١٥٧٨ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٤٥.

(٤) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٤٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٢٩.

(٥) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٢٦٨٧ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٢٨٢١.

(٦) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٥٠١ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٢٩.

٥٣٢

تعالى : (دِيناً) بدل من محل إلى صراط مستقيم ، والمعنى : وهداني صراطا كقوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح ، ٢٠] (قِيَماً) أي : مستقيما ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح القاف وكسر الياء مشدّدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء مخففة على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوما فاعل لإعلال فعله كالقيام ، وقوله تعالى : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان ل (دينا) إذ الملة بالكسر لدين وإن فرق بينهما بأن الملة لا تضاف إلا إلى النبيّ الذي تستند إليه ، والدين لا تختص إضافته بذلك ، وقوله تعالى : (حَنِيفاً) حال من إبراهيم أي : مائلا من الضلالة إلى الاستقامة والعرب تسمي كل من حج أو اختتن حنيفا تنبيها على أنه دين إبراهيم عليه الصلاة والسّلام وقوله تعالى : (وَما كانَ) إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ردّ على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر الله تعالى أنّ إبراهيم لم يكن من المشركين.

(قُلْ) يا محمد (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) أي : عبادتي من حج وغيره (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي : وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والطاعة أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير أو الحياة والممات أنفسهما ، وقرأ نافع : ومحياي بسكون الياء بخلاف عن ورش إجراء للوصل مجرى الوقف والباقون بالفتح ، وفتح الياء من مماتي نافع وسكنها الباقون (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.)

(لا شَرِيكَ لَهُ) في ذلك (وَبِذلِكَ) أي : وبهذا التوحيد (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي : من هذه الأمّة لأنّ إسلام كل نبيّ مقدّم على إسلام أمّته ، وقرأ نافع بمد أنا قبل الهمزة المفتوحة وقالون بالمدّ والقصر لأنها عنده مدّ منفصل والباقون لا مدّ أصلا.

(قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي) أي : أطلب (رَبًّا) أي : إلها فأشركه في عبادتي وهذا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم والهمزة للإنكار أي : منكر أن أبغي ربا غيره (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره كما قال تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر ، ٦٤] (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ذنبا (إِلَّا عَلَيْها) أي : إثم الجاني عليه لا على غيره وقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ) أي : ولا تحمل نفس (وازِرَةٌ) أي : آثمة (وِزْرَ) نفس (أُخْرى) جواب عن قولهم : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) في الدنيا فيتبين الرشد من الغي والمحق من المبطل.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) جمع خليفة لأنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين فخلفت أمّته سائر الأمم أو يخلف بعضهم بعضا فيها أو هم خلفاء الله تعالى في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي : في الشرف والرزق (لِيَبْلُوَكُمْ) أي : ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) أي : أعطاكم ليظهر المطيع منكم والعاصي.

فائدة : (في) تكتب مقطوعة عن (ما) (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه لأنّ ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) للمؤمنين (رَحِيمٌ) بهم وصف الله تعالى العقاب ولم يضفه إلى نفسه ووصف تعالى ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيها على أنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها قليل العقوبة مسامح فيها فنسأل الله العظيم أن يسامحنا وأن يغفر زلاتنا ولا يؤاخذنا بسوء أفعالنا وأن يفعل ذلك بوالدينا وأقاربنا وأحبابنا وأصحابنا وجميع المسلمين ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

٥٣٣

سورة الأعراف

مكية ، إلا ثمان آيات من قوله تعالى (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) وهي محكمة كلها وقيل : إلا قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وعدد آياتها مائتان وخمس آيات وكلماتها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة وحروفها أربعة عشر ألفا وثلاثمائة وعشرة أحرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بِسْمِ اللهِ) الواحد الذي لا يقدر أحد قدره (الرَّحْمنِ) الذي عمّ بنعمة البيان من أوجب عليهم شكره (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل ودّه فاجتنبوا نهيه وامتثلوا أمره.

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢))

(المص) سبق الكلام على معاني الحروف المقطعة في أوّل سورة البقرة وقوله تعالى :

(كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو أو هذا أو خبر المص والمراد بالكتاب السورة أو القرآن وقوله تعالى : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفة والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) أي :

٥٣٤

ضيق (مِنْهُ) أي : لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به مخافة أن تكذب لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم كان يضيق صدره من الأذى ولا ينبسط له فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم ، وقيل : الحرج الشك والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد أمته وسمي الشك حرجا لأنّ الشاك ضيق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ) متعلق بأنزل أي : للإنذار به (وَذِكْرى) أي : وتذكرة (لِلْمُؤْمِنِينَ) به وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أمكن إنذاره وتذكيره من العقلاء ، قال بعض المفسرين : وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم تقديره كتاب أنزلناه إليك لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه ويدل لهذا تعلق لتنذر بأنزل.

