تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٥٧

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تقديم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسّلام على سيدنا ونبينا محمد أشرف خلق الله أجمعين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد :

فإن للقرآن الكريم الشأن العظيم والأكبر في حياة المسلمين ، فهو الموجه لهم في الحياة والمعاملات وشتى المظاهر الاجتماعية ، وهو المنبع الصافي الذي ينهلون منه فلسفتهم الروحية والخلقية ، وهو المنار الذي يستضاء به في أساليب البلاغة العربية وهو هديهم في شريعتهم.

فلا عجب أن يكون القرآن الكريم موضع عناية المسلمين منذ البدء ، فقد ظهرت أنواع المؤلفات في أحكامه وفي تفسيره ، وفي بلاغته ، وفي لغته وإعرابه ، وقراءته ، حتى لقد ازدهرت في الثقافة الإسلامية ضروب من العلوم والفنون حول القرآن وتحت رايته.

وعلم تفسير القرآن ، هو علم يفهم به كتاب الله المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه ، واستمداد ذلك من علم اللغة ، والنحو ، والصرف ، وعلم البيان ، وأصول الفقه ، والقراءات ، وهو علم أيضا يعرف به نزول الآيات ، وشؤونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيّها ومدنيّها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامها ، ومطلقها ومقيدها ، ومجملها ، ومفسرها ، وحلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وأمثالها ، وغير ذلك.

هذا تفسير القرآن الكريم المسمى «بالسراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير» للإمام العلامة الشيخ الخطيب الشربيني المتوفى سنة ٩٧٧ ه‍ ، وهذا التفسير يعد من أهم التفاسير التي كتبت في عصره.

وقد حاولنا قدر الإمكان تنقية النص من الأخطاء المطبعية ، وكذلك في توضيح

٣

بعض الألفاظ الغير واضحة والمطموسة. إذ اعتمدنا في هذه الطبعة على طبعة مصرية بالخط الحجري. من دون تاريخ الطبع. وكذلك خرجنا جميع الأحاديث النبوية والآثار استنادا إلى كتب الحديث المعتبرة. وخرجنا جميع الشواهد الشعرية في مظانها.

وأخيرا نرجو أن يكون عملنا هذا خالصا لوجهه تعالى ، ولله الكمال وحده وهو ولي التوفيق.

إبراهيم شمس الدين

٤

مقدمة

في علم التفسير (١)

هو علم يعرف به نزول الآيات ، وشؤونها وأقاصيصها ، والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيّها ومدنيها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومجملها ومفسرها ، وحلالها وحرامها وعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وأمثالها وغيرها.

وقال أبو حيان : التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها ، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التي يحمل عليها حالة التركيب ، وتتمات ذلك.

قال : فقولنا : علم جنس ، وقولنا : يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هو علم القراءة. وقولنا : ومدلولاتها أي مدلولات تلك الألفاظ ، وهذا متن علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم. وقولنا : وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، يشتمل علم الصرف والنحو ، والبيان والبديع.

وقولنا : ومعانيها التي يحمل عليها حالة التركيب ، يشتمل ما دلالته بالحقيقة ، وما دلالته بالمجاز. فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئا ، ويصد عن الحمل عليه صاد فيحمل على غيره وهو المجاز. وقولنا : وتتمات ذلك هو مثل معرفة النسخ ، وسبب النزول ، وتوضيح ما أبهم في القرآن ، ونحو ذلك.

وقال الزركشي : التفسير علم يفهم به كتاب الله المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه ، واستمداد ذلك من علم اللغة ، والنحو ، والتصريف ، وعلم البيان ، وأصول الفقه ، والقراءات. ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ. كذا في الاتقان. فموضوعه القرآن.

وأما وجه الحاجة إليه ، فقال بعضهم : اعلم أن من المعلوم أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ، ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه ، وأنزل كتابه على لغتهم. وإنما احتيج إلى التفسير ، لما سيذكر بعد تقرير قاعة ، وهي أن كل من وضع من البشر كتابا ، فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح ، وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة :

أحدهما كمال فضيلة المصنف ، فإنه بقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز ، فربما عسر فهم مراده ، فقصد بالشروح ظهور تلك المعاني الدقيقة. ومن ههنا كان شرح بعض الأئمة لتصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له.

وثانيها إغفاله بعض متممات المسألة أو شروطها ، اعتمادا على وضوحها ، أو لأنها من علم آخر ، فيحتاج الشارح لبيان المتروك ومراتبه.

__________________

(١) مأخوذة من كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي ١ / ٣٣ ـ ٣٧ (طبعة دار الكتب العلمية).

٥

وثالثها احتمال اللفظ لمعان مختلفة ، كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام ، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه.

وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو والغلط ، أو تكرار الشيء ، أو حذف المهم وغير ذلك ، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.

وإذا تقرر هذا فنقول : إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن فصحاء العرب ، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه ، أما دقائق باطنه فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر ، مع سؤالهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأكثر ، كسؤالهم لما نزل : (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : ٨٢] فقالوا : وأينا لم يظلم نفسه؟ ففسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشرك ، واستدل عليه ، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]. وغير ذلك مما سألوا عنه عليه الصلاة والسّلام. ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه ، مع أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم ، فنحن أشد احتياجا إلى التفسير.

وأما شرفه فلا يخفى ، قال الله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩]. وقال الأصبهاني شرفه من وجوه : أحدهما من جهة الموضوع ، فإن موضوعه كلام الله تعالى الذي ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة. وثانيها من جهة الغرض ، فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى ، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى. وثالثها من جهة شدة الحاجة ، فإن كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية ، والمعارف الدينية ، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى.

فائدة : اختلف الناس في تفسير القرآن ، هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم : لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن ، وإن عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة ، والفقه ، والنحو ، والأخبار ، والآثار ، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك.

