فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

بالمثلثة فعربت ، والمساجد هي مساجد المسلمين. وقيل : المعنى : لو لا هذا الدفع لهدّمت في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفي زمن محمد المساجد. قال ابن عطية : هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وقيل : المعنى : ولو لا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة ؛ وقيل : لو لا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار ، وقيل غير ذلك. والصوامع : جمع صومعة ، وهي بناء مرتفع ، يقال : صمّع الثريدة ؛ إذا رفّع رأسها ، ورجل أصمع القلب : أي حاد الفطنة ، والأصمع من الرجال : الحديد القول ، وقيل : الصغير الأذن. ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام ، وقد ذكر ابن عطية في صلوات تسع قراءات ، ووجه تقديم مواضع عبادات أهل الملل على موضع عبادة المسلمين كونها أقدم بناء وأسبق وجودا. والظاهر من الهدم المذكور معناه الحقيقي كما ذكره الزجاج وغيره ، وقيل : المراد به المعنى المجازي ، وهو تعطّلها من العبادة ، وقرئ «لهدّمت» بالتشديد ، وانتصاب كثيرا في قوله : (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : ذكرا كثيرا ، أو وقتا كثيرا ، والجملة صفة للمساجد ، وقيل : لجميع المذكورات (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) اللام هي جواب لقسم محذوف ، أي : والله لينصر الله من ينصره ، والمراد بمن ينصر الله من ينصر دينه وأولياءه ، والقويّ : القادر على الشيء ، والعزيز : الجليل الشريف ، قاله الزجاج ، وقيل : الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع ، والموصول في قوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) في موضع نصب صفة لمن في قوله من ينصره ، قاله الزجاج. وقال غيره : هو في موضع جرّ صفة لقوله «للذين يقاتلون». وقيل : المراد بهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان ، وقيل : أهل الصلوات الخمس ، وقيل : ولاة العدل ، وقيل غير ذلك. وفيه إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من مكّنه الله في الأرض وأقدره على القيام بذلك ، وقد تقدّم تفسير الآية ، ومعنى (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أن مرجعها إلى حكمه وتدبيره دون غيره.

وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وحسّنه ، والنسائي وابن ماجة والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدّلائل ، عن ابن عباس قال : لما أخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم : إنّا لله وإنا إليه راجعون ، ليهلكنّ القوم ، فنزلت (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) الآية. قال ابن عباس : وهي أوّل آية نزلت في القتال.

قال الترمذي : حسن ، وقد رواه غير واحد عن الثوري ، وليس فيه ابن عباس ، انتهى. وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أي : من مكة إلى المدينة بغير حق ، يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال : فينا نزلت هذه الآية (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) والآية بعدها ، أخرجنا من ديارنا بغير حق ، ثم مكّنّا في الأرض ، فأقمنا الصلاة ، وآتينا الزكاة ، وأمرنا بالمعروف ، ونهينا عن المنكر ، فهي لي ولأصحابي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عليّ ابن أبي طالب قال : إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) الآية : قال لو لا دفع

٥٤١

الله بأصحاب محمد عن التابعين لهدّمت صوامع. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) الآية قال : الصوامع التي تكون فيها الرهبان ، والبيع مساجد اليهود وصلوات كنائس النصارى ، والمساجد مساجد المسلمين. وأخرجا عنه قال : البيع بيع النصارى ، وصلوات كنائس اليهود. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) قال : أرض المدينة (أَقامُوا الصَّلاةَ) قال : المكتوبة (وَآتَوُا الزَّكاةَ) قال : المفروضة (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ) قال : بلا إله إلا الله (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) قال : عن الشرك بالله (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) قال : وعند الله ثواب ما صنعوا.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) إلخ هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعزية له متضمّنة للوعد له بإهلاك المكذبين له ، كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله. وفيه إرشاد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الصبر على قومه والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك ، وقد تقدّم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم ، وإنما غير النظم في قوله : (وَكُذِّبَ مُوسى) فجاء بالفعل مبنيا للمفعول ؛ لأن قوم موسى لم يكذبوه وإنما كذبه غيرهم من القبط (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي : أخّرت عنهم العقوبة وأمهلتهم ، والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أي : أخذت كلّ فريق من المكذّبين بالعذاب بعد انقضاء مدّة الإمهال (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) هذا الاستفهام للتقرير ، أي : فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغيير ما كانوا فيه من النعم وإهلاكهم ، والنكير اسم من المنكر. قال الزجاج : أي : ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار. قال الجوهري : النكير والإنكار : تغيير المنكر. ثم ذكر سبحانه كيف عذّب أهل القرى المكذبة فقال : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي : أهلكنا أهلها ، وقد تقدّم الكلام على هذا التركيب في آل عمران ، وقرئ : «أهلكتها» ، وجملة (وَهِيَ ظالِمَةٌ) حالية ، وجملة (فَهِيَ خاوِيَةٌ) عطف على (أَهْلَكْناها) ، لا على ظالمة لأنها حالية ، والعذاب ليس في حال الظلم ، والمراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها : والخواء : بمعنى السقوط ، أي : فهي ساقطة (عَلى

٥٤٢

عُرُوشِها) أي على سقوفها ، وذلك بسب تعطل سكانها حتى تهدّمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في البقرة (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) معطوف على قرية ، والمعنى : وكم من أهل قرية ، ومن أهل بئر معطلة هكذا قال الزجاج. وقال الفراء : إنه معطوف على عروشها ، والمراد بالمعطلة المتروكة. وقيل :

الخالية عن أهلها لهلاكهم ، وقيل : الغائرة ، وقيل : معطّلة من الدّلاء والأرشية ، والقصر المشيد : هو المرفوع البنيان كذا قال قتادة والضحّاك ، ويدلّ عليه قول عديّ بن زيد :