وقوله تعالى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن والسنة لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم ، الآيات : ٢ ـ ٣] ولقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر ، ٧] أي : قل لهم يا محمد اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وذروا ما أنتم عليه من الشرك (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) أي : ولا تتخذوا من دون الله أي : غيره (أَوْلِياءَ) تطيعونهم من شياطين الإنس والجن فيأمروكم بعبادة الأصنام واتباع البدع والأهواء الفاسدة (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي : تتعظون ، وقرأ ابن عامر بياء قبل التاء وتخفيف الذال ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال ولا ياء قبل التاء والباقون بتشديد الذال ولا ياء قبل التاء.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي : أهلكنا أهلها ، وقيل : لا يحتاج إلى تقدير مضاف لأنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها وإنما يقدّر في (فجاءها) لأجل قوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) و (كم) خبرية مفعول أهلكنا وهي للتكثير والإهلاك على حقيقته أو يقدّر أردنا إهلاكها لقوله تعالى : (فَجاءَها) أي : أهلها (بَأْسُنا) أي : عذابنا فإنّ مجيء البأس قبل الإهلاك فتقدر الإرادة ، وقيل : الإهلاك الخذلان وعلى هذا فلا حاجة إلى تقدير (بَياتاً) أي : وقت الاستكان في البيوت ليلا كما جاء قوم لوط عليه‌السلام (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي : نائمون وقت القائلة وهي نصف النهار أو مستريحون من غير نوم كما أهلكنا قوم شعيب عليه‌السلام أي : مرّة جاءها ليلا ومرّة نهارا وإنما خص هذين الوقتين لأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع ، وفي هذا وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل : لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإنّ عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي : قولهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) أي : عذابنا (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي : إلا قولهم (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي : فيما كنا عليه حيث لم نتبع ما أنزل إلينا من ربنا وذلك حين لا ينفعهم الاعتراف.

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أي : المرسل إليهم وهم الأمم يسألهم الله تعالى عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أي : عما أجيبوا به كما قال تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة ، ١٠٩] وقيل : نسأل المرسلين عن الإبلاغ والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم والمنفي في قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص ، ٧٨] سؤال الاستعلام الأوّل في موقف الحساب ، وهذا عند حصولهم على العقوبة.

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) أي : الرسل والمرسل إليهم (بِعِلْمٍ) لنخبرنهم عن علم بما فعلوه باطنا وظاهرا وبما قالوه سرا وعلانية (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم وأقوالهم.

(وَالْوَزْنُ) أي : لصحائف الأعمال بميزان له لسان وكفتان ينظر إليها الخلائق إظهارا للعدل

٥٣٥

وقطعا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم ويؤيده ما روي أنّ رجلا يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مدّ البصر فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة والبطاقة : رقعة صغيرة تجعل في طيّ الثوب يكتب فيها ثمنه ، وقيل : توزن الأعمال.

روي عن ابن عباس : يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان ، وقيل : توزن الأشخاص لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» (١) وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم السؤال المذكور وهو يوم القيامة خبر المبتدأ الذي هو الوزن ، وقوله تعالى : (الْحَقُ) أي : العدل السوي صفته (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي : رجحت على ما يعهد في الدنيا بصحائف الأعمال أو حسناته أو به على الأقوال الماضية ، وعن الحسن : وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يرجح ويثقل وحق لميزان توضع فيه السيآت أن يخف.

فإن قيل : الميزان واحد فما وجه الجمع؟ أجيب : بأنّ العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقيل : إنه ينصب لكل عبد ميزان ، وقيل : إنما جمعه لأنّ الميزان يشتمل على الكفتين واللسان والساهون ولا يتم الوزن إلا بذلك كله ، وقيل : جمع لاختلاف الموزونات وتعدد الجمع فهو جمع موزون أو ميزان (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة والثواب.