ومنهم من قال : يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها ، وهي خمسة عشر علما : اللغة والنحو ، والتصريف والاشتقاق ، والمعاني والبيان والبديع ، وعلم القراءات لأنه يعرف به كيفية النطق بالقرآن ، وبالقراءات يرجح بعض الوجوه المحتملة على بعض ، وأصول الدين ، أي الكلام ، وأصول الفقه ، وأسباب النزول ، والقصص إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه ، والناسخ والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره ، والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المبهم ، والمجمل وعلم الموهبة ، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ، وإليه الإشارة بحديث : «من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم». وقال البغوي والكواشي وغيرهما : التأويل وهو صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها ، تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة ، غير محظور على العلماء بالتفسير ، كقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ١] ، قيل : شبابا وشيوخا ، وقيل : أغنياء وفقراء ، وقيل : نشاطا وغير نشاط ، وقيل : أصحاء ومرضى. وكل ذلك سائغ والآية تحتمله.

وأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور ، لأنه تأويل الجاهلين ، مثل تأويل الروافض قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) (١٩) [الرحمن : ١٩] أنهما عليّ وفاطمة (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) [الرحمن : ٢٢] يعني الحسن والحسين.

فائدة : وأما كلام الصوفية في القرآن ، فليس بتفسير. قال النسفي في عقائده : النصوص

٦

محمولة على ظواهرها ، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد. وقال التفتازاني في شرحه : سميت الملاحدة باطنية لا دعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها ، بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم. وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية. وأما ما ذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص مصروفة على ظواهرها ، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق ، تنكشف على أرباب السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان.

فإن قلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل آية ظهر وبطن ، ولكلّ حرف حدّ ، ولكل حد مطلع» (١).

قلت : أما الظهر والبطن ففي معناه أوجه : أحدها أنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها ، وقفت على معناها. والثاني ما من آية إلا عمل بها قوم ولها قوم سيعملون بها ، كما قاله ابن مسعود فيما أخرجه. والثالث أن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها. والرابع ، وهو أقرب إلى الصواب ، أن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية ، وما عاقبهم به ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، وباطنها وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم. والخامس أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر ، وبطنها ما تضمنه من الأسرار أطلع الله عليها أرباب الحقائق.

ومعنى قوله : ولكل حرف حد ، أي منتهى فيما أراد من معناه. وقيل : لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب. ومعنى قوله : ولكل حد مطلع ، لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل به إلى معرفته ، ويوقف على المراد به. وقيل : كل ما يستحقه من الثواب والعقاب ، يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة.

وقال بعضهم : الظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد أحكام الحلال والحرام ، والمطلع الإشراف على الوعد والوعيد. قال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف فهم فهذا يدل على أن في فهم المعاني للقرآن مجالا متسعا ، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل ، والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير لتتقى به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط.

ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر ، بل لا بد أوّلا إذ لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر. هذا كله نبذ مما وقع في الاتقان ، وإن شئت الزيادة فارجع إليه.

علم القراءة ، وهو علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن. وموضوعه القرآن من حيث إنه كيف يقرأ.

__________________

(١) غريب الحديث ٢ / ٥٩.

٧

ترجمة الخطيب الشربيني

هو محمد بن أحمد الشربيني المصري ، شمس الدين المعروف بالخطيب الشربيني ، الفقيه الشافعي ، توفي في حدود سنة ٩٧٧ ه‍.

له من المصنفات :

١ ـ الامتاع في حل ألفاظ أبي شجاع. في الفروع.

٢ ـ السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير. وهو الذي بين أيدينا.

٣ ـ شرح تنبيه أبي إسحاق الشيرازي. في الفروع.

٤ ـ شرح منهاج الدين للجرجاني. في شعب الإيمان.

٥ ـ فتح الخالق المالك في حل ألفاظ كتاب ألفية ابن مالك. في النحو.

٦ ـ الفتح الرباني في حل ألفاظ تصريف عز الدين الزنجاني.

٧ ـ مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للنووي.

٨ ـ نور السجية في حل ألفاظ الأجرومية.

٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، الملك السّلام ، المهيمن العلام ، شارع الأحكام ، ذي الجلال والإكرام ، الذي أنزل القرآن بحسب المصالح منجما ، وجعله بالتحميد مفتتحا وبالاستعاذة مختتما ، وأوحاه على قسمين : متشابها ومحكما ، فسبحان من استأثر بالأوّلية والقدم ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم ومنّ علينا بنبيّنا محمد عليه أفضل الصلاة والسّلام ، وأنعم علينا بكتابه المفرّق بين الحلال والحرام ، والصلاة والسّلام على خير من أوحي إليه حبيب الله أبي القاسم محمد النبي الأميّ المثبّت بالعصمة المؤيّد بالحكمة ، وعلى جميع الأنبياء والملائكة البررة الكرام ، عدد ساعات الليالي والأيام ، وعلى آله الأطهار وخلفائه وجميع المهاجرين والأنصار وعلى بقية الصحابة الأخيار ، صلاة وسلاما دائمين متلازمين آناء الليل وأطراف النهار.

أما بعد : فيقول فقير رحمة ربه القريب محمد الشربيني الخطيب : إن الله جلّ ذكره أرسل رسوله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين بشيرا للمؤمنين ونذيرا للمخالفين ، أكمل به تبيان النبوّة وختم به ديوان الرسالة ، وأنزل عليه بفضله كتابا ساطعا تبيانه قاطعا برهانه ، ناطقا ببينات وحجج ، قرآنا عربيا غير ذي عوج ، مفتاحا للمنافع الدينية والدنيوية ، مصداقا لما بين يديه من الكتب السماوية حسناته ظاهرة باهرة في وجه كل زمان ، دائرا من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان ، أعجز الخليقة عن معارضته وعن الإتيان بسورة من مثله في مقابلته ، ثم سهّل علة الخلق مع إعجازه تلاوته ، ويسّر على الألسن قراءته ، أمر فيه وزجر وبشّر وأنذر فهو كلام معجز في رقائق منطوقة ودقائق مفهومة ، لا نهاية لأسرار علومه.

