فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

طريق نافع عن ابن عمرو قال : فيه ذو الكفل. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) يقول : غضب على قومه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) يقول : أن لن نقضي عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه عليهم وفراره ، قال : وعقوبته أخذ النون (١) إياه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قال : ظنّ أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه. وأخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) قال : ظلمة الليل ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن سعد بن أبي وقاص سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، لم يدع بها مسلم ربّه في شيء قط إلا استجاب له». وأخرج ابن جرير عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : دعوة يونس بن متّى ، قلت : يا رسول الله ، هل ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال : هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به ، ألم تسمع قول الله (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فهو شرط من الله لمن دعاه». وأخرج الحاكم من حديثه أيضا نحوه. وقد ثبت في الصّحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى». وروي أيضا في الصحيح وغيره من حديث ابن مسعود ، وروي أيضا في الصحيحين من حديث أبي هريرة.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

قوله : (وَزَكَرِيَّا) أي : واذكر خبر زكريا وقت ندائه لربه قال : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي : منفردا وحيدا لا ولد لي. وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في آل عمران. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي :

__________________

(١). أي الحوت.

٥٠١

خير من يبقى بعد كلّ من يموت ، فأنت حسبي إن لم ترزقني ولدا ، فإني أعلم أنك لا تضيع دينك ، وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه للتبليغ (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى). وقد تقدّم مستوفي في سورة مريم. (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) ، قال أكثر المفسرين : إنها كانت عاقرا فجعلها الله ولودا ، فهذا هو المراد بإصلاح زوجه ؛ وقيل : كانت سيّئة الخلق ، فجعلها الله سبحانه حسنة الخلق ، ولا مانع من إرادة الأمرين جميعا ، وذلك بأن يصلح الله سبحانه ذاتها ، فتكون ولودا بعد أن كانت عاقرا ، ويصلح أخلاقها ، فتكون أخلاقها مرضية بعد أن كانت غير مرضية. وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) للتعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، فالضمير المذكور راجع إليهم ، وقيل : هو راجع إلى زكريا وامرأته ويحيى. ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم كانوا يدعونه (رَغَباً وَرَهَباً) أي : يتضرّعون إليه في حال الرّخاء وحال الشدّة ، وقيل : الرغبة : رفع بطون الأكفّ إلى السماء ، والرهبة رفع ظهورها. وانتصاب رغبا ورهبا على المصدرية ، أي : يرغبون رغبا ويرهبون رهبا ، أو على العلة ، أي : للرّغب والرّهب ، أو على الحال ، أي : راغبين وراهبين. وقرأ طلحة بن مصرّف ويدعونا بنون واحدة ، وقرأ الأعمش بضم الراء فيهما وإسكان ما بعده ، وقرأ ابن وثّاب بفتح الراء فيهما مع إسكان ما بعده ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، وقرأ الباقون بفتح الراء وفتح ما بعده فيهما. (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أي : متواضعين متضرّعين (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي : واذكر خبرها ، وهي مريم ، فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام ، ولم يمسسها بشر ، وإنما ذكرها مع الأنبياء ، وإن لم تكن منهم ، لأجل ذكر عيسى ، وما في ذكر قصّتها من الآية الباهرة (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أضاف سبحانه الروح إليه ، وهو للملك تشريفا وتعظيما ، وهو يريد روح عيسى (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) قال الزجّاج : الآية فيهما واحدة ؛ لأنها ولدته من غير فحل ؛ وقيل : إن التقدير على مذهب سيبويه : وجعلناها آية وجعلنا ابنها آية ، كقوله سبحانه : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١) ، والمعنى : إنّ الله سبحانه جعل قصّتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما. وقيل : أراد بالآية الجنس الشامل ، لما لكلّ واحد منهما من الآيات ، ومعنى أحصنت : عفّت فامتنعت من الفاحشة وغيرها ؛ وقيل : المراد بالفرج جيب القميص ؛ أي : أنها طاهرة الأثواب ، وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم. ثم لمّا ذكر سبحانه الأنبياء بيّن أنهم كلّهم مجتمعون على التوحيد فقال : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) والأمة : الدّين كما قال ابن قتيبة ، ومنه : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (٢) أي : على دين ، كأنه قال : إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد ، ولا يخرج عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله ؛ وقيل : المعنى : إنّ هذه الشريعة التي بيّنتها لكم في كتابكم شريعة واحدة ؛ وقيل : المعنى : إن هذه ملّتكم ملّة واحدة ، وهي ملّة الإسلام. وانتصاب أمة واحدة على الحال ، أي : متفقة غير مختلفة ، وقرئ : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) بنصب أمتكم على البدل من اسم إنّ والخبر «أمة واحدة». وقرئ برفع (أُمَّتُكُمْ) ورفع أمة على أنهما خبران ؛ وقيل : على إضمار مبتدأ ، أي : هي أمة واحدة. وقرأ

__________________

(١). التوبة : ٦٢.

(٢). الزخرف : ٢٢.

٥٠٢

الجمهور برفع (أُمَّتُكُمْ) على أنه الخبر ونصب (أُمَّةً) على الحال كما قدّمنا. وقال الفراء والزجاج على القطع بسبب مجيء النكرة بعد تمام الكلام. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) خاصة لا تعبدوا غيري كائنا ما كان (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي : تفرقوا فرقا في الدّين حتى صار كالقطع المتفرّقة. وقال الأخفش : اختلفوا فيه ، وهو كالقول الأوّل. قال الأزهري : أي : تفرقوا في أمرهم ، فنصب أمرهم بحذف في ، والمقصود بالآية المشركون ، ذمّهم الله بمخالفة الحق واتخاذهم آلهة من دون الله ؛ وقيل : المراد جميع الخلق ، وأنهم جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسّموه بينهم ، فهذا موحّد ، وهذا يهوديّ ، وهذا نصرانيّ ، وهذا مجوسيّ ، وهذا عابد وثن. ثم أخبر سبحانه بأن مرجع الجميع إليه فقال : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي : كلّ واحد من هذه الفرق راجع إلينا بالبعث ، لا إلى غيرنا. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي : من يعمل بعض الأعمال الصالحة ، لا كلّها ، إذ لا يطيق ذلك أحد (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله ورسله واليوم الآخر (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي : لا جحود لعمله ، ولا تضييع لجزائه ، والكفر ضدّ الإيمان ، والكفر أيضا : جحود النعمة ، وهو ضدّ الشكر ، يقال : كفر كفورا وكفرانا ، وفي قراءة ابن مسعود «فلا كفر لسعيه». (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي : لسعيه حافظون ، ومثله قوله سبحانه : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) (١). (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) قرأ زيد بن ثابت وأهل المدينة (وَحَرامٌ) ، وقرأ أهل الكوفة «وحرم» وقد اختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم ، ورويت القراءة الثانية عن عليّ وابن مسعود وابن عباس ، وهما لغتان مثل حلّ وحلال. وقرأ سعيد بن جبير «وحرم» بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم. وقرأ عكرمة وأبو العالية «حرم» بضم الراء وفتح الحاء والميم. ومعنى (أَهْلَكْناها) : قدّرنا إهلاكها ، وجملة (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) في محلّ رفع على أنه مبتدأ ، وخبره حرام ، أو على أنه فاعل له سادّ مسدّ خبره. والمعنى : وممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء ؛ وقيل : إن (لا) في (لا يَرْجِعُونَ) زائدة ، أي : حرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا. واختار هذا أبو عبيدة ؛ وقيل : إنّ لفظ حرام هنا بمعنى الواجب : أي واجب على قرية ، ومنه قول الخنساء :

وإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا

على شجوه إلا بكيت على صخر

وقيل : حرام ، أي : ممتنع رجوعهم إلى التوبة ، على أن «لا» زائدة. قال النحّاس : والآية مشكلة ، ومن أحسن ما قيل فيها وأجلّه ما رواه ابن عيينة وابن عليّة وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيان ومعلّى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية قال : واجب أنهم لا يرجعون ، أي : لا يتوبون. قال الزجّاج وأبو علي الفارسي : إنّ في الكلام إضمارا ، أي : وحرام على قرية حكمنا باستئصالها ، أو بالختم على قلوب أهلها ، أن يتقبّل منهم عمل لأنهم لا يرجعون ، أي : لا يتوبون. (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) «حتى» هذه هي التي يحكى بعدها الكلام ، ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس ، والمراد بفتح يأجوج ومأجوج فتح السدّ الذي عليهم ، على حذف المضاف ؛ وقيل : إنّ «حتى»

__________________

(١). آل عمران : ١٩٥.

٥٠٣

هذه هي التي للغاية. والمعنى : إنّ هؤلاء المذكورين سابقا مستمرّون على ما هم عليه إلى يوم القيامة ، وهي يوم فتح سدّ يأجوج ومأجوج (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) الضمير ليأجوج ومأجوج. والحدب : كلّ أكمة من الأرض مرتفعة والجمع أحداب ، مأخوذ من حدبة الأرض ، ومعنى (يَنْسِلُونَ) : يسرعون ، وقيل : يخرجون. قال الزجّاج : والنسلان : مشية الذئب إذا أسرع. يقال : نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا ؛ أي : إن يأجوج ومأجوج من كلّ مرتفع من الأرض يسرعون المشي ، ويتفرقون في الأرض ؛ وقيل : الضمير في قوله : «وهم» لجميع الخلق ؛ والمعنى أنهم يحشرون إلى أرض الموقف وهم يسرعون من كلّ مرتفع من الأرض. وقرئ بضم السين ، حكى ذلك المهدوي عن ابن مسعود. وحكى هذه القراءة أيضا الثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء. (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ) عطف على «فتحت» ، والمراد ما بعد الفتح من الحساب. وقال الفراء والكسائي وغيرهما : المراد بالوعد الحق القيامة ، والواو زائدة ؛ والمعنى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق وهو القيامة ، فاقترب جواب إذا ، وأنشد الفراء :

فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى (١)

أي : انتحى. ومنه قوله تعالى : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ـ وَنادَيْناهُ) (٢) ، وأجاز الفراء أن يكون جواب إذا (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقال البصريون : الجواب محذوف ، والتقدير : قالوا يا ويلنا. وبه قال الزّجّاج ، والضمير في (فَإِذا هِيَ) للقصّة ، أو مبهم يفسّره ما بعده ، وإذا للمفاجأة ؛ وقيل إن الكلام تمّ عند قوله هي ، والتقدير : فإذا هي ، يعني القيامة بارزة واقعة كأنها آتية حاضرة ، ثم ابتدأ فقال : شاخصة أبصار الذين كفروا ، على تقديم الخبر على المبتدأ ، أي : أبصار الذين كفروا شاخصة ، و (يا وَيْلَنا) على تقدير القول (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي : من هذا الذي دهمنا من البعث والحساب (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة ، أي : لم نكن غافلين ، بل كنّا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل.

وقد أخرج الحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس في قوله : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) قال : كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : وهبنا له ولدها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كانت عاقرا فجعلها الله ولودا ، ووهب له منها يحيى ، وفي قوله : (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) قال : أذلّاء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) قال : رغبا في رحمة الله ورهبا من

__________________

(١). البيت لامرئ القيس ، وتمامه : بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل.

«البطن» : مكان مطمئن حوله أماكن مرتفعة. «الخبت» أرض مطمئنة. «الحقف» : رمل مشرف معوج.

«العقنقل» : الرمل المنعقد المتلبّد.

(٢). الصافات : ١٠٣ ، ١٠٤.

٥٠٤

عذاب الله. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله سبحانه : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) قال : «رغبا هكذا ورهبا هكذا ، وبسط كفيه ، يعني جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة». وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله ، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل ، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة ، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) قال : إنّ هذا دينكم دينا واحدا. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) قال : تقطعوا : اختلفوا في الدين. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس في قوله : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) قال : وجب إهلاكها (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) قال : لا يتوبون. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ : وحرم على قرية قال : وجب على قرية (أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) كما قال : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) (١). وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وسعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) قال : شرف (يَنْسِلُونَ) قال : يقبلون ، وقد ورد في صفة يأجوج ومأجوج وفي وقت خروجهم أحاديث كثيرة لا يتعلّق بذكرها هنا كثير فائدة.

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما

__________________

(١). يس : ٣١.