(وَمَنْ خَفَّتْ) أي : طاشت (مَوازِينُهُ) أي : السيئات أي : بسببها (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : بتصييرها إلى النار (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي : يجحدون.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) يا بني آدم (فِي الْأَرْضِ) أي : في مسكنها وزرعها والتصرف فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة أي : أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم من أنواع التجارات والصنائع والمآكل والمشارب وذلك بفضل الله تعالى وإنعامه على عبيده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بيّن تعالى أنه مع هذا الإفضال على عبيده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكرها كما ينبغي فقال تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأنّ الإنسان قد يذكر نعمة الله فيشكره عليها فلا يخلو في بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر تصور النعمة وإظهارها ويضادّه الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) أي : أباكم آدم (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي : أباكم آدم والمراد يعني : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثم صوّرناه فنزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويرهم ، وقيل : خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صوّرناكم في أرحام النساء (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.)

فإن قيل : (ثم) للترتيب والتراخي وهي ظاهرة على القول الأوّل فما وجهه على الثاني؟ أجيب : بأنها تكون بمعنى الواو أي : وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تحية بالانحناء (فَسَجَدُوا) أي : الملائكة كلهم لآدم (إِلَّا إِبْلِيسَ) أبا الجن كان بين الملائكة (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي : ممن سجد.

(قالَ) الله تعالى لإبليس (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي : أن تسجد (إِذْ أَمَرْتُكَ) فلا زائدة

__________________

(١) أخرجه البخاري في التفسير حديث ٤٧٢٩ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٧٨٥.

٥٣٦

للتأكيد كما في قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ) [البلد ، ١] أي : أقسم ، وقوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء ، ٩٥] أي : يرجعون نعم إن حمل (ما منعك) على ما حملك لم تكن زائدة (قالَ) إبليس مجيبا له تعالى : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ.)

فإن قيل : كيف يكون قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جوابا ل (ما منعك) وإنما الجواب أن يقول منعني كذا؟ أجيب : بأنه جواب من حيث المعنى استأنف به استبعادا لأن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله كأنه قال : المانع أني خير منه ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول فكيف يحسن أن يؤمر به فهو الذي سنّ التكبر وقال : بالحسن والقبح العقليين أوّلا وعلل الخيرية بقوله تعالى : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) فهي أغلب أجزائي وهي مشرقة مضيئة عالية غالبة (وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أي : هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب فكل منهما مركب من العناصر الأربعة فالإضافة إلى ما ذكر باعتبار الجزء الغالب ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أوّل من قاس إبليس فأخطأ فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس ، قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس وإنما أخطأ إبليس لأنه رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص ، ٧٥] أي : بغير واسطة وباعتبار الصورة كما نبه عليه تعالى بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر ، ٢٩] وباعتبار الغاية وهي ملاكه ولذلك أمر الملائكة بالسجود لما تبين لهم أنه أعلم منهم وأنّ له خواص ليست لغيره ، وقال محمد بن جرير : ظن الخبيث أنّ النار خير من الطين ولم يعلم أنّ المفضل ما جعل الله له الفضل ، وقد فضل الله الطين عن النار بوجوه منها : أنّ من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثته الاجتباء والمنزلة والهداية ، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثته اللعنة والشقاوة ولأنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرّقها ولأنّ التراب سبب الحياة لأنّ حياة الأشجار والنبات لا تكون إلا مع الطين والنار سبب الهلاك.

فإن قيل : لم سأله الله تعالى عن المانع من السجود وهو عالم بما منعه؟ أجيب : بأنه للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه أصل آدم عليه الصلاة والسّلام.

(قالَ) الله تعالى لإبليس (فَاهْبِطْ مِنْها) أي : من الجنة ، وقيل : من السماء إلى الأرض ، والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سبيل القهقرى والهوان والاستخفاف (فَما يَكُونُ) أي : فما يصح (لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) عن أمري لأنّ الجنة أو السماء مكان الخاشع المطيع لأمر الله تعالى وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة والسماء وأنه تعالى إنما طرد إبليس لتكبره لا لمجرّد المعصية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه البيهقيّ : «من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله» (١) وعن عمر رضي الله عنه : من تواضع رفع الله حكمته ، ومن تكبر وعلا طوره هضمه الله إلى الأرض (فَاخْرُجْ) منها (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي : الكفرة الأذلاء المهانين والصغار : الذل والمهانة ، قال الزجاج :

__________________

(١) أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٥٦٠ ، ٤ / ١٩٧ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٨٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٧٣٠ ، ٥٧٣٥ ، ٥٧٣٦ ، ٥٧٣٧ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٢٩٥ ، وابن حجر في فتح الباري ١١ / ٣٤٧ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ١١٤ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٧ / ١٢٩.