وقد ألّف أئمة السلف كتبا في معرفة أحكامه ونزوله كل على قدر فهمه ، ومبلغ عمله ، فشكر الله تعالى سعيهم ورحم كافتهم ، ثم خطر لي أن أقتفي أثرهم وأسلك طريقتهم لعل الله أن يرزقني من مددهم ويعود عليّ من بركتهم فتردّدت في ذلك مدّة من الزمان خوفا من الدخول في هذا الشأن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (١) وقول سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه» وفي رواية بغير علم : «فليتبوّأ مقعده من النار» (٢) وقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما سئل عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس ، ٣١] فقال : «أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم» إلى أن يسر الله تعالى لي زيارة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى سائر النبيّين والآل والصحب أجمعين في أوّل عام تسعمائة وإحدى

__________________

(١) أخرجه أبو داود في العلم حديث ٣٦٥٢ ، والترمذي في التفسير حديث ٢٩٥٢.

(٢) أخرجه الترمذي في التفسير حديث ٢٩٥١.

٩

وستين ، فاستخرت الله تعالى في حضرته بعد أن صليت ركعتين في روضته وسألته أن ييسر لي أمري فشرح الله سبحانه وتعالى لذلك صدري فلما رجعت من سفري واستمرّ ذلك الانشراح معي ، وكتمت ذلك في سرّي ، حتى قال لي شخص من أصحابي : رأيت في منامي إما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الشافعيّ يقول لي : قل لفلان يعمل تفسيرا على القرآن فعن قليل إلا وقد قرّرت في وظيفة مشيخة تفسير في البيمارستان ثم سألني بعد ذلك جماعة من أصحابي المخلصين وعلى اقتباس العلم مقبلين بعد أن رأوني فرغت من شرح «منهاج الطالبين» أن أجعل لهم تفسيرا وسطا بين الطويل الممل والقصير المخل ، فأجبتهم إلى ذلك ممتثلا وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسّلام قال : «إنّ رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا» (١) واقتداء بالماضين من السلف في تدوين العلم إبقاء على الخلف ، وليس على ما فعلوه مزيد ، ولكن لا بدّ في كل زمان من تجديد ما طال به العهد وقصر للطالبين فيه الجدّ والجهد ، تنبيها للمتوقفين ، وتحريضا للمتثبطين ، وليكون ذلك عونا لي وللقاصرين مثلي ، مقتصرا فيه على أرجح الأقوال وإعراب ما يحتاج إليه عند السؤال ، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية وأعاريب محلها كتب العربية ، وحيث ذكرت فيه شيئا من القراءات فهو من السبع المشهورات ، وقد أذكر بعض أقوال وأعاريب لقوّة مداركها أو لورودها ولكن بصيغة قيل ليعلم أن المرضي أوّلها وسميته «السراج المنير» في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير ، وأسأله من فضله وإحسانه أن يجعله عملا مقرونا بالإخلاص والقبول والإقبال وفعلا متقبلا مرضيا زكيا يعدّ من صالح الأعمال ، وقد تلقّيت التفسير بحمد الله من تفاسير متعدّدة رواية ودراية عن أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم ، واشتهرت وانتشرت مآثرهم ، جمعني الله وإياهم والمسلمين في مستقر رحمته بمحمد وآله وصحابته. وها أنا الآن أشرع وبحسن توفيقه أقول وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في العلم حديث ٢٦٥٠ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٤٩.

١٠

سورة فاتحة الكتاب

وتسمّى أمّ القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه ، ولذلك تسمى أساسا أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله تعالى ، والتعبّد بأمره ، ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم ، والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء ، وسورة الكنز ؛ لأنها نزلت من كنز تحت العرش ، والوافية والكافية ؛ لأنها وافية كافية في صحة الصلاة بخلاف غيرها عند القدرة عليها ، والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسّلام : «هي شفاء لكل داء» (١) والسبع المثاني ؛ لأنها سبع آيات باتفاق ، لكن من عدّ البسملة آية منها جعل السابعة (صِراطَ الَّذِينَ) إلى آخرها ، ومن لم يعدها آية منها جعل السابعة (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) إلى آخرها ، وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة أي : تكرّر فيها بأن تقرأ في كل صلاة وفي كل ركعة وقول بعضهم تثنى في كل ركعة فيه تجوّز وهي مكية على قول الأكثر. وقال مجاهد : مدنية ، وقيل : نزلت مرّتين مرّة بمكة حين فرضت الصلاة ومرّة بالمدينة حين حوّلت القبلة ، ولذلك سميت مثاني. قال البغويّ : والأوّل أصح ، وقال البيضاويّ : وقد صح : أنها مكية بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) [الحجر ، ٨٧] وهو مكيّ بالنص ، انتهى. وأراد بالنص السنة فقد ثبت ذلك عن ابن عباس وقول الصحابي في القرآن خصوصا في النزول له حكم المرفوع والقرآن العظيم والنور والراقية وسورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة لاشتمالها على ذلك ، وسورة المناجاة ، وسورة التفويض وفاتحة القرآن وأمّ الكتاب وسورة الحمد الأولى وسورة الحمد القصوى وسورة السؤال والصلاة لخبر : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : الحمد لله رب العالمين ، يقول الله : حمدني عبدي ، يقول العبد : الرحمن الرحيم ، يقول الله : أثنى عليّ عبدي ، يقول العبد : مالك يوم الدين ، يقول الله : مجدني عبدي ، يقول العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله عزوجل : هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين ، يقول الله : فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل» (٢) ؛ ولأنها جزؤها فهو من باب تسمية جزء الشيء باسم كله.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

__________________

(١) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ١٨١٦.

(٢) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٣٩٥ ، والترمذي في التفسير حديث ٢٩٥٣.

