البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

وقياس الدوران بين المحذورين بتعارض الخبرين باطل فإنّ التخيير بين الخبرين من حيث العمل على تقدير كون حجية الاخبار من باب السببيّة والموضوعيّة يكون على طبق القاعدة لأنّ كلا الخبرين واجدان لمناط وجوب الأخذ ، ويكون هذا التخيير مثل التخيير بين الواجبين المتزاحمين كانقاذ الغريقين مثلا.

ولا بدّ قبل الخوض في البحث من توضيح معنى السببيّة ، فيقال نفس تبعيّة الامارة مشتملة على مصلحة كاملة جابرة لمصلحة الواقع.

وعلى هذا ؛ لو فرض كون الامارة مخالفة للواقع لكان نفس التبعيّة عن الامارة جابرا لمصلحة الواقع فالقائلون بالسببيّة يقولون ان التبعيّة عن الامارة التي تدلّ على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة تكون ذات مصلحة تامّة ، ولكن القصور يكون عن ناحية المكلّف لأنّه لا يقدر على مراعاتهما معا لأنّه إمّا فاعل وإمّا تارك.

هذا معنى السببيّة ، وبعد الفراغ عن هذا التوضيح نشرع في توضيح فساد القياس المذكور.

وخلاصة القياس : انّه لا إشكال في وجوب الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء ، والآخر على حرمته.

والحال : انّه لا فرق بين مورد تعارض الخبرين وبين المقام.

وعلى ضوء هذا : فما دلّ على وجوب الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين تخييرا فهو دالّ عليه في مقام البحث ، وهذا القياس يكون استدلال القائل بالتخيير الشرعي في صورة دوران الأمر بين المحذورين.

٦٠١

في الجواب عنه :

أجاب المصنّف قدس‌سره عنه : بأنّ قياس المقام بصورة التعارض قياس مع الفارق فإنّه إذا بنى على كون حجيّة الأخبار من باب السببيّة ، فالتخيير بينهما حينئذ على القاعدة لأنّ كل فرد من الخبر يكون واجدا لمناط وجوب الأخذ به ، فمع تعارض الخبرين لما لم يمكن الأخذ بهما معا فقد وجب الأخذ بأحدهما تخييرا ، كما هو القاعدة في جميع المقتضيات المتزاحمات التي لا يمكن اعمال جميعها فإنّ المكلّف يتخيّر بينهما في الاعمال كالغرقى اللذين لا يمكن إنقاذ جميعها أو كالغريقين اللّذين لا يمكن للمكلّف إنقاذهما معا.

وحينئذ لا مجال لقياس صورة دوران الأمر بين المحذورين بصور التعارض فإنّ كلا من احتمالي الوجوب والحرمة لا اقتضاء له في وجوب الأخذ به حتّى يتخيّر بينهما من جهة التزاحم إذ هذا الشيء ، وذلك كصلاة الجمعة ، امّا واجب واقعا وامّا حرام واقعا.

وعليه : فالمقتضى لوجوب الأخذ إمّا وجوب فقط على تقدير كونه واجبا واقعا ، وإمّا حرام فقط على تقدير كونه حراما واقعا.

وامّا إذا بنى على كون حجيّة الأخبار من باب الطريقية كما هو مختار المصنّف قدس‌سره ومن تبعه ، فالأصل عند التعارض هو التساقط دون الترجيح والتخيير ، إلّا انّه لمّا قام الدليل على الترجيح مع وجود المرجّح والتخيير مع عدم المرجّح. ولكن من المعلوم عدم وجود صفة الطريقية وعنوان الكاشفية عن الواقع في احتمالي الوجوب والحرمة ، فكيف يصحّ قياس المقام بتعارض الخبرين المتعارضين على هذا المبنى.

خلاصة الجواب : ان قياس المقام بمتعارضين باطل أي بخبرين متعارضين يكون أحدهما دالّا على وجوب الشيء والآخر على حرمته ، لأنّ حجيّة الأخبار

٦٠٢

لا تخلو من وجهين امّا بمناط السببية بهذا المعنى إذا قام الخبر على حكم فقيامه علّة تامّة لفعليّته وتنجّزه أي فعلية الحكم وتنجّزه ، وامّا بمناط الطريقيّة أي لا يكون قيام الخبر على الحكم سببا لفعليّته وتنجّزه بل هو كاشف عن حكم مجعول فعلى منجز.