شاده مرمرا وجلّله كل

سا فللطّير في ذراه وكور

شاده : أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد : المراد بالمشيد المجصّص ، مأخوذ من الشّيد ، وهو الجص ، ومنه قول الراجز (١) :

لا تحسبنّي وإن كنت امرأ غمرا (٢)

كحيّة الماء بين الطين والشّيد

وقيل : المشيد الحصين ، قاله الكلبيّ. قال الجوهري : المشيد المعمول بالشيد ، والشّيد بالكسر : كلّ شيء طليت به الحائط من جصّ أو بلاط ، وبالفتح المصدر ، تقول : شاده يشيده : جصّصه ، والمشيّد بالتشديد المطوّل ، قال الكسائي : للواحد من قوله تعالى : (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ). والمعنى المعنيّ : وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة. ومعنى التعطيل في القصر هو أنه معطل من أهله ، أو من آلاته ، أو نحو ذلك. قال القرطبي في تفسيره : ويقال : إن هذه البئر والقصر بحضر موت معروفان ، فالقصر مشرف على قلّة جبل (٣) لا يرتقى إليه بحال ، والبئر في سفحه لا تقرّ الريح شيئا سقط فيها إلا أخرجته ، وأصحاب القصر ملوك الحضر ، وأصحاب البئر ملوك البوادي. حكى الثعلبيّ وغيره : أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال لها حضوراء ، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ، ونجوا من العذاب ، ومعهم صالح ، فمات صالح ، فسمّي المكان حضر موت ؛ لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر ، وأمّروا عليهم رجلا ، ثم ذكر قصة طويلة ، وقال بعد ذلك : وأما القصر المشيد فقصر بناه شدّاد بن عاد بن إرم ، لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا ، وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنس ، وإقفاره بعد العمران ، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال ، لما يسمع فيه من عزيف الجنّ والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرّغد وبهاء الملك ، وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا ، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة. قال : وقيل إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدّم في سورة الأنبياء في قوله : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) (٤) فتعطّلت بئرهم وخربت قصورهم ، انتهى.

ثم أنكر سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلا : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حثا لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا ، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا ، فلهذا أنكر عليهم ، كما في

__________________

(١). هو الشمّاخ.

(٢). «الغمر» : الغرّ الذي لم يجرّب الأمور.

(٣). قلة جبل : أعلاه.

(٤). الأنبياء : ١١.

٥٤٣

قوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ـ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١) ومعنى : (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه ، وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل ، كما أن الآذان محل السمع ، وقيل : إن العقل محله الدماغ ولا مانع من ذلك ، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجا عنه.

وقد اختلف علماء المعقول في محل العقل وماهيته اختلافا كثيرا لا حاجة إلى التطويل بذكره (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي : ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله ، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) قال الفراء : الهاء عماد يجوز أن يقال : فإنه ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود ، والمعنى واحد ، التذكير على الخبر ، والتأنيث على الأبصار أو القصة ، أي : فإن الأبصار لا تعمى ، أو فإن القصة لا تعمى الأبصار : أي أبصار العيون (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي : ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما هو في عقولهم ، أي : لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار. قال الفراء والزجاج : إن قوله التي في الصدور من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله : (عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٢) و (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) (٣) و (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (٤). ثمّ حكى سبحانه عن هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) لأنهم كانوا منكرين لمجيئه أشدّ إنكار ، فاستعجالهم له هو على طريقة الاستهزاء والسخرية ، وكأنهم كانوا يقولون ذلك عند سماعهم لما تقوله الأنبياء عن الله سبحانه من الوعد منه عزوجل بوقوعه عليهم وحلوله بهم ، ولهذا قال : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) قال الفراء : في هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة. وذكر الزجاج وجها آخر فقال : اعلم أن الله لا يفوته شيء ، وإن يوما عنده وألف سنة في قدرته واحد ، ولا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخّره في القدرة ، إلا أن الله تفضّل بالإمهال ، انتهى ، ومحل جملة : «ولن يخلف الله وعده» النصب على الحال ، أي : والحال أنه لا يخلف وعده أبدا ، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه حتما ، أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها ، وعلى الأوّل تكون جملة (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) مستأنفة ، وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال ، وخطابهم في ذلك ببيان كمال حلمه لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة عندهم ، كما في قوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ـ وَنَراهُ قَرِيباً) (٥) قال الفرّاء : هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة ، أي : يوم من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة. وقيل : المعنى : وإن يوما من الخوف والشدّة في الآخرة كألف سنة من سنّي الدنيا فيها خوف وشدة ، وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «ممّا يعدّون» بالتحتية ، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب ، واختارها أبو حاتم. (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) هذا إعلام منه سبحانه أنه أخذ قوما بعد الإملاء والتأخير. قيل : وتكرير هذا مع ذكره قبله

__________________

(١). الصافات : ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٢). البقرة : ١٩٦.

(٣). آل عمران : ١٦٧.

(٤). الأنعام : ٣٨.

(٥). المعارج : ٦ ـ ٧.

٥٤٤

للتأكيد ، وليس بتكرار في الحقيقة ؛ لأن الأوّل سيق لبيان الإهلاك مناسبا لقوله : «فيكف كان نكير» ، ولهذا عطف بالفاء بدلا عن ذلك ؛ والثاني سيق لبيان الإملاء مناسبا لقوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) فكأنه قيل : وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أمهلتهم حينا ، ثم أخذتهم بالعذاب ، ومرجع الكل إلى حكمي. فجملة : «وإليّ المصير» تذييل لتقرير ما قبلها. ثم أمره الله سبحانه أن يخبر الناس بأنه نذير لهم بين يدي الساعة مبين لهم ما نزل إليهم ، فمن آمن وعمل صالحا فاز بالمغفرة والرزق الكريم وهو الجنة ، ومن كان على خلاف ذلك فهو في النار ، وهم الذين سعوا في آيات الله معاجزين ؛ يقال : عاجزه : سابقه ، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر ، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه ، قاله الأخفش. وقيل : معنى معاجزين : ظانين ومقدّرين أن يعجزوا الله سبحانه ويفوتوه فلا يعذبهم ، قاله الزجاج. وقيل : معاندين ، قاله الفرّاء.

وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) قال : خربة ليس فيها أحد (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطّلها أهلها وتركوها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قال : شيّدوه وحصّنوه فهلكوا وتركوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) قال : التي تركت لا أهل لها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قال : هو المجصّص. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء نحوه أيضا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال : من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة ، قال في الآية : هو يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة ، فقد مضى منها ستة آلاف. وأخرج ابن عديّ والديلمي عن أنس مرفوعا نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (مُعاجِزِينَ) قال : مراغمين. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : مشاقين.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))

قوله : (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) قيل : الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومحاورته

٥٤٥

شفاها ، والنبيّ : الذي يكون إلهاما أو مناما. وقيل : الرسول : من بعث بشرع وأمر بتبليغه ، والنبيّ : من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ، ولم ينزل عليه كتاب ، ولا بدّ لهما جميعا من المعجزة الظاهرة. (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) معنى تمنّى : تشهّى وهيّأ في نفسه ما يهواه. قال الواحدي : وقال المفسرون : معنى تمنّى : تلا. قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما شقّ عليه إعراض قومه عنه تمنّى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفّرهم عنه لحرصه على إيمانهم ، فكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ـ وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢) وكان ذلك التّمنّي في نفسه ، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرّقت قريش مسرورين بذلك وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، فأتاه جبريل فقال : ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاف خوفا شديدا ، فأنزل الله هذه الآية. هكذا قالوا.

ولم يصحّ شيء من هذا ، ولا ثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحقّقون بكتاب الله سبحانه ، قال الله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ـ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ـ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٣) وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٤) وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) (٥) فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون. قال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسناد متصل. وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة. قال القاضي عياض في «الشفا» : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا. قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وإذا تقرّر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى (تَمَنَّى) قرأ وتلا ، كما قدّمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين. وكذا قال البغوي : إن أكثر المفسرين قالوا معنى (تَمَنَّى) تلا وقرأ كتاب الله ، ومعنى (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي : في تلاوته وقراءته. قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام ، ويؤيد هذا ما تقدّم في تفسير قوله : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) وقيل : معنى (تَمَنَّى) حدّث ، ومعنى (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) في حديثه ، روي هذا عن ابن عباس. وقيل : معنى (تَمَنَّى) : قال. فحاصل معنى الآية : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلّم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١). النجم : ١.

(٢). النجم : ١٩ ـ ٢٠.

(٣). الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

(٤). النجم : ٣.

(٥). الإسراء : ٧٤.

٥٤٦

ولا جرى على لسانه ، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : لا يهولنك ذلك ولا يحزنك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء ، وعلى تقدير أن معنى تمنى حدّث نفسه ، كما حكاه الفرّاء والكسائي ، فإنهما قالا : تمنّى إذا حدّث نفسه ، فالمعنى : أنه إذا حدّث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلّم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا جرى على لسانه. قال ابن عطية : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة. وقد قيل في تأويل الآية : إن المراد بالغرانيق : الملائكة ، ويردّ بقوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي : يبطله ، وشفاعة الملائكة غير باطلة. وقيل : إن ذلك جرى على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهوا ونسيانا ، وهما مجوّزان على الأنبياء ، ويردّ بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرّر في مواطنه ، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية ، وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء ، بيّن سبحانه أن يبطل ذلك ، ولا يثبته ، ولا يستمر تغرير الشيطان به ، فقال : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي : يبطله ويجعله ذاهبا غير ثابت (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي : يثبتها (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي : كثير العلم والحكمة في كلّ أقواله وأفعاله ، وجملة (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) للتعليل ، أي : ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان فتنة ، أي : ضلالة (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شكّ ونفاق (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) هم المشركون ، فإن قلوبهم لا تلين للحق أبدا ، ولا ترجع إلى الصواب بحال ، ثم سجّل سبحانه على هاتين الطائفتين ، وهما : من في قلبه مرض ، ومن في قلبه قسوة ؛ بأنهم ظالمون ، فقال : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي : عداوة شديدة ، ووصف الشقاق بالبعد مبالغة ، والموصوف به في الحقيقة من قام به. ولمّا بيّن سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حقّ أهل النفاق والشكّ والشرك ؛ بيّن أنه في حقّ المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حقّ وصدق ، فقال : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي : الحقّ النازل من عنده ، وقيل : إن الضمير في «أنه» راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء ؛ لأنه مما جرت به عادته مع أنبيائه ، ولكنه يردّ هذا قوله : (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) فإن المراد الإيمان بالقرآن ، أي : يثبتوا على الإيمان به (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي : تخشع وتسكن وتنقاد ، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) في أمور دينهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : طريق صحيح لا عوج به. وقرأ أبو حيوة (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) بالتنوين (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي : في شكّ من القرآن ، وقيل : في الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم ، وقيل : في إلقاء الشيطان ، فيقولون : ما باله ذكر الأصنام بخير ثم رجع عن ذلك؟ وقرأ أبو عبد الرحمن السّلمي (فِي مِرْيَةٍ) بضم الميم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي : القيامة (بَغْتَةً) أي : فجأة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) وهو يوم القيامة لأنه لا يوم بعده ، فكان بهذا الاعتبار عقيما ، والعقيم في اللغة : من لا يكون له ولد ، ولما كانت الأيام نتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة ، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقم ؛ وقيل : يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر ؛ وقيل إن اليوم وصف بالعقم ؛ لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة ، فكأنه عقيم من الخير ، ومنه قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (١) أي :

__________________

(١). الذاريات : ٤١.