١١

وقوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا نعبد إلا إياه ، (الرَّحْمنِ) أي : الذي عمّ بنعمتي إيجاده وبيانه جميع خلقه أسفله وأعلاه أدناه وأقصاه (الرَّحِيمِ) أي : الذي خص من بينهم أهل ودّه برضاه ، آية من الفاتحة وعليه قرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك والشافعيّ وقيل : ليست منها وعليه قرّاء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤهما والأوزاعيّ ومالك. ويدلّ للأوّل ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عدّ الفاتحة سبع آيات وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية منها» (١) ، رواه البخاري في «تاريخه» ، وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم ، إنها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» (٢) وروى ابن خزيمة بإسناد صحيح عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها : «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدّ بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين إلى آخرها ست آيات» (٣) وآية من كل سورة إلا براءة لإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف بخطه أوائل السور سوى براءة مع المبالغة في تجريد القرآن عن الأعشار وتراجم السور والتعوّذ حتى لم تكتب آمين فلو لم تكن قرآنا لما أجازوا ذلك ؛ لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا وأيضا هي آية من القرآن في سورة النمل قطعا ، ثم إنا نراها مكرّرة بخط القرآن فوجب أن تكون منه كما أنّا لما رأينا قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن ، الآيات : ١٣ ـ ١٦ ـ ١٨] وقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات ، ٢٧] [المطففين ، ١٠] مكرّرا في القرآن بخط واحد وبصورة واحدة ، قلنا : إن الكل من القرآن.

فإن قيل : لعلها ثبتت للفصل ، أجيب : بأنه يلزم عليه اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا ولثبتت في أوّل براءة ولم تثبت في أوّل الفاتحة.

فإن قيل : القرآن إنما يثبت بالتواتر ، أجيب : بأنّ محله فيما ثبت قرآنا قطعا أمّا ما يثبت قرآنا حكما فيكفي فيه الظنّ كما يكفي في كل ظنّي خلافا للقاضي أبي بكر الباقلاني ، وأيضا إثباتها في المصحف بخطه من غير نكير في معنى التواتر ، وأيضا قد يثبت التواتر عند قوم دون آخرين.

فإن قلت : لو كانت قرآنا لكفر جاحدها ، أجيب : بأنها لو لم تكن قرآنا لكفر مثبتها وأيضا التكفير لا يكون بالظنيات وقد أو ضحت ذلك مع زيادة في شرحي «التنبيه» و «المنهاج» ، أما براءة فليست البسملة آية منها بإجماع.

فائدة : ما أثبت في المصحف الآن من أسماء السور والأعشار شيء ابتدعه الحجاج في زمنه.

والباء في بسم الله متعلقة بمحذوف تقديره بسم الله أقرأ لأنّ الذي يتلوه مقروء إذ كل فاعل يبدأ في فعله باسم الله يضمر ما يجعل التسمية مبدأ له كما أنّ المسافر إذا حل أو ارتحل فقال : بسم الله الرحمن الرحيم كان المعنى بسم الله أحل بسم الله أرتحل وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ، وما يدل عليه ومن أن يضمر ابتدائي لما ذكرنا.

فإن قيل : المصدر لا يعمل محذوفا ، أجيب : بأنه يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما وتقديره مؤخرا كما قال الإمام الرازي أولى كما في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)

__________________

(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ١ / ١٠.

(٢) أخرجه الدارقطني في سننه ١ / ٣١٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٢ / ٤٥.

(٣) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه حديث ٤٩٣.

١٢

لأنه أهمّ وأدلّ على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإنّ اسمه تعالى مقدّم ذاتا لأنه قديم واجب الوجود لذاته فقدم ذكرا.

فإن قيل : قال الله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق ، ١] فقدم الفعل ، أجيب : بأنه في مقام ابتداء القراءة وتعليمها لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهمّ باعتبار هذا العارض وإن كان ذكر الله تعالى أهمّ في نفسه ، وذكرت أجوبة غير ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة ، والباء للاستعانة أو للمصاحبة والملابسة على جهة التبرّك ، والمعنى متبرّكا بسم الله اقرأ ، والثاني أولى لما فيه من التحاشي عن جعل اسمه تعالى آلة ، والأحسن أن تكون لهما إعمالا للفظ في معنييه الحقيقيين أو الحقيقيّ والمجازي عند من يجوّزه كإمامنا الشافعيّ ، والبسملة وما بعدها إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرّك باسمه ويحمد على نعمه ويسئل من فضله ويقدر في أوّل الفاتحة قولوا كما قال الجلال المحلي ، ليكون ما قبل إياك نعبد مناسبا له بكونه من مقول العباد.

فإن قيل : من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون نحو واو العطف وفائه ، أجيب : بأنها إنما كسرت للزومها الحرفية والجرّ ولتشابه حركتها عملها وحذفت الألف من بسم خطا كما حذفت لفظا دون باسم ربك وإن كان وضع الخط على حكم الابتداء دون الدرج لكثرة الاستعمال ، وقالوا : طوّلت الباء تعويضا من طرح الألف وألحق بها (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود ، ٤١] و (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [النمل ، ٣٠] وإن لم تكتب في القرآن إلا مرّة واحدة لشبهها لها صورة.