وعلى الفرض الأوّل : إذا تعارض الخبران فيكون التخيير بينهما في مقام العمل على القاعدة إذ كل واحد منهما يكون سببا لفعليّة الحكم وتنجّزه.

وعليه : إذا التزمنا بمضمون كلّ واحد منهما فيصحّ هذا الالتزام ، ولما لم يكن الترجيح موجودا في البين فلا جرم يكون الحكم بالتخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة كما يحكم بالتخيير على القاعدة بين الواجبين المتزاحمين ، وذلك كالغريقين اللّذين لا يقدر المكلّف على انقاذهما معا ، ولم يكن الترجيح بينهما من حيث الايمان وعدمه ومن حيث العدالة وعدمها ومن حيث الورع وعدمه و ....

وعلى الفرض الثاني : وان كان في الواقع أحد الحكمين والمجعول الفعلي والمنجز واقعا احدهما وليس كليهما معا ، فيكون أحدهما بمناط الطريقية إلى الواقع كاشفا عنه ، والآخر يكون على الخطأ فلازم هذا عدم القول بالتخيير بينهما ، ولكن لمّا كان الخبران واجدين لجميع شرائط الحجيّة وإلّا لما تحقّق التعارض ، وليس الترجيح بينهما بموجود فلا جرم من أن من تشمله أدلّة التخيير وهي تقتضي التخيير بينهما من حيث العمل كما تقتضي أدلّة الترجيح تقديم ذي المرجّح على غيره.

وعلى ضوء هذا : فالتخيير بين الخبرين المتعارضين يكون على أساس القاعدة ومستندا إلى الحجّة والبرهان ، ولكن في فرض دوران الأمر بين احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ليس التخيير على أساس القاعدة ولا مستندا إلى البرهان إذ القاعدة تقتضي الأخذ بخصوص الحكم الصادر من الشارع المقدّس واقعا.

ولا يخفى عليك أن هذا المعنى يحصل بالالتزام الإجمالي بما هو واقع ، فلو التزمنا في المقام بخصوص أحدهما المعيّن امّا الوجوب وامّا الحرمة للزم

٦٠٣

الاشكالان :

الأوّل : أنّه لا يوصلنا إلى الواقع المطلوب ، إذ ليس الدليل بقائم عليه ، أي على الواقع كي نلتزم به تفصيلا.

الثاني : اعلم أنّ هذا الالتزام ينتهي بالاخرة إلى التشريع والبدعة ، كما لا يخفى الفرق بينهما ، أي بين التشريع والبدعة ، وخلاصته ؛ ان الاول عبارة عن ادخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين ، والثاني عبارة عن ادخال ما علم انه ليس من الدين في الدين وكلاهما محرمان في الشريعة المقدّسة وقد مضى في الجزء الأوّل.

قوله : نعم لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما ...

نعم ، لو كان التخيير بين الخبرين المتعارضين بمناط اظهارهما احتمال الوجوب واحتمال الحرمة لا بمناط السببيّة ولا بمناط الطريقية ، وبمناط احداثهما الترديد بين الوجوب والحرمة لكان هذا المناط موجودا في المقام أيضا إذ نحتمل وجوب صلاة الجمعة ونحتمل حرمتها فنكون متردّدين فيهما.

وعليه : فيتحقّق وجه الشبه والجامع بين المقيس والمقيس عليه ، ويصحّ القياس المذكور ، فالدليل الذي يدلّ على التخيير بين الخبرين المتعارضين فهو يدلّ على التخيير بين الاحتمالين إذ في الحقيقة يرجع التخيير في كلتا الصورتين أي صورة التعارض وصورة دوران الأمر بين المحذورين إلى التخيير بين الاحتمالين وهما احتمال الوجوب واقعا ؛ واحتمال الحرمة واقعا.

قوله : فتأمّل جيّدا ...

وهو إشارة إلى أنّ ملاك التخيير في الخبرين المتعارضين ليس بمناط إيجاد الاحتمال كي يصحّ قياس ما نحن فيه بهما ، بل يكون التخيير الشرعي بينهما بمناط السببيّة على القول بها وبسبب وجود الدليل على التخيير على القول بالطريقية كما

٦٠٤

سيأتي هذا الدليل في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى.

وعلى ضوء هذا : فلا يصحّ قياس مقام دوران الأمر بين المحذورين بمقام تعارض الخبرين إذ هو مع الفارق ، كما لا يخفى.

قوله : ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ...