٥٤٧

التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي : السلطان القاهر والاستيلاء التامّ يوم القيامة لله سبحانه وحده ، لا منازع له فيه ، ولا مدافع له عنه ، وجملة (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) مستأنفة جوابا عن سؤال مقدّر ، ثم فسّر هذا الحكم بقوله سبحانه : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي : كائنون فيها ، مستقرّون في أرضها ، منغمسون في نعيمها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي : عذاب متّصف بأنه مهين للمعذبين ، بالغ منهم المبلغ العظيم.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في «المصاحف» عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس يقرأ : «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدّث». وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله ، وزاد : فنسخت محدّث ، قال : والمحدّثون : صاحب يس ، ولقمان ، ومؤمن آل فرعون ، وصاحب موسى. وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، قال السيوطي : بسند رجاله ثقات ، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : أفرأيتم اللات والعزّى ومنات الثالثة الأخرى ، تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهنّ لترتجى. ففرح المشركون بذلك وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فجاءه جبريل فقال : اقرأ عليّ ما جئت به ، فقرأ : أفرأيتم اللات والعزّى ومنات الثالثة الأخرى ، تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهنّ لترتجى ، فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) الآية». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، قال السيوطي : بسند صحيح ، عن سعيد بن جبير ، قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة النجم ، فذكر نحوه ، ولم يذكر ابن عباس. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والسدّي عن سعيد مرسلا. ورواه عبد ابن حميد عن السدّي عن أبي صالح مرسلا. ورواه ابن أبي حاتم عن ابن شهاب مرسلا. وأخرج ابن جرير عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه مرسلا أيضا. والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها. وقد أسلفنا عن الحفاظ في أوّل هذا البحث ما فيه كفاية ، وفي الباب روايات من أجبّ الوقوف على جميعها فلينظرها في «الدرّ المنثور» للسيوطي ، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة ، فقد عرّفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) يقول : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك ، قال : يعني بالتمنّي التّلاوة والقراءة ، (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) : في تلاوته (فَيَنْسَخُ اللهُ) ينسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبيّ. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد (إِذا تَمَنَّى) قال : تكلم (فِي أُمْنِيَّتِهِ) قال : كلامه. وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس في قوله : (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) قال : يوم بدر. وأخرج ابن مردويه عن أبيّ بن كعب نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير : (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) قال : يوم بدر. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة

٥٤٨

مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : يوم القيامة لا ليلة له. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحّاك مثله.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))

أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصا لهم بمزيد الشّرف ، فقال : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قال بعض المفسرين : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم : الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر ، ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين ، والكلّ في سبيل الله (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) أي : في حال المهاجرة ، واللام في (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) جواب قسم محذوف ، والجملة خبر الموصول بتقدير القول ، وانتصاب رزقا على أنه مفعول ثان ، أي : مرزوقا حسنا ، أو على أنه مصدر مؤكدة ، والرزق الحسن : هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع ، وقيل : هو الغنيمة لأنه حلال ، وقيل : هو العلم والفهم ؛ كقول شعيب : (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) قرأ ابن عامر وأهل الشام «ثم قتّلوا» بالتشديد على التكثير ، وقرأ الباقون بالتخفيف. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإنه سبحانه يرزق بغير حساب ، وكل رزق يجري على يد العباد لبعضهم البعض ، فهو منه سبحانه ، لا رازق سواه ولا معطي غيره ، والجملة تذييل مقرّرة لما قبلها ، وجملة (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) مستأنفة ، أو بدل من جملة ليرزقنهم الله. قرأ أهل المدينة «مدخلا» بفتح الميم ، وقرأ الباقون بضمّها ، وهو اسم مكان أريد به الجنة ، وانتصابه على أنه مفعول ثان أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور ، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان. وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره ، فإن المدخل الذي يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم ، على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا. (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم (حَلِيمٌ) عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم بالعقوبة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم. قال الزّجّاج : أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين

٥٤٩

خاصة إذا قتلوا أو ماتوا ، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف ، ومعنى (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) من جازى الظالم بمثل ما ظلمه ، وسمّي الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٢) والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه ، والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه ، ومعنى (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى ، قيل : المراد بهذا البغي : هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به ، واللام في (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) جواب قسم محذوف ، أي : لينصرن الله المبغيّ عليه على الباغي (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي : كثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب. وقيل : العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو ، وقيل : إن معنى (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي : ثم كان المجازي مبغيا عليه ، أي : مظلوما ، ومعنى «ثم» تفاوت الرتبة ؛ لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم ، كما قيل في أمثال العرب : البادي أظلم. وقيل : إن هذه الآية مدنية ، وهي في القصاص والجراحات ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) إلى ما تقدّم من نصر الله سبحانه للمبغيّ عليه ، وهو مبتدأ وخبره جملة بأن الله يولج ، والباء للسببية ، أي : ذلك بسبب أنه سبحانه قادر ، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ، وعبّر عن الزيادة بالإيلاج ؛ لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ، والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر. وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع كلّ مسموع (بَصِيرٌ) يبصر كلّ مبصر ، أو سميع للأقوال مبصر للأفعال ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) إلى ما تقدم من اتّصافه سبحانه بكمال القدرة الباهرة والعلم التام ، أي : هو سبحانه ذو الحق ، دينه حقّ ، وعبادته حقّ ، ونصره لأوليائه على أعدائه حقّ ، ووعده حقّ ، فهو عزوجل في نفسه وأفعاله وصفاته حقّ (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة «تدعون» بالفوقية على الخطاب للمشركين ، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيدة. والمعنى : إن الذين تدعونه آلهة ، وهي الأصنام ، هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلها. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) أي : العالي على كلّ شيء بقدرته المتقدّس على الأشباه والأنداد المتنزّه عمّا يقول الظالمون من الصفات (الْكَبِيرُ) أي : ذو الكبرياء ، وهو عبارة عن كمال ذاته وتفرّده بالإلهية ، ثم ذكر سبحانه دليلا بيّنا على كمال قدرته ، فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) الاستفهام للتقرير ، والفاء للعطف على «أنزل» ، وارتفع الفعل بعد الفاء لكون استفهام التقرير بمنزلة الخبر كما قاله الخليل وسيبويه. قال الخليل : المعنى أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا ، كما قال الشاعر (٣) :