فإن قيل : لم حذف في بسم الله دون الله والرحمن الرحيم؟ أجيب : خطان لا يقاس عليهما : خط المصحف وخط العروضيين ، ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم لغير الله ولا مع غير الباء. والاسم مشتق من السموّ وهو العلوّ لأنه رفعة للمسمى وشعار له فهو من الأسماء المحذوفة الإعجاز ، كيد ودم ، لكثرة الاستعمال وبنيت أوائلها على السكون وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ولأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرّك ويقفوا على الساكن ، وقيل من الوسم ، وهو العلامة فوزنه على الأوّل أفع محذوف اللام ، وعلى الثاني أعل محذوف الفاء ، وفيه عشر لغات نظمها بعضهم في بيت فقال :

سم وسما واسم بتثليت أوّل

لهنّ سماء عاشر تمت انجلي

والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات مقطعة غير قارّة ويختلف باختلاف الأمم والأعصار ، ويتعدّد تارة ويتحد أخرى ، والمسمى لا يكون كذلك وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى ، وقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى ، ١] المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب ، أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر (١) :

إلى الحول ثم اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢١٤ ، والأشباه والنظائر ٧ / ٩٦ ، والأغاني ١٣ / ٤٠ ، وبغية الوعاة ١ / ٤٢٩ ، والخصائص ٣ / ٢٩ ، والدرر ٥ / ١٥ ، وشرح المفصل ٣ / ١٤ ، والعقد الفريد ٢ / ٧٨ ، ٣ / ٥٧ ، ولسان العرب (عذر).

١٣

وإن أريد به الصفة كما هو رأي أبي الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى كالواحد والقديم وإلى ما هو غيره كالخالق والرازق وإلى ما ليس هو ولا غيره كالعلم والقدرة فإنهما زائدان على الذات وليسا غير الذات لأنّ المراد بالغير ما ينفك عن الذات وهما لا ينفكان.

فإن قيل : لم بدأ ببسم الله دون بالله ، أجيب : بأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه وللفرق بين اليمين والتيمن. والله علم على الذات الواجب الوجود ، المستحق لجميع المحامد وأصله إله ، قال الرافعي : كإمام ، ثم أدخلوا عليه الألف واللام ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام فصار اللاه بلامين متحرّكين ثم سكنت الأولى وأدغمت في الثانية للتسهيل ، انتهى. والإله في الأصل يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق كما أنّ النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، والحق أنه أصل بنفسه غير مأخوذ من شيء بل وضع علما ابتداء فكما أنّ ذاته لا يحيط بها شيء ولا ترجع إلى شيء فكذا اسمه تعالى ، وقيل : مأخوذ من أله إذا تحير ، إذ العقول تتحير في معرفته ، وقيل غير ذلك ، وهو عربيّ عند الأكثر وعند المحققين أنه اسم الله الأعظم وقد ذكره الله تعالى في ألفين وثلثمائة وستين موضعا واختار النوويّ تبعا لجماعة أنه الحيّ القيوم قال : ولذلك لم يذكر في القرآن إلا في ثلاثة مواضع في البقرة ، وآل عمران ، وطه.

والرحمن الرحيم صفتان مشبهتان بنيتا للمبالغة من رحم بتنزيله منزلة اللازم أو بجعله لازما ونقله إلى فعل بالضمّ. والرحمة لغة رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان ، فالتفضل غايتها. وأسماء الله تعالى المأخوذة من نحو ذلك إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادىء التي تكون انفعالات فرحمة الله تعالى إرادة إيصال الفضل والإحسان أو نفس إيصال ذلك فهي من صفات الذات على الأوّل ومن صفات الفعل على الثاني ، والرحمن أبلغ من الرحيم لأنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى كما في قطع بالتخفيف وقطّع بالتشديد.

فإن قيل : حذر أبلغ من حاذر ، أجيب : بأنّ ذلك أكثري لا كليّ ، وبأنّ الكلام فيما إذا كان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان لا كحذر وحاذر للاختلاف وقدم الله عليهما لأنه اسم ذات وهما اسما صفة ، والرحمن على الرحيم لأنه خاص إذ لا يقال لغير الله بخلاف الرحيم ، والخاص مقدّم على العامّ ، وإنما قدم والقياس يقتضى الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم : عالم نحرير لأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره ولذلك رجح جماعة أنه علم ولأنه لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم كالتابع والتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف فليس من باب الترقي بل من باب التعميم والتكميل وللمحافظة على رؤوس الآي ، وهل الرحمن مصروف أو لا؟ فيه قولان : مال السعد التفتازاني إلى جواز الأمرين لأنّ شرط منع صرف فعلان صفة وجود فعلى وشرط صرفه وجود فعلانة وكلاهما منتف هنا لكن أظهرهما أنه ممنوع الصرف إلحاقا له بما هو الغالب من نظائره في الزيادة والوصف ، والثاني أنه مصروف إلحاقا له بالأصل في مطلق الاسم وهو الصرف ، هذا مع أنّ المختار في منع صرف ما ذكر انتفاء فعلانة لا وجود فعلى ، والحاصل أنه تعارض في صرفه وعدم صرفه الأصل والغالب.

فإن قيل : هذا إذا لم تدخله أل ، أجيب : بأنّ المختار أنّ غير المصروف إذا دخلت عليه أل والعلتان فيه باق على منع صرفه وإن جرّ بالكسرة.

فوائد : الأولى : الوقف على الله قبيح للفصل بين التابع والمتبوع وعلى الرحمن كذلك وقيل :

١٤

كاف وعلى الرحيم تام.

الثانية : عدد حروف البسملة الرسمية تسعة عشر حرفا وعدد ملائكة خزنة النار تسعة عشر قال ابن مسعود : من أراد أن ينجيه الله تعالى من الزبانية فليقلها ليجعل الله تعالى له بكل حرف جنة ، أي : وقاية من واحد.