أشار المصنّف قدس‌سره بهذا الكلام إلى ردّ دليل القول الأوّل في مسألة الدوران ، وقال : لا وجه لتطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان في مقام البحث لوجود البيان وهو العلم بلزوم الفعل أو الترك كما لو علم بوجوب شيء وحرمة شيء آخر فإنّه لا ينبغي التأمّل في وجوب الاحتياط مع هذا العلم ، وهو يتحقّق بفعل الأوّل وترك الثاني.

غاية الأمر : انّ المكلّف في مقام الدوران لا يمكنه الاحتياط والموافقة القطعية كما لا يمكنه المخالفة القطعية لامتناع الجمع بين الفعل والترك لكونهما نقيضين ، هذا وجه عدم إمكان الموافقة القطعية في مقام الدوران.

وأمّا وجه عدم إمكان المخالفة القطعية فلامتناع ترك النقيضين معا.

وعلى ضوء هذا ؛ فلا يترتّب على العلم الاجمالي بوجوب الشيء أو حرمته أثر في نظر العقل ويسقط عن المنجزية ، ولا يخفى أن عدم منجزيّته ليس لعدم كونه بيانا إذ العلم بما هو علم بيان ، بل لعدم قدرة المكلّف على تحصيل الموافقة القطعية ، ومن أجل هذا لا ينجّز التكليف على المكلّف ويحكم بالاباحة شرعا ظاهرا.

فالنتيجة : أنّه لا قصور في العلم الاجمالي في مقام الدوران من حيث البيانيّة ، ولكن عدم تنجّز التكليف انّما يكون لأجل عدم القدرة على الاحتياط في المقام.

وعلى طبيعة الحال : لا يصحّ تطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان وبرهان في المقام.

نعم ؛ الموافقة الاحتمالية حاصلة على كلّ تقدير سواء اختار جانب الوجوب أم اختار جانب الحرمة ، إذ يحتمل أن تكون صلاة الجمعة واجبة في عصر الغيبة أو

٦٠٥

تكون محرّمة فيه.

وعلى طبيعة الحال : ففي اختيار كل واحد من الفعل والترك نحتمل الموافقة والمخالفة ، كما لا يخفى.

قوله : ثم ان مورد هذه الوجوه وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب ...

اعلم ان الوجوب والتحريم المعلوم ثبوت أحدهما إجمالا في الواقعة الخاصّة وفي الموضوع الخاص تارة يكونان توصليين واخرى تعبّديين ، وثالثة يكون أحدهما المعيّن تعبّديا دون الآخر ، ورابعة يكون أحدهما المردّد تعبّديا دون الآخر وتشترك الصور الأربع في استحالة الموافقة القطعية.

وتفترق الاولى والأخيرة عن الثانية والثالثة في امتناع المخالفة القطعية فيهما وامكانهما في الباقيتين إذ لو فعل المكلّف بلحاظ مراعاة جانب الوجوب أو ترك بمناط اختيار جانب الحرمة لا بقصد التقرّب يقطع المكلّف حينئذ بالمخالفة القطعية في الصورة الثانية ؛ ولو فعل المكلّف لا بقصد التقرّب يقطع بالمخالفة في الصورة الثالثة إذا كان الوجوب المحتمل تعبّديا ؛ ولو ترك لا بقصد التقرّب يقطع بالمخالفة أيضا إذا كان التحريم المحتمل تعبّديا ، وحيث اشتركت الصور الأربع في امتناع الموافقة القطعية ، بل تكون الموافقة الاحتمالية في جميعها كالمخالفة الاحتمالية اشتركت في الرجوع إلى اصالة التخيير لعدم المرجّح في البين ؛ وحيث افترقت في إمكان المخالفة القطعية وعدم إمكانها ، فالاولى في الثانية والثالثة ، والثانية في الاولى والرابعة افترقت في جواز الرجوع إلى اصالة الاباحة.

والتفصيل : فما تمكن فيها المخالفة القطعية لا يجوز الرجوع فيه إلى اصالة الاباحة لأنّ الرجوع إليها موجب للمخالفة القطعية الممنوع عنها عقلا ، وما لا تمكن فيها المخالفة القطعية يجوز الرجوع فيها إلى اصالة الاباحة لعدم المانع عنه عقلا ، كما تقدّم هذا.

٦٠٦

وامّا التوضيح في كون الواجب والحرام توصليين أو تعبديين.