٥٠٥

تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

بيّن سبحانه حال معبودهم يوم القيامة فقال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وهذا خطاب منه سبحانه لأهل مكة ، والمراد بقوله «وما تعبدون» : الأصنام التي كانوا يعبدون. قرأ الجمهور (حَصَبُ) بالصاد المهملة ، أي : وقود جهنم وحطبها ، وكل ما أوقدت به النار أو هيّجتها به فهو حصب ، كذا قال الجوهري. قال أبو عبيدة : كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به ، ومثل ذلك قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (١) وقرأ عليّ بن أبي طالب وعائشة حطب جهنّم بالطاء ، وقرأ ابن عباس «حضب» بالضاد المعجمة. قال القراء : ذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب ، ووجه إلقاء الأصنام في النار ، مع كونها جمادات لا تعقل ذلك ولا تحسّ به : التبكيت لمن عبدها ، وزيادة التوبيخ لهم ، وتضاعف الحسرة عليهم ؛ وقيل : إنها تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم ، وجملة (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) إما مستأنفة أو بدل من (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ، والخطاب لهم ولما يعبدون تغليبا ، واللام في (لَها) للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل ؛ وقيل : هي بمعنى على ، والمراد بالورود هنا الدخول. قال كثير من أهل العلم : ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة ؛ لأن ما لمن لا يعقل ، ولو أراد العموم لقال : «ومن يعبدون». قال الزّجّاج : ولأنّ المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) أي : لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون ما وردوها ، أي : ما ورد العابدون هم والمعبودون النار ؛ وقيل : ما ورد العابدون فقط ، لكنهم وردوها فلم يكونوا آلهة ، وفي هذا تبكيت لعباد الأصنام وتوبيخ شديد ، (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي : كلّ العابدين والمعبودين في النار خالدون لا يخرجون منها. (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي : لهؤلاء الذين وردوا النار ، والزفير : صوت نفس المغموم ، والمراد هنا الأنين والتنفّس الشديد ، وقد تقدّم بيان هذا في هود. (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) أي : لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدّة الهول ؛ وقيل : لا يسمعون شيئا ؛ لأنهم يحشرون صمّا ، كما قال سبحانه : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (٢) وإنّما سلبوا السماع ؛ لأن فيه بعض تروّح وتأنس ؛ وقيل : لا يسمعون ما يسرّهم ، بل يسمعون ما يسوءهم. ثم لمّا بيّن سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أي : الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة ، وقيل : التوفيق ، أو التبشير بالجنة ، أو نفس الجنة (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) إشارة إلى الموصوفين بتلك الصفة (عَنْها) أي : عن جهنم (مُبْعَدُونَ) لأنهم قد صاروا في الجنة (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) الحسّ والحسيس : الصوت تسمعه من الشيء يمرّ قريبا منك. والمعنى : لا يسمعون حركة النار وحركة أهلها ، وهذه الجملة بدل من مبعدون ، أو حال من ضميره (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي : دائمون ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذّ

__________________

(١). البقرة : ٢٤.

(٢). الإسراء : ٩٧.

٥٠٦

به الأعين ، كما قال سبحانه : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) (١). (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) قرأ أبو جعفر وابن محيصن «لا يحزنهم» بضم الياء وكسر الزاي ، وقرأ الباقون (لا يَحْزُنُهُمُ) بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي : حزنه لغة قريش ، وأحزنه لغة تميم ، والفزع الأكبر : أهوال يوم القيامة من البعث والحساب والعقاب (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي : تستقبلهم على أبواب الجنة يهنئونهم ، ويقولون لهم : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي : توعدون به في الدنيا وتبشّرون بما فيه ، هكذا قال جماعة من المفسرين : إن المراد بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) إلى هنا هم كافة الموصوفين بالإيمان والعمل الصالح ، لا المسيح وعزير والملائكة. وقال أكثر المفسرين : إنه لما نزل (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) الآية أتى ابن الزّبعرى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ألست تزعم أن عزيرا رجل صالح ، وأن عيسى رجل صالح ، وأن مريم امرأة صالحة؟ قال : بلى ، فقال : فإن الملائكة وعيسى وعزيرا ومريم يعبدون من دون الله ، فهؤلاء في النار ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) وسيأتي بيان من أخرج هذا قريبا إن شاء الله. (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قرأ أبو جعفر ابن القعقاع وشيبة والأعرج والزهري «تطوى» بمثناة فوقية مضمومة ورفع السماء ، وقرأ مجاهد «يطوي» بالتحتية المفتوحة مبنيا للفاعل على معنى يطوي الله السماء ، وقرأ الباقون (نَطْوِي) بنون العظمة. وانتصاب يوم بقوله : (نُعِيدُهُ) أي : نعيده يوم نطوي السماء ، وقيل : هو بدل من الضمير المحذوف في (تُوعَدُونَ) ، والتقدير : الذي كنتم توعدونه يوم نطوي ؛ وقيل بقوله (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ) ؛ وقيل : بقوله (تَتَلَقَّاهُمُ) ؛ وقيل : متعلّق بمحذوف ، وهو اذكر ، وهذا أظهر وأوضح ، والطيّ : ضد النشر ، وقيل : المحو ، والمراد بالسماء الجنس ، والسجل : الصحيفة ، أي : طيا كطيّ الطومار (٢) ؛ وقيل : السجل : الصك ، وهو مشتق من المساجلة وهي المكاتبة ، وأصلها من السجل ، وهو الدلو ، يقال : ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا ، ثم استعيرت للمكاتبة والمراجعة في الكلام ، ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :

من يساجلني يساجل ماجدا

يملأ الدّلو إلى عقد الكرب (٣)

وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير : «السّجلّ» بضم السين والجيم وتشديد اللام ، وقرأ الأعمش وطلحة بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام ، والطيّ في هذه الآية يحتمل معنيين : أحدهما الطيّ الذي هو ضدّ النشر ، ومنه قوله : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، والثاني الإخفاء والتعمية والمحو ؛ لأن الله سبحانه يمحو ويطمس رسومها ويكدّر نجومها. وقيل : السجل اسم ملك ، وهو الذي يطوي كتب بني آدم ؛ وقيل : هو اسم كاتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول أولى. قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحيى وخلف «للكتب» جمعا ، وقرأ الباقون «للكتاب» ، وهو متعلّق بمحذوف حال من السجل ، أي : كطيّ السجل كائنا للكتب ، أو صفة له ، أي : الكائن للكتب ، فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها ، فسجلها

__________________

(١). فصلت : ٣١.

(٢). الطومار : الصحيفة.

(٣). «الكرب» : حبل يشدّ على عراقي الدلو ، ثم يثنى ثم يثلث ؛ ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير.

٥٠٧

بعض أجزائها ، وبه يتعلّق الطيّ حقيقة. وأما على القراءة الثانية فالكتاب مصدر ، واللام للتعليل ، أي : كما يطوى الطومار للكتابة ، أي : ليكتب فيه ، أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، وهذا على تقدير أن المراد بالطيّ المعنى الأوّل ، وهو ضدّ النشر. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم ، وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلا ، كذلك نعيدهم يوم القيامة ، ف «أول خلق» مفعول «نعيد» مقدّرا يفسره نعيده المذكور ، أو مفعول ل «بدأنا» ، و «ما» كافة أو موصولة ، والكاف متعلقة بمحذوف ، أي : نعيد مثل الذي بدأناه نعيده ، وعلى هذا الوجه يكون أوّل ظرف لبدأنا ، أو حال ، وإنما خصّ أوّل الخلق بالذكر تصويرا للإيجاد عن العدم ، والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ لشمول الإمكان الذاتي لهما ؛ وقيل : معنى الآية : نهلك كلّ نفس كما كان أوّل مرة ، وعلى هذا فالكلام متّصل بقوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) وقيل : المعنى نغيّر السماء ، ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها ، والأوّل أولى ، وهو مثل قوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) ، ثم قال سبحانه : (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) انتصاب «وعدا» على أنه مصدر ، أي : وعدنا وعدا علينا إنجازه والوفاء به. وهو البعث والإعادة ، ثم أكّد سبحانه ذلك بقوله : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ). قال الزّجّاج : معنى إنا كنا فاعلين : إنا كنا قادرين على ما نشاء ؛ وقيل إنا كنا فاعلين ما وعدناكم ، ومثله قوله : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) (٢) ـ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) الزبر في الأصل الكتب ، يقال زبرت : أي كتبت ، وعلى هذا يصح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل ، وعلى كتاب داود المسمى بالزبور ، وقيل المراد به هنا كتاب داود ، ومعنى (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي اللوح المحفوظ ، وقيل هو التوراة : أي والله لقد كتبنا في كتاب داود من بعد ما كتبنا في التوراة أو من بعد ما كتبنا في اللوح المحفوظ (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). قال الزجاج : الزبور جميع الكتب : التوراة والإنجيل والقرآن ، لأن الزبور والكتاب في معنى واحد ، يقال زبرت وكتبت ، ويؤيد ما قاله قراءة حمزة في الزبور بضم الزاي ، فإنه جمع زبر.