الثالثة : قال النسفيّ في «تفسيره» قيل : الكتب المنزلة من السماء إلى الدنيا مائة وأربعة : صحف شيث ستون ، وصحف إبراهيم ثلاثون وصحف موسى قبل التوراة عشرة ، والتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، وجميع كل الكتب مجموعة في الفاتحة ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة ومعانيها مجموعة في بائها ومعناها : بي كان ما كان وبي يكون ما يكون. زاد بعضهم ومعاني الباء في نقطتها وتخصيص التسمية بهذه الثلاثة التي هي الله والرحمن الرحيم ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في جميع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها فيتوجه العارف بجملته حرصا ومحبة إلى جناب القدس ويتمسك بحبل التوفيق ويشغل سره بذكره والاستمداد به عن غيره.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد اللفظي لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على قصد التبجيل ، أي : التعظيم ، سواء اتعلق بالفضائل وهي النعم القاصرة أم بالفواضل وهي النعم المتعدّية فدخل في الثناء الحمد وغيره وخرج باللسان الثناء بغيره كالحمد النفسي وبالجميل الثناء باللسان على غير الجميل ، إن قلنا برأي ابن عبد السّلام أن الثناء حقيقة في الخير والشرّ ، وإن قلنا برأي الجمهور وهو الظاهر أنه حقيقة في الخير فقط ففائدة ذلك تحقيق الماهية أو دفع توهم إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه وبالاختياري المدح ، فإنه يعمّ الاختياري وغيره ، تقول : مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها ، وظاهر قول الزمخشريّ : الحمد والمدح أخوان أنهما مترادفان وبه صرّح في «الفائق» لكن الأوفق ما عليه الأكثر أنهما غير مترادفين بل متشابهان معنى أو اشتقاقا كبيرا ، والاشتقاق ثلاثة أقسام : كبير ، وأكبر ، وأصغر ، وقد يعبر عنه بالصغير ، فالكبير أن يشترك اللفظان في الحروف الأصول من غير ترتيب كالحمد والمدح ، والأكبر أن يشتركا في أكثر الحروف الأصول كالفلق ، والفلج ، والفلذ ، مع اتحاد في المعنى أو تناسب ، والأصغر أن يشتركا في الحروف الأصول المترتبة كضرب والضرب وبعلى قصد التبجيل ما كان على قصد الاستهزاء والسخرية نحو قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ، ٤٩] وتناول الظاهر والباطن إذ لو تجرّد الثناء على الجميل عن مطابقة الاعتقاد أو خالفه أفعال الجوارح ، لم يكن حمدا بل تهكم أو تمليح ، وهذا لا يقتضي دخول الجنان والأركان في التعريف لأنّ المطابقة وعدم المخالفة اعتبرا فيه شرطا لا شطرا وعرفا فعل ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الحامد أو غيره سواء كان ذكرا باللسان أم اعتقادا ومحبة بالجنان أم عملا وخدمة بالأركان كما قيل :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

فمورد اللغويّ : هو اللسان وحده ومتعلقه يعمّ النعمة وغيرها ، ومورد العرفي يعمّ اللسان وغيره ومتعلقه يكون النعمة وحدها ، فاللغويّ أعمّ باعتبار المتعلق وأخص باعتبار المورد ، والعرفي بالعكس ، والشكر لغة : هو الحمد عرفا وعرفا صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله ، والمدح لغة الثناء باللسان على الجميل مطلقا على جهة التعظيم ،

١٥

وعرفا ما يدلّ على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل ، فالشكر أعمّ من الحمد والمدح من وجه لأنه لا يختص باللسان وأخص منهما من وجه آخر لأنه يختص بالثناء على الإنعام ، وضدّ الحمد الذم ، وضدّ الشكر الكفران ، وضدّ المدح الهجو.

وجملة الحمد لله خبرية لفظا ؛ إنشائية معنى ، لحصول الحمد بالتكلم بها مع الإذعان لمدلولها ، ويجوز أن تكون موضوعة شرعا للإنشاء وقيل : خبرية لفظا ومعنى ، قال بعضهم : وهو التحقيق إذ ليس معنى كونها إنشائية لا أنها جملة إنشاء الحامد الثناء بها وذلك لا ينافي كونها خبرية معنى. ولام لله للملك أو الاستحقاق أو الاختصاص ، وقيل : للتعليل والأولى أنها للاختصاص بالمعنى الأعمّ الصادق بالملك وبالاستحقاق ، لا بالمعنى الأخص المقابل لهما وعلى كل فهي متعلقة بمحذوف هو الخبر حقيقة ، فالحمد مختص بالله كما أفادته الجملة الاسمية سواء أجعلت لام التعريف فيه للاستغراق كما عليه الجمهور وهو ظاهر ، أم للجنس كما عليه الزمخشري ؛ لأنّ لام لله للاختصاص كما مرّ فلا فرد منه لغيره أم للعهد كالتي في قوله تعالى : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) [التوبة ، ٤٠] كما نقله ابن عبد السّلام وأجازه الواحديّ على معنى أن الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به أنبياؤه وأولياؤه مختص به والعبرة بحمد من ذكر فلا فرد منه لغيره ، وأولى الثلاثة الجنس ، زاد بعضهم أو للكمال كما أفاده سيبويه في الداخلة على الصفات كالرحمن الرحيم ، قال البيضاويّ : إذ الحمد في الحقيقة كله له إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل ، ٥٣] انتهى.

فإن قيل : بل هو موليه مطلقا بغير وسط ، أجيب : بأن المراد بالوسط من تصل إليه النعمة أوّلا ثم تنتقل منه إلى غيره لا أنه وسط في التأثير.

فإن قيل : لم خص الحمد بالله ولم يقل الحمد للخالق أو نحو من بقية الصفات أجيب : بأن لا يتوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف ، قال البيضاوي : وفيه إشعار بأنه تعالى حيّ قادر مريد عالم إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه.

(رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : مالك جميع الخلق من الإنس والجنّ والملائكة والدوابّ وغيرهم ، إذ كل منها يطلق عليه عالم ، يقال : عالم الإنس وعالم الجنّ إلى غير ذلك ، وسمي المالك بالرب لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله تعالى : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) [يوسف ، ٥٠] والعالمين اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعا له لأنّ العالم عامّ في العقلاء وغيرهم والعالمين مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعا لما هو أعم منه ، قاله ابن مالك وتبعه ابن هشام في «توضيحه» ، وذهب كثير إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمع ثم اختلفوا في تفسير العالم الذي جمع هذا الجمع فذهب أبو الحسن إلى أنه أصناف الخلق العقلاء وغيرهم وهو ظاهر كلام الجوهريّ ، وذهب أبو عبيدة إلى أنه أصناف العقلاء فقط وهو الإنس والجن والملائكة.