٥٣٧

استكبر عدوّ الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة ، وقيل : كان له ملك الأرض فأخرجه الله منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفا كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروغ فيها حتى يخرج منها.

(قالَ) إبليس عند ذلك (أَنْظِرْنِي) أي : أخرني ولا تمتني ولا تعجل عقوبتي (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي : الناس وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة ، وهذا من جهالة إبليس الخبيث لأنه سأل ربه الإمهال وقد علم أنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يذوق الموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل بل أجابه الله تعالى بقوله : (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) لا إلى ذلك الوقت بل إلى الوقت المعلوم كما بينه تعالى في سورة الحجر بقوله تعالى : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر ، ٣٧ ـ ٣٨] وذلك هو النفخة الأولى التي يموت فيها الخلق.

فإن قيل : لم أجيب إلى الإنظار وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم؟ أجيب : بأنه أجابه لما في ذلك من ابتلاء العباد وفي مخالفته من عظيم الثواب وحكمة ما خلق الله تعالى من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.

(قالَ) أي : إبليس (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي : فبإغوائك لي والباء للقسم أي : أقسم بإغوائك وجوابه (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي : لبني آدم (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي : على الطريق الموصل إليك وإنما أقسم بالإغواء لأنه كان تكليفا والتكليف من أحسن أفعال الله تعالى لكونه تعريضا لسعادة الأبد فكان جديرا لأن يقسم به ويجوز أن تتعلق الباء بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ أي : فبسبب إغوائك أقسم.

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي : من جميع الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة ربه ، وقيل : لم يقل من تحتهم لأنّ الإتيان منه يوحش ، وعنه أنه قال : من بين أيديهم من قبل الآخرة فيخبرهم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ، ومن خلفهم من قبل الدنيا فيزينها لهم ، وعن أيمانهم أي : من قبل حسناتهم أي : فيبطئهم ، عنها ، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم أي : فيزين لهم المعاصي يدعوهم إليها. وإنما عدى الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عروضهم ونظيره قوله : جلست عن يمينه. وعن شقيق : ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أمّا من بين يدي فيقول : لا تخف إنّ الله غفور رحيم فأقرأ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه ، ٨٢] ، وأمّا من خلفي فيخوفني الضيعة على من خلفي فأقرأ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود ، ٦] ، وأمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص ، ٨٣] ، وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ ، ٥٤] (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي : مطيعين.

فإن قيل : كيف علم الخبيث ذلك؟ أجيب : بأنه إنما قال ذلك ظنا لقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ ، ٢٠] لما رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّدا وهو الشيطان والنفس والهوى ومبدأ

٥٣٨

الخير واحدا وهو الملك الملهم ، وقيل : سمع ذلك من الملائكة.

(قالَ) الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه ، وأبعده عن جنابه بسبب عصيانه ومخالفته (اخْرُجْ مِنْها) أي : الجنة أو السماء كما مرّ فإنه لا ينبغي أن تسكن فيها (مَذْؤُماً) أي : محقورا ممقوتا (مَدْحُوراً) أي : مبعدا مطرودا عن الرحمة وقوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي : من الناس اللام فيه موطئة للقسم وجوابه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) وهو سادّ مسدّ جواب الشرط وهو (من تبعك) أي : لأملأن جهنم منك بذريّتك ومن الناس وفيه تغليب الحاضر على الغائب.

(وَيا آدَمُ) أي : وقلنا يا آدم (اسْكُنْ) فهذه القصة معطوفة على قوله تعالى : (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) وقوله تعالى : (أَنْتَ) تأكيد للضمير في اسكن ليعطف عليه (وَزَوْجُكَ) أي : حواء بالمدّ وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة (الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) من ثمار الجنة أي : من أيّ مكان شئتما.

فإن قيل : قال تعالى في سورة البقرة : (وَكُلا) [البقرة ، ٣٥] بالواو وهنا بالفاء فما الفرق؟ أجاب الفخر الرازي : بأن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي : بالأكل منها مشيرا إلى شجرة بعينها أو نوعها وهي الحنطة ، وقيل : شجرة الكرم ، وقيل : غيرهما (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : بالأكل منها أي : فتصيرا بذلك من الذين ظلموا أنفسهم ، وتكونا : يحتمل الجزم عطفا على تقربا والنصب على جواب النهي.