فيقال : الواجب امّا توصّلي لا يشترط فيه قصد القربة من حيث الصحّة وان اشترط فيه من حيث الكمال والثواب وذلك كتطهير الثوب والبدن من القذارة مثلا ، وامّا تعبّدي يشترط فيه قصد القربة من حيث الصحّة كالصلاة والصوم مثلا ، والحرام امّا توصلي نحو ترك شرب المسكر مثلا ؛ وامّا تعبّدي كتروك المفطرات من الأكل والشرب وغيرهما من المفطرات ، لأنّ الصوم في شهر رمضان المبارك عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وايصال الغبار الغليظ إلى مخرج العين والكذب على الله تعالى ورسوله وخلفائه المعصومين والارتماس والاستمناء والبقاء على الجنابة إلى الفجر الصادق وو.

ولا ريب في ان الصوم واجب عبادي يشترط فيه قصد القربة ، فالتروك يشترط فيها قصد التقرّب لأنّه إذا فعله بلا قصد التقرّب فقد خالف التكليف لأنّ هذا الشيء لا يخلو من كونه امّا واجبا تعبّديا وامّا حراما توصليا ففي كلا التقديرين يلزم خلاف التكليف في صورة الفعل ، وامّا إذا تركه فيلزم خلاف التكليف احتمالا ، كما لا يخفى.

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره : إذا كان الواجب والحرام تعبّديين ، ففي هذه الصورة لا يجوز طرحهما والرجوع إلى الاباحة لأنّها مخالفة عملية قطعية إذ لا يشترط في فعل الاباحة قصد القربة كما لا يشترط في تركها قصد القربة.

والواقع لا يخلو من أحد التعبديين امّا الواجب التعبّدي وامّا الحرام التعبّدي ، فبعدم رعاية قصد القربة في جانب الفعل وفي جانب الترك تلزم المخالفة العملية القطعيّة ؛ وإذا كان الواجب تعبّديا والحرام توصليا ، ففي هذه الصورة تلزم المخالفة العملية القطعية أيضا لأنّك إذا فعلت هذا الشيء بلا قصد القربة فلا يخلو الواقع من كونه واجبا تعبّديا أو من كونه حراما توصّليا.

٦٠٧

وعليه : فلو كان هذا الشيء واجبا تعبّديا واقعا للزم خلاف التكليف والوظيفة بسبب عدم رعاية قصد القربة ، ولو كان حراما واقعا للزم الخلاف بسبب إيجاده في الخارج.

وعلى قول الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره تلزم المخالفة العملية القطعية في الصورتين :

الاولى : كونهما تعبديين.

والثانية : كون الواجب تعبّديا والحرام توصليا إذا رجعنا إلى الاباحة.

امّا بخلاف ما إذا كانا توصليين فإنّه لا يلزم من الرجوع إلى الاباحة خلاف التكليف لأنّه لا يشترط في التوصّلي قصد القربة.

وامّا إذا كان أحدهما المردّد تعبّديا والآخر توصّليّا فلا يلزم من الرجوع إلى الاباحة شرعا في صورة دوران الأمر بين المحذورين خلاف التكليف من حيث العمل أيضا لتعذّر الموافقة القطعية والمخالفة القطعية في هذه الصورة ، فلا يلزم من الرجوع إلى الاباحة خلاف التكليف لأنّه إذا فعل هذا الشيء على وجه القربى رجاء وباحتمال مطلوبيّته فقد فعل التكليف الفعلي على تقدير كون هذا الشيء واجبا واقعا ، وإذا تركه على هذا المنهاج فقد فعل المكلّف التكليف الفعلي على تقدير كون هذا الشيء حراما واقعا.

وكذا إذا كان الواجب والحرام توصليين معا فلا يلزم من الرجوع إلى الاباحة خلاف التكليف لأنّه إذا فعله لا بقصد التقرّب ففي هذه الصورة لا تلزم المخالفة العملية القطعية ، وكذا إذا تركه لا بقصد التقرّب فلا تلزم المخالفة العملية القطعية أيضا.

وامّا إذا تلزم المخالفة العملية القطعية ، كما في الاولى والثانية ، بسبب الرجوع إلى الاباحة الشرعية في محل البحث فلا بدّ حينئذ من التخيير بين الفعل والترك من حيث العمل ، وإذا اختار جانب الوجوب فلا جرم أن يفعله برجاء المطلوبية

٦٠٨

وباحتمال المطلوبية وباحتمال المحبوبيّة وكذا بقصد التقرّب ، واما إذا اختار جانب الحرمة فلا محيص من أن يتركه بقصد التقرّب برجاء مطلوبية الترك عند المولى ، هذا في الصورة الاولى.