ألم تسأل الرّبع القواء فينطق

وهل تخبرنّك اليوم بيداء سملق (٤)

__________________

(١). الشورى : ٤٠.

(٢). البقرة : ١٩٤.

(٣). هو جميل بثينة.

(٤). «القواء» : القفر. «البيداء» : القفر أيضا. «السملق» : الأرض التي لا تنبت ، وهي السهلة المستوية.

٥٥٠

معناه : قد سألته فنطق. قال الفراء : «ألم تر» خبر ؛ كما تقول في الكلام : إن الله ينزل من السماء ماء (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي : ذات خضرة ، كما تقول مبقلة ومسبعة ؛ أي : ذوات بقل وسباع ، وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة ، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة الاخضرار مع الإشعار بتجدّد الإنزال واستمراره ، وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل ، والرفع هنا متعيّن لأنه لو نصب لانعكس المعنى المقصود من الآية فينقلب إلى نفي الاخضرار ، والمقصود إثباته. قال ابن عطية : هذا لا يكون ، يعني الاخضرار في صباح ليلة المطر ، إلا بمكة وتهامة. والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها ، كما في قوله : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (١) والمراد بقوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أنه يصل علمه إلى كلّ دقيق وجليل ، وقيل : «لطيف» بأرزاق عباده ، وقيل : (لَطِيفٌ) باستخراج النبات ، ومعنى (خَبِيرٌ) أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم ، وقيل : (خَبِيرٌ) بما ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر ، وقيل : «خبير» بحاجتهم وفاقتهم. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصرّفا ، وكلهم محتاجون إلى رزقه (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) فلا يحتاج إلى شيء (الْحَمِيدُ) المستوجب للحمد في كلّ حال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) هذه نعمة أخرى ذكرها الله سبحانه ، فأخبر عباده بأنه سخّر لهم ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار ، وجعله لمنافعهم (وَالْفُلْكَ) عطف على «ما» ، أو على اسم «أن» ، أي : وسخر لكم الفلك في حال جريها في البحر ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «والفلك» بالرفع على الابتداء ، وما بعده خبره ، وقرأ الباقون بالنصب. ومعنى (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي : بتقديره ، والجملة في محل نصب على الحال على قراءة الجمهور (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) أي : كراهة أن تقع ، وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك ، والجملة معطوفة على تجري (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي : بإرادته ومشيئته ، وذلك يوم القيامة (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : كثير الرأفة والرحمة حيث سخّر هذه الأمور لعباده ، وهيّأ لهم أسباب المعاش ، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم تفضّلا منه على عباده وإنعاما عليهم. ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم جمادا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء أعماركم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) عند البعث للحساب والعقاب و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي : كثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة ، ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد ؛ لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر ، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين ، واقرءوا إن شئتم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) إلى قوله : (حَلِيمٌ)» ، وإسناد ابن أبي حاتم هكذا : حدّثنا المسيب ابن واضح ، حدّثنا ابن المبارك ، عن عبد الرحمن بن شريح ، عن عبد الكريم بن الحارث ، عن أبي عقبة ، يعني

__________________

(١). فصلت : ٣٩.

٥٥١

أبا عبيدة بن عقبة قال : قال شرحبيل بن السّمط : طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم ، فمرّ بي سلمان ؛ يعني الفارسي ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان برودس ، فمرّوا بجنازتين أحدهما قتيل والآخر متوفّى ، فمال الناس عن القتيل ، فقال فضالة : مالي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله ، فقال : والله ما أبالي من أيّ حفرتيهما بعثت ، اسمعوا كتاب الله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) الآية. وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا : حدّثنا أبو زرعة ، عن زيد بن بشر ، أخبرني ضمام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المغافري يقولان : كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. قلت : ويؤيد هذا قول الله سبحانه : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (١). وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) قال : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية في ليلتين بقيتا من المحرم فلقوا المشركين ، فقال المشركون بعضهم لبعض : قاتلوا أصحاب محمد فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام ، وإن أصحاب محمد ناشدوهم وذكروهم بالله أن يعرضوا لقتالهم فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام إلا من بادأهم ، وإن المشركين بدءوا فقاتلوهم ، فاستحلّ الصحابة قتالهم عند ذلك فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم. وهو مرسل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (وَمَنْ عاقَبَ) الآية قال : تعاون المشركون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فأخرجوه ، فوعده الله أن ينصره ، وهو في القصاص أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) قال : الشيطان. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) قال : يعدّ المصيبات وينسى النعم.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزّجر لمعاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الأديان عن منازعته فقال : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي : لكلّ قرن من القرون الماضية وضعنا شريعة خاصة ، بحيث لا تتخطّى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى ، وجملة (هُمْ ناسِكُوهُ) صفة لمنسكا ، والضمير لكل أمة ، أي :

__________________

(١). النساء : ١٠٠.