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أي : إبليس بما مكنه الله تعالى منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقي له في سره ما يميل به قلبه إلى ما يريد وهو أحقر وأذلّ من أن يكون له فعل وإنما الكل بيد الله سبحانه وتعالى وهو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم فإن (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف ، ١٧٨] ثم بين علة الوسوسة بقوله تعالى : (لِيُبْدِيَ) أي : ليظهر (لَهُما ما وُورِيَ) أي : ستر وغطي (عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي : عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوجة من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع قالت عائشة رضي الله عنها : «ما رأيت منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا رأى مني» (١) أي : الفرج.

(وَقالَ) أي : إبليس لآدم وحواء (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ) أي : عن الأكل منها (إِلَّا أَنْ) أي : كراهة أن (تَكُونا مَلَكَيْنِ) أي : في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي : الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلا كما في آية أخرى (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه ، ١٢٠] (وَقاسَمَهُما) أي : أقسم لهما بالله على ذلك وأخرجه على زنة المفاعلة للمبالغة ، وقيل : أقسما له بالقبول ، وقيل : أقسما عليه بالله أنه لهما لمن الناصحين فأقسم لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) فجعل ذلك مقاسمة وقال قتادة : حلف لهما بالله حين خدعهما ـ وقد يخدع المؤمن بالله تعالى ـ فقال : إني

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٥٣٩

خلقت قبلكما وأنا أعلم فاتبعاني أرشدكما وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف وأن الأغلب أنّ كل حلاف كاذب وأنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه ولا يظنّ ذلك إلا وهو معتاد للكذب ، وقال بعض العلماء : من خادعنا بالله خدعنا له ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه ـ وكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق ـ فقيل له : إنهم يخدعونك فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له ـ وإبليس ـ لعنه الله تعالى أوّل من حلف بالله تعالى كاذبا فلما حلف ظن آدم أنّ أحدا لا يحلف بالله تعالى كاذبا فاغتر به.

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي : خدعهما ، يقال : ما زال يدلي لفلان بالغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف القول الباطل وقيل : حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية والغرور : إظهار النصح مع إبطان الغش (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي : أكلا من ثمرها وفي ذلك دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصدا إلى معرفة طعمه إذ الذوق يدل على الأكل اليسير.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قبل ازدرادهما أخذتهما العقوبة والعقوبة هي قوله تعالى : (بَدَتْ) أي : ظهرت (لَهُما سَوْآتُهُما) أي : عوراتهما وتجافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من سوأة صاحبه بأن رأى قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره وكانا لا يريان ذلك وسمى كل منهما سوأة لأنّ انكشافه يسوء صاحبه ، قال وهب : كان لباسهما من النور يحول بينهما وبين النظر ، وقال قتادة : كان ظفرا ألبسهما الله من الظفر لباسا فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا (وَطَفِقا) أي : أقبلا وجعلا (يَخْصِفانِ) أي : يلزقان (عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي : من ورق التين قال البغوي : حتى صار كهيئة الثوب ، قال الزجاج : يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما.

روي عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان آدم رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته وكان لا يراها فانطلق هاربا في الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها : أرسليني ، فقالت : لست بمرسلتك ، فناداه الله عزوجل : يا آدم أمني تفرّ ، فقال : لا يا رب ولكني استحييتك» (١)(وَناداهُما) أي : خاطبهما (رَبُّهُما) بقوله : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) أي : عن الأكل من ثمرها (وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي : بين العداوة لكما وقد بان لكما عداوته بترك السجود تعنتا وحسدا ، وفي ذلك عتاب على مخالفة النهي وتوبيخ على الاغترار بقول العدوّ ودليل على أنّ مطلق النهي للتحريم ، قال محمد بن قيس : لما أكل آدم من الشجرة ناداه ربه يا آدم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال : حواء أمرتني ، وقال لحواء : لم أطعمت آدم؟ قالت : أمرتني الحية ، وقال للحية : لم أمرتيها؟ قالت : أمرني إبليس ، قال الله تعالى : أمّا أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين في كل شهر ، وأمّا أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك ، وأمّا أنت يا إبليس فملعون مدحور. وفي رواية لابن عباس : إنه قال لحواء : فإني أعطيتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٣٤٥ ، ٢ / ٥٤٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٥١٤٠ ، والطبري في تاريخه ١ / ١٦٠.

٥٤٠