وامّا في الصورة الثانية : فإذا اختار جانب الفعل وفعله بقصد التقرّب فقد عمل بالتكليف على تقدير كونه واجبا واقعا ؛ وإذا اختار جانب الحرمة وتركه فقد عمل بالتكليف أيضا على تقدير كونه حراما توصليا واقعا.

فالتخيير بين الفعل والترك عقلي في هذين الشقّين لعدم الترجيح بينهما وقبح الترجيح بلا مرجّح معلوم.

في جواب المصنّف قدس‌سره عن قول الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره

قال المصنّف قدس‌سره : فلو كان مدار البحث في صورة دوران الأمر بين المحذورين في عدم إمكان المخالفة القطعية لكان الحق مع الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، فلا بدّ حينئذ من اخراج الصورتين الاولى والثانية عن محل البحث والرجوع إلى الاباحة ظاهرا لإمكانها فيهما ، كما عرفت هذا. ولكن مدار البحث انّما يكون في التخيير من جهة قبح الترجيح بلا مرجّح.

وعليه : فلا فرق فيه بين الصور الأربع ، فالتفصيل بينها مردود كما اختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

غاية الأمر : أنّ المخالفة القطعية العملية إذا طرحنا الوجوب والحرمة ورجعنا إلى الاباحة شرعا ظاهرا ممكنة في التعبّدين.

وامّا في التوصليين فالمخالفة العملية القطعية على تقدير الرجوع إلى الاباحة ظاهرا غير ممكنة.

وامّا في الصورتين الباقيتين فتلزم المخالفة العملية الاحتمالية فقط. هل

٦٠٩

التخيير بين الفعل والترك عقلي أم شرعي أي الحاكم به هو العقل أم الشرع الأقدس؟ قلنا : هو عقلي استمراري لا بدوي.

فالنتيجة : يجري التخيير العقلي في جميع الصور الأربع.

قوله : فانقدح انّه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين ...

ولا يخفى أنّه قد ظهر ممّا سبق أن التخيير العقلي جار في جميع الصور الأربع التي قد ذكرت لدوران الأمر بين المحذورين ، فلا وجه لاختصاص مورد الوجوه المتقدّمة التي منها اصالة التخيير بالتوصليين أو بما إذا كان أحدهما غير المعين توصّليّا حتى يكون التخيير العقلي بين الفعل والترك مختصّا بهاتين الصورتين ولا يجري في الباقيتين اللّتين هما عبارة عن كونهما تعبّديين وعن كون الواجب تعبّديا والحرام توصّليّا وان اختص الوجه الأوّل والثاني والرابع بالتوصليين ، ولا تجري هذه الوجوه بالتعبديين وبالواجب التعبّدي والحرام التوصّلي وبالتعبّدي المردّد بينهما والآخر توصّلي ولكن التخيير يجري في جميعها.

وامّا الشيخ الأنصاري قدس‌سره فقد ذهب إلى الأخذ بالحرمة في التعبّدين وفي الواجب التعبّدي والحرام التوصلي سواء كان الواجب تعبّديّا على التعيين أم كان التعبّدي مردّدا بين الوجوب والحرمة للدليل الذي قد مضى وهو أنّ دفع المفسدة أولى من جلب النفع والاستقراء.

ولا يخفى ان المراد من ما هو المهم في مقام البحث هو اصالة التخيير العقلي بين الأخذ بالوجوب وبين الأخذ بالحرمة.

قوله : ولا يذهب عليك ان استقلال العقل بالتخيير ...

لمّا اختار المصنّف قدس‌سره التخيير العقلي بين الأخذ بالفعل والوجوب ، وبين الأخذ بالترك والحرمة في صورة دوران الأمر بين المحذورين.

وامّا الشيخ الأنصاري قدس‌سره فقد اختار الأخذ بالترك والحرمة في صورة

٦١٠

الدوران بين المحذورين ، والدليل لكلّ واحد منهما قد مضى.

قال المصنّف قدس‌سره : لا يخفى عليك أن حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك في صورة دوران الأمر بين المحذورين إنّما يكون ثابتا إذا لم يكن في أحد الطرفين احتمال الترجيح والمزية على التعيين.