٥٥٢

تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها ، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى ، والإنجيل منسك الأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقرآن منسك المسلمين ، والمنسك مصدر لا اسم مكان كما يدلّ عليه هم ناسكوه ، ولم يقل ناسكون فيه. وقيل : المنسك موضع أداء الطاعة ، وقيل : هو الذبائح ، ولا وجه للتخصيص ، ولا اعتبار بخصوص السبب ، والفاء في قوله : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) لترتيب النهي على ما قبله ، والضمير راجع إلى الأمم الباقية آثارهم ، أي : قد عيّنّا لكل أمة شريعة ، ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية ، وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين ، والنهي إما على حقيقته ، أو كناية عن نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الالتفات إلى نزاعهم له. قال الزّجّاج : إنه نهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن منازعتهم ، أي : لا تنازعهم أنت ، كما تقول : لا يخاصمك فلان ، أي : لا تخاصمه ، وكما تقول لا يضاربنك فلان ، أي : لا تضاربه ، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنا ، ولا يجوز : لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه. وحكى عن الزّجّاج أنه قال في معنى الآية : «فلا ينزعنك» أي : فلا يجادلنك. قال : ودلّ على هذا (وَإِنْ جادَلُوكَ) وقرأ أبو مجلز «فلا ينزعنّك في الأمر» أي : لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك. وقرأ الباقون (يُنازِعُنَّكَ) من المنازعة (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي : وادع هؤلاء المنازعين ، أو ادع الناس على العموم إلى دين الله وتوحيده والإيمان به (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي : طريق مستقيم لا اعوجاج فيه (وَإِنْ جادَلُوكَ) أي : وإن أبوا إلا الجدال بعد البيان لهم وظهور الحجّة عليهم (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي : فكل أمرهم إلى الله ، وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي : بين المسلمين والكافرين (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين فيتبين حينئذ الحق من الباطل ، وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل ، وقيل : إنها منسوخة بآية السيف ، وجملة (أَلَمْ تَعْلَمْ) مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، والاستفهام للتقرير ، أي : قد علمت يا محمد وتيقنت (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ومن جملة ذلك ما أنتم فيه مختلفون (إِنَّ ذلِكَ) الذي في السماء والأرض من معلوماته (فِي كِتابٍ) أي : مكتوب عنده في أمّ الكتاب (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي : إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه يسير عليه غير عسير ، أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض يسير عليه (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) هذا حكاية لبعض فضائحهم ، أي : إنهم يعبدون أصناما لم يتمسكوا في عبادتها بحجّة نيّرة من الله سبحانه (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) من دليل عقل يدلّ على جواز ذلك بوجه من الوجوه (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في آل عمران. وجملة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) معطوفة على «يعبدون» ، وانتصاب «بينات» على الحال ، أي : حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي : الأمر الذي ينكر ، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعها ، أو المراد بالمنكر الإنكار ، أي : تعرف في وجوههم إنكارها ، وقيل : هو التجبّر والترفّع ، وجملة (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ما ذلك المنكر

٥٥٣

الذي يعرف في وجوههم؟ فقيل : يكادون يسطون ، أي : يبطشون ، والسطوة : شدّة البطش ، يقال : سطا به يسطو إذا بطش به بضرب ، أو شتم ، أو أخذ باليد ، وأصل السطو : القهر.

وهكذا ترى أهل البدع المضلّة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز ، أو من السّنّة الصّحيحة ، مخالفا لما اعتقده من الباطل والضّلالة ؛ رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكّن من أن يسطو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين ، وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف ، والله ناصر الحقّ ، ومظهر الدين ، وداحض الباطل ، ودامغ البدع ، وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم ؛ المبيّنين للناس ما نزل إليهم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثم أمر رسوله أن يردّ عليهم ، فقال : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ) أي : أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب عليهم ، وهو النار التي أعدّها الله لكم ، فالنار مرتفعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ما هذا الأمر الذي هو شرّ ممّا نكابده ونناهده عند سماعنا ما تتلوه علينا؟ فقال هو : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقيل : إن النار مبتدأ وخبره جملة وعدها الله الذين كفروا ، وقيل : المعنى : أفأخبركم بشرّ ممّا يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعّد لهم والتوثّب عليهم ، وقرئ «النار» بالنصب على تقدير أعني ، وقرئ بالجرّ بدلا من شرّ (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : الموضع الذي تصيرون إليه ، وهو النار.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (هُمْ ناسِكُوهُ) قال : يعني هم ذابحوه (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) يعني في أمر الذبح. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه أيضا. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) قول أهل الشرك : أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه ، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : خلق الله اللوح المحفوظ لمسيرة مائة عام ، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش : اكتب ، قال : ما أكتب؟ قال : علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة ، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة ، فذلك قوله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يعني ما في السماوات السبع والأرضين السبع (إِنَّ ذلِكَ) العلم (فِي كِتابٍ) يعني في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السماوات والأرضين (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يعني : هين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (يَكادُونَ يَسْطُونَ) يبطشون.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