وقيل : عنى به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ووجه اشتمال الصغير وهو الإنسان على نظائر ما في الكبير وهو ما سوى الله تعالى أنّ تفاصيله شبيهة بتفاصيل العالم الكبير ، إذ الكبير ينقسم إلى ظاهر محسوس كالعالم الملك وهو ما ظهر للحواس وتكون بقدرة الله تعالى بعضه من بعض وتضمنه التغيير وإلى باطن معقول كعالم الملكوت وهو ما أوجده سبحانه وتعالى بالأمر الأزلي بلا تدريج وبقي على حالة واحدة من غير

١٦

زيادة فيه ولا نقصان منه ، وإلى عالم الجبروت وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت ، والإنسان كذلك ينقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم ، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة والقدرة ، وإلى ما هو مشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن.

فإن قيل : لم جمع جمع قلة مع أنّ المقام يستدعي الإتيان بجمع الكثرة أجيب : بأنّ فيه تنبيها على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه تعالى.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أسمائه خمسة : الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، والمالك ، والسبب فيه كأنه يقول : خلقتك أوّلا فأنا الله ثم ربيتك بوجود النعمة ، فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك ، فأنا رحمن ثم تبت عليك ، فأنا رحيم ، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك ، فأنا مالك يوم الدين.

فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية ثم ذكرهما مرّة ثانية دون الأسماء الثلاثة الباقية ، فما الحكمة في ذلك؟ أجيب : بأنّ الحكمة في ذلك كأنه قال تعالى : اذكر أني إله ورب مرّة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور ، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره ، قوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) [غافر ، ٣] وقرأ عاصم والكسائيّ : مالك بألف بعد الميم ، ويعضده قوله تعالى : (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ، ١٩] وقرأ الباقون بغير ألف ، ويعضده قوله تعالى : (مَلِكِ النَّاسِ) [الناس ، ٢] وبينهما عموم مطلق فكل ملك مالك ولا عكس لعموم ولاية الملك التزاما لا مطابقة ولا يقدح فيها أن تقول مالك الدواب والأنعام والوحوش والطير دون ملكها لأنّ ذلك ليس من جهة عدم شمول حياطته لذلك ، بل من جهة أنه إنما يضاف عرفا إلى ما فيه انقياد وامتثال وينفذ فيه التصرف بالأمر والنهي ، قاله السعد التفتازاني ، وقيل : هما بمعنى وهو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر على ذلك إلا الله ويوم الدين يوم الجزاء ومنه قولهم : كما تدين تدان وهو يوم القيامة وخص بالذكر لأنه لا ملك ظاهر فيه لأحد إلا لله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر ، ١٦].

فإن قيل : إضافة اسم الفاعل غير حقيقية فلا تكون معطية معنى التعريف فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة؟ أجيب : بأنها إنما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال فكان في تقدير الانفصال كقولك : مالك الساعة أو غدا فأما إذا قصد به معنى الاستمرار أي : هو موصوف بذلك دائما فتكون الإضافة حقيقية كغافر الذنب فصح وقوعه صفة للمعرفة.

فإن قيل : التقييد بيوم الدين ينافي الاستمرار لكونه صريحا في الاستقبال ، أجيب : بأنّ معناه الثبوت والاستمرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنسبة إلى يوم الدين كأنه قيل : هو ثابت المالكية في يوم الدين أو المراد أنه جعل يوم الدين لتحقق وقوعه بمنزلة الواقع فتستمرّ مالكيته في جميع الأزمنة.

تنبيه : إجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه ربا للعالمين موجدا لهم منعما عليهم بالنعم ، كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب للدلالة على أنه تعالى الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له.

١٧

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إيا ضمير منصوب منفصل وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب وفيه أقوال أخر ذكرتها في «شرح القطر».

فإن قيل : لم كرر ضمير إياك؟ أجيب : بأنه كرر للتنصيص على أنه المستعان به لا غيره.

فإن قيل : لم قدّمت العبادة على الاستعانة ، أجيب : لتتوافق رؤوس الآي وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأيضا لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك فرحا واعترافا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ليدل على أنّ العبادة أيضا مما لا تتم ولا تتيسر له إلا بمعونة منه تعالى وتوفيق.

فإن قيل : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ أجيب : بأنّ عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تحسينا للكلام وتنشيطا للسامع فيكون أكثر إسغاء للكلام فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس فيهما فهذه أقسام أربعة ذكرها البيضاوي والتحقيق كما قاله بعض المتأخرين : أنها ستة لأنّ الملتفت إليه اثنان وكل منهما إمّا غيبة أو خطاب أو تكلم ، من ذلك قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس ، ٢٢] الأصل بكم فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ) [الروم ، ٤٨] الأصل فساقه فهو التفات من الغيبة إلى التكلم.

والاستعانة طلب معونة وهي : إمّا ضرورية أو غير ضرورية ، فالضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوّره وحصول آلة ومادّة يفعل بها فيها وعند استجماع ذلك يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل ، وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرّب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف غالبا وقد يتوقف كأكثر الواجبات المالية.

فإن قيل : لم أطلقت الاستعانة؟ أجيب : بأنها إنما أطلقت لأجل أنها تتناول المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات واستحسن هذا الزمخشريّ قال : لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض.

تنبيه : الضمير المستكن في نعبد ونستعين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعل عبادته تقبل ببركة عبادتهم وحاجته يجاب إليها ببركة حاجتهم ولهذا شرعت الجماعة في الصلاة.

فإن قيل : لم قدم المفعول؟ أجيب : بأنّ تقديمه للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتقديم ما هو مقدّم في الوجود والتنبيه على أنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة بينه وبين الحق فإنّ العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ولذلك فضل ما حكي عن حبيبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة ، ٤٠] على ما حكاه عن كليمه موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء ، ٦٢] لأنّ الأوّل قدّم ذكر الله تعالى على المعية والثاني بالعكس.