وعليه : فإذا كان احتمال الترجيح فيه فلا يبعد دعوى استقلال العقل بتعيّن هذا الطرف الراجح كما يحكم مستقلّا في صورة دوران الأمر بين التعيين والتخيير بالأخذ بالطرف المتعيّن كما في المتزاحمين مثلا لا نقدر على إنقاذ الغريقين ، فالأمر يدور حينئذ بين إنقاذ أحدهما على التخيير وبين إنقاذ أحدهما على التعيين لاحتمال وجود الترجيح والمزية في أحدهما على التعيين ، مثل احتمال كونه عالما هاشميّا والآخر جاهلا أو عالما غير هاشمي مثلا ، ولا ريب في ان العقل يحكم بإنقاذ ذي المرجّح على التعيين ، كما لا يخفى.

وكذا إذا دار الأمر بين وجوب صلاة الجمعة في يومها عصر الغيبة ؛ وبين وجوب صلاة الظهر على التخيير أو وجوب صلاة الجمعة على التعيين لكونها ذات الترجيح والمزية مثل كونها أكثر ثوابا وأقوى مصلحة وأكمل مناطا ، فالعقل يحكم باختيارها معينا.

ولكن الترجيح في المقام انّما يكون لشدّة الطلب والبعث أو الزجر في أحد الطرفين بحيث لا يجوز الاخلال بذي الطلب الشديد في صورة المزاحمة ، كما في صورة دوران الأمر بين إنقاذ المؤمن ، وبين التصرّف في ملك الغير بغير إذنه إذا توقّف الإنقاذ على التصرّف المذكور.

ولا ريب في ان العقل يحكم بترجيح الانقاذ واختياره على التعيين في صورة المزاحمة أي مزاحمة التصرّف العدواني في ملك الغير مع الانقاذ للمسلم لشدّة طلبه وتأكّد بعثه بحيث لا يرضى الشارع المقدّس بتركه واخلاله أصلا ، فإذا كان الواجب

٦١١

والحرام معلومين كالانقاذ والتصرّف العدواني في ملك الغير فالترجيح انّما يكون لذي الطلب الشديد الأكيد في صورة المزاحمة.

وكذا صورة احتمال الوجوب ، والحرمة حرفا بحرف إذ وجب ترجيح احتمال ذي المزية والترجيح على غيره في صورة الدوران بحكم العقل لقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، كما مرّ هذا مرارا.

وعلى ضوء هذا : لا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا أي سواء كانت ذات شدّة الطلب أم لم تكن كذلك على احتمال الوجوب كما قدّمه عليه بعض الأعلام قدس‌سرهم واستدلّ عليه : بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ودفع الضرر أهم من جلب النفع ، وهذا الدليل خال عن الوجه الوجيه إذ ربّ واجب يكون مقدّما على الحرام في صورة المزاحمة كما في الانقاذ والتصرّف في ملك الغير بغير إذنه. ولا ريب في تقدّم الانقاذ الواجب عقلا ونقلا على التصرّف الحرام ، كما عرفت وجه تقدّمه عليه.

وعلى ضوء هذا : فكيف يقدم على احتمال الواجب احتمال الحرام أي إذا كان الواجب معلوما تفصيلا والحرام معلوما تفصيلا فالواجب المعلوم مقدّم على الحرام المعلوم ، فكيف يقدّم الحرام المحتمل على الواجب المحتمل في صورة الدوران بين مثل الواجب المعلوم والحرام المعلوم المتزاحمين كما في الانقاذ والتصرّف العدواني في أرض الغير. فالمراد من مثليهما هو الوجوب المحتمل والحرام المحتمل ، كما في المقام.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى انّه إذا بنى على التخيير العقلي في المقام كما اختاره المصنّف المحقّق الخراساني قدس‌سره فهل هو ابتدائي بحيث لا يجوز له في الزمن الثاني اختيار غير ما اختاره أوّلا أو استمراري بحيث يجوز له اختيار غير ما اختاره أوّلا؟

٦١٢

قولان أظهرهما الثاني لعدم الفرق في نظر العقل بين الوقائع المتعدّدة ، فكما يتخيّر في الزمن الأوّل يتخيّر في الزمن الثاني.

فإن قيل : إذا كان التخيير استمراريا لزمت المخالفة العملية القطعية إذا اختار الوجوب أوّلا ثم الحرمة ثانيا ثم الوجوب ثالثا ثم الحرمة رابعا ، والواقع لا يخلو من أحدهما.

قلنا : هذا مندفع بلزوم الموافقة القطعية أيضا إذا كان التخيير استمراريّا. وامّا إذا كان التخيير ابتدائيا لزمت الموافقة الاحتمالية ، ولا ترجيح للموافقة الاحتمالية على الموافقة القطعية التي تستتبع المخالفة القطعية على تقدير كون التخيير استمراريا.