٥٥٤

ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) هذا متّصل بقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) قال الأخفش : ليس ثمّ مثل ، وإنما المعنى ضربوا لي مثلا (فَاسْتَمِعُوا) قولهم ، يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره ، فكأنه قال : جعلوا لي شبها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه. وقال القتبي : إن المعنى : يا أيها الناس مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا ، وإن سلبها شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه. قال النّحّاس : المعنى ضرب الله عزوجل لما يعبدونه من دونه مثلا. قال : وهذا من أحسن ما قيل فيه ، أي : بيّن الله لكم شبها ولمعبودكم. وأصل المثل : جملة من الكلام متلقّاة بالرضا والقبول ، مسيرة في الناس ، مستغربة عندهم ، وجعلوا مضربها مثلا لموردها ، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة ، في هذه الآية. والمراد بما يدعونه من دون الله : الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها. وقيل : المراد بهم السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله لكونهم أهل الحلّ والعقد فيهم. وقيل : الشياطين الذين حملوهم على معصية الله ، والأوّل أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل ، والذباب : اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى ، وجمع القلة أذبّة ، والكثرة ذبّان ، مثل غراب وأغربة وغربان ، وقال الجوهري : الذباب معروف الواحد ذبابة. والمعنى : لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات. وجملة (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) معطوفة على جملة أخرى شرطية محذوفة ، أي : لو لم يجتمعوا له لن يخلقوه ولو اجتمعوا له ، والجواب محذوف ، والتقدير : لن يخلقوه وهما في محل نصب على الحال ، أي : لن يخلقوه على كلّ حال. ثم بيّن سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم ، فقال : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي. إذا أخذ منهم الذباب شيئا من الأشياء لا يقدرون على تخليصه منه لكمال عجزهم وفرط ضعفهم ، والاستنقاذ والإنقاذ : التخليص ، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف ، وعن استنقاذ ما أخذه عليهم ، فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرما وأشدّ منه قوّة أعجز وأضعف. ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب ، فقال : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه ، والمطلوب الذباب. وقيل : الطالب عابد الصنم ، والمطلوب الصنم. وقيل : الطالب الذباب والمطلوب الآلهة. ثم بيّن سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حقّ معرفته ، فقال : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عظّموه حقّ تعظيمه ، ولا عرفوه حق معرفته ، حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال ، وقد تقدّم في الأنعام (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على خلق كلّ شيء (عَزِيزٌ) غالب لا يغالبه أحد ، بخلاف آلهة المشركين ، فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا

٥٥٥

تضرّ ولا تقدر على شيء. ثم أراد سبحانه أن يردّ عليهم ما يعتقدونه في النبوّات والإلهيات فقال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل (وَ) يصطفي أيضا رسلا (مِنَ النَّاسِ) وهم الأنبياء ، فيرسل الملك إلى النبي ، والنبيّ إلى الناس ، أو يرسل الملك لقبض أرواح مخلوقاته ، أو لتحصيل ما ينفعكم ، أو لإنزال العذاب عليهم (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوال عباده (بَصِيرٌ) بمن يختاره من خلقه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي : ما قدّموا من الأعمال وما يتركونه من الخير والشرّ ، كقوله تعالى : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (١). (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لا إلى غيره ، ولما تضمن ما ذكره ـ من أن الأمور ترجع إليه ـ الزجر لعباده عن معاصيه ، والحضّ لهم على طاعاته صرح بالمقصود ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي : صلّوا الصّلاة التي شرعها الله لكم ، وخصّ الصلاة لكونها أشرف العبادات. ثم عمّم فقال : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي : افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) أي : ما هو خير ، وهو أعمّ من الطّاعة الواجبة والمندوبة ، وقيل : المراد بالخير هنا المندوبات. ثم علّل ذلك بقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : إذا فعلتم هذه كلّها رجوتم الفلاح. وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه ، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله ، وقد تقدّم أن هذه السورة فضّلت بسجدتين ، وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية. ثم أمرهم بما هو سنام الدين وأعظم أعماله ، فقال : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي : في ذاته ومن أجله ، والمراد به الجهاد الأكبر ، وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين. وقيل : المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدّمة ، أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم ، ومعنى (حَقَّ جِهادِهِ) المبالغة في الأمر بهذا الجهاد ؛ لأنه أضاف الحقّ إلى الجهاد ، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق ، أي : جهادا خالصا لله ، فعكس ذلك لقصد المبالغة ، وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعا ، أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولا له ومن أجله. وقيل : المراد بحقّ جهاده هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم ، وقيل : المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله. وقال مقاتل والكلبي : إن الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢) كما أن قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٣) منسوخ بذلك ، وردّ ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة ، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ. ثم عظّم سبحانه شأن المكلفين بقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي : اختاركم لدينه ، وفيه تشريف لهم عظيم. ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي : من ضيق وشدّة.

وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله ، فقيل : هو ما أحلّه الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين. وقيل : المراد قصر الصلاة ، والإفطار للمسافر ، والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره ، وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض ، واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلّة ، وكذا في الفطر والأضحى. وقيل : المعنى : أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجا بتكليف ما يشقّ عليهم ، ولكن

__________________

(١). يس : ١٢.

(٢). التغابن : ١٦.

(٣). آل عمران : ١٠٢.

٥٥٦

كلّفهم بما يقدرون عليه ، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج ، فلم يتعبّدهم بها كما تعبّد بها بني إسرائيل. وقيل : المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجا بفتح باب التوبة وقبول الاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة والأرش (١) ، أو القصاص في الجنايات ، وردّ المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه. والظاهر أن الآية أعمّ من هذا كله ، فقد حطّ سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده ، إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلّف بها غيرهم ، أو بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه ، أو بمشروعية التخلّص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله ، وما أنفع هذه الآية وأجلّ موقعها وأعظم فائدتها ، ومثلها قوله سبحانه : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢) وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٣) وقوله : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٤) وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال : «قد فعلت» كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية ، والأحاديث في هذا كثيرة ، وانتصاب ملّة في (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) على المصدرية بفعل دلّ عليه ما قبله ، أي : وسع عليكم دينكم توسعة ملّة أبيكم إبراهيم. وقال الزجاج : المعنى اتبعوا ملّة أبيكم إبراهيم. وقال الفراء : انتصب على تقدير حذف الكاف ، أي : كملّة. وقيل : التقدير : وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم ، فأقام الملّة مقام الفعل ، وقيل : على الإغراء ، وقيل : على الاختصاص ، وإنما جعله سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة ، ولأن له عند غير العرب الذين لم يكونوا من ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن ؛ لكونه أبا لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي : في الكتب المتقدّمة (وَفِي هذا) أي : القرآن ، والضمير لله سبحانه ، وقيل : راجع إلى إبراهيم. والمعنى هو : أي إبراهيم سمّاكم المسلمين من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «وفي هذا» أي : في حكمه أن من اتبع محمدا فهو مسلم. قال النحّاس : وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة. ثم علّل سبحانه ذلك بقوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أي : بتبليغه إليكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أن رسلهم قد بلغتهم ، وقد تقدّم بيان معنى هذه الآية في البقرة. ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي : اجعلوه عصمة لكم ممّا تحذرون ، والتجئوا إليه في جميع أموركم ، ولا تطلبوا ذلك إلّا منه (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي : ناصركم ومتولّي أموركم دقيقها وجليلها (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي : لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم ، وقيل : المراد بقوله (اعْتَصِمُوا بِاللهِ) : تمسّكوا بدين الله ، وقيل : ثقوا به تعالى.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) قال : نزلت في صنم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قال : الطالب آلهتهم ، والمطلوب الذباب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله : (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) قال : لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء من الذباب. وأخرج الحاكم وصحّحه عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله اصطفى موسى