وقد اختلف في معنى (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) فقيل : المراد أرض الجنة ، واستدل القائلون بهذا بقوله سبحانه : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) (٣) وقيل : هي الأرض المقدّسة ، وقيل : هي أرض الأمم الكافرة يرثها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بفتحها ، وقيل : المراد بذلك بنو إسرائيل ، بدليل قوله سبحانه : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) (٤) والظاهر أن هذا تبشير لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوراثة أرض الكافرين ، وعليه أكثر المفسرين. وقرأ حمزة عبادي بتسكين الياء ، وقرأ الباقون بتحريكها. (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً) أي : فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه لبلاغا لكفاية ، يقال : في هذا الشيء بلاغ وبلغة وتبلغ ، أي : كفاية ، وقيل الإشارة بقوله : (إِنَّ فِي هذا) إلى القرآن (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي : مشغولين بعبادة الله مهتمين بها ، والعبادة : هي الخضوع والتّذلّل ، وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأس العبادة الصلاة. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي : وما أرسلناك يا محمد

__________________

(١). الأنعام : ٩٤.

(٢). المزمل : ١٨.

(٣). الزمر : ٧٤.

(٤). الأعراف : ١٣٧.

٥٠٨

بالشرائع والأحكام إلا رحمة لجميع الناس ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال والعلل ، أي : ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة ، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين. قيل : ومعنى كونه رحمة للكفار : أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ والاستئصال. وقيل : المراد بالعالمين المؤمنون خاصة ، والأوّل أولى بدليل قوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١) ثم بيّن سبحانه أن أصل تلك الرحمة هو التوحيد والبراءة من الشرك ، فقال : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) إن كانت ما موصولة ، فالمعنى : إن الذي يوحى إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزها إلى ما يناقضها أو يضادّها ، وإن كانت «ما» كافة فالمعنى : إن الوحي إليّ مقصور على استئثار الله بالوحدة ، ووجه ذلك أن القصر أبدا يكون لما يلي إنما ، فإنما الأولى : لقصر الوصف على الشيء ، كقولك : إنما يقوم زيد ، أي : ما يقوم إلا زيد. والثانية : لقصر الشيء على الحكم ، كقولك : إنما زيد قائم ، أي : ليس به إلا صفة القيام. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون مخلصون للعبادة ولتوحيد الله سبحانه (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن الإسلام (فَقُلْ) لهم (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي : أعلمتكم أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا كائنين على سواء في الإعلام لم أخصّ به بعضكم دون بعض ، كقوله سبحانه : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) (٢) أي : أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا سوّيت بينهم فيه. وقال الزّجّاج : المعنى أعلمتكم ما يوحى إليّ على استواء في العلم به ، ولا أظهر لأحد شيئا كتمته على غيره. (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي : ما أدري ما توعدون به قريب حصوله أم بعيد ، وهو غلبة الإسلام وأهله على الكفر وأهله. وقيل : المراد بما توعدون القيامة ، وقيل : آذنتكم بالحرب ، ولكن لا أدري ما يؤذن لي في محاربتكم. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي : يعلم سبحانه ما تجاهرون به من الكفر والطعن على الإسلام وأهله وما تكتمونه من ذلك وتخفونه (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي : ما أدري لعلّ الإمهال فتنة لكم واختبار ليرى كيف صنيعكم (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي : وتمتيع إلى وقت مقدّر تقتضيه حكمته. ثم حكى سبحانه وتعالى دعاء نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي : احكم بيني وبين هؤلاء المكذّبين بما هو الحق عندك ، ففوّض الأمر إليه سبحانه. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن «ربّ» بضم الباء. قال النحاس : وهذا لحن عند النحويين لا يجوز عندهم : رجل أقبل ، حتى تقول : يا رجل. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب «أحكم» بقطع الهمزة وفتح الكاف وضم الميم ، أي : قال محمد : ربي أحكم بالحقّ من كل حاكم. وقرأ الجحدري «أحكم» بصيغة الماضي ؛ أي : أحكم الأمور بالحق. وقرئ «قل» بصيغة الأمر ، أي : قل يا محمد. قال أبو عبيدة : الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف ، والتقدير : ربّ احكم بحكمك الحق ، وربّ في موضع نصب ؛ لأنه منادى مضاف إلى الضمير ، وقد استجاب سبحانه دعاء نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعذّبهم ببدر ، ثم جعل العاقبة والغلبة والنصر لعباده المؤمنين والحمد لله ربّ العالمين. ثم قال سبحانه متمّما لتلك الحكاية (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) من الكفر والتكذيب ، فربنا مبتدأ وخبره الرحمن ، أي : هو كثير الرحمة

__________________

(١). الأنفال : ٣٣.

(٢). الأنفال : ٥٨.

٥٠٩

لعباده ، والمستعان خبر آخر ، أي : المستعان به في الأمور التي من جملتها ما تصفونه من أن الشوكة تكون لكم ، ومن قولكم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (١) وقولكم : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) (٢) وكثيرا ما يستعمل الوصف في كتاب الله بمعنى الكذب ، كقوله : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (٣) ، وقوله : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (٤) وقرأ المفضل والسلمي «على ما يصفون» بالياء التحتية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب.

وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) قال المشركون : فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله ، فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) عيسى وعزير والملائكة. وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عنه قال : جاء عبد الله بن الزّبعرى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) قال ابن الزّبعرى : قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ، فنزلت : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ـ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٥) ، ثم نزلت : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ). وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر والطبراني من وجه آخر عنه أيضا نحوه بأطول منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) قال : «عيسى وعزير والملائكة». وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله : (حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال : شجر جهنم ، وفي إسناده العوفي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من وجه آخر أن (حَصَبُ جَهَنَّمَ) : وقودها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : هو حطب جهنم بالزنجية. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) قال : «حيات على الصراط تقول : حسّ حسّ». وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النّهدي في قوله : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) قال : حيات على الصراط تلسعهم ، فإذا لسعتهم قالوا : حسّ حسّ. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن محمد بن حاطب قال : سئل عليّ عن هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) قال : هو عثمان وأصحابه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) يقول : لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الجنة.