والله تعالى هو الموفّق المعين والحمد له كما هو أهله وصلّى الله سبحانه وتعالى على النبيّ الأمين وآله الأطهار.

قد تمّ الجزء الثالث بعون الله تعالى وتوفيقه في

بلدة قم المقدّسة حرم الأئمّة الأطهار عليهم الصلاة

والسلام في شهر جمادى الاولى سنة ١٤١٧ ه‍

وسيتلوه الجزء الرابع قريبا إن شاء الله تعالى.

٦١٣
٦١٤

فهرست المحتويات

الأمارات المعتبرة شرعا ، أو عقلا................................................... ٥

أحكام المكلف................................................................... ٩

وجه العدول عمّا في الرسالة...................................................... ١٣

وجوب العمل على طبق القطع................................................... ١٦

مراتب الحكم.................................................................. ٢٠

في مبحث التجري.............................................................. ٢٣

تتمّة : في الفرق بين الصفات والأخلاق........................................... ٢٦

في بقاء الفعل المتجرّي به على واقعيته.............................................. ٢٧

في البرهان الرباعي.............................................................. ٣٩

توضيح في طي بعض أفراد التجري................................................ ٤١

في أقسام القطع................................................................ ٤٥

في القطع الموضوعي............................................................. ٤٦

ثمرة القطع بتمام الموضوع......................................................... ٤٨

في القطع الموضوعي الطريقي والوصفي............................................. ٤٨

قيام الطرق مقام القطع الطريقي................................................... ٥٢

٦١٥

في كلام الشيخ الأنصاري وردّه................................................... ٥٥

في قيام الاصول مقام القطع...................................................... ٦٠

في قيام الاستصحاب مقام القطع................................................. ٦٦

في حجيّة القطع................................................................ ٧٥

في الموافقة الالتزامية............................................................. ٨٢

في عدم الملازمة بين الالتزامية والعملية............................................. ٨٣

في صورة الدوران................................................................ ٩٣

في حجيّة مطلق القطع........................................................... ٩٧

في منجزية العلم الاجمالي....................................................... ١٠٧

في الفرق بين العلم التفصيلي والاجمالي........................................... ١١٣

الامتثال العلمي الاجمالي....................................................... ١٢١

توضيح : في طي قصد الوجه وقصد التميز....................................... ١٢٤

حجيّة الظن.................................................................. ١٢٨

امكان التعبد بالامارات........................................................ ١٣١

محاذير التعبد بالامارات........................................................ ١٣٦

الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية............................................ ١٤٠

في بيان الدفع عن الاشكال.................................................... ١٥٥

الأصل في مشكوك الاعتبار.................................................... ١٦٥

الامتثال العلمي الاجمالي....................................................... ١٦٧

حجيّة الظهور................................................................ ١٧٣

حجيّة ظاهر الكتاب.......................................................... ١٧٥

في العلم الاجمالي بوقوع التحريف................................................ ١٨٥

٦١٦

تواتر القراءات................................................................ ١٨٩

في احراز الظهور بالقطع........................................................ ١٩١

حجية قول اللغوي............................................................ ١٩٥

الإجماع المنقول عن حجيّة الخبر................................................. ٢٠٥

تنبيهات في المسألة............................................................ ٢٢٣

الشهرة في الفتوى............................................................. ٢٣٦

حجيّة خبر الواحد............................................................ ٢٤٣

توضيح في الدور المحال في المقام................................................. ٢٥٢

توضيح التواتر الإجمالي في طيّ المثال............................................. ٢٥٣

تتميم....................................................................... ٢٥٧

الاستدلال بآية النبأ........................................................... ٢٥٨

الايراد على الخبر بالواسطة..................................................... ٢٦٧

دفع الايراد على الخبر بالواسطة................................................. ٢٧٢

الاستدلال بآية النفر.......................................................... ٢٧٨

نقض الاستدلال بآية النفر..................................................... ٢٨٠

في بيان الإشكال على الوجهين................................................. ٢٨١

الاستدلال بآية الكتمان....................................................... ٢٨٥

الإشكال على الاستدلال بآية الكتمان.......................................... ٢٨٦

الاستدلال بآية السؤال........................................................ ٢٨٨

في الإشكال على الاستدلال بآية السؤال......................................... ٢٨٩

الاستدلال بآية الاذن......................................................... ٢٩٢

الاستدلال بالاخبار على اعتبار أخبار الآحاد..................................... ٢٩٤