١٨

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا : اهدنا والهداية الدلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير.

فإن قيل : قال الله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات ، ٢٣] أجيب : بأنه وارد على التهكم.

تنبيه : هدى أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى كقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء ، ٩] (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأعراف ، ١٧٥] فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) [الأعراف ، ١٥٥] وقد يتعدى بنفسه كما هنا وهو حينئذ محتمل لإضمار الحرف ولعدم إضماره وهداية الله تعالى تتنوّع أنواعا لا يحصيها عدد كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم ، ٣٤] [النحل ، ١٨] ولكنها تنحصر في أجناس مرتبة ، الأوّل : إفاضة القوى التي يتمكن بها المؤمن من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة والثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه أشار تعالى حيث قال : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ، ١٠] أي : طريق الخير والشر وقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت ، ١٧] والثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء ، ٧٣] وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء ، ٩] والرابع : أن يكشف لقلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى تعالى بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام ، ٩٠] وقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت ، ٦٩].

فإن قيل : ما معنى طلب الهداية وهم مهتدون؟ أجيب : بأنهم طلبوا زيادة ما منحوه من الهدى والثبات عليه كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد ، ١٧] والصراط من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق وقد تشمّ الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه ، قرأ حمزة الصراط المعرف في هذه السورة بالإشمام وهو أن ينطق القارىء بحرف متولد بين الصاد والزاي ، وأشمّ خلف صراط الثاني كالأوّل وكذا جميع ما في القرآن من معرف ومنكر ، وقرأ قنبل جميع ما في القرآن بالسين ، وقرأ الباقون بالصاد الخالصة في الجميع ، وهذه لغة قريش وهي الثابتة في الإمام وهو مصحف سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه والمستقيم المستوي ، والمراد به طريق الحق ، وقيل : ملة الإسلام ، وهذان القولان مرويان عن ابن عباس وهما متحدان صدقا وإن اختلفا مفهوما.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالهداية بدل من الأوّل بدل كل من كل والعامل فيه مقدّر على رأي الجمهور ، وقيل : العامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو ظاهر مذهب سيبويه ، واختاره ابن لك (١).

فإن قيل : ما فائدة ذكر صراط الذين أنعمت عليهم بدلا تابعا؟ وهلا اقتصر عليه مع أنه المقصود بالنسبة؟ أجيب : بأنّ فائدته التوكيد والتنصيص على أنّ طريق المسلمين هو المشهود عليه

__________________

(١) ابن لك : كذا بالأصل ، ولم أجد له ترجمة في المصادر والمراجع التي بين يدي ، ولعلها تصحيف : ابن مالك. والله أعلم.

١٩

بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أنّ الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين وهذا هو الموافق لما خرّج ابن جرير عن ابن عباس ، إن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والصدّيقون والشهداء ومن أطاعه وعبده وقيل : الذين أنعمت عليهم الأنبياء خاصة صلوات الله وسلامه عليهم ، وقيل : أصحاب موسى وعيسى قبل التحريف والنسخ.

تنبيه : أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه ويبدل من الذين بصلته. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود ، لقوله تعالى فيهم : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [المائدة ، ٦٠] (وَلَا) أي : وغير (الضَّالِّينَ) وهم النصارى ، لقوله تعالى : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا) [المائدة ، ٧٧] الآية ، ونكتة البدل إفادة أنّ المهتدين ليسوا يهودا ولا نصارى وقيل : إنّ غير صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله تعالى والضلال ، وقيل : المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون ؛ وذلك لأنه تعالى بدأ في أوّل البقرة بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات ثم أتبعه بذكر الكفار وهو المراد من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة ، ٦] ثم أتبعهم بذكر المنافقين وهو قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة ، ٨] إلخ .. وكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ثم أتبعهم بذكر الكفار وهو قوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ثم أتبعهم بذكر المنافقين بقوله : (وَلَا الضَّالِّينَ.)

فإن قيل : كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف؟ أجيب : بأنه يصح بأحد تأويلين ؛ أحدهما : إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى باللام في قول القائل (١) :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبني

أي : لئيما يسبني إذ لا مرور على الكل ، والثاني : جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضدّ واحد وهو المنعم عليه فليس في غير إذن الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف.

تنبيه : إنما سمى كل من اليهود والنصارى بما ذكر مع أنه مغضوب عليه وضالّ لاختصاص كل منهما بما غلب عليه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المغضوب عليهم اليهود وإنّ الضالين النصارى» (٢) رواه

__________________

(١) عجز البيت :

فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني

والبيت من الكامل ، وهو لرجل من سلول في الدرر ١ / ٧٨ ، وشرح التصريح ٢ / ١١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣١٠ ، والكتاب ٣ / ٢٤ ، والمقاصد النحوية ٥ / ٥٨ ، ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات ص ١٢٦ ، ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ص ١٧١ ، وبلا نسبة في الأزهية ص ٢٦٣ ، والأشباه والنظائر ٣ / ٩٠ ، والأضداد ص ١٣٢ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٦٣١ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢٠٦ ، وجواهر الأدب ص ٣٠٧ ، وخزاة الأدب ١ / ٣٥٧ ، والخصائص ٢ / ٣٣٨ ، والدرر ٦ / ١٥٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٢١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤١ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٧٥ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢١٩ ، ولسان العرب (ثمم) (مني) ، ومغني اللبيب ١ / ١٠٢ ، و ٢ / ٤٢٩ ، ٦٤٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٩ ، و ٢ / ١٤٠.

(٢) أخرجه الترمذي حديث ٢٩٥٣ ، وابن حبان في صحيحه حديث ٧٢٠٦ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٧ / ٢٣٧.

٢٠