__________________

(١). الأنبياء : ٣.

(٢). الأنبياء : ٢٦.

(٣). الأنبياء : ١٨.

(٤). الأنعام : ١٣٩.

(٥). الزخرف : ٥٧ ـ ٥٨.

٥١٠

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) قال : النفخة الآخرة ، وفي إسناده العوفي. وأخرج أحمد ، والترمذي وحسّنه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة على كثبان المسك لا يهولهم الفزع الأكبر يوم القيامة : رجل أمّ قوما وهم له راضون ، ورجل كان يؤذّن في كل يوم وليلة ، وعبد أدّى حقّ الله وحقّ مواليه». وأخرج عبد بن حميد عن عليّ في قوله : (كَطَيِّ السِّجِلِ) قال : ملك. وأخرج عبد بن حميد عن عطية مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : السجل : ملك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : اكتبوها نورا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر قال : السجل : ملك. وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، وابن مندة في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، وصحّحه ، عن ابن عباس قال : السجل : كاتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن المنذر وابن عديّ وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاتب يسمى السجل ، وهو قوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال : كما يطوي السجل الكتاب كذلك نطوي السماء. وأخرج ابن مندة ، وأبو نعيم في المعرفة ، وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عمر قال : كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاتب يقال له السجل ، فأنزل الله (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا الحديث : وهذا منكر جدا من حديث نافع عن ابن عمر ، لا يصحّ أصلا. قال : وكذلك ما تقدّم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضا. وقد صرّح جماعة من الحفاظ بوضعه ، وإن كان في سنن أبي داود ، منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجّاج المزي ، وقد أفردت لهذا الحديث جزءا له على حدة ، ولله الحمد. قال : وقد تصدّى الإمام أبو جعفر ابن جرير للإنكار على هذا الحديث ، وردّه أتمّ ردّ ، وقال : ولا نعرف في الصّحابة أحدا اسمه سجلّ ، وكتّاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا معروفين ، وليس فيهم أحد اسمه السجلّ ، وصدق رحمه‌الله في ذلك ، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث. وأما من ذكر في أسماء الصحابة هذا ؛ فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره ، والله أعلم. قال : والصحيح عن ابن عباس أن السجلّ هو الصحيفة ، قاله عليّ بن أبي طلحة والعوفي عنه. ونصّ على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة ، فعلى هذا يكون معنى الكلام : يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتاب ، أي : على الكتاب ، يعني المكتوب ، كقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١) أي : على الجبين ، وله نظائر في اللغة والله أعلم. قلت : أما كون هذا هو الصحيح عن ابن عباس فلا ، فإن عليّ بن أبي طلحة والعوفيّ ضعيفان ، فالأولى التعويل على المعنى اللغوي والمصير إليه. وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال : (السِّجِلِ) هو الرجل ، زاد ابن مردويه : بلغة الحبشة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية قال : كطيّ الصحيفة على الكتاب. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) يقول : نهلك كل شيء كما كان أوّل مرّة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلَقَدْ

__________________

(١). الصافات : ١٠٣.

٥١١

كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قال : القرآن (أَنَّ الْأَرْضَ) قال : أرض الجنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) قال : الكتب (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قال : التوراة. وفي إسناده العوفي. وأخرج سعيد بن منصور عنه أيضا ، قال : الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن. والذكر : الأصل الذي نسخت منه هذه الكتب الذي في السماء. والأرض : أرض الجنة. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) قال : أرض الجنة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد الأرض ، ويدخلهم الجنة ، وهم الصالحون ، وفي قوله : (لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) قال : عالمين ، وفي إسناده عليّ بن أبي طلحة.

وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي هريرة (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) قال : الصلوات الخمس. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) قال : «في الصّلوات الخمس شغلا للعبادة». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية (لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) قال : هي الصّلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس في قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) قال : من آمن تمّت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن عوفي ممّا كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من الخسف والمسخ والقذف. وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : «قيل : يا رسول الله ادع الله على المشركين ، قال : إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة».

وأخرج الطيالسي وأحمد والطبراني ، وأبو نعيم في الدلائل ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين». وأخرج أحمد والطبراني عن سلمان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيما رجل من أمتي سببته سبّة في غضبي ، أو لعنته لعنة ، فإنما أنا رجل من ولد آدم ، أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمة للعالمين ، فأجعلها عليه صلاة يوم القيامة». وأخرج البيهقي في الدلائل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما أنا رحمة مهداة» وقد روي معنى هذا من طرق. وأخرج ابن أبي خيثمة وابن عساكر عن الربيع بن أنس قال : لما أسري بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى فلانا ، وهو بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) يقول : هذا الملك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) يقول : ما أخبركم به من العذاب والساعة ، لعلّ تأخير ذلك عنكم فتنة لكم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) قال : لا يحكم الله إلا بالحق ، وإنما يستعجل بذلك في الدنيا يسأل ربّه [على قومه] (١).

__________________

(١). من تفسير ابن جرير (١٧ / ١٠٨)

٥١٢

سورة الحجّ

اختلف أهل العلم : هل هي مكية أو مدنية؟ فأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحجّ بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال : نزل بالمدينة من القرآن الحجّ غير أربع آيات مكيات : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) ، إلى : (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). وحكى القرطبي عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات ، وقيل : أربع آيات إلى قوله : (عَذابَ الْحَرِيقِ). وحكي عن النقاش أنه نزل بالمدينة منها عشر آيات. قال القرطبي وقال الجمهور : إن السورة مختلطة ، منها مكي ، ومنها مدني. قال : وهذا هو الصحيح. قال الغزنوي : وهي من أعاجيب السور ، نزلت ليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيّا ، ناسخا ومنسوخا ، محكما ومتشابها. وقد ورد في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عقبة بن عامر قال : «قلت : يا رسول الله أفضّلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين؟ قال : نعم ، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما». قال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بالقويّ. وأخرج أبو داود في المراسيل ، والبيهقي عن خالد بن معدان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضّلت سورة الحج على القرآن بسجدتين». وأخرج سعيد ابن منصور وابن أبي شيبة والإسماعيلي وابن مردويه والبيهقي عن عمر أنه كان يسجد سجدتين في الحجّ وقال : إن هذه السورة فضّلت على سائر القرآن بسجدتين. وقد روي عن كثير من الصحابة أن فيها سجدتين ، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال بعضهم : إن فيها سجدة واحدة ، وهو قول سفيان الثوري ، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس وإبراهيم النخعي.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ

٥١٣

اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

لمّا انجرّ الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها ، بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها ، حثّا على التقوى التي هي أنفع زاد ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي : احذروا عقابه بفعل ما أمركم به من الواجبات وترك ما نهاكم عنه من المحرمات ، ولفظ «الناس» يشمل جميع المكلّفين من الموجودين ومن سيوجد ، على ما تقرّر في موضعه ، وقد قدّمنا طرفا من تحقيق ذلك في سورة البقرة ، وجملة (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) تعليل لما قبلها من الأمر بالتقوى ، والزلزلة : شدّة الحركة ، وأصلها من زلّ عن الموضع ، أي : زال عنه وتحرّك ، وزلزل الله قدمه ، أي : حرّكها ، وتكرير الحرف يدلّ على تأكيد المعنى ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله ، وهي على هذه الزلزلة التي هي أحد أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة ، هذا قول الجمهور ، وقيل : إنها تكون في النصف من شهر رمضان ، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها ؛ وقيل : إن المصدر هنا مضاف إلى الظرف ، وهو الساعة ، إجراء له مجرى المفعول ، أو بتقدير في ؛ كما في قوله : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (١) وهي المذكورة في قوله : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (٢) قيل : وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها. (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) انتصاب الظرف بما بعده ، والضمير يرجع إلى الزلزلة ، أي : وقت رؤيتكم لها تذهل كل ذات رضاع عن رضيعها وتغفل عنه. قال قطرب : تذهل : تشتغل ، وأنشد قول الشاعر (٣) :

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

وقيل : تنسى ، وقيل : تلهو ، وقيل : تسلو ، وهذه معانيها متقاربة. قال المبرّد : إن «ما» فيما أرضعت بمعنى المصدر ، أي : تذهل عن الإرضاع ، قال : وهذا يدلّ على أن هذه الزلزلة في الدنيا ؛ إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع ، إلا أن يقال : من ماتت حاملا فتضع حملها للهول ، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك ، ويقال هذا مثل كما يقال : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (٤). وقيل : يكون مع النفخة الأولى ، قال : ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم القيامة ، كما في قوله : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) (٥). ومعنى (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أنها تلقي جنينها لغير تمام من شدّة الهول ، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك. (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاب لكل واحد ؛ أي : يراهم الرائي كأنهم سكارى (وَما هُمْ بِسُكارى) حقيقة ، قرأ حمزة والكسائي سكرى بغير ألف ، وقرأ الباقون بإثباتها ، وهما لغتان يجمع بهما سكران ، مثل كسلى وكسالى. ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب

__________________

(١). سبأ : ٣٣.

(٢). الزلزلة : ١.

(٣). هو عبد الله بن رواحة.

(٤). المزمل : ١٧.

(٥). البقرة : ٢١٤.

٥١٤

الذي لأجله شابهوا السكارى فقال : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فبسبب هذه الشدّة والهول العظيم طاشت عقولهم ، واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى ، بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك. وقرئ «وترى» بضم التاء وفتح الراء مسندا إلى المخاطب من أرأيتك ، أي : تظنهم سكارى. قال الفرّاء : ولهذه القراءة وجه جيد في العربية. ثم لما أراد سبحانه أن يحتجّ على منكري البعث قدّم قبل ذلك مقدّمة تشمل أهل الجدال كلهم ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقد تقدّم إعراب مثل هذا التركيب في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) (١). ومعنى (فِي اللهِ) في شأن الله وقدرته ، ومحل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) النصب على الحال. والمعنى : أنه يخاصم في قدرة الله فيزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم يعلمه ، ولا حجة يدلي بها (وَيَتَّبِعُ) فيما يقوله ويتعاطاه ويحتجّ به ويجادل عنه (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي : متمرّد على الله ، وهو العاتي ، سمّي بذلك لخلوّه عن كل خير ، والمراد إبليس وجنوده ، أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. وقال الواحدي : قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحارث ، وكان كثير الجدال ، وكان ينكر أن الله يقدر على إحياء الأموات ؛ وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) أي : كتب على الشيطان ؛ وفاعل («كُتِبَ» «أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ») ، والضمير للشأن ، أي : من اتخذه وليا (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) أي : فشأن الشيطان أن يضلّه عن طريق الحقّ ، فقوله : «أنه يضله» جواب الشرط إن جعلت من شرطية ، أو خبر الموصول إن جعلت موصولة ، فقد وصف الشيطان بوصفين : الأوّل أنه مريد ، والثاني ما أفاده جملة كتب عليه إلخ. وجملة (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) معطوفة على جملة يضله ؛ أي : يحمله على مباشرة ما يصير به في عذاب السعير.

ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدّمة ، فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) قرأ الحسن «البعث» بفتح العين وهي لغة ، وقرأ الجمهور بالسكون ، وشكّهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه .. والمعنى : إن كنتم في شكّ من الإعادة فانظروا في مبدأ خلقكم ، أي : خلق أبيكم آدم ، ليزول عنكم الريب ويرتفع الشكّ وتدحض الشبهة الباطلة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) في ضمن خلق أبيكم آدم (ثُمَ) خلقناكم (مِنْ نُطْفَةٍ) أي : من منّي ، سمّي نطفة لقلّته ، والنطفة : القليل من الماء. وقد يقع على الكثير منه ، والنطفة : القطرة ، يقال : نطف ينطف ، أي : قطر ، وليلة نطوفة ، أي : دائمة القطر (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) والعلقة : الدم الجامد ، والعلق : الدم العبيط ، أي : الطريّ أو المتجمد ، وقيل : الشديد الحمرة ، والمراد : الدم الجامد المتكوّن من المنيّ (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) وهي القطعة من اللحم ، قدر ما يمضغ الماضغ تتكوّن من العلقة (مُخَلَّقَةٍ) بالجرّ صفة لمضغة ، أي : مستبينة الخلق ، ظاهرة التصوير (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي : لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها. قال ابن الأعرابي : (مُخَلَّقَةٍ) يريد قد بدا خلقه ، و (غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) لم تصوّر. قال الأكثر : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي

__________________

(١). البقرة : ٨.