٦١٧

الإشكال على الاستدلال بالأخبار.............................................. ٢٩٥

في دفع هذا الإشكال.......................................................... ٢٩٦

الإجماع على حجيّة الخبر....................................................... ٢٩٧

الوجوه العقلية على حجية الخبر................................................. ٣٠٨

في جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي وعدمه........................... ٣١٦

في ثاني الوجوه العقلية.......................................................... ٣١٨

في ثالث الوجوه العقلية......................................................... ٣٢٣

في إشكال الشيخ الأنصاري عليه............................................... ٣٢٦

الوجوه التي أقاموها على حجية الظن............................................. ٣٢٧

مقدّمات دليل الانسداد....................................................... ٣٤٣

الظن بالطريق والظن بالواقع..................................................... ٣٦٩

القول في بيان الموارد التي لا مورد فيها للاحتياط................................... ٣٧٨

الوجه الثاني مما استدل به لحجية الظن بالطريق دون غيره............................ ٣٨٦

الكشف والحكومة............................................................ ٣٩٢

لوازم الكشف................................................................ ٤٠٧

وهم ودفع................................................................... ٤٠٨

في تعميم النتيجة سببا ومرتبة وإهمالها على الكشف................................ ٤١٠

الترجيح بالظن والقوة.......................................................... ٤١٥

إشكال خروج القياس.......................................................... ٤١٩

الظن بالطريق................................................................. ٤٣٢

الظن المانع والممنوع............................................................ ٤٣٦

الظن بالحكم................................................................. ٤٣٩

٦١٨

الظن بالفراغ.................................................................. ٤٤٤

توضيح في طي المقامين المذكورين................................................ ٤٤٥

الظن في اصول الدين.......................................................... ٤٤٧

وجوب المعرفة................................................................. ٤٤٩

الظن في الامور الاعتقادية...................................................... ٤٥٧

الترجيح والوهن بالظن......................................................... ٤٦١

في تفصيل القول فيما ذكر..................................................... ٤٦٢

شروع في بيان الترجيح بالظن................................................... ٤٦٥

المقصد السابع : في الاصول العملية

أصالة البراءة................................................................. ٤٧٦

أدلة البراءة................................................................... ٤٧٩

في توضيح القياس الجدلي....................................................... ٤٨٤

في الاستدلال على البراءة بالروايات.............................................. ٤٨٥

الاستدلال بحديث السعة :.................................................... ٤٨٥

في الاشكال على الاستدلال به................................................. ٤٨٦

الاستدلال بحديث الرفع....................................................... ٤٩١

في الاعتراض على الشيخ الأنصاري............................................. ٤٩٤

الاستدلال بحديث الحجب..................................................... ٥٠١

الاستدلال بحديث الحل........................................................ ٥٠٢

الاستدلال بحديث السعة...................................................... ٥٠٤

الاستدلال بحديث الاطلاق.................................................... ٥٠٨

توضيح في النهي والاباحة فيه................................................... ٥١٢

٦١٩

الاستدلال بالاجماع على البراءة................................................. ٥١٤

الاستدلال العقلي على البراءة................................................... ٥١٥

في تعارض القاعدتين وعدمه.................................................... ٥١٥

توضيح في طي استدلال شيخ الطائفة............................................ ٥٢١

أدلة الاحتياط................................................................ ٥٢٣

في الاستدلال بالروايات على الاحتياط........................................... ٥٢٤

انحلال العلم الاجمالي.......................................................... ٥٣٩

توضيح في طي العلم الاجمالي الكبير............................................. ٥٤٨

في الوجه الثاني من الدليل العقلي................................................ ٥٥١

في الفرق بين هذا وسابقه...................................................... ٥٥٢

تنبيهات البراءة................................................................ ٥٥٩

وبيان انها لا تجري مع أصل موضوعي............................................ ٥٥٩

حسن الاحتياط عقلا وشرعا................................................... ٥٦٨

التسامح في أدلة السنن........................................................ ٥٧٨

أخبار من بلغه ثواب........................................................... ٥٧٨

في مفاد أخبار من بلغ......................................................... ٥٨٣

في بيان حكم الشبهات الموضوعية التحريمية...................................... ٥٨٩

في بيان حكم تعلّق النهي بالافراد............................................... ٥٩٠

في حسن الاحتياط عقلا ونقلا................................................. ٥٩٣

الدوران بين محذورين........................................................... ٥٩٦

فهرست المحتويات............................................................. ٦١٥

٦٢٠