__________________

(١). «الأرش» : دية الجراحة.

(٢). التغابن : ١٦.

(٣). البقرة : ١٨٥.

(٤). البقرة : ٢٨٦.

٥٥٧

بالكلام ، وإبراهيم بالخلّة». وأخرج أيضا عن أنس وصحّحه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «موسى بن عمران صفيّ الله». وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال لي عمر : ألسنا كنّا نقرأ فيما نقرأ : «وجاهدوا في الله جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوّله»؟ قلت : بلى ، فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء ، وبنو المغيرة الوزراء. وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره. وأخرج الترمذي وصحّحه ، وابن حبان وابن مردويه ، والعسكري في الأمثال ، عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله». وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن عائشة أنها سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) قال : الضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد قال : قال أبو هريرة لابن عباس : أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني؟ قال : بلى ، قال : فما (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)؟ قال : الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن شهاب أن ابن عباس كان يقول : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) توسعة الإسلام ما جعل الله من التوبة والكفّارات. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن يسار عن ابن عباس (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) قال : هذا في هلال رمضان إذا شكّ فيه الناس ، وفي الحج إذا شكّوا في الأضحى ، وفي الفطر وأشباهه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال : ادع لي رجلا من هذيل ، فجاءه فقال : ما الحرج فيكم؟ قال : الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج ، فقال ابن عباس : [هذا الحرج] (١) الذي ليس له مخرج. وأخرج سعيد ابن منصور وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، من طريق عبيد الله بن أبي يزيد أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال : هاهنا أحد من هذيل؟ قال رجل : أنا ، فقال : ما تعدّون الحرجة فيكم؟ قال : الشيء الضيق ، قال : هو ذاك. وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال : قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ثم قال لي : ادع لي رجلا من بني مدلج ، قال عمر : ما الحرج فيكم؟ قال : الضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) [قال : دين أبيكم] (٢). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) قال الله عزوجل : سماكم. وروي نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج الطيالسي وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، والترمذي وصحّحه ، والنسائي وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والبغوي والبارودي وابن قانع والطبراني والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١). من (الدر المنثور ٦ / ٧٩)

(٢). المصدر السابق.

٥٥٨

قال : «من دعا بدعوة الجاهلية فإنه من جثا جهنم (١) ، قال رجل : يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال : نعم ، فادعوا بدعوة الله التي سمّاكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله».

* * *

__________________

(١). «من جثا جهنم» : أي من جماعاتها. والجثا : جمع جثوة ، وهو الشيء المجموع. وفي بعض الروايات : جثّي ، جمع جاث ، من جثا على ركبتيه يجثو ويجثي.

٥٥٩

سورة المؤمنون

هي مكية بلا خلاف. قال القرطبي : كلّها مكيّة في قول الجميع ، وآياتها مائة وتسع عشرة آية وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن عبد الله بن السّائب قال : صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة الصبح فاستفتح سورة المؤمنين ، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون ، أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع. وأخرج البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لمّا خلق الله الجنّة قال لها تكلّمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون». وأخرجه أيضا ابن عدي والحاكم. وأخرج الطبراني في السّنّة ، وابن مردويه من حديث ابن عباس مثله. وقد ورد في فضائل العشر الآيات من أوّل هذه السورة ما سيأتي قريبا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

قوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قال الفرّاء : قد ها هنا يجوز أن تكون تأكيدا لفلاح المؤمنين ، ويجوز أن تكون تقريبا للماضي من الحال ، لأن قد تقرّب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه ، ألا تراهم يقولون : قد قامت الصلاة قبل حال قيامها ، ويكون المعنى في الآية وأن الفلاح قد حصل لهم ، وأنهم عليه في الحال ، والفلاح : الظفر بالمراد والنجاة من المكروه ، وقيل : البقاء في الخير ، وأفلح إذا دخل في الفلاح ، ويقال : أفلحه : إذا أصاره إلى الفلاح ، وقد تقدّم بيان معنى الفلاح في أوّل البقرة. وقرأ طلحة بن مصرّف (قَدْ أَفْلَحَ) بضم الهمزة وبناء الفعل للمفعول. وروي عنه أنه قرأ «أفلحوا المؤمنون» على الإبهام والتفسير ، أو على لغة : أكلوني البراغيث. ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) وما عطف عليه ، والخشوع : منهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات والعبث ، وهو في اللغة : السكون والتواضع والخوف والتذلل.

وقد اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها؟ على قولين : قيل : الصحيح الأول ، وقيل : الثاني. وادّعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته ، حكاه

٥٦٠