٥١٥

ولد لتمام ، وما سقط كان غير مخلقة ، أي : غير حيّ بإكمال خلقته بالروح. قال الفراء : مخلقة تامّ الخلق ، وغير مخلقة : السقط ، ومنه قول الشاعر :

أفي غير المخلقة البكاء

فأين الحزم ويحك والحياء؟

واللام في (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) متعلّق بخلقنا ، أي : خلقناكم على هذا النمط البديع لنبيّن لكم كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) روى أبو حاتم عن أبي يزيد عن المفضّل عن عاصم أنه قرأ بنصب «نقرّ» عطفا على نبين ، وقرأ الجمهور (نُقِرُّ) بالرفع على الاستئناف ، أي : ونحن نقرّ. قال الزجاج : نقر بالرفع لا غير ، لأنه ليس المعنى فعلنا ذلك لنقرّ في الأرحام ما نشاء ، ومعنى الآية : ونثبت في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطا (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو وقت الولادة ، وقال ما نشاء ولم يقل من نشاء ، لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح ، وقرئ ليبين ويقرّ و : يخرجكم بالتحتية في الأفعال الثلاثة ، وقرأ ابن أبي وثّاب «ما نشاء» بكسر النون. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي : نخرجكم من بطون أمهاتكم طفلا ، أي : أطفالا ، وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد. قال الزجّاج : طفلا في معنى أطفالا ، ودلّ عليه ذكر الجماعة ؛ يعني في نخرجكم ، والعرب كثيرا ما تطلق اسم الواحد على الجماعة ، ومنه قول الشاعر :

يلحينني من حبّها ويلمنني

إنّ العواذل لسن لي بأمير

وقال المبرد : هو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل ، فيقع على الواحد والجمع ، قال الله سبحانه : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) (١). قال ابن جرير : هو منصوب على التمييز كقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) (٢) وفيه بعد ، والظاهر انتصابه على الحال بالتأويل المذكور ، والطفل يطلق على الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) قيل : هو علّة لنخرجكم ، معطوف على علة أخرى مناسبة له ، كأنه قيل : نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا إلى الأشد ؛ وقيل : إن ثم زائدة ؛ والتقدير لتبلغوا ؛ وقيل : إنه معطوف على نبين ، والأشدّ هو كمال العقل وكمال القوّة والتمييز ، قيل : وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين. وقد تقدّم الكلام في هذا مستوفى في الأنعام. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) يعني قبل بلوغ الأشدّ ، وقرئ «يتوفى» مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور (يُتَوَفَّى) مبنيا المفعول (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي : أخسه وأدونه ، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل ، ولهذا قال سبحانه : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي : شيئا من الأشياء ، أو شيئا من العلم ، والمعنى : أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها ، لا علم له ولا فهم ، ومثله قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ـ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) (٣) وقوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) (٤). (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) هذه حجّة أخرى على البعث ، فإنه سبحانه احتجّ بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات ، والهامدة : اليابسة التي لا تنبت

__________________

(١). النور : ٣١.

(٢). النساء : ٤.

(٣). التين : ٤ و ٥.

(٤). يس : ٦٨.

٥١٦

شيئا. قال ابن قتيبة : أي : ميتة يابسة كالنار إذا طفئت ، وقيل : دارسة ، والهمود : الدروس ، ومنه قول الأعشى :

قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا

وأرى ثيابك باليات همّدا

وقيل : هي التي ذهب عنها النّدى ، وقيل : هالكة ، ومعاني هذه الأقوال متقاربة. (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) المراد بالماء هنا المطر ، ومعنى اهتزّت تحركت ، والاهتزاز : شدّة الحركة ، يقال : هززت الشيء فاهتزّ ، أي : حركته فتحرك. والمعنى : تحرّكت بالنبات ؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقة ، فسمّاه اهتزازا مجازا. وقال المبرد : المعنى اهتزّ نباتها ، فحذف المضاف ، واهتزازه : شدّة حركته ، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض ، ومعنى ربت : ارتفعت ، وقيل : انتفخت. والمعنى واحد ، وأصله الزيادة ، يقال : ربا الشيء يربو ربوّا إذا زاد ، ومنه الربا والرّبوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس «وربأت» أي : ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة ، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف ، يقال له رابئ ورابئة وربيئة. (وَأَنْبَتَتْ) أي : أخرجت (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي : من كلّ صنف حسن ولون مستحسن ، والبهجة : الحسن ، وجملة (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) مستأنفة. لما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره ، قال بعد ذلك هذه المقالات ، وهي إثبات أنه سبحانه الحق ، وأنه المتفرد بإحياء الموتى ، وأنه قادر على كل شيء من الأشياء. والمعنى : أنه المتفرد بهذه الأمور ، وأنها من شأنه ، لا يدّعي غيره أنه يقدر على شيء منها ، فدلّ سبحانه بهذا على أنه الحقّ الحقيقي الغنيّ المطلق ؛ وأن وجود كل موجود مستفاد منه ، والحق : هو الموجود الذي لا يتغير ولا يزول ؛ وقيل : ذو الحقّ على عباده ، وقيل : الحقّ في أفعاله. قال الزّجّاج : ذلك في موضع رفع ، أي : الأمر ما وصفه لكم وبيّن بأن الله هو الحق. قال : ويجوز أن يكون ذلك نصبا ، ثم أخبر سبحانه بأن (السَّاعَةَ آتِيَةٌ) أي : في مستقبل الزمان ، قيل : لا بدّ من إضمار فعل ، أي : ولتعلموا أن الساعة آتية (لا رَيْبَ فِيها) أي : لا شك فيها ولا تردّد ، وجملة (لا رَيْبَ فِيها) خبر ثان للساعة ، أو في محل نصب على الحال. ثم أخبر سبحانه عن البعث فقال : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) فيجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ، وأن ذلك كائن لا محالة.

وقد أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وصحّحه ، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره عن عمران بن حصين قال : «لما نزلت (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) إلى قوله (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) أنزلت عليه هذه وهو في سفر ، فقال : أتدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار ، قال : يا ربّ وما بعث النار؟ قال : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة. فأنشأ المسلمون يبكون ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قاربوا وسدّدوا وأبشروا ، فإنها لم تكن نبوّة قط إلا كان بين يديها جاهلية ، فيؤخذ العدد من الجاهلية ، فإن تمت وإلا كملت

٥١٧

من المنافقين ، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرّقمة (١) في ذراع الدابة ، أو كالشّامة (٢) في جنب البعير ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبّروا ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبّروا ، ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، فكبّروا ، قال : ولا أدري قال الثلثين أم لا». وأخرج الترمذي وصحّحه ، وابن جرير وابن المنذر عن عمران بن حصين مرفوعا نحوه ، وقال في آخره : «اعملوا وأبشروا ، فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثّرتاه يأجوج ومأجوج ، ومن مات من بني آدم ومن بني إبليس ، فسرّي عن القوم بعض الذي يجدون ، قال : اعملوا وأبشروا ، فو الذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير ، أو كالرّقمة في ذراع الدابة». وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبّان ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن أنس مرفوعا نحوه. وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن أنس مرفوعا نحوه أيضا ، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر نحوه ، وفي آخره فقال : «من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد ، وهل أنتم في الأمم إلا كالشّعرة السوداء في الثور الأبيض ، أو كالشّعرة البيضاء في الثور الأسود».

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ) قال : كتب على الشيطان. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله : (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) قال : اتبعه. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود قال : حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات ؛ بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا. وأخرج ابن أبي حاتم وصحّحه ، عن ابن عباس في قوله : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) قال : المخلقة ما كان حيا ، وغير المخلقة ما كان سقطا. وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) قال : حسن. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، عن معاذ بن جبل قال : من علم أنّ الله عزوجل حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، دخل الجنة.

__________________

(١). «الرقمة» : الرقمتان : هما الأثران في باطن عضد الحمار ، وقيل : هي الدائرة في ذراعيه ، وقيل : هي الرمّة الناتئة في ذراع الدابة من داخل.

(٢). «الشامة» : الخال والعلامة في الجسد.

٥١٨

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي : في شأن الله ، كقول من قال : إن الملائكة بنات الله ، والمسيح ابن الله ، وعزير ابن الله. قيل : نزلت في النّضر بن الحارث ، وقيل : في أبي جهل ، وقيل : هي عامة لكل من يتصدّى لإضلال الناس وإغوائهم ، وعلى كل حال فالاعتبار بما يدلّ عليه اللفظ وإن كان السبب خاصا. ومعنى اللفظ : ومن الناس فريق يجادل في الله ، فيدخل في ذلك كلّ مجادل في ذات الله ، أو صفاته أو شرائعه الواضحة ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في محل نصب على الحال ، أي : كائنا بغير علم. قيل : والمراد بالعلم هو العلم الضروري ، وبالهدى هو العلم النظري الاستدلالي. والأولى حمل العلم على العموم ، وحمل الهدى على معناه اللغوي ، وهو الإرشاد. والمراد بالكتاب المنير هو القرآن ، والمنير : النيّر البيّن الحجة الواضح البرهان ، وهو وإن دخل تحت قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فإفراده بالذكر كإفراد جبريل بالذكر عند ذكر الملائكة ، وذلك لكونه الفرد الكامل الفائق على غيره من أفراد العلم. وأما من حمل العلم على الضروري والهدى على الاستدلالي ، فقد حمل الكتاب هنا على الدليل السمعي ، فتكون الآية متضمّنة لنفي الدليل العقلي ضروريا كان أو استدلاليا ، ومتضمّنة لنفي الدليل النقلي بأقسامه ، وما ذكرناه أولى. قيل : والمراد بهذا المجادل في هذه الآية هو المجادل في الآية الأولى ، أعني قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) ، وبذلك قال كثير من المفسرين ، والتكرير للمبالغة في الذمّ ، كما تقول للرجل تذمّه وتوبّخه : أنت فعلت هذا ، أنت فعلت هذا. ويجوز أن يكون التكرير لكونه وصفه في كل آية بزيادة على ما وصفه به في الآية الأخرى ، فكأنه قال : ومن الناس من يجادل في الله ويتبع كلّ شيطان مريد بغير علم (وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ليضل عن سبيل الله اه. وقيل : الآية الأولى في المقلدين اسم فاعل. والثانية في المقلدين اسم مفعول. ولا وجه لهذا ، كما أنه لا وجه لقول من قال : إن الآية الأولى خاصة بإضلال المتبوعين لتابعيهم ، والثانية عامة في كلّ إضلال وجدال. وانتصاب (ثانِيَ عِطْفِهِ) على الحال من فاعل يجادل ، والعطف : الجانب ، وعطفا الرجل : جانباه من يمين وشمال ، وفي تفسيره وجهان : الأوّل أن المراد به من يلوي عنقه مرحا وتكبّرا ، ذكر معناه الزجّاج ، وقال : وهذا يوصف به المتكبر. والمعنى : ومن الناس من يجادل في الله متكبّرا. قال المبّرد : العطف ما

٥١٩

انثنى من العنق. والوجه الثاني أن المراد بقوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) الإعراض ، أي : معرضا عن الذّكر ، كذا قال الفراء والمفضّل وغيرهما ، كقوله تعالى : (وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) (١) وقوله : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) (٢) ، وقوله : (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) (٣) ، واللام في (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) متعلّق بيجادل ، أي : إن غرضه هو الإضلال عن السبيل وإن لم يعترف بذلك. وقرئ «ليضلّ» بفتح الياء على أن تكون اللام هي لام العاقبة ، كأنه جعل ضلاله غاية لجداله ، وجملة (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) مستأنفة مبيّنة لما يحصل له بسبب جداله من العقوبة. والخزي : الذل ، وذلك بما يناله من العقوبة في الدنيا من العذاب المعجل وسوء الذكر على ألسن الناس. وقيل : الخزي الدنيوي هو القتل كما وقع في يوم بدر (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : عذاب النار المحرقة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من العذاب الدنيوي والأخروي ، وهو مبتدأ خبره (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ). والباء للسببية ، أي : ذلك العذاب النازل بك بسبب ما قدّمته يداك من الكفر والمعاصي ، وعبّر باليد عن جملة البدن لكون مباشرة المعاصي تكون بها في الغالب ، ومحل أن وما بعدها في قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : والأمر أنه سبحانه لا يعذّب عباده بغير ذنب. وقد مرّ الكلام على هذه الآية في آخر آل عمران فلا نعيده. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) هذا بيان لشقاق أهل الشقاق. قال الواحدي : قال أكثر المفسرين : الحرف : الشك ، وأصله من حرف الشيء وهو طرفه ، مثل حرف الجبل والحائط ، فإن القائم عليه غير مستقرّ ، والذي يعبد الله على حرف قلق في دينه ، على غير ثبات وطمأنينة ، كالذي هو على حرف الجبل ونحوه يضطرب اضطرابا ويضعف قيامه ، فقيل للشاكّ في دينه إنه يعبد الله على حرف ؛ لأنه على غير يقين من وعده ووعيده ، بخلاف المؤمن لأنه يعبده على يقين وبصيرة فلم يكن على حرف. وقيل : الحرف : الشرط ، أي : ومن الناس من يعبد الله على شرط ، والشرط هو قوله : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) أي : خير دنيوي من رخاء وعافية وخصب وكثرة مال ، ومعنى اطمأنّ به ثبت على دينه واستمرّ على عبادته ، أو اطمأن قلبه بذلك الخير الذي أصابه (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي : شيء يفتتن به من مكروه يصيبه في أهله أو ماله أو نفسه (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي : ارتدّ ورجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر ، ثم بيّن حاله بعد انقلابه على وجهه فقال : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي : ذهبا منه وفقد هما ، فلا حظّ له في الدنيا من الغنيمة والثناء الحسن ، ولا في الآخرة من الأجر وما أعدّه الله للصالحين من عباده. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق خاسرا الدنيا والآخرة على صيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى خسران الدنيا والآخرة وهو مبتدأ وخبره (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي : الواضح الظاهر الذي لا خسران مثله. (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) أي : هذا الذي انقلب على وجهه ورجع إلى الكفر يدعو من دون الله ، أي : يعبد متجاوزا عبادة الله إلى عبادة الأصنام ما لا يضرّه إن ترك عبادته ، ولا ينفعه إن عبده ؛ لكون ذلك المعبود جمادا لا يقدر على ضرّ ولا نفع ،

__________________

(١). الإسراء : ٨٣.

(٢). سبأ : ٢٤.

(٣). لقمان : ٧.

٥٢٠